المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قالوا أرِنا الله جهرة



حازم عبدالله
06-10-2017, 03:03 PM
ربما لم يكن عصرنا بِدعاً من العصور في اشتغال أهله بمسائل الوجود ، فحتى الصحابة - ذاك المجتمع المعياري - تجد في الآثار التي وصلتنا منهم حضور الأسئلة الوجودية عندهم ، وكذلك العصور التي تلته ، وتراثنا الإسلامي مليء بالمؤلفات التي تناولت تلك المسائل كـ " تهافت الفلاسفة للغزالي ، تهافت التهافت لابن رشد ، درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ..الخ " ، وبل ويمكنني القول : ما من إنسان إلا وقضايا الوجود حاضرةً عنده ، ما بين مكثرٍ في التعاطي معها ومتجاهلٍ لها ، ولكن إن كان ثمَّة ما يُميِّز عصرنا عن بقية العصور فهو أسلوب تناول هذه المسائل بجانب التخبُّط الشديد في التعامل معها بلا قاعدة يرتكز عليها المرء ولا خارطة توجهه ، وما ذلك إلا لإتساع الهوة بين الهدي الرباني في التعامل مع مثل هذه المسائل وبين الواقع .

ولمَّا كان البحث عن أجوبة هذه المسائل - في الغالب الأعم - يحدثُ بعيداً عن الهدي الرباني - حتى مِن قِبَل المسلمين للأسف - كان الخائض فيها يلمس الكثير من التغيُّرات السلبية في نفسه ، فلُغة الفكر : لُغةٌ جافة تُورث قسوة القلب ، لُغةٌ استعلائية تُصيب النفس بالتعالي على الخلق ، والإنجراف الشديد خلف الشُبهات ، والإلزامات الخطيرة التي تلزمك بها أدلتها أحياناً ، والاستغراق المُمل في الأجوبة و الغموض في الألفاظ . وهذا ما أعتقد أن القرآن استطاع تلافيه في استعراضه لهذه المسائل ، فهو لم يكتفي بعرض الأدلة بصورة جافة مُطوَّلة ، وإنما كانت سهولة اللفظ والإيجاز بجانب ربطها بالإيمان هو الديدن ، يقول د.سعود العريفي : " إن من أعظم ما تتميز به البراهين القرانية عن دلائل المتكلمين والفلاسفة : ارتباطها الوثيق بالايمان بالله تعالى ، خشيةً وتعظيما وإجلالاً ، ووصولها بنفس المستدل إلى الخضوع لمدلولها ، والذل والإنكسار بين يدي منزلها ، فهي تجمع بين العلم باليقين ، وتقرير الحق ، وبين التأثر به والتفاعل معه والعمل بمقتضاه " ، وما يُميِّز القرآن كذلك هو عدم اقتصاره على الرد على الشبهات فقط ، بل تعداها ليضع منهجاً عاماً للتعاملِ معها ، يقول سيد قطب : " وهذه الدلائل لا تُذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية ، أو نظرية فلسفية ، إن هذه الدين أكثر جدية من أن يُنفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية . إنما يهدف إلى تقويم صور البشر بإعطائهم العقيدة الصحيحة ، لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة " ، ولم يتتبَّع آحاد الشُبَه ، بل ركَّز على أُصولها ، وحتى لو تعرَّض لبعض فروع الشبهات ما يكون ذلك إلا لحضورها المكثَّف في ذهن المرء ، وما تتميَّز به البراهين القرآنية كذلك أنها بلغت الغاية في الصدق واليقين ، " فهي براهين قطعية الدلالة على ما سِيقت لإثباته وتقريره فلا تقبل التشكيك والقدح والإعتراض " ، يقول ابن تيمية : " والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يُجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إن لم تكن علماً ، فلو قُدِّر أن قال باطلاً ، لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل ، لكن هذا قد يُفعل لبيان فساد قوله ، وبيان تناقضه ، لا لبيان الدعوة إلى القول الحق " ، وبقدر مكوثك مع القرآن و تضُرُّعك لله ، يفتح الله عليك من الأجوبة .

وحتى لا يُقال أن هذا مجرد كلام جميل ولكن بدون دليل ، كان من الواجب علينا استعراض بعض الأمثلة على ما وصفتُ به القرآن في استعراضه لمسائل الوجود :

أولا : ربط الأدلة بالإيمان بالله :

يقول تعالى : " ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ " ، لاحظ كيف جاء ذكر الخشية بعد ذكر براهين الربوبية ، وكيف حُصرت الخشية فيمن يعقل هذه الدلائل من العلماء العابدين . يقول د.سعود العريفي :" وهذا ما لا تجده في المناهج الكلامية والفلسية وطرُقها الإستدلالية ، وهذا يعرفه من عانى شيئاً من البحث والنظر في تلك المناهج " .

ثانياً : سهولتها وقربها من المستدل :

يقول تعالى :" أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ "


ثالثاً : التركيز على الرد على مرتكزات الشُبَه :

قبل فترة ليست بالبعيدة كان يشغل بالي إحتكام الملاحدة الشديد للعلم ، حتى ليظن المتابع لخطاباتهم أن العلم والإيمان ما هما إلا امتداد لسلسلة الثنائيات المتضادة ، ويدَّعون أنهم يحتكمون للعلم لأنه موضوعي لا تشوبه الذاتية ، وبعد بحث طويل وجدتُ أن مرتكزهم في هذا هو تصوَّر معين للعقل ، وهو مبني على قاعدتين ، الأولى : أن العقل له كينونة مستقلة ، والثانية : أن مضامين العقل مضامين موضوعية ، وقد نقد القرآن هذا التصوُّر على مستويين ، الأول : أنه لم ترد فيه كلمة " العقل " ككينونة مستقلة بذاتها ، وإنما كانت دائماً كفعلٍ منسوب لذات أو ذوات كَـ " أم لهم قلوبهم لا يعقلون بها " و " أفلا تعقلون " ، والثاني : و يمكن استفادته من آية " أم لهم قلوبٌ لا يعقلون بها " ففي هذه الآية دلالة واضحة على أن التعقُّل نابعٌ من القلب ، والقلب هو ذاته منبع : الحب ، والكراهية ، و الحسد ..الخ ، فمن هذا نستخلص أن الأصل في الانسان هو الذاتية ، وما الموضوعيِّة إلا محاولةً منه للتجرُّد من الذاتية .

رابعاً : وضع منهجية للتعامل مع هذه المسائل :

كثيرة هي المناهج التي وضحها القرآن للتعامل مع مثل هذه المسائل منها على سبيل التمثيل لا الحصر : رد المحكم إلى المتشابه ، معرفة حدود العقل في الإدراك ، الشُبَه قد لا يكون دائماً مصدرها إنعدام الدليل وإنما بعض الإشكلالات النفسية التي تعتري المرء .

شيءٌ أخير أختم به حديثي ، وأجد في نفسي حرجاً أننا صرنا مضطرون له لترويج الخطاب القرآني ، وهو العنوَنة لمثل هذه المواضيع بعناوين مُضللة جذَّابة ، حتى ينتبه لها المرء ويجد الدافع لقراءتها ، وما هذا إلا لإنعدام الاهتمام بمسائل القرآن وتهميشها والله المستعان .

من الكتب المهمة جداً في هذا المبحث : كتاب الأدلة العقلية النقلية على أصول الإعتقاد لكاتبه د.سعود العريفي .

أيمن عصام
09-08-2017, 06:40 PM
فعلاً أخي حازم، أرى أن القرآن الكريم قدم الأدلة الدامغة التي لا نحتاج بعدها مناقشة ولا حجج، ولكن العقول المكابرة تظل هكذا (ولو بالطبل البلدي)، موضوعك رائع وشكراً جزيلاً :emrose: