المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل الاعتقاد المقررة في عقيدة اهل السنة والجماعة



كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:36 AM
مسائل الاعتقاد المقررة في عقيدة اهل السنة والجماعة :
العقيدة الصحيحة هي العقيدة المدلول عليها بألفاظ الكتاب والسنة ونحن ملزمون باتباع ألفاظها ومعانيها، وبناء على ذلك يجب التزام العقيدة الصحيحة – ولا يقال إن الكتاب والسنة قد يختلف في دلالتهما في العقائد وغيرها لأننا نقول إنه لابد من مدلول حق لهما، وهذا المدلول كان له جيل قد طبقه فهو منهج عملي ظهرت آثاره وبانت فوائده مما يدل على أنه ثابت في واقع الأمر وحقيقته، فيجب التماسه من خلال البيان النبوي لذلك، والبيان الأثري من الصحابة رضي الله عنهم. وفرض دلالة مختلف فيها هو فرض حق لا يعرف، ومآل هذا الفرض إبطال دلالة النصوص، ومن ثم إبطال الشرع إذ مضمونه أن الحق الذي أنزل به القرآن الكريم وأرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بينا ولا واضحا، ولازم ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الناس على الضلالة ولم يبلغهم ما أنزل إليهم من ربهم، وأن أصحابه لم يكن لهم في واقع الأمر عقيدة، وكل هذه اللوازم باطلة إذ ما يلزم منه الباطل فهو باطل. فظهر بهذا أن هناك حقا في باب العقيدة يجب أن يلتزم وهناك دلالة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا محالة، وأن هذه العقيدة التي توصف بالصحة ووجوب الالتزام، هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم وتابع تابعيهم إلى يوم الدين وهي مقررة في التالي:
1- مسائل التوحيد وتشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة (توحيد الربوبية – توحيد الإلوهية – توحيد الأسماء والصفات).
2- مسائل الإيمان..
3- مسائل الكفر والشرك والنفاق والردة ونواقض الإيمان.
4- أركان الإسلام والإيمان والإحسان.
5- وأحكام أهل الذمة وأحكام الديار وأهل الملل.
6- المسائل المتعلقة بالجن والملائكة والغيبيات.
7- الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله غير مخلوق.
8- مسائل النبوات والمعجزات وحقوق الأنبياء.
9- مسائل الكرامات وخوارق العادات.
10- مسائل القضاء والقدر والإرادة والمشيئة الإلهية.
11- مسائل الإيمان بالآخرة وما يتعلق به من فتنة القبر وعذابه وسؤال منكر ونكير والنفخ والبعث والحشر والحوض والميزان والحساب والصراط.
12- حكم أهل الكبائر وبيان أن أهل السنة لا يكفرون أحداً بذنب ما لم يكن كفراً.
13- مسائل الشفاعة.
14- أحكام التوسل والتبرك المشروع والممنوع وأحكام الرقية الشرعية.
15- الفتن والملاحم وأشراط الساعة وعلاماتها الكبرى والصغرى.
16- مسائل الحكم بما أنزل الله وأصول الحكم في الإسلام.
17- مسائل الإمامة والخلافة وكونها في قريش وبيان شروطها وأركانها والسمع والطاعة لولي أمر المسلمين وعدم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه الكفر البواح.
18- الرد على أهل البدع والأهواء وسائر الملل والنحل الضالة وهجر المبتدع.
19- حقوق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من الحب والولاء والدفاع عنهم واعتقاد أن أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضوان الله تعالى عليهم، ثم باقي العشرة المبشرة، ثم أصحاب بدر، ثم أصحاب أحد، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم السابقون ممن أسلموا قبل الفتح، ثم مسلمة الفتح ومن بعدهم وأن جميعهم ماتوا على الإسلام وإن الله وعد الجميع الحسنى وزيادة، مع عدم الخوض فيما جرى بينهم كما قال القحطاني رحمه الله:
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى ... بسيوفهم يوم التقى الجمعان
فقتيلهم منهم وقاتلهم لهم ... وكلاهما في الحشر مرحومان
والله يوم الحشر ينزع كل ما ... تحوي صدورهم من الأضغان
20- مسائل الولاء والبراء وحكم التشبه بالكفار.
21- حفظ النبي صلى الله عليه وسلم في أزواجه وآل بيته وأن حبهم من الإيمان وبغضهم من الكفر والنفاق مع البراءة من غلو الرافضة وجفاء الناصبة.
22- مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
23- قبول خبر الآحاد في الاعتقاد والعمل.
24- بيان منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وتميزه عن مناهج أهل الزيغ والضلال.
25- الاعتصام بالسنة واجتناب البدع والمحدثات. هذه أهم المسائل التي اشتملت عليها عقيدة أهل السنة والجماعة، إضافة إلى مواضيع كثيرة متفرعة عن هذه المسائل

للعقيدة موجبات يجب الالتزام بها وهي مفصلة في نقاط :
1/ : أنها مما أمر الله باتباعه كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] وقال سبحانه: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36].
2/ : أنها مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر 7 .
3/ : استحلال قتال من لم يقبلها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...)) الحديث.
4/ : لأنها الحق الذي أرسلت من أجلها الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
5/ : لأن الرسل جميعا أرسلوا بها، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
6/ : لأنها الغاية من خلق الجن والإنس، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
7/ : لأنها متعلق سعادة الخلق في الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من نفسه)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأخرت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا)) .
8/ : لأنها دين الله الذي ارتضاه لعباده... قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
9/ : أنها حق الله الذي أوجبه على عباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) .
10/ : لأنها طريق النجاة من النار... قال صلى الله عليه وسلم: ((فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) .
11/ : لأنها أول ما يجب الدعوة إليه. كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) وفي رواية: ((إلى أن يوحدوا الله))
12/ : لأنها ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها، كما قال سبحانه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] وقد فسر الله مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 26، 27]، وقال عز وجل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120].
13/ : أن من التزمها حرم ماله ودمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل)) .
14/ : لأنها مما حكم الله وقضى باتباعه، وما حكم به وقضاه فهو واجب الاتباع، كما قال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23].
15/ : أن الله حرم مخالفتها، كما قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151]الآية.
16/ : أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالبراءة من ضدها، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2].
17/ : امتداحه سبحانه للمؤمنين بالتزامها وترك ضدها، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59].
18/ : لأنها دعوة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى عنه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:39 AM
موضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار، وما يتعلق باليوم الآخر والقضاء والقدر، كما يدور على ضد التوحيد وهو الشرك وهو الكفر وبيان حقيقتهما وأنواعهما، وقد يقال إن موضوع علم التوحيد يدور على محاور ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
1- ذات الله تعالى أو الإلهيات، والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، ما يتصف به تعالى... وما يتنزه عنه... وحقه على عباده....
2- ذوات الرسل الكرام أو النبوات والبحث فيها من الحيثيات التالية: ما يلزم ويجب عليهم... ما يجوز في حقهم... ما يستحيل في حقهم... ما يجب على أتباعهم.
3- السمعيات أو الغيبيات: وهو ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل كأشراط الساعة وتفاصيل البعث... والبحث في السمعيات أو مسائل الغيب يكون من حيث اعتقادها وهو يقوم على دعامتين: الإقرار بها مع التصديق ويقابله الجحود والإنكار لها، الإمرار لها مع إثبات معناها ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدا عن النقل.
وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها ولا يحيلها، ولا يقدر على ذلك، ولا يقدر أن يوجبها ولا يحار في ذلك، فمتى ما صح النقل عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي وبين خلقه وهو العقل،... والقاعدة الذهبية هو أنه لا يتعارض وحي صحيح مع عقل صريح عند التحقيق

متى وضع علم التوحيد ؟ : لاشك أن التوحيد جاءت به الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وأما علم التوحيد فقد مر في وضعه وتدوينه بطورين:
أولهما: طور الرواية (ما قبل التدوين)، والثاني: طور التدوين والاستقرار.
وهذه لمحة عن كلتا المرحلتين:
1/ : طور الرواية :
لم يكن الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى التدوين في العلوم الشرعية، فقد كانوا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيين، "ويوردون عليه ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم، وقد أورد عليه من الأسئلة أعداؤه وأصحابه، أعداؤه للتعنت والمغالبة، وأصحابه للفهم والبيان وزيادة الإيمان" وكل ذلك رواه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، فكانت مسائل الاعتقاد محفوظة في أذهانهم، مستدلا عليها بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يقع بينهم اختلاف في شأن العقيدة؛ بل اجتمعوا على عقيدة صحيحة، سالمة نقية خالية من كل شوب، فكانوا "أقرب إلى أن يوفقوا إلى الصواب من غيرهم بما خصهم الله به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وتقوى الرب، فالعربية طريقتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم.. علموا التنزيل وأسبابه، والتأويل وآدابه، وعاينوا الأنوار القرآنية، والأشعة المصطفوية، فهم أسعد الأمة بإصابة الصواب، وأجدرها بعلم فقه السنة والكتاب" .
لأجل هذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى تدوين علم التوحيد أو تصنيف كتب فيه.
2/ : طور التدوين :
وبدأ هذا في حياة التابعين، وإن وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم صور من الكتابة والتدوين، حيث ابتدأ ذلك الإمام الزهري رحمه الله تعالى، ثم شاع ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري كما فعل الإمام مالك في الموطأ، حيث رتبت الأحاديث على أبواب تتعلق بالتوحيد مثل: باب الإيمان، وباب التوحيد، وباب العلم، الخ..
ولعل هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب فيما بعد بالتصنيف والبحث.
ومما أوقد جذوة التدوين ما وقع في آخر زمن الصحابة من بدع واختلاف في العقيدة، كما في مسألة القدر، وكان أول من تكلم به معبد الجهني (ت: 80هـ)، ومسألة التشيع والغلو في آل البيت، وفتنة عبد الله بن سبأ، كما وقعت من قبل بدعة الخوارج وصرحوا بالتكفير بالذنوب، وبعد ذلك نشأ مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء (ت: 131هـ)، وصنف في مسائل من العقيدة ما خالف به الصحابة والتابعين، وخرج على إجماع خير القرون في الاعتقاد، فتصدى له التابعون بالرد عليه والمناظرة في هذه المسائل، ثم بدأ التصنيف في عقيدة أهل السنة حين أصبح ضرورة لابد منها لنفي تأويل المبطلين، ورد انحراف الغالين، وكان أول مدون عرفناه في العقيدة - على هذا النحو – هو كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله (ت: 150هـ)، رواه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، كما رواه حماد بن أبي حنيفة – وإن قيل إنه من وضع أبي مطيع البلخي – حدد فيه أبو حنيفة عقائد أهل السنة تحديدا منهجيا ورد فيه على المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، واشتمل على خمسة أبواب - في أتم رواياته -: الأول في القدر، والثاني والثالث في المشيئة، والرابع في الرد على من يكفر بالذنب، والخامس في الإيمان، وفيه حديث عن الأسماء والصفات، والفطرة، وعصمة الأنبياء، ومكانة الصحابة، وغير ذلك من مباحث العقيدة.
فلو قال قائل: إن واضع علم التوحيد – بمعنى أول من وضع مؤلفا خاصا في الفن من أهل السنة – هو الإمام أبو حنيفة؛ لكان صادقا ولم يبعد عن الصواب، "وإن كان قد قيل: إن واضعه الإمام مالك بن أنس، وأنه ألف فيه رسالة، وقيل أيضا أنه لما كثرت الفتن أمر المنصور بوضع كتب لإزالتها والرد عليها" >>

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:42 AM
كما ثبت أن الإمام ابن وهب رحمه الله (ت: 197هـ) وضع كتابا في القدر على طريقة المحدثين في جمع الأحاديث وإن كان دون تبويب.
ولقد نسب كتاب بنفس اسم الفقيه الأكبر للإمام الشافعي رحمه الله (ت: 204هـ)، تناول فيه مسائل الاعتقاد مسألة مسألة، ورد على الفرق المخالفة في ثنايا كلامه، إلا أن نسبة الكتاب إلى الإمام الشافعي غير موثقة، فقد قال حاجي خليفة في كشف الظنون: ".. لكن في نسبته إلى الشافعي شك، والظن الغالب أنه من تأليف بعض أكابر العلماء" .
ثم تتابع التأليف بعد أبي حنيفة في علم التوحيد ولكن بأسماء مختلفة لهذا العلم. فمن أول ذلك كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ)، وتبعه على هذا كثيرون إلى يوم الناس هذا، كما ظهر مصطلح السنة للدلالة على ما يسلم من الاعتقادات، واشتهر ذلك زمن الإمام أحمد رحمه الله، ومن الكتب المصنفة باسم السنة، كتاب السنة لابن أبي شيبة رحمه الله (ت: 235هـ) والسنة للإمام أحمد رحمه الله (ت: 240هـ) وغير ذلك، ثم ظهر مصطلح التوحيد في مثل كتاب التوحيد لابن سريج البغدادي رحمه الله (ت: 306هـ)، وكتاب التوحيد لابن خزيمة رحمه الله (ت: 311هـ)، وواكب ذلك ظهور مصطلح أصول الدين، ثم ظهر التأليف باسم العقيدة أوائل القرن الخامس الهجري، واستقرت حركة التصنيف ومنهج التأليف، واستقل علم التوحيد علما متميزا عن غيره بلقب ومنهج مخصوص. وأخيرا فإن فيما سبق بيانه رد على من زعم – من الأشاعرة والماتريدية – أن واضعي علم التوحيد هما: أبو الحسن الأشعري (ت: 324هـ)، وأبو منصور الماتريدي (ت: 333هـ)، حيث سبقا بتآليف كثيرة كتبت على منهج أهل الحديث، أهل السنة والجماعة.

الاصل في تاريخ البشر هو التوحيد الخالص والعقيدة السليمة .. اما الشرك والكفر والوثنية أمور طارئة بعد أحقاب من الزمان بعد آدم عليه السلام .. ففي زمن ادم عليه السلام لم يتنازعوا ولم يختلفوا في ذلك حتى ظهر ذلك الاختلاف والتنازع وبداية الانحراف عن التوحيد في عهد نوح عليه السلام قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " كَانَ بَيْنَ نُوحٍ ، وَآدَمَ ، عَشْرَةُ قُرُونٍ ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ ( وفي رواية : كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلاَم ِ) فَاخْتَلَفُوا ، (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) " .
انظر : " تفسير الطبري " (3/621) ، " تفسير ابن كثير " (3/431) ... روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وهذا لفظ البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. فحاجة البشر الى الدين وجدت معه على الدوام .. فمهما استعلت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت ومهما تعددت الأفكار والنظريات فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الصحيح , ولن تستطيع أن تلبي متطلبات الروح والجسد , بل كلما توغل الفرد فيها ؛ أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه أمناً , ولا تروي له ظمأً , وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح , يقول أرنست رينان : ( إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه وأن تبطل حياة استعمال العقل والعلم والصناعة , ولكن مستحيل أن ينمحي التدين , بل سيبقى حجة باطلة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الإنسان في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية ) انظر : الدين , تأليف عبد الله دراز , ص : 87. ... ويقول محمد فريد وجدي : ( يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين ؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها , ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان , بل إن هذا الميل سيزداد , ففطرة التدين ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح , وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه ) المصدر السابق , ص: 87.فإذا ابتعد الإنسان عن ربه فعلى قدر علو مداركه واتساع آفاق علمه , يدرك عظم جهله بربه وما يجب له , وجهله بنفسه وما يصلحها ويفسدها , ويسعدها ويشقيها , وجهله في جزئيات العلوم ومفرداتها كعلوم الأفلاك والمجرات وعلوم الحاسب والنواة وغيرها ... وحينئذ يتراجع العالم من مرحلة الغرور والكبرياء إلى التواضع والاستسلام , ويعتقد أن وراء العلوم عالماً حكيماً , ووراء الطبيعة خالقاً قادراً , وتلزم هذه الحقيقة الباحث المنصف بالإيمان بالغيب والإذعان للدين القويم , والاستجابة لنداء الفطرة والغريزة الجِبِلََّيَّة ....وإذا تخلى الإنسان عن ذلك انتكست فطرته وتردى على مستوى الحيوان الأعجم .. فكل مولود يخلق متهيئا لقبول الإسلام والحق، ومعلوم أن دين الأنبياء جميعا هو الإسلام، واختلافهم إنما هو في فروع الشرائع، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ {آل عمران:19}.


اليوم تبرز دراسات كثيرة تؤكد أهمية الدين وأهمية الإيمان بالله، فقد لاحظ الباحثون أن أكبر نسبة للانتحار نجدها في صفوف الملحدين، وأكبر نسبة للأمراض النفسية تكون عند غير المؤمنين، وأكبر نسبة للإصابة بالأمراض الجنسية المعدية والإيدز تكون بين من يمارسون الفاحشة علناً!!

يدعي الملحدون أن الإيمان بالله هو من نتاج البشر، وقد ابتدعته فئة من الناس في القديم ليسيطروا على الضعفاء باسم "الإله" ... ولكن الدراسة الجديدة تقول بأن الإنسان يولد وهو يحمل في جيناته "الإيمان بالله" هذا ما يصرح به أحد علماء بريطانيا وهو الباحث Justin Barrett بعد دراسة طويلة على الأطفال بأعمار مختلفة.

فقد تبين له أن الأطفال يخلقون وفي ذهنهم تساؤلات حول "من خلقنا" ونجد لديهم قبولاً طبيعياً للإيمان بخالق للكون هو الله تعالى. بل إن الطفل الصغير لا يتقبل دماغه فكرة أ، الطبيعة هي التي صنعت الكون، أو أن الكون وُجد بالمصادفة، ولكنه بعد ذلك يتقبل تدريجياً فكرة المصادفة تبعاً لأسلوب تربيته.

وهذا ما حدثنا عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)، وهنا نحن أمام إثبات مادي على صدق كلام الحبيب عليه الصلاة السلام. بل من أين جاء نبينا الذي عاش قبل 1400 سنة بهذا العلم الذي لم يقل به أحد إلا قبل أشهر قليلة (عام 2008)؟! إنه دليل على صدق المصطفى وصدق رسالته وأنه نبي صادق في دعوته وليس كما يدعي أعداء الإسلام.

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:45 AM
العلم الحديث يثبت ان الايمان والدين وجد مع الانسان على الدوام وانه مزروع في جيناتنا .. في كل خلية من خلايا الإنسان هناك شاهد ودليل على وجود الله تعالى، فالخلية تعرف خالقها، كيف لا تعرفه وهو الذي فطرها أول مرة؟ وكيف لا تعرفه، وكل شيء يسبح بحمد الله؟ وسؤالنا لكل ملحد: لماذا لا يتقبل عقل الطفل فكرة وجود الكون بالمصادفة؟ ولماذا يتساءل الأطفال عن سر وجودهم، وبمجرد أن تخبرهم بأن الله تعالى هو من خلقهم، يستجيبون على الفور لذلك ويتقبَّلون هذه الحقيقة بسهولة. وعندما تخبرهم عن التطور والمصادفة، لا يستجيب أي طفل لهذه الفكرة الباطلة، لسبب بسيط، لأنها غير صحيحة!

إن وجود هذا التفكير لدى الطفل دليل على وجود الله تعالى، فلو كان الكون وُجد بالمصادفة، والإنسان خُلق نتيجة التطور، فمن أين جاء هذا التفكير لعقل الأطفال الصغار؟ إن الذي وضع لهم هذا الإحساس بوجود إله قدير، هو القائل: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].


قال الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم فى كتابه الرائع ( فطرية الدين ) بتصرف يسير:
من فضل الله ورحمته أن غرس فطرة الإسلام والتوحيد فى أعماق كل نفس منذ ولادتها
تجعل فى النفس شعور بالشوف الشديد واللهفة المتأججة لمعرفة الخالق
... ومما يستأنس به فى توكيد هذه الحقيقة أن العلم الحديث بدأ يقترب من اكتشافها عبر علم الجينات وعبر علم أخص منه يسمى (neuro theology) وهو مجال حديث يستهدف اكتشاف وفهم العلاقة بين المخ والأمور الإلهية أو الروحانية
1_ لقد بالفعل الحديث حول (جين الإيمان) وأصدر دكتور (دين همر) اخصائى علم الأحياء الأمركى بالمعاهد القومية بولاية ميريلاند كتابه (the God gene) وجاء فى التعريف بالكتاب عالم الجينات يخترق (CRACKS)الشفرة وراء كوننا مهيئين للإيمان بالله ويسلط الضوء على تأثير جيناتنا على ميلنا للإيمان وصدر أيضاً كتاب (The God of The Brain) أى الجزء الإلهى من المخ يؤكد نفس المعنى من تأليف (Mathew Alper) وساق كتب أيضاً فى نفس المعنى شهادة المهتدين بوجود الإسلام والتوحيد فى فطرتهم قال ولو ذهبنا نستقصى قصص المهتدين هنا لطال الحديث تقول الكاتبة والشاعرة الأمريكية (إيفيلين كوبلد) (يغلب على ظنى أننى مسلمة منذ نشأتى الأولى فالإسلام دين الطبيعة التى يتقبله المرء فيما لو ترك لنفسه) وتقول (مارى أوليفر)
(أعظم فضيلة للإسلام أنه يأسر قلوب البشر بصورة تلقائية ومن أجل هذا تجد فى الإسلام سحراً عظيماً وجاذبية تجتذب إليها ذوى العقول المتفتحة ) .. وساق كلام يبهر العقل للمهتدين حتى قال فى داخل كل إنسان عميل للإسلام وهى الفطرة التى فطر الله الناس عليها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)، وقال تعالى (فطرة الله التى فطر الناس عليها)


وقال ايضا فى رسالة إنها الأمانة فمن لها؟: هناك ظاهرة عجيبة يشهدها العالم أجمع إلا وهى أن الإسلام يغزو قلوب الملايينبالرغم أن جهود نشر الإسلام ضئيلة تفتقد ذالك التخطيط والتنسيق والتمويل والمنهجية التى تحضى بها مثلاً الكنيسة النصرانية وبخاصة الكاثولوكية من حملات تنصيرية تعد رجالها فى معاهد متخصصة وتنفق عليها المال الوفير ومع هذا كله تذهب جهدهم هباء وتكون أمةلهم عليهم حسرة
أجل الإسلام ينتشر ... مع هذا الكيد من أعدائه والتقصير من أبنائه فما السر؟؟
إنه الإسلام نفسه دين الفطرة دين التوحيد دين الإستقامة دين النظافة فى العقيدة والاخلاق والعبادات والشرائه ألا إن داعية الإسلام الأكبر هو الإسلام نفسه وإن قوة الإسلام الذاتية التى أودعها الله فيه هى التى تقهر المناوئين له مهما عظمت تنظيماتهم وكثرت أموالهم

وقال شيخ الإسلام رحمه الله : " القلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقاً به وديناً له لكن يعرض لها ما يفسدها ومعرفة الحق تقتضي محبته ومعرفة الباطل تقتضي بغضه لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل لكن قد يعرض لها ما يفسدها إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه " .
مجموع الفتاوى 7 / 528 .الشعور الفطري إحساس بين جميع الخلائق المدركة على اختلاف نزعاتها ومستوياتها وثقافاتها في البيئات البدائية, وفي المدن المتحضرة, وفي منتديات المثقفين, وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات, إنه شعور مشترك بين جميع الناس, يقوم في نفس الطفل الصغير والإنسان البدائي والمتحضر, والجاهل, والعالم, والباحث, والفيلسوف, والعبقري, والخبير في المعمل, وكل هؤلاء يشعرون أن الله حق, وأنه القوة القابضة على ناصية كل شيء والعالمة بكل شيء والحكيمة و المريدة التي لا شك فيها.
قال احد العلماء الفيزياء المعاصرين " كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون, عليمةً هي أعلم ما تكون, حكيمةً هي أحكم ما تكون, هو إنسان حي و لكنه ميت " نشر موقع صحيفة التلغراف البريطانية نتائج بحث بتاريخ نوفمبر 2008 :
"الاطفال يولدون مؤمنين بالله ولا يكتسبون الأفكار الدينية عبر التلقي " كما يقول أكاديمي. الدكتور جاستون باريت (Dr Justin Barrett) , باحث متقدم في مركز علم الانسان والعقل في جامعة أوكسفورد, يقول بأن الأطفال الصغار لديهم القابلية المسبقة للايمان ب"كائن متفوق" لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب.

الدكتور جاستون باريت
و يقول هذا الباحث بأن الأطفال الصغار لديهم ايمان حتى اذا لم يتم تلقيمهم ذلك عبر المدرسة او الأهل, و يضيف بأنه حتى اذا نشأو بمفردهم على جزيرة صحراوية فسيتوصلون للايمان بالله.

"غالبية الأدلة العلمي في العقد الماضي أظهرت أن الكثير من الأشياء تدخل في البنية الطبيعية لعقول الأطفال مما ظننا مسبقا , من ضمنها القابلية لرؤية العالم الطبيعي على أنه ذو هدف ومصمم بواسطة كائن ذكي مسبب لذلك الهدف", كما قال لراديو BBC

"اذا رمينا أطفالاً لوحدهم على جزيرة و تربوا بأنفسهم فسيؤمنون بالله" -كما يقول الباحث- في محاضرة سيتم القائها في معهد فاراداي في جامعة كامبردج يوم الثلاثاء, الدكتور باريت سيروي اختبار نفسي تم القيام بها على أطفال يؤكد بأنهم و بشكل فردي يؤمنون بأن كل شيء مخلوق لسبب محدد.

في دراسة واحدة, تم سؤال أطفال بعمر السادسة و السابعة عن سبب وجود الطير الأول فأجابوا "لاصدار أصوات جميلة" و "لتجعل العالم يبدو جميلا".

و أظهر اختبار آخر على أطفال بعمر 12 شهرا بأنهم تفاجؤ عند مشاهدنهم لفيلم يظهر فيه طابة متدحرجة صنعت جدارا منظما من كومة قطع مبعثرة.

و يقول الدكتور باريت بأنه يوجد دليل آخر وهو بأن الأطفال -حتى في عمر الأربع سنوات- يفهمون بأنه مع كون بعض الأشياء هي من صنع الانسان,

صورة لغلاف كتاب Why Would Anyone Believe in God (لماذا يجب على كل شخص أن يؤمن بالله ) تأليف جاستون باريت

العالم الطبيعي مختلف عن ذلك.

و يضيف بأن ذلك يعني بأن الأطفال يميلون للايمان بالخلق و ليس بالتطور, بغض النظر عما سيقوله لهم المعلمون أو الأهل.

و يقول الدكتور باريت بأن علماء الانسان قد وجدوا في بعض الثقافات أطفال يؤمنون بالله مع أن التعاليم الدينية ليست في متناولهم.

"العقول الناشئة بشكل طبيعي للأطفال تجعلهم يميلون للايمان في خلق الاهي و تصميم ذكي بدل التطور فهو غير طبيعي للعقول البشرية و صعب التقبل و الاستيعاب.

بقلم مارتن بيكفورد

مراسل الشؤون الدينية في صحيفة التلغراف

المصدر: http://www.telegraph.co.uk/.../Children-are-born...

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:49 AM
اشارت إحدى الدراسات التي قام بها فريق من العلماء البريطانيين تحت اشراف الدكتور "بروس هود"، ان الإيمان بالله عز وجل ينبع من برمجة معينة في عقول البشر منذ الولادة، و"أن البشر مبرمجون للتمتع بشعور روحاني انطلاقاً من نشاط كهربائي في مناطق معينة في الدماغ " .
ان هذه الدراسة التي نشرتها الصحف مؤخراً، ليست الوحيدة من نوعها في هذا المجال، فعلى الرغم من الطابع الالحادي الذي طبعت عليه كثير من الدراسات العلمية التي تعنى بقضية التدين، إلا ان هناك دراسات اخرى وعلماء كثر توصلوا من خلال أبحاثهم إلى حقيقة وجود فطرة التدين عند الانسان منذ الولادة، وكان آخر واحدث ما نشر في هذا الصدد ما ذكرته صحيفة "الديلي تلغراف" في عددها الصادر في (16 حزيران 2009م) عن الدكتور " جستون باريت" أحد الباحثين الكبار بمركز الأنثروبولوجيا والعقل بجامعة أكسفورد ببريطانيا أن الأطفال يولدون مؤمنين بالله ، وسبب إيمانهم أن أدمغتهم صُمِّمَت بطريقة تجعلهم يؤمنون. ويرى لذلك أنه لو استطاعت قِلَّة منهم أن تعيش في جزيرة منعزلة . هذه حقيقة أكدها القرآن الكريم بقول الله عز وجل : (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم/30] لقد وجهت هذه الآية العلماء إلى حقائق ودلالات عدة، منها:
1- وجود فطرة التدين لدى الشعوب والأمم الغابرة، وهذه الحقيقة ذكرتها الدراسات التي طالت عقائد الشعوب وعاداتهم واساطيرهم، ومن بينها موسوعة المؤرخ ول ديورانت" "قصة الحضارة"، التي ذكر فيها ان فكرة التدين لم تخل منها امة من الأمم في القديم والحديث .
2- مواقف الانسان المتباينة من الآيات العجيبة والكبيرة المنتشرة في هذا الكون، ومن هذه المواقف ما يتعلق بالاكتشافات الحديثة التي وقف العلماء امامها مبهورين بعظمة الخالق الذي اتقن كل شيء صنعه، وصدق الله عز وجل الذي يقول : ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) [ فصلت / 53] .
ومنها ما يرتبط بعجز هؤلاء العلماء، على رغم القدرات المالية والعقلية عن اكتشاف الكثير من اسرار الكون او اقتفاء آثارها، ويصدق في هؤلاء قول الله عز وجل في آية الكرسي ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) [ البقرة ، 255] .
3-التجاء الانسان إلى الله عز وجل في وقت الشدة، قال الله عز وجل (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) [ الزمر/ 8 ] .

ولعل اكثر حالات الشدة التي تظهر فيها حاجة الانسان إلى ربه هي عند الموت وشعوره بدنو الأجل، لذلك نجد اكثر العصاة والكفار يعلنون توبتهم في هذه اللحظة، ولعل أشهر نموذج ذكره القرآن الكريم واصفا هذه الحالة، هو فرعون مصر الذي كان يستهزئ بإله موسى ويعتبر نفسه إلها، إلا انه عندما احس بدنو الأجل التجأ إلى الله سبحانه معلنا توبته، قال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [ يونس/ 90] .

إن وجود التدين هو حاجة اساسية في حياة الانسان، فهو من جهة يساهم في الاجابة عن الأسئلة التي تدور في ذهن الانسان عن اصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت واسراره، وعن الروح واسرارها، وسواها من اسئلة عجز العلماء قديما وحديثا عن الاجابة عنها .

ومن جهة اخرى يساهم التدين في استقرار النفس، ويحقق للإنسان التوازن المادي والروحي والفكري الذي يحتاجه، كما يضبط الانفعالات والعواطف والميول، ويساهم في حصول الانسان على الراحة والطمأنينة التي يحتاجها لمواجهة صعوبات الحياة، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن . إن أمره كله خير . وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سراء شكر . فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر . فكان خيرا له) رواه مسلم.

ويعد التدين عاملاً مهماً في استقرار وامان المجتمعات، واقامة مبادئ التكافل والعدل والنصرة والمحبة والعطف، وما إلى ذلك من مشاعر وأخلاق ترتبط جذورها بالدين ارتباطا وثيقا، لذلك رأى الفيلسوف الألماني "فيخته" أن هناك تلازماً بين الدين والأخلاق حين فقال : "إن الدين من غير أخلاق خرافة والأخلاق من غير دين عبث". و كذلك يرى الفيلسوف الألماني "كانت" أن الأخلاق هي الضمان الذي يوثق به الدين .

اخيرا إن القول بوجود فطرة التدين لدى الانسان ليست كافية وحدها لتحقيق التدين المطلوب من كل فرد مكلف ، بل لا بد من تعلّم شرائع الدين وتطبيقها، والاعتناء بهذه الفطرة وتنميتها بالتربية والتوجيه، ضمن القيم والأخلاق التي سار عليها الأنبياء وهدوا الناس إليها. حتى لا تضل الطريق وتنحرف عن منهج الوحدانية، وضرورة تعهدها منذ الصغر حتى لا تحيد على الخط الصحيح الذي نشأت عليه

مصادر العقيدة التي يستقي منها اهل السنة :
العقيدة لها مصدران أساسيان، هما: كتاب الله تعالى (القرآن الكريم). وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وإجماع السلف الصالح: مصدرٌ مبناه على الكتاب والسنة.
أما الفطرة والعقل السليم فهما مؤيدان يوافقان الكتاب والسنة، ويدركان أصول الاعتقاد على الإجمال لا على التفصيل، فالعقل والفطرة يدركان وجود الله وعظمته، وضرورة طاعته وعبادته، واتصافه بصفات العظمة والجلال على وجه العموم. كما أن العقل والفطرة السليمين يدركان ضرورة النبوات وإرسال الرسل، وضرورة البعث والجزاء على الأعمال، كذلك، على الإجمال لا على التفصيل.
أما هذه الأمور وسائر أمور الغيب، فلا سبيل إلى إدراك شيء منها على التفصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة (الوحي)، وإلا لما كانت غيباً وتعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح (السليم) غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل، فإذا جاء ما يوهم ذلك فإن الوحي مقدم ومحكم. لأنه صادر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والعقل لا عصمة له، بل هو نظر البشر الناقص. وهو معرض للوهم والخطأ والنسيان والهوى والجهل والعجز، فهو قطعاً ناقص ... إن صحائح المنقول تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، والعقيدة في الله تعالى من أهم ما بين الله في كتابه، قال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، وأهم ذلك العقيدة في الله وفي أنبيائه ورسالاته والغيب وما يحويه.
وعن السنة قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) رواه ابن ماجه (43) واللفظ له، وأحمد (4/126) (17182) وأبو عوانة في (مسنده) (1/36). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال أبو عوانة: وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين ..
وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد.
قال شيخ الإسلام عن أهل السنة: هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ويتبعون آثاره صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/157). .
يقول الإمام البربهاري: واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين. والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستفترق أمتي))، وبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية منها فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال البغوي ((شرح السنة)) (1/213): ثابت, قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/284): أسانيدها جياد. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي))(2641). ، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح، والمنار المستقيم ((شرح السنة)) للبربهاري (ص45).

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:51 AM
وأهل السنة لا يستدلون بالقرآن دون السنة؛ بل بالسنة والقرآن، ولا يكمل دين العبد إلا بالإيمان بما فيهما؛ لأنهما مما أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) .
فهما في الاحتجاج والاستدلال سواء، لا يعزل أحدهما من أجل التحاكم إلى الآخر، قال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65].
يقول البربهاري: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم عنه ودعه .
ولا يعارض صحيح النقل - من أدلة علم العقيدة - بوهم الرأي وخطل القياس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فكان من الأصول المتفق عليها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده.. فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل إما أن يفوض وإما أن يؤول!.. ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية تفسرها أو تنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه .
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقا - بشرط الصحة -، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها

اما المصدر الثاني فهو الاجماع والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل. (فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/157). . وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، (فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/164). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص193

ثالثا العقل الصريح : العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدراً مستقلاً؛ بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص 13). ، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
وقد رفع الوحي من قيمة العقل وحث على التعقل، وأثنى على العقلاء، قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ [الزمر: 17-18].
والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية صافية من كل كدر، فما على العقل إلا فهمها وإدراكها، فمن ذلك: قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء: 22].
وقال سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]. وقال جل وعلا:وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء: 82]. وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال.
يقول ابن رشد الفيلسوف -وهو ممن خاض بالعقل في مسائل الاعتقاد وطالت تجربته-: لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء ((تهافت التهافت)) لابن رشد (2/547). . والمقارنة بين طريقة الوحي وطرق الفلاسفة والمتكلمين في بحث أمور العقيدة هي مقارنة بين الصواب والخطأ، والصحيح والفاسد، والنافع والضار.
يقول الرازي - بعد طول بحث -: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن. وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/244). .
فميزان صحة المعقولات هي الموافقة للكتاب والسنة. قال في (الحجة): وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم ((الحجة في بيان المحجة)) لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني (2/224). . والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (19/229-230). . أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، وما يجب لهم وما يستحيل، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي...

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:54 AM
قال أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: ولأن العقل لا مجال له في إدراك الدين بكماله، وبالعلم يدرك بكماله ويقصد بالعلم الوحي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر، عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين .
وقال اللالكائي رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد: 19]، وقال تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد...
وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158].. فدلّ على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
ثم إن كثيراً من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها.
(ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيب، تنبيهاً للعقول على إمكان وجودها، فاستدل على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وعلى خلق الإنسان بخلق السماوات والأرض وهي أعظم وأبلغ في القدرة، وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء عليها) .
قال السفاريني رحمه الله: لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، فكذا الملزوم .
وأخيراً: فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛ لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلاً، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة).
ولذا قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: (من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) ، (وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد؛ بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولاً >>>


رابعا الفطرة السوية : أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، أو هي الإسلام والدين القيم. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].
قال ابن كثير رحمه الله: فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/433). .
قال شيخ الإسلام: فالحنفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له، والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/451). . وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة.
وفي الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟)) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. واللفظ للبخاري. .
فمعنى خلق المولود على الفطرة هو: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/333-334). ، والفطرة قبول الإسلام، فهي كالأرض الخصبة القابلة، والوحي كالغيث النازل من السماء، ما إن ينزل عليها حتى تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. والفطرة السوية تقبل الإسلام وتهتدي إلى وجود الخالق بما أودع الله الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره، وقلوب بني آدم مفطورة على قبول الإسلام وإدراك الحق، ولولا هذا الاستعداد ما أفاد النظر ولا البرهان، شأنها في ذلك شأن الأبدان، فطرها الله تعالى قابلة للانتفاع والاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا هذا الاستعداد لما حصل انتفاع.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/328). .
ويقول: إن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وإنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/15- 16). .
والفطرة تدل على اتصاف الخالق بالصفات العلى والكمال المطلق، فهي تدرك أن من يخلق لا يكون كمن لا يخلق، قال تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17].فالخالق لهذا الكون لا يستوي مع غيره، في صفاته وأفعاله وذاته، فهي تدرك علو الصفات، كما تدرك علو الذات، فإنه ما قال عارف مؤمن قط: يا الله، إلا وجد في نفسه ضرورة بطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، لا يجادل في ذلك مجادل.
والفطرة وإن غشيتها غاشية الإلحاد؛ تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، ويلجأ إلى بارئه عند حلول الحوادث العظام والخطوب الجسام، قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67].
"والإسلام بعقائده وأحكامه موافق للفطرة لا يعارضها؛ بل كلما كانت العقائد والأحكام بعيدة عن الإسلام، كانت معارضة للفطرة الصحيحة مضادة لها، ففي الفطرة محبة العدل وإيثاره، وبغض الظلم والنفار منه، واستقباح إرادة الشر لذاته، لكن تفاصيل ذلك إنما تعلم من جهة الرسل، فالطفل عند أول تميزه إذا ضرب من خلفه التفت لعلمه أن تلك الضربة لابد لها من ضارب، فإذا شعر به بكى، حتى يقتص له منه، فيسكن ويهدأ، فهذا إقرار في الفطرة بالخالق، وهو التوحيد، وبالعدل الذي هو شرعة الرب تعالى) ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص 240). .
والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، فلا عذاب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة، وقالت المعتزلة في الآية: رَسُولاً أي: العقل، وهو تحريف للكلم عن مواضعه، بدلالة قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7].
وهو سبحانه ما أهلك من قبلنا من الأمم إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، قال تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ [الشعراء: 208]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59].
فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟
فيقال: إن إثبات كون الفطرة هي الإسلام، لا يقتضي خلق علم ضروري في نفس الإنسان، يجعله عالما بالعقيدة وأصولها، ونواقضها، قال تعالى: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78]. كما أن الله تعالى تكرما منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131]؛ بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطر والعقول إجمالي لا تفصيلي، فالعقل لا يهتدي لكل كمالات الله تعالى، ولا يهتدي إلى كل ما يرضيه من الأقوال والأفعال، فلابد له من وحي يهديه ويرشده ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين، كما أن العقل والفطرة لا يدلان على عقوبة الآخرة لمن قصر في ذلك، فجاء الرسول ببيان ثواب التوحيد، وعقوبة الشرك في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم رحمه الله:

وكان الناس في لبس عظيم

فجاءوا بالبيان فأظهروه

وكان الناس في جهل عظيم

فجاءوا باليقين فأذهبوه

وكان الناس في كفر عظيم

فجاءوا بالرشاد فأبطلوه

وأخيراً فإنه لا تعارض ولا تناقض - بحمد الله - بين فطر الخلائق على الإسلام وبين عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن الله تعالى (وإن خلقه مولوداً سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك) ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/362). . علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص198

كريـم البرلسي
06-09-2015, 11:57 AM
قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة :
لم يفرد السلف الأوائل مؤلفات خاصة في قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد، بل اكتفوا بما ورد في ثنايا كتب العقائد من تقعيدات وتأصيل، ومناظرات ورد للشبه والأباطيل، يظهر ذلك في كتب أهل السنة والجماعة المتقدمين عامة، ويظهر بوضوح في مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، إلا أن الدراسات المعاصرة عنيت بتحرير تلك القواعد، وبيان الضوابط، والكشف عن مناهج السلف والأئمة في الاستدلال على مسائل الاعتقاد، وفي الرد على أهل البدع والإلحاد.وفيما يلي تنبيه على أهم تلك القواعد والضوابط المنهجية في تقرير مسائل الاعتقاد كما أشارت إليها كتب المتقدمين، وجمعتها ورتبتها بعض كتب المتأخرين وهي : .................................................. .................................................. ....القاعدة الأولى : انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها.
القاعدة الثانية : حجية فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة.
القاعدة الثالثة : الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين.
القاعدة الرابعة : جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها.
القاعدة الخامسة : اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها.
القاعدةالسادسة : الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل.
القاعدةالسابعة : درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل.
القاعدة الثامنة : السكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف.
القاعدة التاسعة : موافقة النصوص لفظا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ.
القاعدة العاشرة : الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة.
القاعدة الحادية عشر: لا نسخ في الأخبار ولا في أصول الدين.
القاعدة الثانية عشر: رد التنازع إلى الكتاب والسنة.
القاعدة الثالثة عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين.
القاعدة الرابعة عشر: الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم.

القاعدة الأولى : انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها
العقيدة توقيفية؛ فلا تثبت إلا بدليل من الشارع، ولا مسرح فيها للرأي والاجتهاد، ومن ثَمَّ فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه لا أحد أعلمُ بالله وما يجب له وما ينزه عنه من الله، ولا أحد بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة مقصورًا على الكتاب والسنة. فما دلّ عليه الكتاب والسنة في حق الله تعالى آمنوا به، واعتقدوه وعملوا به. وما لم يدل عليه كتاب الله ولا سنة رسوله نفَوْهُ عن الله تعالى ورفضوه؛ ولهذا لم يحصل بينهم اختلاف في الاعتقاد، بل كانت عقيدتهم واحدة، وكانت جماعتهم واحدة؛ لأن الله تكفّل لمن تمسك بكتابه وسنة رسوله باجتماع الكلمة، والصواب في المعتقد واتحاد المنهج، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]. وقال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123]. ولذلك سُمُّوا بالفرقة الناجية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الواحدة قال: ((هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فعندما بنى بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة، من علم الكلام، وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فلاسفة اليونان؛ حصل الانحرافُ والتفرق في الاعتقاد مما نتج عنه اختلافُ الكلمة، وتفرُّقُ الجماعة، وتصدع بناء المجتمع الإسلامي .
هذا وإن من منة الله على أهل الإسلام، أن وحد لهم مصدرهم في التلقي، فلا تذبذب ولا اضطراب في تلقي التصورات والأفكار والعقائد من هنا وهناك بل مصدر تلقي العقائد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن من تطلب الهداية بعيدا عن هذين الأصلين فهو الواقع في شَرَك الضلال والعياذ بالله، يقول ابن أبي العز: (فكل من طلب أن يحكم في شيءٍ من أمر الدين غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه)

القاعدة الثانية : حجية فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة
إذا اختلف أهل القبلة وتنازعوا الحق والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن أجدر الفرق بالصواب وأولاها بالحق وأقربها إلى التوفيق من كان في جانب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الكتاب الكريم حمال أوجه في الفهم مختلفة؛ فإن بيان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم له حجة وأمارة على الفهم الصحيح. أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهاناً، حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وأدركوا مراده، اختارهم الله تعالى على علم على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين، (وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم) .
(فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة) .
قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] (أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) .
وقال سفيان رحمه الله في قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النحل:59] (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) .
وفي منزلة علمهم واجتهادهم وفتاواهم قال الشافعي رحمه الله:... فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً، وعزما وإرشاداً، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله .
وأفضل علم السلف ما كانوا مقتدين فيه بالصحابة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: ولا تجد إماماً في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل: الفضيل وأبي سليمان، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب
ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظا وتفسيراً، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة، (ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم)

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:00 PM
والمسلمون في شأن العقيدة يحتاجون إلى (معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسنة، وأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة، عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه، فإن المعاني العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد والإيمان والإسلام، ونحو ذلك.. فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين) (8) .
فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، لا كما يدعيه المخالفون، باختلاف نحلهم ومذاهبهم، فتارة يقول أهل السياسة والملك: إنهم لم يمهدوا قواعد الحكم والسياسة والتدبير لانشغالهم بالعلم والعبادة، وتارة يدعي أهل التصوف أنهم ما حققوا المقامات والأحوال لانشغالهم بالجهاد والقتال وهكذا...
والحق أن (كل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدراً) .
وقال ابن رجب رحمه الله: فمن عرف قدر السلف، عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدل والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة؛ لم يكن عيا، ولا جهلا، ولا قصورا، وإنما كان ورعاً وخشية لله، واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع
وفي تحديد مفهوم السلف، قال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، فالسلف اسم يجمع الصحابة فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي الصحيح: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..))
وهذه الخيرية خيرية علم وإيمان وعمل، ولقد حكى ابن تيمية رحمه الله الإجماع على خيرية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة .
ولقد اعتصم أهل السنة والجماعة بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين فعصمهم هذا من التفرق والضلال، فقالوا بما قال به السلف، وسكتوا عما سكتوا عنه، ووسعهم ما وسع السلف.
أما أهل الضلال والابتداع، فمذهبهم الطعن في الصحابة وتنكب طريق السلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من الصحابة بسوء، فاتهمه على الإسلام)
فالصحابة يكفرهم الرافضة تارة، والخوارج أخرى، والمعتزلة يقول قائلهم وهو عمرو بن عبيد – عليه من الله ما يستحق -: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على شراك نعل ما أجزت شهادتهم!
وصدق أبو حاتم الرازي رحمه الله حين قال: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر .
ورضي الله عن أبي زرعة الرازي حيث قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة

القاعدة الثالثة : الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين
من أصول عقيدة السلف الصالح؛ أهل السنة والجماعة في منهج التلقي والاستدلال اتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل وما صح من سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهراً وباطناً، والتسليم لها، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا [الأحزاب: 36]
وأهل السنة والجماعة: لا يقدمون على كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كلام أحد من الناس، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]. ويعلمون بأن التقدم بين يدي الله ورسوله من القول على الله بغير علم، وهو من تزيين الشيطان
ومما روي عن السلف في الإيمان والتسليم للنصوص:
(قال رجل للزهري: يا أبا بكـر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) ، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).
ولما ذكر عبدالله بن المبارك رحمه الله حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)) ، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه.
وقال محمد بن نصر المروزي في معنى الإيمان: الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه... وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمـت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات


القاعدة الرابعة : جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها
إن معقد السلامة من الانحراف عند بيان قضية عقدية وتفصيل أحكامها هو جمع ما ورد بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء، مع تحرير دلالات كلٍ، وتصحيح النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماد فهم الصحابة والثقات من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد - لا في الواقع ونفس الأمر، فينبغي الجمع بين هذه الأدلة برد ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامها بخاصها، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها - وذلك في الأحكام دون الأخبار فلا يدخلها نسخ - وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فيرده إلى عالمه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7].
و في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زاجرا وآمرا، وحلالا وحراما، ومحكما ومتشابها، وأمثالا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا))
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يؤمن بالمحكم ويدين به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به، وهو من عند الله كله
وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]
وإذا اتضح هذا؛ فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب، أو أن تعمل مجموعة من النصوص وتهمل الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم، والغلط في التأويل ، قال الإمام أحمد رحمه الله: الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا
وقال الشاطبي رحمه الله: ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها..
ومما يلتحق بهذا المعنى جمع روايات الحديث الواحد والنظر في أسانيده وألفاظه معاً وقبول ما ثبت، وطرح ما لم يثبت، وكما قيل: والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله، ثم النظر في الحديث بطوله وفي الروايات مجتمعة.
وقد كانت لأهل البدع مواقف خالفوا بها إجماع أهل السنة بسبب مخالفتهم لهذا الأصل العظيم، فكانوا يجترئون من النصوص بطرف، مع إغضاء الطرف عن بقية الأطراف، فصارت كل فرقةٍ منهم من الدين بطرف، وبقي أهل السنة في كل قضية عقدية وسطاً بين طرفين، فهم - مثلاً - وسط في باب الوعيد بين غلاة المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد عصاة الموحدين في النار، كما أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين المرجئة القائلين بأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وبين الوعيدية القائلين بتكفيره - كما هو عند الخوارج - أو يجعله بمنزلة بين المنزلتين - كما هو عند المعتزلة -، وهم وسط في باب القدر بين القدرية النفاة لمشيئته تعالى وخلقه أفعال العباد، وبين الجبرية النفاة لقدرة العبد واختياره ومشيئته ونسبة فعله إليه حقيقة، والقاعدة الهادية عند اشتباه الأدلة: (أن من رد ما اشتبه إلى الواضح منها، وحكم محكمها على متشابهها عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس) ...

واتفق لأهل السنة والجماعة (موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه في الدين، كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي رد المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره) .
قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42].
وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال: يقول الباقلاني: وكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين؛ لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافياً لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كان أمراً ونهياً، وإباحة وحظرا، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة، وكل مثبت للنبوة
ولما خالف أهل البدع هذه القاعدة كفر بعضهم بعضا، حيث آمن بعضهم بنصوص وكفروا بأخرى، فقد آمن - مثلاً- الوعيدية: من الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وكفروا بنصوص الوعد، وقابلهم المرجئة فآمنوا بنصوص الوعد وكفروا بنصوص الوعيد، وأهل السنة والجماعة آمنوا بكل وجمعوا بين النصوص، واعتمدوا على قول الله تعالى: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156].
وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48].
وكذا الجبرية آمنوا بما كفر به القدرية، وكفروا بما آمن به القدرية، والحق الإيمان بجميع النصوص، واعتقاد نفي التعارض بينها، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28-29]، فأثبت مشيئة للإنسان مقيدة بمشيئة الرحمن.
فالتفّت – بحمد الله – النصوص واجتمعت، وزالت الشبه وارتفعت الحجب وانقلعت.
(وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة، وفي كتاب مختلف الحديث، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب مختلف الحديث، والطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار، وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة).

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:04 PM
القاعدة الخامسة : اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها
إن المصدر الذي تؤخذ منه مسائل أصول الدين هو الوحي، فكل ما يلزم الناس اعتقاده أو العمل به، قد بينه الله تعالى بالوحي الصادق عن طريق كتابه العزيز، أو بالواسطة من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو ما يرجع إليهما من إجماع صحيح، أو عقل صريح دل عليه النقل وأرشد إليه.
قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89].
وقال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((.. وأيم الله، لقد تركتكم على البيضاء، ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء)) ، وفي رواية أخرى: ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))
وفي صحيح مسلم لما قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ((قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال: أجل..))
ودخول مسائل التوحيد وقضاياه في هذا العموم من باب الأولى؛ بل (من المحال أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب)
والرسول صلى الله عليه وسلم بين مسائل التوحيد تارة بأدلتها النقلية مباشرة كأحوال البرزخ، ومسائل الآخرة، وتارة يجمع إلى الأدلة النقلية الأدلة العقلية ويرشد إليها، فإما أن تكون أدلة مسائل علم التوحيد أدلة نقلية، أو أدلة نقلية عقلية.
وبهذا الأصل المبارك اعتصم أهل السنة والجماعة، فصدروا عن الوحي في تعلم التوحيد في مسائله وأدلته، (ولم ينصبوا مقالة ويجعلوها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسل؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة، هو الأصل يعتقدونه ويعتمدونه)
وردوا عند التنازع في مسألة ما إلى نصوص الوحي، امتثالاً لقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" .
وفي إعمال هذه القاعدة نظر إلى الوحي بعين الكمال، واستغناء به عن غيره، واعتماد عليه، وتجنب اللوازم الباطلة لمذهب من يعول على العقل أو الذوق دون الشرع، وتحقيق للإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجاة من مسالك أهل الأهواء الذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله بعلومهم وعقولهم وأذواقهم، وحسم لمادة التقليد الباطلة، مع تحقيق الاجتماع والألفة ونبذ الاختلاف والفرقة.

القاعدةالسادسة : الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل
يقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، والظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، (فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين) ، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاما له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاما له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
ومراد المتكلم يعلم إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر - من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم - تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل ، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة:
أحدهما: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة.
الثاني: أن يبين وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد.
الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه، قال ابن الوزير رحمه الله: من النقص في الدين رد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل.. .
الرابع: أن يبين سلامة الدليل الصارف عن المعارض، إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح .
ومما يدل على إعمال الظواهر أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن – والعياذ بالله – معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم...))
ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه: (يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم) .

وقال ابن تيمية رحمه الله: لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه – أي نصوص الوحي – على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت...
وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل – ولو كان مستكرهاً – ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف
ويقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً خطورة التأويل: فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد
ففي لزوم الإيمان بالنصوص على ظاهرها ودفع التأويل المتعسف بغير دليل موافقة لنصوص الكتاب والسنة لفظا ومعنى، مع بعد عن التكلف في الدين، والقول على الله بغير علم، والافتراء على رسوله الأمين، فضلاً عن ما في ذلك من مصلحة سد باب الخروج على العقيدة ببدعة محدثة، وسد باب الخروج على الشريعة، والاجتراء على الحرمات، والتهاون بالطاعات والوقوع في المنكرات، بصرف ألفاظ الوعد والوعيد عن حقيقتها وظاهرها، ودعوى أن كل ذلك غير مراد.
(وهذه القاعدة تفيد بطلان مذهب المفوضة في الصفات، الذين يفوضون معاني النصوص إلى الله، مدعين أن هذا هو مذهب السلف، وقد علم براءة مذهب السلف من هذا المذهب بتواتر الأخبار عنهم بإثبات معاني هذه النصوص على الإجمال والتفصيل، وإنما فوضوا العلم بكيفيتها لا العلم بمعانيها)
قال ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه
بل كان قول أهل العلم: من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.
ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظواهر النصوص، وتفسيرها مما يظهر منها: قول ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه .
وقال مسروق رحمه الله: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحثنا فيها ويفسرها عامة النهار وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس
وقال مجاهد رحمه الله: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ...

فلم يتوقف الصحابة عن تفسير النصوص والأخذ بظواهرها؛ ويستثنى من ذلك النصوص الخاصة بصفات الله تعالى، فقد أخذوا بظواهرها فأثبتوها دون تفسير أو تكييف لمعناها.
قال الذهبي: قال سفيان وغيره: قراءتها – أي آيات الصفات – تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف
والواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع، والعقل.
أما السمع: فقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192-195] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. وقال تعالى:مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا الآية [النساء: 46].
وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.
واعلم أن من قواعد أهل السنة المقررة أن الأصل أن يحمل النص على ظاهره، وأن الظاهر مراد، وأن الظاهر ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وأنه لا يخرج عن هذا الظاهر إلا بدليل، فإن عدم الدليل كان الحمل على الظاهر هو المتعين، والحمل على خلافه تحريف، فالنصوص الشرعية نصوص هداية ورحمة لا نصوص إضلال، فلو قدر أن المتكلم أراد من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان لصادم هذا الفعل مقصود الإرشاد والهداية وأن ترك المخاطب والحالة هذه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى...ومن أسباب إخراج النصوص عن ظواهرها عند البعض دعوى معارضتها للمعقول كالشأن في كثير من العقائد الإسلامية، إذ أن من طالع كتب المؤولة وجد عندهم توسعا عجيبا في هذا الباب، وكلما خاضوا بالتأويل في باب جرهم ذلك إلى استسهال التأويل في باب آخر وهكذا حتى آل الأمر بالباطنية مثلا إلى تأويل جملة الشريعة حتى ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل ذلك كله من قبيل الباطن المخالف للظاهر،... والذي يعنينا هنا أن نؤكد على أن هذه النصوص الشرعية يجب حملها على ظواهرها ولا يصح تأويلها لمجرد تنزيلها على واقع حالي أو لتوهم معارضتها للمعقول، وأن تأويلها والحالة هذه مخرج لها عن قصد الشارع وبالتالي فتنزيلها بعد التأويل تنزيل لها على واقع غير مراد ولا مقصود للشارع

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:08 PM
القاعدةالسابعة : درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل
مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.
وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحاً ليس فيه دلالة صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مقدماته.
فمن احتج - مثلا- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانا قائما بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولى فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها.
وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق..))
ففي هذا الكتاب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله.
وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.. الحديث))
فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك
وقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام على التعارض المتوهم وذلك في كتابه البديع (درء تعارض العقل والنقل) ومما قاله في ذلك: ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ولا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع
وأن والعقل الصريح عندهم - أي: عند أهل السنة - يوافق النقل الصحيح، وعند الإشكال يقدمون النقل ولا إشكال؛ لأن النقل لا يأتي بما يستحيل على العقل أن يتقبله، وإنما يأتي بما تحار فيه العقول، والعقل يصدق النقل في كل ما أخبر به ولا العكس.
ولا يقللون من شأن العقل؛ فهو مناط التكليف عندهم، ولكن يقولون: إن العقل لا يتقدم على الشرع - وإلا لاستغنى الخلق عن الرسل - ولكن يعمل داخل دائرته، ولهذا سموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم وتسليمهم المطلق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] ..

مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.
وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحاً ليس فيه دلالة صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مقدماته.
فمن احتج - مثلا- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانا قائما بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولى فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها.
وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق..)) .
ففي هذا الكتاب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله.
وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.. الحديث))
فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك
وقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام على التعارض المتوهم وذلك في كتابه البديع (درء تعارض العقل والنقل) ومما قاله في ذلك: ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ولا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع
وأن والعقل الصريح عندهم - أي: عند أهل السنة - يوافق النقل الصحيح، وعند الإشكال يقدمون النقل ولا إشكال؛ لأن النقل لا يأتي بما يستحيل على العقل أن يتقبله، وإنما يأتي بما تحار فيه العقول، والعقل يصدق النقل في كل ما أخبر به ولا العكس.
ولا يقللون من شأن العقل؛ فهو مناط التكليف عندهم، ولكن يقولون: إن العقل لا يتقدم على الشرع - وإلا لاستغنى الخلق عن الرسل - ولكن يعمل داخل دائرته، ولهذا سموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم وتسليمهم المطلق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:11 PM
القاعدة الثامنة : السكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف
كل مسألة من المسائل الشرعية - ولاسيما مسائل الاعتقاد- لا يحكم فيها، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبت، وما ورد بنفيه نفي، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء؛ لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب التوقف: إما مطلقا أو لحين وجدان الدليل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه وإلا سكتنا عنه فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم... فالأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته
وقد وردت كثير من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة السلف وأهل السنة بالأمر بالكف عما لم يرد في الشرع، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف، وترك الخوض فيما لا علم للإنسان به من دليل أو أثر.
قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36] قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها))
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86])
وترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من (صحيحه): باب: ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، وباب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس وَلاَ تَقْفُ لا تقل مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]
وسأل رجل أبا حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدثه الناس في الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثةٍ فإنها بدعة
وروى اللالكائي بسنده عن أبي إسحاق قال: سألت الأوزاعي فقال: (اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم)
وقال إبراهيم النخعي: (بلغني عنهم – يعني الصحابة – أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به، وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم)
وقال الشعبي: (عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول). وقال أيضا: (ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش)...

وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: (ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر)
وقال ابن رجب رحمه الله: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقاق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل)

القاعدة التاسعة : موافقة النصوص لفظا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ
لا شك أن متابعة الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى أكمل وأتم من متابعتهما في المعنى دون اللفظ، ويكون ذلك باعتماد ألفاظ ومصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين، والتعبير بها عن المعاني الشرعية، وفق لغة القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما أثبته الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه)
وقال ابن القيم رحمه الله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على ألفاظ القرآن تقديما وتأخيرا، وتعريفا وتنكيرا كما يحافظ على معانيه، ومنه قوله وقد بدأ بالصفا: ((أبدأ بما بدأ الله به)) ومنه بداءته في الوضوء بالوجه ثم اليدين اتباعا للفظ القرآن ومنه قوله في حديث البراء بن عازب: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)) موافقة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ [ الأحزاب: 45])
ولهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول بالمعنى، ومن أجازه اشترط أن يكون الناقل عالما بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركا لأساليب العرب حتى يستبين الفروق، وأما شأن العقيدة خاصة فهو أعظم وأخطر؛ لذا كان هدي أهل السنة والسلف مراعاة الألفاظ ومعانيها معا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه في الله وصفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات؛ بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول) .
وقال رحمه الله: (والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه.
والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس، فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام كما قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ آل عمران: 103]. ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناه بيانا شافيا فإنها تنتظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الحجر: 9] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت: 41-42] وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود: 1] وقال: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]، وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من العباد ففيه أصول الدين المفيدة لليقين، وهي أصول دين الله ورسوله لا أصول دين محدث ورأي مبتدع)

والألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة إما أن تكون اصطلاحات متعينة للدلالة على الحق ولا تستعمل في غير هذا، فيلزم استعمالها فيما اصطلح عليه من المعاني الصحيحة، وهكذا الأمر فيما استعمله السلف الصالح من الألفاظ الشرعية.
وإما ألا تتعين للدلالة على الحق، بل تكون مجملة تحتمل حقا وباطلا، فإذا عرف مراد صاحبها وكان موافقا للمعنى الصحيح، قبل منه المعنى، ومنع من التكلم باللفظ المجمل، وعلم الألفاظ الشرعية في ذلك.

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:15 PM
القاعدة العاشرة : الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة
إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، فإنه يجب الإيمان به – سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف – لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة، وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب (مسائل الاعتقاد) يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة، متفقا عليه بين سلف الأمة
آمن أهل الإسلام بأن الله تعالى ربهم، ومليكهم، وأنه حكيم، عليم، قدير، رحمن، رحيم، أرسل الرسل لهدايتهم، وأنزل معهم الكتاب والميزان، فما أخبر به الرسول عن الله، فالله أخبر به، وهو سبحانه إنما يخبر بعلمه، ويمتنع أن يخبر بنقيض علمه، وما أمر به الرسول فهو من حكم الله، والله أمر به، وهو العليم الحكيم.
قال تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [ النساء: 166] وهذا يقتضي أن ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم حق من عند الله يوافق علم الله ومراده، فالواجب على كل أحد أن يقابل ما أمر به، أو نهى عنه بالطاعة والانقياد، فمن قبل عن الرسول ما أخبر به فعن الله قبل، ومن أطاع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله.

والإيمان بنصوص الكتاب والسنة على ضربين:
أحدهما: إيمان مجمل وهذا من فروض الأعيان، فيجب على كل أحد – ممن أسلم وجهه لله تعالى، ورضي بالإسلام دينا، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا – الإيمان بنصوص الكتاب والسنة، سواء أظهرت له معانيها ووضحت مدلولاتها، أم لا، فهذا حظ العامة، ومن لا يفهم العربية ومن في معناهما ممن اشتبه عليه معنى آية أو حديث، فما زال كثير من الصحابة، ومن بعدهم، يمر بآية أو لفظ وهو لا يدرك معناه، إلا ويؤمن به، وبكل ما أمره إلى عالمه، ومثله وقع لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما
وهذا لا يعني أن في النصوص ما لا يدرك معناه بحال، بل معاني النصوص مفهومة من لغة التخاطب، لكن قد يقوم بالشخص من عوامل القصور ما هو مدعاة إلى عدم الفهم، ووضوح الخطاب عنده.
فالواجب على المسلم الإيمان بالنص – بعد معرفة صحة مخرجه – إيمانا عاما مجملا، من غير أن يشترط فهم معناه، أو إدراك حقيقته أو سلامته عن المعارض العقلي – كما يقوله أرباب الكلام – أو موافقته للذوق والكشف – كما يدعيه غلاة المتصوفة-.
الثاني: إيمان مفصل، وهذا من الفروض الكفائية، هو خاص بكل من قام عنده الدليل، وبان له المدلول، وظهر معناه، فإذا حصل ذلك عنده، صار الإيمان في حقه فرضا متعينا، وإلا فالأصل فيه أنه كفائي، قال شارح الطحاوية: (ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية) لكن من قدر عليه وجب عليه تحصيله، طلبا لحماية الدين، وكفاية المسلمين بتعليمهم وتفهيمهم إياه، وهو بحر تتفاوت فيه همم الطالبين، وتتطاول عنده أعناق الراغبين، وبقدر المعرفة به، تكمل المعرفة بالله وبدينه: قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ المجادلة: 11]

القاعدة الحادية عشر: لا نسخ في الأخبار ولا في أصول الدين
إن مسائل الاعتقاد – من الإيمان بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ورسالاته، واليوم الآخر ونحو ذلك من الأمور الثوابت، التي جاءت بها جميع رسل الله تعالى، من لدن آدم إلى محمد عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم لا يدخلها نسخ أو تعديل.......،
والشريعة نوعان: خبر وأمر، الخبر يدخل فيه الماضي والمستقبل والوعد والوعيد، ويشمل ما أخبر الله تعالى به عن ذاته، وصفاته، وأفعاله، وما أخبر أنه كان، أو سيكون من مفعولاته، وما قص علينا من أخبار الأمم الماضية، وأخبار الرسل ودعواتهم، وما فعل بأعدائهم، وما أعده لأوليائهم، ويدخل فيه – أيضا – ما ذكره الله من أخبار خلق السموات والأرض، وما فيها من الأحياء والأشياء، وما ذكره من أخبار الجنة والنار، والحساب والعقاب، والبعث والحشر والجزاء؛ كل هذا ونظيره يدخل في جملة الأخبار، والتي يجب على المسلم مقابلتها بالتصديق والتسليم، ويعلم أنها كلها حق، مطابقة للأمر في نفسه، لا يجوز أن تختلف أو تتعارض – وإن ظهر شيء من ذلك فإنما هو عارض يعرض على الأذهان يزول عند التحقيق، والنظر الدقيق – ومن ثم فلا يجوز أن يدخل أخبار الله تعالى النسخ أو التبديل، بل هي محكمة ثابتة؛ لأنه تعالى إذا أخبر عن شيء فإنما يخبر بعلمه، وعلمه أزلي لا أول له، وهو مطابق للأمر في نفسه، علم ما كان، وما يكون، وما سيكون، فلو أخبر عن شيء أنه كان أو سيكون، ثم أخبر بنقيض ذلك أو برفعه، لكان ذلك خلفا وكذبا، مستلزما سبق الجهل، وحدوث العلم وتجدده، وهذا مما يعلم ضرورة أن الله تعالى منزه عنه، بل هو من صفات المخلوقين المربوبين، لا من صفات الخالق سبحانه
فالخبر عن شيء أنه كان أو سيكون ثم أخبر بخلاف ذلك كان مكذبا لنفسه، وذلك غير جائز على الله تعالى، ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم من جهة كونه مبلغا عن الله تعالى، فمن قال: سمعت كذا ورأيت كذا، ثم قال بعد: لم يكن ما أخبرت أني سمعته ورأيته موافقا للصواب؛ فقد أكذب نفسه، أو دل على أنه أخبر بما لا علم له به، أو تعمد الكذب في ذلك، أو قال بالظن وكان جاهلا لحقيقة الأمر ثم رجع عن ظنه، وهذا كله لا يجوز وصف الخالق سبحانه به، بل لم يزل الله تعالى عالما بما يكون، وما سيكون، ومريدا له، لم يستحدث علما لم يكن، ولا إرادة لم تكن، فهو العالم بعواقب الأمور، الفعال لما يريد
ولهذا قال أبو جعفر النحاس رحمه الله - في معرض الرد على من يجوز النسخ في الأخبار -: (وهذا القول عظيم جدا، يؤول إلى الكفر؛ لأن قائلا لو قال: قام فلان، ثم قال: لم يقم، ثم قال: نسخته لكان كاذبا)
أما النوع الثاني – من نوعي الشريعة – فهو الأمر، والنهي منه؛ لأنه أمر بالترك. ويدخل في ذلك العبادات: أصولها وفروعها، وجميع المعاملات، وكذا فضائل الأخلاق.
والأمر وإن كان النسخ يدخله في الجملة، لكن تستثنى منه كليات الشريعة، من الضروريات والحاجيات والتحسينات، فالشريعة مبنية على حفظ هذه الكليات ، فأصول العبادات: كالصلاة والصوم، والزكاة، والحج، وما يحفظ الضروريات الخمس، وما يحقق العدل والإحسان، وما يجلب الفضيلة، ويدفع الرذيلة، كل ذلك لا يقع فيه النسخ، وإنما يقع في تفاصيل هذه المسائل، وهو ما يتعلق بالهيئات، والكيفيات، والأمكنة، والأزمنة، والأعداد، وهو جزء يسير إذا ما قورن بكليات الشريعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كتاب الله نوعان: خبر وأمر، أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر، ويبين معناه، وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله، فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا) .

القاعدة الثانية عشر: رد التنازع إلى الكتاب والسنة
إن كل ما تنازعت واختلفت فيه الأمة من أصول الدين وفروعه، يجب رده إلى الكتاب والسنة؛ طلبا لرفع التنازع، ودفع الاختلاف ومعرفة الحق والصواب.
لقد وقع الاختلاف والتنازع في الدين بين هذه الأمة، - أسوة بالأمم قبلها من اليهود والنصارى - في أصول الدين وفروعه، وذلك على ما أخبر به الوحي كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ هود: 118-119]وقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) وفي رواية: ((كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي))
والاختلاف المذكور في القرآن الكريم قسمان: من جهة مدحه أو ذمه، ومن جهة ذاته :
أولا: من جهة مدحه أو ذمه، وهو نوعان:
الأول: أنه تعالى يذم الطائفتين المختلفتين جميعا، كما في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [ الأنعام: 159] الثاني: اختلاف حمد الله تعالى فيه إحدى الطائفتين، وذم الأخرى كما في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [ البقرة: 253] فقوله: وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ حمد لإحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم للأخرى.
والاختلاف الذي تذم فيه جميع الطوائف المتنازعة، يكون سببه:
تارة، فساد النية؛ بسبب البغي والحسد؛ وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ونحوه، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213]

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:18 PM
وتارة يكون بسبب جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه أو الجهل بدليله، أو دلالته.
ثانيا: من جهة ذاته: وهو – أيضا – نوعان :
الأول: اختلاف تنوع: وهو على وجوه:
أ- أن يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كالاختلاف في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، فزجرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف وقال: ((كلاكما محسن))
ومن ذلك – أيضا – الاختلاف في صفة الأذان والإقامة، والتشهدات وصلاة الخوف، إلى غير ذلك مما شرع جميعه، وقد يقال: إن بعض أنواعه أفضل من بعض.
ب – أن يتفق القولان في المعنى والحكم، ويختلفان في اللفظ والعبارة، كالاختلاف في الحدود (التعريفات)، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك.
ج – أن يكون المعنيان مختلفين، لكنهما لا يتنافيان، فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح، كاختلاف الصحابة في صلاة العصر أثناء سيرهم إلى بني قريظة .
د – ما يكون طريقتين مشروعتين، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، كلاهما محسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما، أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا نية، وبلا علم.
وهذا النوع من أنواع الاختلاف، يكون فيه كل واحد من المختلفين مصيبا، لكن الذم إنما يقع على من بغى على صاحبه، وظلمه.
الثاني: اختلاف تضاد:
وهو القولان المتنافيان، فالخطب فيه أشد؛ لتنافي القولين، وقد يكون مع أحد المتنازعين بعض الحق، أو دليل يقتضي حقا، فرد ذلك من الباطل؛ كالاختلاف بين المشبهة والمعطلة في الصفات، فمع المشبهة بعض الحق وهو أصل الإثبات، ومع المعطلة بعض الحق وهو أصل التنزيه والصواب والنجاة في ضم الحقين، والجمع بينهما.
وهذا النوعان (التنوع والتضاد) إنما يكون المخرج منهما بالرد إلى الله ورسوله، فيظهر ما خفي من الدليل أو الدلالة، فيرتفع التنازع، ويندفع البغي، ويتبين وجه الحق والصواب، ثم يطالب المبطل بالإذعان والانقياد.
فإن الرجل إذا تكلم بكلام؛ إما أن يكون كلامه ظاهر الصواب، موافقا للأدلة؛ فيقبل كلامه، أو أن يكون ظاهر البطلان مخالفا للأدلة؛ فيرد كلامه، أو أن يكون في كلامه إجمال؛ فيطالب بالتفسير والبيان، فيقبل ما وافق الحق، ويرد ما سواه، وكل هذا يتبين بالرد إلى الله ورسوله. قال شارح الطحاوية: (والأمور التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم...

القاعدة الثالثة عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين
كلام الله وكلام رسوله عربي مبين، وظاهره غاية في البيان، وهو مفهوم لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بأصول الدين والإيمان، والتي كثر فيها خوض المتأخرين واختلافهم....،
ومن المعلوم أن القرآن عربي، وأنزل على رسول عربي، وخوطبت به - أول الأمر- أمة عربية، وأن القرآن مقصود به الهداية والإرشاد، فلزم أن يكون بينا للأمة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتى تفهمه وتعقله، ولا يتم ذلك حتى يكون جاريا على معهودها في الخطاب، وعادتها في الكلام، وهكذا كان القرآن الكريم.
وقد كانت سنة الله في خلقه أن يرسل كل رسول بلسان قومه حتى يحصل المقصود من الرسالة، فيكون الرسول مبينا في كلامه وبلاغه، ويكون المخاطب قادرا على الفهم، متمكنا من الإدراك، وبهذا تقوم الحجة وتنقطع المعذرة: بالبيان من الرسول والفهم من المرسل إليه، ولهذا قال موسى- في تعليل سؤاله الله أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا -: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [ القصص: 34]. فلو أن الله تعالى خاطب أمة بغير لسانها، لما فهمت خطابه لها، ومن ثم لم تقم الحجة عليها بذلك الخطاب، وقد قال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى: (... كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب المرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأنزل إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة وبعده سواء، إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا)
فمعاني كتاب الله تعالى موافقة لمعاني كلام العرب، كما أن ألفاظه موافقة لألفاظها، ولهذا كان لا يمكن لأحد أن يفهم كلام الله ورسوله إلا من هذه الجهة، جهة كونه عربيا: في ألفاظه وتراكيب تلك الألفاظ، عربيا في أساليبه ومعانيه، قال الشاطبي رحمه الله: (فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها: أصولا وفروعا، أمران: أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة...)
فلابد في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة من مراعاة معهود العرب في خطابها، فلا يصح العدول عن عرفها في كلامها، كما لا يصح أن يفهم كلام الله ورسوله على نحو لا تعرفه العرب من لغتها وأسلوبها
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعض معهود العرب في خطابها، وأنها تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى [ الحجرات: 13] فهذا يعم جميع الناس ...

وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به العام ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [ النساء: 75] فكل أهل القرية لم يكن ظالما، وإنما كان فيهم المسلم، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم
وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به الخاص، مثاله: قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [ التحريم: 6] ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [ الأنبياء: 101]
وتخاطب بالشيء ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، مثاله: قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 82] والمراد: أهل القرية، وأهل العير
وكل هذا موجود العلم به في أول الكلام أو وسطه أو آخره، ثم قال الشافعي رحمه الله – بعد أن ذكر بعض تصرفات العرب في لسانها وفطرته في الكلام والبيان – قال: (فمن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب – إن وافقه من حيث لا يعرفه – غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور) وذلك لأنه أتى البيت من غير بابه، ورام الوصول إلى الغاية من غير طريقها، ولهذا قال الحسن رحمه الله: (أهلكتهم العجمة؛ يتأولونه – أي القرآن - على غير تأويله)
....والمقصود هنا بيان أن نصوص القرآن والسنة عربية في ألفاظها وأساليبها، ولا يفهمها إلا من كان عربيا في لسانه وفهمه، وكلما كان علمه بلسان العرب وأساليبها في الكلام أعمق كان فهمه للكتاب والسنة أرسخ

كريـم البرلسي
06-09-2015, 12:20 PM
القاعدة الرابعة عشر: الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم
وصف الله تعالى القرآن بأنه كله محكم، وأنه كله متشابه، و في موضع ثالث جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. و على هذا فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه
أما الإحكام الذي يعمه فمذكور في مثل قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود: 1
قال قتادة رحمه الله: (أي جعلت محكمة كلها، لا خلل فيها ولا باطل) وقال في موضع آخر: (أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام) وقال مجاهد رحمه الله: (أحكمت جملة ثم بينت آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها) وقال ابن كثير رحمه الله: (أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل: صورة ومعنى)
فالقرآن الكريم كله محكم بمعنى أنه متقن مصون من الباطل والفساد؛ صدق في أخباره، حق في أحكامه، عدل في وعده ووعيده، قال ابن تيمية رحمه الله: (فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره)
وأما التشابه الذي يعم القرآن فمذكور في مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [ الزمر: 23] قال مجاهد رحمه الله: (يعني القرآن كله متشابه مثاني وقال قتادة رحمه الله: (الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف) وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (مثاني: قال: القرآن يشبه بعضه بعضا، ويرد بعضه على بعض وقال سعيد بن جبير رحمه الله: (يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ويدل بعضه على بعض . ونحوه عن السدي
فالتشابه الذي يعم القرآن هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته – إذا لم يكن هناك نسخ – ومثله يقال في الأخبار: فإذا أخبر عن شيء لم يخبر عن نقيضه أو بنفيه في موضع آخر، بل يخبر عنه بما يصدقه ويؤكده، أو يفصله ويبينه كما في القصص مثلا.
فهذا التشابه الذي يعم القرآن هو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [ النساء: 82] ولهذا كان القول المضاد للقرآن موصوفا بالاختلاف والاضطراب كما قال تعالى في وصف قول المشركين إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذاريات: 8 - 9]. .


وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فالكلام المتقن يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والعدل
أما الإحكام الخاص فإنه ضد التشابه الخاص، وهو المذكور في آية آل عمران والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله وليس كذلك. والإحكام الخاص هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون في القدر المشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي إلى الفصل بينهما، فيكون مشتبها عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم (الراسخون فيه) ما يزيل عنه هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشاهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله وإن كان مشابها له من بعض الوجوه .
وقد يكون المتشابه من الأمور التي لا يعلمها أحد من العباد، بل استأثر الله بعلمها، كما استأثر الله بالعلم بالقدر المميز بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

والحمد لله رب العالمين