المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعلان الطريق الأمثل لعـبادة الله تعالى



ابن سلامة القادري
07-01-2016, 12:35 AM
أولا لماذا نعبد الله بالأساس و ما الحكمة في أن الله خلقنا لعبادته ؟

معنى العبادة :
قال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) سورة الذاريات

تدور معاني العبادة عند أهل التفسير على ثلاث معان :

- معرفة الله و محبته
- الخضوع له و التذلل له و تعظيم مقامه و حرماته و أمره و نهيه
- توحيده عقيدة و عملا

و يمكن الجمع بين هذه المعاني الثلاث كما يلي :
العبادة التي خُلق لأجلها العباد هي معرفة الله بأنه وحده الخالق العليم الحكيم و الرب القدير المتصرف و المعطي المانع و الضار النافع و الغفور الرحيم و محبته و مخافته و رجائه و الخضوع له و التذلل له و تعظيمه و الحياء منه لأجل ذلك و التوكل عليه و الإيمان بأقداره خيرا أو شرا بلا اعتراض و الإيمان بالرجوع إليه و أنه محاسبنا على كل صغيرة و كبيرة اقترفناها. و الإسلام له و اتباع رسوله فيما أمر و نهى.

لماذا علينا أن نعبد الله :

من خلال المعاني التي ذكرنا نتبين سريعا ضرورة العبادة و الحكمة منها و ذلك :

- أولا : لأن الله أحق من يُعبد فهو الذي فطرنا و أحيانا و صورنا و أحسن صورنا و رزقنا من الطيبات و هو الذي يكلأنا و يحفظنا من أنواع الشرور و يمنحنا من كل أسباب العافية ويخفف عنا البلايا و يذهبها عنا و لو كنا نستحقها بذنوبنا و قد آتانا في الأرض و في أنفسنا من كل ما سألناه من نعم لا تحصى و لم يزل فضله علينا عظيما في كل آن و أعظم فضله أن بعث إلينا رسولا يهدينا إليه صراطا مستقيما و أنزل إلينا أحسن كتبه هدى و رحمة و نورا، و لم يكن شيء من ذلك منه عبثا و إذا لم نستطيع أن نتقرب إليه بجوارحنا استطعنا ذلك بقلوبنا و قَبِل ذلك منا. و لأنه بنا محيط و فوقنا قاهر و مبدأنا و منتهانا بيديه وحده و مصيرنا إليه جميعا.
كما أنه خلقنا بمشيئته ليأمرنا بالعبادة و قد هيّئنا لها سواء طوعا أو كرها فإن لم نعبده بالإختيار فنحن عباد له بقهره لنا و إحاطته بنا و ملكه لأمرنا كله بل هو يقلب قلوبنا كيف يشاء سبحانه.

قال الله تعالى : وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) سورة النساء
و قال تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( 21 ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( 22 ) سورة البقرة

و من تجليات الغرض من خلقنا و هو العبادة ابتلاء الله لنا فيما آتانا من النعم هل نعبده فيها و نشكر له أم نكفره فإن عبدناه زادنا فضلا و إن كفرناه نكون ظالمين لأنفسنا معتدين على الحق الفطري و الكوني الذي من أجله خلقت السموات و الأرض وخُلقنا و خُلق كل شيء لنا:

قال الله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة : 48]
و قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام : 165]
و قال تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]
و قال سبحانه عنا و عن سابق الأمم : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف : 26]

و قال سبحانه : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) سورة إبراهيم

إذن فكل ما نحن فيه من الله و لا أحد يقينا الضر الذي خلقه أو يكشفه عنا سواه لا ملجأ منه إلا إليه، قال تعالى في سورة النحل : (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون)
فكانت عبادتنا له حقا واجبا محضا و عبادتنا لغيره أو لأهوائنا باطلا و عبثا محضا.

- و ثانيا : لأن العباد مخلوقون لله محتاجون إليه حتماً بقلوبهم و أرواحهم و أجسادهم لأنه ذو الجلال و الإكرام و المتصف بالكمال المطلق من كل وجه فلا نعيم لهم و لا سعادة و لا حول و لا قوة إلا به لا يستغنون عنه طرفة عين و من ظن أنه مستغن عنه وَكَلَه إلى نفسه و إلى من يحتاج إليه دونه و من صرف حاجته إلى غير الله و هو يعلم أنه لا يقضيها إلا الله روحية أو مادية وكله إلى ذلك الغير و من نسب نعمه أو بعض نعمه إلى غير الله فقد أشرك معه غيره.
إذن فالغاية من خلقنا و وجودنا هي عبادة الله تعالى ، و قد خلقنا الله مهيئين لذلك على اختلاف قدراتنا و مكاسبنا و محل العبادة بالأساس هو القلب ثم تأتي الجوارح في خدمته.
و العبادة التي يريدها الله تعالى منا و تتوافق تماما مع فطرتنا و كياننا بشيء من التفصيل هي :
أن نوحده تعالى توحيدا خالصا بأعمال قلوبنا و جوارحنا فنتوجه بها إليه و لا نصرفها لغيره تعالى في السر أو العلن ، و أن نبتغي الله بما نعتقد و نحس و نقول و نفعل و أن تكون اعتقاداتنا و أحاسيسنا و أقوالنا و أفعالنا موافقة لما يريده الله منا أي لما شرعه لنا لا لأهوائنا و لا لأهواء البشر.

قال الله تعالى يصف العبادة الحقة في مخاطبته لنبيه الكريم صلى الله عليه و سلم : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]

هذا هو مقتضى التوحيد الخالص والإسلام لله الذي هو بمعنى الإستسلام أن تكون صلاتنا ركوعنا ركن التعظيم لله و حده و سجودنا ركن الدعاء و الرجاء و الإستعانة لله وحده بقلوبنا و جوارحنا و لا نذبح و نتقرب بالقربات لغيره و لا نحيى الحياة كلها أو نموت لغيره أو على غير ملته. فهو مرادنا من وجودنا و بهذا ننسلخ من أهوائنا جميعا بل يكون هوانا تبعا بالحرف لشرائع الله و أوامره و نواهيه .. و أن يكون الحافز على ذلك كله هو تقوى الله أي اتقاء سخط الله و عذابه و خذلانه و ما يهين العبد بين يديه و يقطعه عنه و يحول بينه و بين رضاه و مراضيه لأنه وحده المتصرف في كل شيء.

و تحقيق معنى التوحيد الخالص الذي لا يزكو إلا بالتقوى أن لا نشرك بالله شيئا في الإيمان به فلا نؤمن بغيره ربا أو متصرفا فينا و في الكون و لا نشرك به في شكر نعمه و نثني عليه بها وحده و نحمده عليها بالقلب و اللسان و لا ننسب شيئا منها لغيره حتى إذا أحسن إلينا أحد علمنا أن إحسانه من الله لا منه. و أن نخاف الله وحده فلا نخاف معه شيئا لا يملك معه خيرا و لا شرا و لا نفعا و لا ضرا على الحقيقة و إنما هو النافع و الضار وحده سبحانه، و إن كان خوفنا من ذلك الشيء أو الشخص فطريا بحيث نخافه للأذى الحاصل منه و لكن لا نخافه لذاته لأنه ليس الرب المتصرف الذي خلق الخير و الشر و المؤثرات و آثارها و كل شيء المالك لأمرنا كله.
و من التوحيد الخالص أن نعبد الله بالحب فنحبه لذاته لأن منه وحده الرحمة و الفضل و الخير و الكمالات جميعها و لأنه المحسن المنعم وحده على الحقيقة و ما الخلائق من ملائكة و إنس و جن و حيوانات و جمادات إلا أسباب أودع فيها طبائعها و خصائصها الخلقية و الخُلقية بمشيئته و تقديره فليست هي المستحقة للحب على الحقيقة أو أن نحب فيها و لها و لأجلها. فالله تعالى خالق كل شيء و هو المحبوب المستحق للمحبة الكاملة الخالصة بمحض القلوب لبارئها.

كيف نحقق عبادة الله و نوحده بها على الوجه الأكمل :

كثير من المسلمين و خاصة الإخوة في بداية الطريق أو المتحولون قريبا إلى الإسلام قد يتساءل : كيف أعبد الله فقد كثرت علي علوم الدين و شرائعه و أحكامه و بالتالي يُشكل عليه مفهوم العبادة و التقرب إلى الله بها وفق مراده تعالى، و قد يغلو في جانب على حساب آخر أعلى منه و أفضل أو تنطرح لديه الأسئلة التالية :
- هل أعبد الله بمجرد معرفته و الإعتقاد في ربوبيته و ألوهيته و أسمائه الحسنى و صفاته العلى مع القيام بما استطعته من الفرائض و الشرائع،
- أم أعبده فقط بمحبته و التعلق بذكره و أسمائه و صفاته و أجعل مدار أقوالي و أفعالي على ذلك
- أم أعبده بخوفه و خشيته و تعظيمه و مراقبته على كل حال،
- أم أعبده برجائه و سؤاله و دعاءه و الرغبة إليه طلبا لحاجاتي و لما عنده في العاجل و الآجل من الرحمة الواسعة و الرزق العميم و الفضل العظيم ..
- و هل أنطلق في عبادتي بما أحسه و أستشعره تلقائيا أو أواجهه على أرض الواقع أم أتعمد خلق أجواء و طرائق للتعبد و أصنع لنفسي مجالا من العبادات و الطاعات الشرعية قد يتفق مع ميولاتي و مواهبي و قدراتي و قد لا يتفق ..
- و ما هي أفضل العبادات و القربات ..
- و كيف يمكنني إخلاص العبادة لله تعالى و تطبيقها و التحكم بها مع اختلاف مراتبها و تعدد أشكالها من محبة لله و فيه و تعظيمه و التذلل و الخضوع له و الشكر لنعمه و الرضى و الصبر على بلائه أو الصلاة و الدعاء و الصيام و الزكاة و الحج و بر الوالدين و صلة الرحم و الصدقة و الجهاد و العلم و الدعوة و إقامة الشريعة و تحمل المسؤوليات و الإصلاح بين الناس و قضاء حوائجهم و تجنب الكبائر و الكف عن المعاصي و الآثام بأسرها .. و كيف يمكن التوفيق بين كل هذه العبادات .. و هل يجب أدائها جملة و تفصيلا لأحظى بقبول الله و رضاه أم يكفيني بعضها.

مفاهيم قد تختلط في أذهان بعض الإخوة المهتدين فلا يدري ماذا يقدم و ماذا يؤخر و ما هو الأفضل له و ما يناسبه بين العبادات كلها و ما الضروري له منها أو ما هو ملاكها و السلك الذي يربط بينها .. و كيف يمكن تأديتها بسلاسة دون تعقيد أو اضطراب أو تكلف و بكل ثقة في أن هذه العبادة التي أقوم بها توافق مراد الله مني و هل يمكنني أن أعلم أسباب و دواعي قبولها عند الله أم لا.

و حتى تتشكل للقارئ الكريم و بخاصة المبتدئ خارطة ذهنية لمنهجية العبادة المثالية نقول:

التوحيد أولا و آخرا :

للعلم فللعبادة مراتب هي التي عناها النبي صلى الله عليه و سلم بشعب الإيمان ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان» متفق عليه.

و أعلاها أي : أقربها إلى الله تعالى و أكملها فضلا عنده و أعظمها أجرا و ثوابا في دنيا العبد و آخرته. و هكذا عكس هذه المراتب من حيث بعدها من الله و إثمها عنده. و نجد ذلك مبينا في نصوص الكتاب و السنة. فأعلى مراتب العبادة و هي كلها في مسمى الإيمان و شعبه هي قول كلمة لا إله إلا الله.

و قول لا إله إلا الله لا يكفي باللسان و إلا لهان على المشركين القدماء قولها مع العمل بخلافها، فقولها إذن لا يكون إلا بملئ القلب و الجنان على وعي بمقتضاها و هو الإقرار بأن لا معبود بحق إلا الله فلا نتخذ ربا سواه و لا ننسب خصائص الربوبية من الملك و التصرف و علم الغيب و القدرة الخارقة للسنن و القوانين إلى غيره من الخلائق التي لا تنفع و لا تضر و لا تملك لأنفسها نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله فنشركها بالله فيما لا يستحقه إلا هو من العبادات الظاهرة أو الباطنة فندعو هذه الخلائق مباشرة أو بظهر الغيب كما ندعوه أو نتوكل عليها أو ننسب إليها النعمة و التوفيق أو نخافها كخوف الله أو نحبها كمحبة الله،، تعالى الله عن كل شرك لا إله إلا هو و كل ما خلاه باطل لا حول له و لا قوة إلا بالله.
و من خلال هذه المعاني الجليلة الجلية نعلم خطورة أمر التوحيد و لماذا هو في أعلى مقام بالنسبة إلى سائر الأعمال الظاهرة أو الباطنة و يمكننا أن ندرك بفطرنا و بصائرنا مدى ضرورته لعلمنا بحقائق الأشياء بديهة و كذا عظم فضله و بركته و أن نحس تأثيره الإيجابي العظيم في كياناتنا بل و في أفكارنا و طبائعنا التي قد تكون مستمكنة لا نملك تغييرها فيصلح حالنا و يستقيم أمرنا بفضله بشكل عجيب، كما قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في ''جامع العلوم و الحكم'' و هو كلام نفيس يكتب بماء الذهب و ينقش على الحجر اللازورد :
قال : "فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، وكذلك فسر قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] بإخلاص القصد لله وحده لا شريك له".
ثم قال: "فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعة الله العزيز الحميد؛ فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، فالجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، فلا يستطيع العبد بذل أدنى عمل لله حتى يأمر القلب به، فلا صلاة وقيام ليل ولا زكاة وصدقة ولا صبر عن معصية حتى يكون القلب الآمر القائد".انتهى
كما قال النبي : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، أَلا وهي القلب)) رواه البخاري.

كما و ندرك مدى التأثير السلبي الفظيع بالمقابل لعقيدة الشرك و إشراك شيء بالله القوي القدير في الاعتقاد أو العبادة و كيف أن هذا الإشراك اللعين يقطع صلة الإنسان بربه و خالقه و برحماته و بركاته و بكل الوجود الذي هو فيه و إنما لله كل ذرة فيه لا لما يشركون إما في الدعاء أو المحبة أو الخوف أو التوكل أو الطاعة أو التشريع ... و هنا تجدون أنواعا أخرى من الشرك بالله يجب على العباد معرفتها و الحذر أشد الحذر منها حفاظا على أنفسهم من هذا الخطر العظيم :

http://knowingallah.com/ar/articles/أنواع-الشرك/

و لنأت الآن إلى النصوص الدالة على أهمية التوحيد الكبرى و أنه أولى أولويات الإنسان في حياته و آخرته، من كتاب الله تعالى و من حديث رسوله المصطفى الأمين إمام الموحدين صلى الله عليه و سلم :

فقد قال الله تعالى في سورة الإسراء :
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
إلى أن قال عز و جل بعد ذكر عدد من الوصايا و المحاذير :
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

فهذه وصايا الرب جل و علا لعباده ابتدأت بالتوحيد و انتهت به للتدليل على أهميته الكبرى و خطره، و تبع ذلك و توسطه الوصية بحقوق الوالدين و العباد و الأموال بما في ذلك مال اليتيم و اجتناب كبائر الذنوب من تكبر على الخلق و قتل بغير حق و زنا.

و نفس المعاني تقريبا مجتمعة بهذا الترتيب في قوله تعالى : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) سورة الأنعام

و كذلك في قوله تعالى يصف خاصة عباده عباد الرحمن بقوله : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) سورة الفرقان

و إذا تدبرنا كلام الله من أوله و آخره وجدنا أن أعظم مسؤوليات البشر و الأمانة الملقاة على عاتقهم من لدن آدم و كذلك الميثاق الذي أخذه الله على أنفسهم و جعلهم شهداء على ذلك حتى من قبل أن يُخلقوا و بعث الله به كل أنبيائه و رسله مبشرين و منذرين كما جاء في معظم قصصهم في القرآن : هو توحيد الله جل و علا بالعبادة فلا يعبدون غيره و لا يشركون معه شيئا فإذا فعلوا ذلك و هو سهل هيّن لا مشقة فيه و لا تكلفة فقد نجوا من عذابه و سخطه و كانوا أهلا ليغفر لهم خطاياهم و يكفّر عن سيئاتهم.

قال الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ.
و قال سبحانه يحذرنا من خطر الإشراك به :
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا.

و من أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم :
أخبر عليه السلام ذات مرة معاذ بن جبل رضي الله عنه بعظم التوحيد فقال : يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا». أخرجه البخاري و مسلم

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاّ تشرك بي شيئًا، فأبيت إلاَّ أن تشرك بي))؛ أخرجه البخاري و مسلم

و عن الصحابي أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما من عبد قال : لا إله إلا الله . ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " . ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : " على رغم أنف أبي ذر " ! قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر " . وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر. رواه البخاري و مسلم

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذكر شأن توحيد العبادة في رسالته ''الحسنة والسيئة'' : "وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحِّدين والمشركين، وعليه يَقَعُ الجزاء والثَّواب في الأولى والآخِرة، فمَن لم يأتِ به كان من المشركين"
و قال في مجموع الفتاوى : ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله، ولا أضر عليه من الإشراك، فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة {إياك نعبد} مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة {وإياك نستعين} كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا.اهـ

و الشاهد أن الأعمال كلما كانت متصلة بخصائص الربوبية و الألوهية كان شأنها أعظم و تأتي سائر أعمال العبادة و أحوالها دون ذلك حتى إن الله تعالى قد يتجاوز عن بعض عباده عن كل زلاته و خطاياه رغم كثرتها و عظمها لإتيانه بكمال التوحيد أو يتقبل منه أيسر الأعمال و يضاعفها له أضعافا مضاعفة لأنه حقق فيها شرط الإخلاص لله فابتغى بها وجه الله لا أحدا سواه.

و تتفاضل مراتب العبادة كما ذكرنا كلما اتجهنا إلى موطن التوحيد و معانيه و ما ينبثق عنه بحسب الأحوال و هو النية و القلب الذي هو منبع كل الأقوال و الأعمال .. فأعلى المراتب لا إله إلا الله و أدنها إماطة الأذى عن الطريق.
و يذكر أن توحيد الله بأعمال القلب الذي هو رأس العبادة و لبها و حقيقتها ليس بالضرورة أن يشمل كل أعمال القلب في الآن ذاته من محبة و خشية و إنابة و تضرع و خضوع و رضى و رجاء و حياء و توكل على الله فهذا مستحيل و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إذ أن حال القلب كحال الجوارح يشغله شيء عن شيء و قد ينشغل بالدنيا ساعات عن كل هذا، و لكن دع قلبك ينطلق في رياض الإيمان دون تكلف فهو سيتفاعل مع معاني التوحيد بتلقائية و سيحضر في كل مقام من مقامات العبودية الخالصة لله كما قلنا بحسب الحال فهو مع الآيات في الكتاب و في السموات و الأرض معظم لله محب له و مع المنن شاكر و مع المحن راض و صابر و حال الذنب مستحي من الله و على إثر الذنب متذلل له تائب .. و هكذا. و لكن دع لسانك منطلقا بذكر الله و أعلاه كلمة التوحيد لا إله إلا الله و التمس تلك اللحظات التي يواطئ فيها لسانك الناطق بها قلبك الشاعر بمعانيها ومقتضاها و لو من وجه دون وجه.

ماذا بعد التوحيد :

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ )) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

كما في هذا الحديث العظيم فبعد عبادة التوحيد يأتي التقرب إلى الله بالأعمال القلبية و أعمال الجوارح التي تتصل بأوامره تعالى و نواهيه سواء فيما بيننا و بينه أو بيننا و بين عباده و سائر خلقه، و لكن على رأس ذلك ما افترضه الله علينا ثم أعمال النفل و التطوع و قد ورد بعض ذلك فيما سبق الاستشهاد به من الآيات :
- عبادة الله بما افترضه من العبادات الظاهرة كالعبادات الكبرى المؤقتة و المرتبطة بأماكنها و دواعيها و على رأسها : الصلوات الخمس و الزكاة و الصيام و الحج للمستطيع و جهاد العدو عند الضرورة و حماية دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم ... أو العبادات التي لم تخصص بزمان أو مكان كالحب في الله و البغض في الله و تعلم دين الإسلام و شرائعه و بر الوالدين و صيانة المرأة عرضها و حفاظها على حجابها و حق بيتها و كذا الزوج على حق زوجته و أولاده و تجنب كبائر الذنوب و حفظ حقوق النفس و سائر العباد و بخاصة ذوي القربى من أعمال و أخوال ثم الأقرب فالأقرب و من يتامى و مستضعفين، و حفظ مصالح الأمة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أداء الأمانات و المسؤوليات بإحسان الصنعة و التجارة و السياسة و ولاية الأمور و عدم الغش في ذلك أو الإخلال به و درء الفتن و الفساد و أسباب الفرقة و الخلاف و التناكر بين المسلمين من أنواع الإساءات اللفظية أو العملية فكل ذلك مما افترضه الله تعالى و يجب على المرء أداء ما استطاعه من ذلك و إلا أثم و نقص من إيمانه و أجره بحسب ذلك.

هذا و من أفرض الفرائض متابعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من الدين على الصفة التي تعبّد لله بها في عقيدة أو قول أو عمل ظاهر أو باطن لأن من الناس من لا يتحرى السنة في عمله فلا يقبل منه أو لا يقبل منه ما خالف فيه سنته صلى الله عليه و سلم كالذي يصف الله بغير صفاته أو يؤول الصفات الإلهية و لا يثبتها كما أثبتها له رسوله الكريم و كالذي يصلي و لا تقبل صلاته بحيث لا يُتمّ ركوعها و لا سجودها أو لا يقرأ الفاتحة في كل ركعة أو يزكي زكاة الفطر في غير وقتها ... الخ، و قد قال الله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. و قال نبيه الكريم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. متفق عليه

- ثم يأتي في الدرجة الثالثة بعد التوحيد و بعد الفرائض التقرب إلى الله تعالى بالنوافل و هي في مسمى الصدقات كل بحسب ما تيسر له و هذا باب واسع جدا أيضا و هو باب المسابقة بالخيرات. و على رأس النوافل ذكر الله تعالى من قراءة للقرآن العظيم و من إكثار للتسبيح و التهليل و التحميد و التكبير و الحوقلة و الاستغفار و الصبر على أذى الخلق و أنواع البلاء و احتساب ذلك عند الله تعالى و الدعاء بالخير للنفس و الأهل و لعامة المسلمين و خاصتهم و إسباغ الوضوء و أداء سنن الصلاة الرواتب و قيام الليل و التعلق بالمساجد و كثرة الخطا إليها و الصدقة و الصيام و العمرة و السعي في قضاء حوائج المسلمين غير المفروضة و الابتسامة في وجوههم و إفشاء السلام و إلقائه على من عرفت و من لم تعرف و إطعام الطعام و الإصلاح بين الناس و بذل النصح لهم و إقالة عثراتهم و ستر عوراتهم و إجابة دعواتهم و تشميت العاطس و تشييع الجنازات و مباركة الأعياد و المناسبات و إدخال السرور على كل مسلم، و من أعظم النوافل نفع العباد و الخلائق بعامة كالبر بالكافرين المعاهدين أو المسالمين و خاصة المستضعفين دون محبتهم و موالاتهم و إنما رحمة بهم و شفقة عليهم من الهلاك و الإقساط إليهم و الحرص على هدايتهم و كذا الرحمة بالحيوان و النبات و صيانة بيئة المسلمين و غير المسلمين من كل ما يسوئها أو يعيبها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سُلَامَى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ))؛ رواه البخاري ومسلم.

و التوفيق من الله تعالى،

و ختاما لا بد أن نذكر محاذير التعبد و ما يفسد الإيمان و الأعمال الصالحة و يذهب فضلها و أجرها و بركتها، و على رأس تلك المحاذير :

- الشيطان و خطواته
- الإعجاب بالنفس
- الغفلة بالركون إلى أهواء النفس أو الزوجة و الأقاب و عامة الناس و الاسترسال مع متع الحياة بالإسراف فيها
- البعد عن أسباب التذكرة بالله تعالى و بالموت و الآخرة و اعتزال أهل العلم و الإيمان

فائدة عظيمة في منهج العبادة الحقة من كتاب ''مدارج السالكين'' للإمام ابن القيم

يقول رحمه الله تعالى :

أهل مقام " إياك نعبد " لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق ، فهم في ذلك أربعة أصناف :

الصنف الأول : عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها .
قالوا : لأنه أبعد الأشياء عن هواها ، وهو حقيقة التعبد .
قالوا : والأجر على قدر المشقة ، ورووا حديثا لا أصل له " أفضل الأعمال أحمزها " أي أصعبها وأشقها .
[ ص: 107 ] وهؤلاء : هم أهل المجاهدات والجور على النفوس .
قالوا : وإنما تستقيم النفوس بذلك ، إذ طبعها الكسل والمهانة ، والإخلاد إلى الأرض ، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق .

الصنف الثاني ، قالوا : أفضل العبادات التجرد ، والزهد في الدنيا ، والتقلل منها غاية الإمكان ، واطراح الاهتمام بها ، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها .
ثم هؤلاء قسمان :
فعوامهم ظنوا أن هذا غاية ، فشمروا إليه وعملوا عليه ، ودعوا الناس إليه ، وقالوا : هو أفضل من درجة العلم والعبادة ، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها .
وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره ، وأن المقصود به عكوف القلب على الله ، وجمع الهمة عليه ، وتفريغ القلب لمحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والاشتغال بمرضاته ، فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ، ودوام ذكره بالقلب واللسان ، والاشتغال بمراقبته ، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له .
ثم هؤلاء قسمان ، فالعارفون المتبعون منهم إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم ، والمنحرفون منهم يقولون : المقصود من العبادة جمعية القلب على الله ، فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه ، وربما يقول قائلهم :
يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد
. ثم هؤلاء أيضا قسمان ، منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ، ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل ، وتعلم العلم النافع لجمعيته .
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا ، فقال : إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله ، فإن قمت وخرجت نفقت ، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي ، فما الأفضل في حقي ؟
فقال : إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم ، وأجب داعي الله ، ثم عد إلى موضعك ، وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب ، وإجابة الداعي حق الرب ، ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل " إياك نعبد " .

الصنف الثالث : رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها : ما كان فيه نفع متعد ، فرأوه [ ص: 108 ] أفضل من ذي النفع القاصر ، فرأوا خدمة الفقراء ، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل ، فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله رواه أبو يعلى .
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه ، وعمل النفاع متعد إلى الغير ، وأين أحدهما من الآخر ؟ .
قالوا : ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب .
قالوا : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته يصلون على معلمي [ ص: 109 ] الناس الخير وبقوله صلى الله عليه وسلم إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في البحر ، والنملة في جحرها .
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله ، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ، ما دام نفعه الذي نسب إليه .
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ، ونفعهم في معاشهم ومعادهم ، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب ، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد ، وترك مخالطة الناس ، ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ، ونفع عباده ، والإحسان إليهم ، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك .

الصنف الرابع ، قالوا : إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته ، فأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد ، من صلاة الليل وصيام النهار ، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض ، كما في حالة الأمن .
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه ، والاشتغال به عن الورد المستحب ، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل .
[ ص: 110 ] والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن ، والدعاء والذكر والاستغفار .
والأفضل في وقت استرشاد الطالب ، وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به .
والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده ، والاشتغال بإجابة المؤذن .
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه ، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى الجامع ، وإن بعد كان أفضل .
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه ، أو البدن ، أو المال الاشتغال بمساعدته ، وإغاثة لهفته ، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك .
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه ، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به ، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره ، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك .
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد ، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد ، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين .
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم ، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقرائهم القرآن ، عند كثير من العلماء .
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته ، وحضور جنازته وتشييعه ، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك .
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم ، دون الهرب منهم ، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه .
والأفضل خلطتهم في الخير ، فهي خير من اعتزالهم فيه ، واعتزالهم في الشر ، فهو [ ص: 111 ] أفضل من خلطتهم فيه ، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم .
فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال ، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته ، فهو يعبد الله على وجه واحد ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمدار تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى ، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره ، فإن رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العباد رأيته معهم ، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم ، فهذا هو العبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد ربه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق ب " إياك نعبد وإياك نستعين " حقا ، القائم بهما صدقا ، ملبسه ما تهيأ ، ومأكله ما تيسر ، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ، ولا يتعبده قيد ، ولا يستولي عليه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ، ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ، ويستوحش منه كل مبطل ، كالغيث حيث وقع نفع ، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها ، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله ، والغضب إذا انتهكت محارم الله ، فهو لله وبالله ومع الله ، قد صحب الله بلا خلق ، وصحب الناس بلا نفس ، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين ، وتخلى عنهم ، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها ، فواها له ! ما أغربه بين الناس ! وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به ، وطمأنينته وسكونه إليه ! ! والله المستعان ، وعليه التكلان .