المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عصمة الأنبياء



مالك مناع
07-17-2006, 12:12 AM
العصمة‏:‏ المنعة، والعاصم‏:‏ المانع الحامي، والاعتصام‏:‏ الامتساك بالشيء‏.‏
والمراد بالعصمة هنا حفظ الله لأنبيائه من الذنوب والمعاصي‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

‏"‏الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه‏:‏
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏"‏‏.‏

وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة؛ فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة؛ فللناس فيه نزاع‏:‏ هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع‏؟‏ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها‏؟‏ أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها‏؟‏ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط‏؟‏ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أو لا‏؟‏

والقول الذي عليه جمهور الناس -وهو الموافق للآثار المنقولة من السلف- إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا، والرد على من يقول‏:‏ إنه يجوز إقرارهم عليها‏.‏ وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء‏.‏

فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه؛ كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي؛ فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه‏.‏

وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التغيير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا؛ فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه؛ كما قال بعض السلف‏:‏ كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة‏.‏ وقال آخر‏:‏ لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه؛ لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة‏:‏ ‏(‏لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا‏)‏ الحديث‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه، والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم‏.‏

ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع- وهي العصمة في التبليغ- لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرموا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏.‏ والعصمة التي كانوا ادعوها؛ لو كانت ثابتة؛ لم ينتفعوا بها، ولا حاجة بهم إليها عندهم؛ فإنها متعلقة بغيرهم، لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏‏.‏

والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء؛ إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار‏: ثم شرع رحمه الله ببيان بعض الأمثلة نذكر منها:

كقول آدم وزوجته‏:‏ ‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏.‏

وقول نوح‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِر لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ‏}‏ ‏.‏

وقول الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول‏:‏ إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة‏!‏ كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال‏:‏ إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة‏!‏ فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون خفضا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم؛ فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا؛ فهو غالط غلطا عظيما؛ فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منها شيء أصلا، لكن؛ إن قدم التوبة؛ لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة؛ فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله‏.‏

والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا؛ كفر الله ذلك بما يبتليه به؛ كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم، هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال‏:‏ إن إلقاءه كان قبل النبوة؛ فلا يحتاج إلى هذا‏.‏

والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل؛ فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس قبله في الفضيلة‏.‏...

وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة، وهي واجبة على الأولين والآخرين؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏.‏

وقد أخبرنا الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومَن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وآخر ما نزل عليه- أو‏:‏ من آخر ما نزل عليه- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم ذكر نصوصا كثيرة في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏"‏ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة‏.‏

ولكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية؛ كما فعل ذلك من فعله في هذا الباب، وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة، من باب تحريف الكلم عن مواضعه؛ كتأويلهم قول‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ؛ المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته، وهذا معلوم البطلان‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ‏"‏والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم؛ يقولون‏:‏ إنهم معصومون من الإقرار عليها، وحينئذ؛ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وقول المخالف يلزم عليه كون النبي لا يتوب إلى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏"
‏انتهى كلامه رحمه الله

قال العلامة صالح الفوزان في (الإرشاد) بعد أن أورد كلام شيخ الاسلام ابن تيمية: ويمكن تلخيص هذا الموضوع فيما يلي‏:‏

عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ما هو مجمع عليه بداية ونهاية، ومنها ما هو مختلف فيه بداية لا نهاية‏.‏‏.‏‏.‏ وبيان ذلك‏:‏

1‏.‏ أجمعوا على عصمتهم فيما يخبرون عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته؛ لأن هذه العصمة هي التي يحصل بها مقصود الرسالة والنبوة‏.‏

2‏.‏ واختلفوا في عصمتهم من المعاصي‏:‏

فقال بعضهم بعصمتهم منها مطلقا كبائرها وصغائرها؛ لأن منصب النبوة يجل عن مواقعتها ومخالفة الله تعالى عمدا، ولأننا أمرنا بالتأسي بهم، وذلك لا يجوز مع وقوع المعصية في أفعالهم؛ لأن الأمر بالاقتداء بهم يلزم منه أن تكون أفعالهم كلها طاعة، وتأولوا الآيات والأحاديث الواردة بإثبات شيء من ذلك‏.‏

وقال الجمهور بجواز وقوع الصغائر منهم بدليل ما ورد في القرآن والأخبار، لكنهم لا يصرون عليها، فيتوبون منها ويرجعون عنها؛ كما مر تفصيله، فيكونون معصومين من الإصرار عليها، ويكون الاقتداء بهم في التوبة منها‏.

انتهى بفضل الله ،

حازم
07-17-2006, 03:27 AM
مالك مناع عاد :13: هذا ولا شك اسعد خبر مر على فى هذا اليوم :36: .......عودا حميدا يا اخى ولا تحرمنا من مواضيعك وردودك القيمة :emrose: .. لا حرمنا الله منك ومن كل طلاب العلم الغيورين على هذا الدين :hearts:

مالك مناع
08-12-2006, 08:09 PM
عصمة الأنبياء شبهات وردود

نقلاً عن الشبكة الإسلامية: حيث أورد الأخ صاحب المقال معتقد أهل السنة في عصمة الأنبياء وهو يوافق ما ذكرناه آنفاً ثم شرع في بيان الشبهات والرد عليها والتي قسمها لثلاثة وجوه:



الوجه الأول : ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن مبناها على سوء الفهم

من ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام من أنه قد وقع في الشرك بادعائه ربوبية الكواكب، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }(الأنعام : 76-77)، والجواب على ذلك أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ما قال في مقام المناظرة والمخاصمة لقومه، إذ استعرض لهم الكواكب شمسا وقمرا ونجما، وبين لهم بالدليل العقلي انتفاء الربوبية عنها، ثم توجه إليهم مخاطبا إياهم بالنتيجة المنطقية لبطلان معبوداتهم فقال : { يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }.

فإن قيل: كيف يتأتى لإبراهيم عليه السلام مناظرة قومه في نفي ربوبية الكواكب وهم إنما يعبدون أصناماً من الحجارة ؟ قلنا إن إبراهيم عليه السلام ناظرهم في نفي ربوبية الكواكب حتى يتبين لهم انتفاء الربوبية عن آلهتهم التي يعبدونها بطريق الأولى، وذلك أنه إذا تبين انتفاء ربوبية الكواكب وهي الأكبر والأنفع للخلق، كان ذلك دليلا على انتفاء ربوبية ما دونها من أصنامهم التي يعبدونها، لعظم الفارق بين الكواكب وبين أصنامهم التي يجهدون في خدمتها دون أدنى نفع منها تجاههم .

ومن ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام أيضاً من أنه شك في قدرة الله سبحانه، حين سأله عن كيفية إحيائه الموتى، قالوا : والشك في قدرة الله كفر، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } ( البقرة : 260 ) ، وأوردوا أيضا ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى ، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

والجواب على ما أوردوه ببيان أن ما صدر عن إبراهيم عليه السلام لم يكن شكا في قدرة الباري سبحانه، فهو لم يسأل قائلا: هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى؟ فيكون سؤاله سؤال شك، وإنما سأل الله عز وجل عن كيفية إحيائه الموتى، والاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، لا عن شيء مشكوك في وجوده أصلا، ولو كان السؤال سؤال شك في القدرة لكانت صيغته: " هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى ؟ " وكيف يشك إبراهيم في قدرة الباري سبحانه وهو الذي حاج النمرود بها، فقال: ربي الذي يحيى ويميت، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فاستدل بعموم قدرة الباري على ربوبيته.

والسبب المحرّك لإبراهيم على طلب رؤية كيفية إحياء الموتى هو أنه عليه السلام عندما حاجَّ النمرود قائلا: إن الله يحيى ويميت، ادعى النمرود هذا الأمر لنفسه وأرى إبراهيم كيف يحيى ويميت، فأحب عليه السلام أن يرى ذلك من ربه ليزداد يقينا، وليترقى في إيمانه من درجة يقين الخبر "علم اليقين" إلى درجة يقين المشاهدة "عين اليقين"، وكما جاء في الحديث ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه أحمد .

قال الإمام القرطبي : "لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكاً في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به "، وقال الإمام الطبري : " .. مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عياناً ما كان عنده من علم ذلك خبراً " .

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فمعناه أنه لو كان إبراهيم شاكاً لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أيضا لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام.

ومن أمثلة سوء فهم النص وتحميله ما لا يحتمل بغية الطعن في الأنبياء ما قاله قوم من أن لوطا عليه السلام كان قليل التوكل على الله عز وجل معتمدا على الأسباب اعتمادا كليا، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى :{ قال لو أني لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد }( هود: 80)، قالوا: والذي يدل على صحة فهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاتبه على قوله ذاك، بقوله:( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) متفق عليه.

وجواباً على ذلك نقول لهم: إن هذا سوء فهم منكم للحال التي قال فيها لوط عليه السلام ما قال، والسبب الذي حمله على ذلك القول ؟ فالأنبياء عليهم السلام كانوا يُبعثون في منعة من أقوامهم، فيُبعث النبي من أشرف قبائل قومه وأمنعهم، فتكون قبيلته - وإن لم تؤمن به - سندا له تحميه من كيد أعدائه ومكرهم، كما قال تعالى عن شعيب { ولولا رهطك لرجمناك }(هود : 91)، وكما كان بنو هاشم للنبي صلى الله عليه وسلم حماة وسندا .

وأما لوط عليه السلام فلم يبعث في قومه، وإنما بعث في مكان هجرته من أرض الشام، فكان غريبا في القوم الذين بعث فيهم، إذ لم يكن له فيهم عشيرة، لذلك عندما خاف عليه السلام أن يوقع قومه الفضيحة بأضيافه تمنى أن لو كان بين عشيرته ليمنعوه، وهذا من باب طلب الأسباب، وهو طلب مشروع كما لا يخفى، لكن لما كانت هذه الأسباب غير متوفرة، كان الأولى أن يتوجه العبد بطلب العون من الله سبحانه، فهو المعين والناصر، ومن هنا جاء عتاب النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له بالمغفرة والرحمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري ، وقال : ( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري .



الوجه الثاني: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وقعت منهم قبل النبوة

من ذلك ما ادعوه في حق آدم عليه السلام من أنه عصى وأزله الشيطان، قالوا والذي يدل على قولنا، قوله تعالى: { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } ( طه: 121) وقوله في الآية الأخرى:{ فأزلهما الشيطان عنها }( البقرة : 36) والجواب على ما أورده هؤلاء أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، فلا يصح أن يتخذ ذريعة للطعن فيه عليه السلام، قال الإمام أبو بكر بن فورك:" كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى : { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً، لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب".

فإن قيل كيف يقال: إن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، أوَ ليست النبوة هي الوحي من الله ؟ والله كان يكلم آدم قبل أن يخرجه من الجنة كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث، قلنا: النبوة المنفية هنا ليست هي مجرد الوحي، وإنما هي الوحي إلى شخص النبي بشرع جديد أو بتجديد شرع سبقه، وهذا ما لم تدل الأدلة على أن آدم أعطيه عندما كان في الجنة مع زوجته، فصح بذلك القول بأن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته بالمعنى الخاص.

ومع أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته إلا أنه أتبعه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه، وذلك لصفاء نفسه ومعرفته بمقام ربه، قال تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم }(البقرة:37).

ومن أمثلة ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وشنعوا به على القرآن، وكان قبل النبوة ما أوردوه في حق موسى عليه السلام من أنه ارتكب جريمة القتل، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين }( القصص: 15) قالوا: وقد ندم موسى عليه السلام على هذه الجريمة، ومنعه ندمه أن يتقدم بالشفاعة إلى رب العالمين، كما في حديث الشفاعة الطويل :( فيأتون ‏ ‏موسى،‏ ‏فيقولون: يا ‏‏موسى ‏أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي ).

والجواب على ما أورده هؤلاء الطاعنون في حق نبي الله موسى عليه السلام أن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته، بدليل قوله تعالى: { قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين } ( الشعراء : 18-21) ثم لم يكن قصد موسى عليه السلام قتله، وإنما قصد دفعه عن أخيه، فقتله خطأ، وقد استغفر موسى ربه من هذه الفعلة، فغفر له سبحانه، قال تعالى : { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } ( القصص : 16 ).



الوجه الثالث: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وكانت في حقيقتها أمورا على خلاف الأولى

من ذلك ما ادعوه في حق نبي الله سليمان عليه السلام من أنه قعد يتفرج ويتمتع بالنظر لخيوله حتى خرج وقت الصلاة، ثم عندما علم بتضييع وقت الصلاة بسبب تلك الخيول قام بذبحها فكان في ذلك إهداراً للمال، وإزهاقاً لأرواح الخيل في غير وجه حق، وزيادة تأخير للصلاة، قالوا والذي يدل على ما قلنا قوله تعالى:{ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } ( ص : 30-33 ).

وجواباً على ذلك نقول: إنه ليس في الآيات - محل البحث - تصريح بأن سليمان عليه السلام قد ضيع الصلاة الواجبة، والتصريح الذي في الآيات هو أن الخيل قد شغلته عن ذكر الله، وهنا يحتمل أن يكون المراد بذكر الله الصلاة المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بها صلاة النافلة، أو الذكر، وعلى أي احتمال فليس في الآية أنه - عليه السلام - ترك الذكر متعمدا، بل ظاهرها أنه نسي ذكر ربه باشتغاله بأمر الخيل .

وكذلك ليس في الآية تصريح بأن سليمان ذبح الخيل وأزهق أرواحها ورماها عبثا، وإنما في الآية التصريح بأنه مسح سوقها وأعناقها، وقد قال بعض المفسرين أنه مسح الغبار عنها حبا فيها، ومن قال: "ذبحها" لم يقل رمى لحمها، والظن به عليه السلام إذا ذبحها أن يتصدق بلحمها، إذ في ذبحها والتصدق بلحمها ما يكون أرضى للرب سبحانه، فكأنه عليه السلام يقول لربه سبحانه: هذه التي شغلتني عن ذكرك ذبحتها لك، وتصدقت بها على عبادك.

وبهذا يتبين أن ما وقع من سليمان عليه السلام من اشتغاله بالخيل عن ذكر الله إنما هو خلاف الأولى، وليس من باب المعاصي والآثام، بل هو من ربما كان من باب النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان .

هذا بعض ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد أجبنا عنه بما لا نزعم أنه لا مزيد عليه، ولكننا نحسب أننا فتحنا أبوابا للحق، تضيء بنورها ظلمات الباطل فتزيلها، وينبغي للمسلم إذا عرضت له شبهة من الشبهات تجاه أنبياء الله ودينه أن يواجهها بالحجة والبرهان فيبحث في مظان كتب أهل العلم، ويسأل المختصين، عملا بقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }(النحل: 43).


المقال كاملاً:
http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=75663