المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السُّنّةُ وَحْيٌ مِن رَّبِّ العَالَمِين .. فِيْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا وَالدِّيْنِ ..



قرآن الفجر
10-03-2006, 12:52 AM
السُّنّةُ وَحْيٌ مِن رَّبِّ العَالَمِين .. فِيْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا وَالدِّيْنِ

د.الشريف حاتم العوني

10/8/1427 - 4/9/1427

03/09/2006 - 26/09/2006

قرآن الفجر
10-03-2006, 12:55 AM
الحمد الله على أفضاله, والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
أما بعد: فإن للسنة النبويّة شأنًا عظيمًا في دين الإسلام, وعند علماء المسلمين:
فلقد أجمع المسلمون, والفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة منهم, والسلفُ الصالح كلّهم: على أنّ السنّة النبويّة المصدر التشريعي لدين الإسلام مع القرآن الكريم, وأنّ القرآن والسنة هما أساس هذا الدين, فبحفظها حُفِظ, وببقاء وجودهما بقي موجوداً. وهذا مبنيٌّ ولا شك على اعتقاد عصمة السنّة, وأنها وحيٌ من الله تعالى, كما أن القرآن وحي.


وقد دلّ القرآن الكريم على أن السنة النبوية وحي:
قال الله تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 2-4]. فالضمير في قوله "إِنْ هُوَ" يعود إلى المنطوق منه – صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن منطوق النبيّ – صلى الله عليه وسلم- ليس إلا وحياً يُوحى به إليه من ربّه عز وجل().


وقال تعالى: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [يونس: 15]. فبيّن ربّنا عز وجل أن رسوله –صلى الله عليه وسلم- لا يتكلّم إلا بالوحي الذي يوحي به إليه.


وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" [الشورى: 52-53].
فهذا الثناء البالغ على هداية النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, وأنها هداية ربَّانيّة: "صِرَاطِ اللَّهِ" ، دليلٌ على عصمة السنة, وأنها وحي من الله تعالى.


وقال تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" [الأحزاب:36]. فـ(أَمْراً) نكرةٌ في سياق الشرط, فتعمّ.




ويكون المعنى: ما كان ليوجد مؤمنٌ ولا مؤمنة يرى له حقّ الاختيار في أيّ أمرٍ من أموره بعد أمر الله تعالى أو أمر رسوله –صلى الله عليه وسلم-, فإن جعل لنفسه حق الاختيار بعد ذلك فهو عاصٍ لله تعالى ولرسوله –صلى الله عليه وسلم-, وهو بذلك قد ضل الضلال الواضح الذي لا عُذر له فيه .


وأعود وأؤكد أنّ هذه الآية شاملةٌ لكل أوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، بلا استثناء أيّ نوع منها, لدلالة العموم في قوله تعالى: "إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً" فإذا رجعنا إلى سبب نزولها، زاد هذا المعنى تأكيدًا, حيث إنها نزلت في قصّة تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة, وَتَأَبِّـيْهَا على هذا التزويج, إلى أن نزلت هذه الآية, فأطاعت ورضيت(). فهذا أمرٌ دنيويٌّ, وهو أمرٌ من خاصّة الإنسان وشؤونه المتعلّقة بحياته الشخصية. ومع ذلك جاء الأمر فيه بالطاعة والتسليم، وعلى هذا الأسلوب الجازم القاطع المُهَدِّد المتوعِّد.


وقال تعالى: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء: 65]. فهذا نفيٌ للإيمان مؤكَّدٌ بالقسم لكل من لم يُحكِّم النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- في كل() نزاع وخلاف يقع بين المسلمين، وأنه لا يَثْبُتُ الوَصْفُ بالإيمان إلا لمن تحاكم إلى النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في كل نزاع, ثم لم يضق صدره من حكمه, ثم أن يُسلّم لهذا الحُكْمِ التسليمَ الكامل.


ويدخل في الدلالة على أن السنة وحيٌ من الله تعالى سوى ما سبق:
كل الآيات الآمرة بالطاعة المطلقة للنبي –صلى الله عليه وسلم-, إذ لو لم تكن السنة معصومةً بالوحي, لما أُمر المؤمنون بالطاعة المطلقة لها.


وذلك كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء:59].




وكقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [آل عمران: 132].


وكقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [التغابن: 12].
وهذا الآيات توجب الطاعة (التي هي تصديقٌ وعَمَلٌ) لكل ما صدر عن النبي –عليه الصلاة والسلام- , سواءً أكان وحيًا ابتداءً , أو كان اجتهادًا ابتداءً ثم أُقِرّ (بعدم تصويبه) من ربّنا عز وجل .


وفي هذا المعنى كل الآيات الـمُثْنِـيَةِ على طائعي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والتي تَعِدُهُم الجزاءَ الحسن:
كقوله تعالى: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء: 69].



وكقوله تعالى: "يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" [الأحزاب: 71].



ومن ذلك التحذير من معصية النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, من أي معصية لأمره:



كقوله تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ" [النساء: 13-14].



وكقوله تعالى: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" [النساء: 115].



وكقوله تعالى: "لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63].
وكقوله تعالى: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً" [الجن: 23].



ومن ذلك جَعْلُ طاعة الرسول من طاعة الله تعالى, وهذا نصٌّ مؤكدٌ على أن أوامره-صلى الله عليه وسلم- هي أوامر الله تعالى:



قال الله تعالى: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً" [النساء:80].




ومن التصريح بوجوب اتّباع كل ما يصدر عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: من الأقوال والأفعال, أمرًا أو نهيًا، ممّا يدل على أن كل ما صدر منه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ بالوحي:



قَوْلُ الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الحشر: 7].



وفي فهم فقهاء الصحابة لهذه الآية: ما صحّ أن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمِّصات, والمتفلّجاتِ للحُسْن: المغيِّراتِ خلق الله. فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد, يقال لها: أم يعقوب, وكانت تقرأ القرآن, فأتته, فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلّجات للحسن: المغيّرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدتُه؟! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه:


قال الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر: 7] أخرجه البخاري ومسلم.



ومن ذلك: الحثّ على اتّباع النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: بالثناء على المتّبعين، أو بالثناء على سيرته بأنها قدوة حسنة، أو على خُلُقه بأنه خلق عظيم:



قال تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران:31].



وقال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21].



وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [ن: 4].



وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً" [الأحزاب: 45-46].



ومن ذلك وصف سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بالحكمة، وما يوجبه هذا الوصف من التعظيم والإجلال لسنّته –صلى الله عليه وسلم-، الذي يزيد على مجرّد الأمر بالطاعة:



قال الله تعالى: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ" [الأحزاب: 34].



وقال تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 231].



وقال تعالى: "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" [النساء:113].
وتنبّه إلى ما جاء في هذه الآيات من وقوع الحكمة متعلقةً بإنزال الله تعالى, مما يعني أنها وحي منه سبحانه.



ومن ذلك تكليف النبيّ –صلى الله عليه وسلم- من قِبل ربِّه عز وجل بأن لا يبلّغ إلا وحيه, وأن لا يتّبع هوىً لأحدٍ من العالمين؛ مما يعني أنّ تبليغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يكون إلا عن الله تعالى مطلقًا:



قال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" [الجاثية:18].



وقال تعالى: "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" [البقرة: 120].



وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" [الأحزاب: 1- 2].



وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [المائدة: 67].



وقال تعالى: "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" [النمل: 79].
ومن ذلك بيانه -سبحانه وتعالى- أن أعظم وظائف رسوله –صلى الله عليه وسلم- هي بيان القرآن وتوضيحه، فلولا أن هذا البيانَ معصومٌ لما كان فيه بيانٌ للقرآن؛ لأن البيان الخاطئ ليس بيانًا، إنما البيان هو الصواب، ولا يكون صوابًا مطلقًا إلا بوحي:



قال تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل: 44].
وكما أوكَلَ الله –عز وجل- إلى رسوله –صلى الله عليه وسلم- بيانَ القرآن بوحيه إليه في هذه الآية، فقد أوضح سبحانه لنبيه أنه هو الذي سيبيّن له القرآن.




فقال تعالى: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" [القيامة: 16- 17].
والآيات المثبتة أن السنة وحيٌ من الله تعالى كثيرةٌ جدًّا، ووجوه إثباتها وطرائق تناولها لهذا الأمر كثيرةٌ أيضًا.


وما دُمنا نقيمُ هذا الجواب لمن كان لا ينازع في حجّيّة السنّة إجمالًا، وإنما ينازع في حُجّية قِسْمٍ منها، فيصحّ أن نحتجّ عليه بما صحّ من السنة في الدلالة على كونها وحيًا من الله تعالى أيضًا.




ومن ذلك:


حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص أنه قال: "كنت أكتب كُلّ شيءٍ أسمعه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، أُريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, و رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَشَرٌ، يتكلَّم في الغضب والرضا! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق [وأشار إلى شفتيه صلى الله عليه وسلم]"().



وفي هذا الحديث إقرارٌ بكتابة (كل شيءٍ) يتفوه به النبي –صلى الله عليه وسلم-، بل هو أمرٌ وحثٌّ على ذلك من النبي –صلى الله عليه وسلم-، دون استثناء شيء. وليس هذا فقط، بل مع و صف (كل شيءٍ) نطق به النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنه حق. وليس هذا فقط, بل إن هذا الوصف (وهو الحق) مع شموله لـ(كل شيءٍ) نطق به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء الحديث ليؤكّد أنه وصفٌ لا يتخلّف حتى في حالة غضبه –صلى الله عليه وسلم-، وهي أَوْلى الحالات البشريّة التي قد يجتهد فيها الإنسان فيخطئ.



بل في الحديث: أنّ الاستدلال ببشريّة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لزعم أنّ بعض ما يقوله –صلى الله عليه وسلم- ليس بوحي استدلالٌ باطلٌ، لا من جهة نفي البشريّة عنه –صلى الله عليه وسلم-، بل هو بشر –صلى الله عليه وسلم-، لكنه معصومٌ بالوحي عن قول ما سوى الحق, ومعصومٌ اجتهاده عليه الصلاة والسلام عن الإقرار على الخطأ .
وبذلك يكون هذا الحديث من أقوى الأحاديث دلالةً على وجوب اعتقاد عصمة كل ما نطق به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، لكونه وحيًا من الله تعالى : ابتداءً أو مآلًا .



وفي حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب الكندي –رضي الله عنه- ، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "ألا إني أُوْتيتُ القرآن ومثلَه معه، ألا إني أُوْتِيتُ القرآن ومثلَه معه. ألا يوشك رجلٌ ينثني شبعانًا على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه …"().



وفي الحديث: نصٌّ على أن السنة مثل القرآن، في أنهما إيتاءٌ من الله عز وجل ، وأنهما وحي مُنزَّل.




وفيه أيضًا: أن دعوى الاكتفاء بالقرآن دون النظر إلى السنة، بحجّة الاستغناء بالقرآن عن السنّة = دعوى باطلة؛ لأنها ظنّت السنة ليست وحيًا، والواقع أنها مثل القرآن في ذلك.
ومن لطيف ما يُستَأْنَسُ به في هذا المجال، من أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يتكلّم إلا بالوحي: أنّ هذه هي صفته –صلى الله عليه وسلم- التي بشّر بها عيسى –عليه السلام-، كما هو في الإنجيل الذي يعترف به النصارى إلى اليوم !!


فقد جاء في إنجيل يوحنا، وأثناء وداع عيسى عليه السلام للحواريين، ذكر لهم (الفِيرقليط)، وهي كلمةٌ يونانيّة قديمة تعني الذي له حمدٌ كثير، أي (أحمد)، مصداقًا لقوله تعالى عن عيسى –عليه السلام-: "وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" [الصفّ:6]. وأثناء كلامه –عليه السلام- عن الفيرقليط، والذي حُرّف في الترجمات المعاصرة إلى (المحامي، والمدافع، والمعزّي، والشفيع، والمؤيَّد … إلى غير ذلك من التحريف والتخبُّط الدالّ على الحيرة ومحاولة طمس الحقيقة )، قال –عليه السلام-: "لا يزال عندي أشياء كثيرةٌ أقولها لكم، ولكنكم لا تُطيقون حَمْلها. فمتى جاء هو، أيْ روحُ الحق، أرشدكم على الحقِّ كُلِّه؛ لأنه لن يتكلّم من عنده، بل يتكلّم بما يسمع"().
فهذا وصفه –صلى الله عليه وسلم- في القرآن والإنجيل، أفلا يخجل المعترضون؟!!



وبذلك نخرج بالنتيجة القاطعة التالية: أن سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وحي، ومعنى ذلك أنها لازمةُ التصديق .. والطاعة .. بلا استثناء.
ومن سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: ما يتعلق بأمور الدنيا من: آداب، ومعاملات، وغيرها ممّا سوى العبادات.


يتبع

قرآن الفجر
10-04-2006, 02:28 AM
اجتهاد النبي – صلى الله عليه وسلم-:


فإن قيل: فما قولكم في اجتهاد النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ إن قلتم بجواز اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-، فقد رجعتم عن قولكم في أن السنّة وحي، وبالتالي رجعتم عن الإلزام بالتصديق والطاعة؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد. وإن منعتم الاجتهاد عنه –صلى الله عليه وسلم-, ماذا تفعلون بالنصوص الدالة على اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-؟



والجواب: أن وقوع الاجتهاد من النبي –صلى الله عليه وسلم- مسألةٌ خلافيّة بين العلماء، فمنهم من منعه، مستدلًّا بأدلة عصمة الأنبياء عليهم السلام. ومن أهل العلم من نقل الإجماع على جواز اجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا، ومنع من وقوعه في أمور الدين(). ومنهم من جَوّز الاجتهاد في أمور الدين، وهو قول الجمهور.


واختلفوا: هل هو معصومٌ في اجتهاده(), ومنهم من قال هو غير معصوم لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، ووقع الإجماعُ على عدم الإقرار بالخطأ مطلقًا(), سواءً كانت دنوية أو دينيّة.


وفي ذلك يقول القاضي عياض (ت544هـ) في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "وأمّا أقواله الدنيويّة: من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فعله، فقد قدّمْنا أن الخُلفَ فيها ممتنع عليه من كل حال وعلى أي وجهٍ: من عمدٍ أو سهوٍ، أو صحّةٍ أو مرضٍ، أ و رضيً أو غضب. وأنه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ فيما طريقُه الخبر المحض مما يدخله الصِّدْقُ والكذب"().



وبذلك نخلص أن اجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا والدين لا يُخْرِجُ السنة عن أن تكون بوحي؛ لأن اجتهاده –صلى الله عليه وسلم- في بعض المسائل لا ينفي أنه كان يُوحَي إليه بسنن غيرها ابتداءً (وهذا محلّ إجماع)، وأمّا اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-: فهو إما أن يُقَرَّ عليه من ربّه –عز وجل-، وهو الغالب(), فيكون بهذا الإقرار منزَّهًا عن الخطأ، وإمّا أن يُصَوَّبَ اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتابٍ أو سنةٍ ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نَقْصِ البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه –صلى الله عليه وسلم-.


وهذا التقرير البالغ هو الذي يفيدنا التقرير التالي، الذي به تتحرَّر المسألة، وينحلّ محلّ النزاع، وهو: أنّ السنّة وحيٌ: حالًا أو مآلًا، أي إنها وحي: ابتداءً، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وبذلك تصحّ تلك الأوامرُ المطلقةُ والنصوصُ العامةُ التي أضاء بها الكتاب وتلألأت بها السنة: الدالةُ الدلالةَ القطعيةَ: على وجوب تصديق خبره –صلى الله عليه وسلم- ، وطاعة أوامره –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه –صلى الله عليه وسلم- (وبعد وفاته) لا يُحتمل أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يُقرّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يُصَوَّب من أقواله –صلى الله عليه وسلم- فكُلُّه وحي من الله تعالى، وما صُوِّب فقد بلَّغ –صلى الله عليه وسلم- عن ربّه –عز وجل- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلًا من أدلّة نبوّته –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنّ مدّعي النبوّة كذبًا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغُ وحُفِظَ الدين وعُصمت السنةُ من أي سببٍ يدعو إلى التردّد في الطاعة أو التصديق.



وبذلك يتّضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بوحي ابتداءً وما صدر عنه " باجتهاد: في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره ؛ فكما كان الموحَى به إليه ابتداءً لا خلاف في وجوب ذلك فيه , فكذلك الاجتهادُ منه" ؛ لأنه مُوحَى به إليه انتهاءً بالإقرار . فلا فرق بين سنة النبيّ " , فكلُّها وحيٌ يُوجِبُ التصديق والطاعة , بدلالة عموميات النصوص السابقة في الكتاب والسنة , والتي لم تُخصِّصْ سنةً من سننه " : لا سنةَ الوحي ابتداءً ولا سنة الوحي انتهاءً , ولا سنةَ الدين ولا سنةَ الدنيا . فالعموميات تشمل جميع السنة, ولم تُخرج منها شيئًا . بل من تلك النصوص ما ورد في وجوب طاعته " في اجتهاده خاصة, ومنها ما ورد في وجوب طاعته في أمور الدنيا على وجه التحديد .


ومن هنا أدخل في الجواب عن الحديث الذي جعله بعضهم مُتّكأَهُ لردّ كثير من السنن الثابتة عنه –صلى الله عليه وسلم-, لا من جهة عدم صحّتها عنه –صلى الله عليه وسلم- عندهم، وإنما من جهة أنها اجتهادٌ قابلٌ للصواب والخطأ. فهم قد لا يُعارضون في الثبوت، بل قد يقرّرون أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قد قال ذلك الحديث؛ لكنّهم يعارضون في وجوب التصديق بما تضمّنه ذلك الحديث، وفي العمل بما دلّ عليه؛ لأنه عندهم ليس من السنّة التي هي وحي.



وهذا الحديث هو حديث عائشة وأنس: أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقوم يلقّحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصَلَحَ "، فخرج شِيصًا(), فمرَّ بهم فقال: (ما لنخلكم؟!) ، قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم). (أخرجه مسلم: رقم 2363).



وفي لفظ آخر لهذا الوجه من أوجه روايات الحديث: فقال: "لو لم يفعلوا لصَلَحَ ذلك"، فأمسكوا، فلم يأبُرُوا عامَّته، فصار شِيصًا. فذُكر ذلك للنبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إذا كان شيءٌ من أ مر دنياكم: فشأنَكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ )) (أخرجه الإمام أحمد: رقم12544، 24920، وابن ماجه: رقم2470، وابن حبان: رقم 22).



ووجه دلالة هذا الحديث على ما يستدل به القومُ المشار إليهم آنفًا: أنه صريح في أنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يجتهد في أمور الدنيا، وأنه –صلى الله عليه وسلم- لذلك قد يخطئ، وبناءً على ذلك وضع قاعدةً عامّةً لنصوصه المتعلّقة بأمور الدنيا، وأعلمنا أنّ الأمر فيها راجع إلى تحقيق المصلحة التي يعرفها أهل الدنيا، وأنه لا يلزمنا فيها اتّباع أمره –صلى الله عليه وسلم-, وذلك عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقال: "إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ".


هذا الحديث هو عمدة فئامٍ كبيرٍ ممّن ردّوا عامّةَ السنة أو قدْرًا منها، وجعلوه أصلًا ما أكثر ما يلهجون به في مقالاتهم وبحوثهم، وكأنّه أصل الأصول، وأصحُّ منقول!!
وأوّل ما يؤخذ على هؤلاء هو هذا الاعتماد المبالغ فيه وفي دلالته، حيث جعلوا هذا الحديث الوحيد أساسًا ترجع النصوص إليه؛ وكأنّه هو المُحْكَمُ الذي تؤول إليه كل نصوص القرآن والسنة التي تقدّم قطرةٌ من بحرها، وغرفةٌ من نهرها!! وهذا خطأٌ منهجيّ، لا من جهة أنه نصٌّ واحد مقابل عشرات … بل مئات النصوص، بل من جهة أنّهم لم يُمعنوا النظر في ألفاظ الرّواية، لينظروا هل هي دالةٌ على ما يريدون، أم لا تدل؟ وهذا الخطأ كان سيكون مقبولًا، لو لم يكن هذا الاستدلال يخالف جميع تلك النصوص. أمَا وقد خالفها، فكان هذا يوجب عليهم عميق النظر والدراسة.


وقبل الدخول إلى مناقشتهم في انتقائيّتهم لأحد ألفاظ الرواية؛ لأنها هي الرواية التي يؤيّد لفظُها مُرادَهم، أودّ مُبَاحَثَتَهم في أصل استدلالهم باللفظ الذي أوردوه واستدلّوا به:



فأقول لهم: ما المراد بأمر الدنيا الذي تجعلونه ممّا لا يرُجع فيه إلى السنّة؟ حيث إنه يدخل في

أمر الدنيا كلّ ما لا يدخل في أمر العقائد والعبادات المحضة: كالمعاملات: من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وآداب للحديث واللباس والطعام والشراب وعموم الأخلاق ... وغير ذلك.




فإن قالوا: المقصود جميعُ ما ذُكر، لدخوله تحت دلالة قوله (أمر الدنيا)، كان هذا القول منهم دليلًا على سقوط فهمهم وبطلانه؛ لأنه خالف قطعيّات الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيما ذُكر من أمور المعاملات والآداب والأخلاق، وخالف أيضًا إجماعَ العلماء: فهذه كتب الفقه على جميع المذاهب وكتب العلم لدى جميع أهل العلم: حفيلةٌ بنصوص السنة في ذلك، عظيمةُ العناية بالاهتداء بنورها، مستضيئةٌ بهدايتها.




وإن قالوا: بل بعض ذلك دون بعض، كأحاديث الطبّ.


قلنا: وما دليل هذا التخصيص؟ ثم إن الحديث الذي تحتجّون به ليس في الطب، بل النصّ الذي تعتمدونه ظاهره العموم (أمر الدنيا). فالتخصيص بلا دليل، دليلٌ على بطلان ذلك القيل.
وبذلك نخلص أن هذا الفهم باطلٌ من أساسه؛ فلا عُمومُهُ مقبول، ولا خُصوصُه بالذي يُساعدهُ الدليل؛ بل بُطلان طرفيه أوضحُ مِنْ أن يحتاجَ إلى شيءٍ من التطويل.
وهذا يكفي لانعقاد القلوب على خلاف هذا الفهم، وعلى أن نعلم علم اليقين أن معارضة النصوص القاطعة في الكتاب والسنة بهذا الفهم السقيم لهذا الحديث غير قويم.



فإن قيل: فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟
قيل: هو أن تجمع طرق الحديث، وتنظر في ألفاظه أوّلًا:



فقد روى هذا الحديث طلحةُ بن عُبيد الله –رضي الله عنه-، قال: مررتُ مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يُلقّحونه: يجعلون الذكرَ في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم - : " ما أظن يُغْني ذلك شيئًا"، قال: فأُخبِروا بذلك، فتركوه. فأُخبر رسول الله– صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به . فإني لن أكذب على الله – عز وجل – " (أخرجه مسلم: رقم2361).
ورواه رافع بن خَديج، فقال: قدم نبيُّ الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة, وهم يَأبُرُون النخل (يقول: يُلَقِّحُون النخل)، فقال: "ما تصنعون؟" قالوا: كُنَّا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، فتركوه، فَنَفَضَتْ (أو نقصت)، قال: فذكروا ذلك له, فقال: "إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر". قال عكرمة بن عمار (أحد رواة الحديث) : أو نحو هذا. (أخرجه مسلم: رقم 2362، وابن حبان رقم 23) .
وسنقف مع هذين اللفظين عدة وقفات:



أوّلاً: جاء التصريح في كلا اللفظين من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناءً على الاجتهاد، ووضّح لهم –صلى الله عليه وسلم- ابتداءً أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادًا على خبر السماء، بل اعتمادًا على ظنّه واجتهاده. فقد قال في رواية طلحة –رضي الله عنه-: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، وقال في رواية رافع –رضي الله عنه- : "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ومن المعلوم أنه لو كان ما قاله في شأن تلقيح النخل وحيًا لما قال: "أظن" ولا "لعلكم"، فهذان اللفظان قاطعان لمن سمعهما منه –صلى الله عليه وسلم- أنه لا يُخبر عن وحي السماء, وإنما يُخبر عن اجتهاده.
وهذا التنبيه يوجب علينا التفريق بين نصٍّ نبويٍّ صريح بأنه اجتهادٌ غير مجزوم به، مثل هذا النص(), ونصٍّ آخر صدر منه –صلى الله عليه وسلم- على وجه القطع وعدم الشك، فهذا حقٌ مطلقًا،إلا أن يُصوّبه النبي –صلى الله عليه وسلم- بما يُوحَى إليه من قرآن أو سنّة.



ثانيًا: أن الخطأ في هذا الحديث قد وقع من الصحابة الذين تركوا تلقيح النَّخل()؛ لأنهم حملوا ظنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- على عدم احتمال الخطأ، وكأنه وحي، فقدّموا ظنّه –صلى الله عليه وسلم- على ما علموه يقينًا من ضرورة تلقيح النخل!!



قال المناوي في (فيض القدير): « قوله: "إنما أنا بشر" يعني: أُخطئ وأُصيب فيما لا يتعلّق بالدين؛ لأن الإنسان محلُّ السهو والنسيان، ومراده بالرأي: في أمور الدنيا، على ما عليه جمعٌ. لكنّ بعض الكاملين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه برأيه واجتهاده وأُقِرَّ عليه حُجَّةُ الإسلام مطلقًا »().


وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الكاملون، هو الذي يدلّ عليه لفظ الحديث وسياقُه، فاحرص أن تكون من الكاملين!! فإنك إن نظرت في لفظ الحديث بروايتيه السابقتين، تجد أنه –صلى الله عليه وسلم- أخبرهم بظنّه المصرَّح بأنه ظنّ، ثم لمـّا أخذوا بظنِّه قال لهم: (( إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ ))، أي ما دمتُ قد صَرّحتُ لكم بأني أظنّ فلا مؤاخذةَ عليَّ، ثم إنه –صلى الله عليه وسلم- جعل الذي يُقابل الظن: ما أخبر به عن الله تعالى، فقال: (( ولكن إذا حدثكم عن الله شيئًا فخذوا به )). إذن فليس هناك إلا ظنٌّ أو وحيٌ، والظنّ هو ما صرَّح بكونه ظنًّا، والوحي ما قطع به وأُقرّ عليه؛ لأنه –صلى الله عليه وسلم- لا يُقَرّ على خطأ.


ويشهد لذلك أيضًا اللفظ الآخر، فإنه –صلى الله عليه وسلم- قال: (( إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر ))، فتنبّه أنه قابَلَ بين الدين والرأي (أي: الاجتهاد الظنّي)، ولم يُقابل بين الدين والدنيا. والمعنى: أنّ السنّة التي من الدين (أي من الوحي) هي التي لم تكن باجتهاد، وليست هي التي تكون في أمور الدنيا مطلقًا. فسياق الحديث دلّ الصحابة على الطريقة التي يفرّقون بها بين سنة الدين والرأي (الاجتهاد)، ولم يأت في الحديث ما يفرّقون به بينهما؛ إلا تصريحُه بأنه قال ما قال عن ظنّ واجتهاد. فالحديث جاء للتفريق بين النصّ الذي يُصَرَّح فيه بأنه ظنّ، والنصّ الآخر القاطع().


أما ما اجتهد فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأخبر به جازمًا، ثم صَوّبه الوحي بعد ذلك؛ فهذا وَجْهٌ آخر للتفريق بين سنة الوحي والاجتهاد منه –صلى الله عليه وسلم- الذي ليس بوحي، بأن يُقال في هذا الوجه: إنّ ما أُقر عليه النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فهو وحي، وما صُوّبَ فقد عرفنا بالتصويب أنه ما قاله قبله ليس وحيًا.


وقد سبق() أ ن ما اجتهد فيه النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وصَوّبه له الوحي لا يختصُّ بأمور الدنيا, فقد اجتهد النبيّ في أمور الدين أيضًا وصَوّب الوحي له اجتهاده. فإن كان مجرّد تصويب الوحي لاجتهاده –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا، فيلزم أن يكون تصويب الوحي لاجتهاده –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدين سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا أيضًا!! وهذا ما لا يقوله إلا غُلاة أهل الضلال؛ لأنه يخالف قطعيات الكتاب والسنة وإجماع علماء المسلمين وعوامّهم.


وبذلك نخلص أن الشرع المحفوظ ونصوصه المصونة قد جعلا لنا وسيلتين للتمييز بين: سنة الوحي التي لا تحتمل إلا الصدق وتوجب العلم أو العلم والعمل، وسنة الاجتهاد التي تحتمل الصواب والخطأ.



وهاتان الوسيلتان هما:
(1) ما صرّح النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيه بأنه يقوله عن ظنّ واجتهاد .
(2) وما لم يُقرّه عليه الوحي، فصوّبه له. وما سوى ذلك وحيٌ مطلقًا, سواءٌ أكان في أمور الدين أو أمور الدنيا.



ولذلك لمـّا سُئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: «ما حدُّ الحديث النبوي؟ أهو ما قاله في عُمُره؟ أم بعد البعثة؟ أو تشريعًا؟»


أجاب رحمه الله بقوله: « فكل ما قاله بعد النبوّة وأُقرّ عليه ولم يُنسخ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمّن الإيجاب والتحريم والإباحة, ويدخل في ذلك ما دلّ عليه من منافع الطبّ ... (إلى أن قال:)


والمقصود: أن جميع أقواله يُستفاد منها الشرع، وهو –صلى الله عليه وسلم- لمـّا رآهم يلقّحون النخل قال لهم: ((ما أرى هذا يُغني شيئًا))، ثم قال لهم: (إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدّثتكم عن الله فلن أكذب على الله)، وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإليّ)، وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنّهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود». انتهى كلامه (رحمه الله)().



ثالثًا: قوله –صلى الله عليه وسلم- في اللفظ الذي يحتجّ به المخالفون: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، لم يأت مبتورًا بلا قصّة، ولا كان هو اللفظ الوحيد الذي جاء به هذا الخبر، والروايات الصحيحة يفسّر بعضها بعضًا، بل هي أولى ما يُفسَّر به الحديث .


فالنبيّ –صلى الله عليه وسلم- عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، إنما قاله لما صَرّح لهم بالظنّ والاجتهاد، وما دام هذا هو سياق الخبر، فالمعنى على هذا السياق: إذا أخبرتكم بالظنّ وكان عندكم يقينٌ بخلافه مما تعلمونه من أمور دنياكم()، فقدّموا يقينكم بالأمر الدنيوي على ظنّي فيه .



ومن ثَمَّ: لم يكن قوله –صلى الله عليه وسلم- : "أنتم أعلم بأمر دينكم" قاعدةً عامّةً في أمور الدنيا، ولا يصحّ أن يُتصَوَّر هذا في عموم العقلاء والحكماء أصلًا، فضلًا عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-. فإنه مما لا شك فيه أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كان له من العقل والحكمة ما يجعله باجتهاده أقدرَ على تسيير كثير من أمور الدنيا في السياسة العامة وترتيب أمر الدولة وإصلاح المجتمع وغير ذلك بما لا يصل إليه أعلمُ أهل الدنيا علمًا بها. فكيف يصح تصوّرُ فَهْمِ المخالفين، من أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" قاعدةٌ عامّةٌ في كل أمور الدنيا؟!! هلّا أنزلوا النبيّ –صلى الله عليه وسلم- منزلة عامة العقلاء الذين لا بدّ أن يكون للواحد منهم من اليقين في أمور الدنيا اليقينيّاتُ الكثيرة!! إذن فيلزمهم أن لا يقولوا: إن ذلك النصّ قاعدةٌ عامّة, بل عليهم أن يقولوا: إن المقصود به بعض أمور الدنيا لا كلّها، أو بعض أخباره –صلى الله عليه وسلم- عن أمور الدنيا لا كل أخباره –صلى الله عليه وسلم- عنها. ثم لابُدّ بعد هذا التبعيض أن يبيّنوا كيفيّة تمييز هذا النوع من ذاك، وإلا أدّى عدم التمييز إلى إبطال الكل، وما هذا في السوء إلا كالذي هربنا منه، من إنزال النبيّ –صلى الله عليه وسلم- دون منزلة بقية العقلاء؛ لأن القولين أدّيا إلى ردِّ كل أخباره –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا، وكأنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عندما قال لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على هذا الفَهْم السقيم يُشرّع لهم مخالفته في كل أمور الدنيا، وكأنه يقول لهم: لا تطيعوني في أمور دنياكم أبدًا، إنما الطاعة في الدين فقط!!! وما أقبح هذا من فهم!! وما أسوأ أثره على الدين والدنيا!!!


ونحن نعلم أن هناك فرقًا بين أحكامه –صلى الله عليه وسلم- في حوادث خاصّة، مما لا عموم لها، كحكمه بين الخصوم للقضاء()، مما يُعبّر عنه العلماء بأنه حادثة عين لا عموم لها، فهناك فرقٌ بين هذه وبين إطلاقاته العامّة التي لا علاقة لها بفرد ولا اختصاص لها بأحد، وإن كان بعضُها قد جاء لسبب، إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .


وهذه الأحكام الخاصّة التي لا عموم فيها (كحكمه –صلى الله عليه وسلم- على سبيل القضاء والإمامة والسياسة) هي التي ربما عَبّر عنها العلماء بأمور الدنيا، التي لا يلزم أن تكون بوحي، بل التي قد يحكم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيها بحكم ولا يُصَوَّب ويكون مخالفًا للواقع(). لأنّ الخطأ في هذه الأمور لا يؤدّي إلى خطأ في التصوّر للأمة كلها إلى قيام الساعة، ولا يَفْهَمُ الناسُ منه أنه حكمٌ يتعدَّى إلى غير من حُكم له أو عليه، ولا يَؤُولُ إلى خلل في بلاغ الدين.



ولذلك عَلّق القاضي عياض على حديث التأبير بقوله: «وقول النبيّ –صلى الله عليه وسلم- هاهنا للأنصار في النخل ليس على وجه الخبر الذي يدخله الصدق والكذب، فَيُنَزَّهُ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن الخُلْف فيه، وإنما كان على طريق الرأي منه, ولذلك قال لهم : ((إنما ظننت ظنًا, وأنتم أعلم بأمر دنياكم)) (قال القاضي:) وحكمُ الأنبياء وآراؤهم في حكم أمور الدنيا حكمُ غيرهم، من اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هي عليه، ولا وُصِمَ عليهم في ذلك، إذ هِمَمُهُم متعلّقةٌ بالآخرة والملأ الأعلى وأوامِر الشريعةِ ونواهيها، وأمرُ الدنيا يُضادُّها »().


فانظر كيف جعل سبب عدم عَدِّ ما وقع منه –صلى الله عليه وسلم- في هذا الخبر خُلْفًا للواقع هو أنه رأيٌ وظنٌّ واجتهادٌ، ولم يجعل السبب أنه من أمور الدنيا. ولذلك لمـّا ساوى بين الأنبياء وغيرهم في أحكام الدنيا ينبغي أن يُحْمَل قوله على أحد أمرين: إمّا على مساواة ظنّهم واجتهادهم في احتماله الخطأ لظنّ غيرهم في مطلق هذا الاحتمال، وهو الذي يشهد له فاتحة كلامه. وإمّا أن يُحمل على حوادث الأعيان التي لا عموم لها، فاجتهادهم فيها غير معصوم.. لا ابتداءً ولا انتهاءً.


وكيف يُفهم كلام القاضي عياض على خلاف ذلك، وقد نقلنا آنفًا كلامًا له يقطع بأنه لا يخالفه, والذي قال في خاتمته متحدثًا عن أقواله –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا: « وأنه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ من الخُلْف، هذا فيما طريقُه الخبر المحض, مما يدخله الصدق والكذب().


فالجمعُ بين قوليه يُبَيِّنُ مُرادَهُ بوضوح، خاصة مع تنبيهه (رحمه الله) أن كلامَ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في تأبير النخل لم يكن خبرًا أصلًا، وإنما كان ظنًّا؛ لأن الخبر هو الذي يحتمل التصديق والتكذيب، وأمّا الظن فلا يحتملهما، وإن كان يحتمل التخطيء والتصويب.




وهذا هو الفرق بين: القول الجازم وهو الخبر المحض، فلا يصح اعتقادُ خُلْفِه؛ لأنّ الخُلْفَ فيه يدل على التكذيب. وأمّا الظنّ والاجتهاد فاعتقادُ الخُلْفِ فيه لا يدل إلا على اعتقاد الخطأ، فلم يكن فيه معارضة لمقام النبوّة.



رابعًا: في هذا الحديث (حديث تأبير النخل) حجّةٌ قويّةٌ على المخالفِين، من جهة إظهار الفهم الذي كان مستقرًّا في قلوب الصحابة –رضي الله عنهم- عن سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، ولو كانت في أمرٍ من أمور الدنيا. فإنهم –رضي الله عنهم- ما إن سمعوا بإرشاده في ترك التأبير، حتى سارعوا بتركه دون مراجعة، وهُمْ أهل النخل العارفون بضرورة تأبير النخل لإصلاحه. فقدّموا ما فهموا أنه جزمٌ منه –صلى الله عليه وسلم-, فَرجَّحُوهُ على يقينهم؛ لأن اليقين المتلقَّى عن الوحي أقوى من أي يقين سواه؛ فإن الله قادرٌ على تبديل السُّنَن، والسنن لا تخالف أمر الله تعالى.


ثم إن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لم يخطئهم في اتباعهم لأمره، ولو كان من أمور الدنيا، بل خطّأهم في عملهم بظنّه الذي صرّح لهم فيه أنه مجرّد ظنّ: "إني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن". وقد تقدّم بيان هذا، أنّ خطأهم في اتّباعهم الظنّ مع معارضته ليقينهم، لا في اتّباعهم له في أمر من أمور الدنيا.


فالصحابةُ –رضي الله عنهم - قد بلغ تعظيمهم لأمر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمر الدنيا والدين، أنهم قدّموا ظنونه –صلى الله عليه وسلم- على يقينيّاتهم!! ما أبعد هذا ممّن أراد أن يقدّم ظنون نفسه على يقينيّاته –صلى الله عليه وسلم-!!! وهي كل خبر جازم أقرّه الله تعالى عليه، سواء أكان في دين أو دنيا.


وللصحابة من الحوادث التي تُثبت أن هذا هو ما فهموه من علاقته –صلى الله عليه وسلم- بالوحي ما لا يدخل تحت الحصر.




ومن أصرح ذلك: ما جاء في قصّة الأحزاب، من مَيْل النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى مصالحة غطفان على نصف تمر المدينة، لينفضّوا عن الأحزاب. وأخبر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- سادة الأنصار بذلك، فقالوا له:
"يا رسول الله، أوَحْيٌ من السماء: فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك: فرأيُنا تبعٌ لهواك ورأيك. فإن كنتَ إنما تريدُ الإبقاء علينا، فو الله لقد رأيتنا وإيّاهم على سواء، ما ينالون تمرة إلى بِشِرَى أو قِرَي"().


فهذا أمرٌ من أمور السياسة الحربيّة، وهو من أخص أمور الدنيا، ويدعوهم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- للمشورة, ومع ذلك لا يبادرون بالردّ, لأنه إما وحيٌ, أو اجتهادٌ ممّن أحرى به أن يصيب الصواب!! أين هذا ممن جعل كل خبر له –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا، ولو كان خبرًا جازمًا ليس وحيًا؟!! أرأيتم لو أمرهم –صلى الله عليه وسلم- دون مشورة، ماذا كانوا سيفعلون؟! أرأيتم كيف خشوا أن يكون ما مال إليه من المصالح وحيًا؟! مع أنه في أمر من أمور الدنيا، ومع أنه –صلى الله عليه وسلم- يشاورهم فيه!! رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار!


وهذا الذي كان عليه الصحابة من طاعة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في كل أمر، سواء في الدين أو الدنيا، أكثر من أن يحتاج إلى انتزاع دليل عليه، أو أن نَنْصَب في تسويد صفحاتٍ فيه.


وما زال علماء الملّة كذلك، وهذه مصنّفاتهم من الموطأ للإمام مالك (ت179هـ)، إلى المسانيد والمصنّفات، إلى كتب الصحاح والسنن = كلّها لا تفرّق بين أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا عن أمور الدين، مَنْ كان يبوّب يبوّب بما يدل عليه لفظها، ومن كان لا يبوّب يوردها بالسياق الذي يورد فيه غيرها من السنن، فلا أمور الدنيا عندهم بدون أمور الدين في وجوب التثبت لها والتحرّي في شأنها، ولا تجنّبوا العناية بتدوينها وكتابتها، بل هي أحاديثُ النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، كلُّها عندهم سواء. بل نصّوا على التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب والفضائل، ولا نصّوا على التساهل في أحاديث الطِّبّ مثلًا.
والعجب ممن يترك النصوص المتواترة والأدلّة المتكاثرة وإجماعَ علماء الأمّة، ليتمسّك




بقول ابن خلدون (ت808هـ) عن الطب النبوي: « والطبُّ المنقول في الشرعيّات من هذا القبيل (يعني الطب التجريبي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عاديًا للعرب، ووقَعَ في ذكر أحوال النبي –صلى الله عليه وسلم- من نوع ذِكْر أحواله التي هي عادةٌ وجبلّةٌ، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه –صلى الله عليه وسلم- إنما بُعث ليعلّمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطبّ ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يُحمل شيءٌ من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدلّ عليه. اللهم إلا إذا استُعمل على جهة التبُّرك وصدق العَقْدِ الإيماني, فيكون له أثرٌ عظيم في النفع »().


فلا أدري ما يأتي كلام ابن خلدون (رحمه الله) هذا مع كلام الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم- وإجماع أهل العلم؟!
وأمّا احتجاجُه بحديث تلقيح النخل, فقد أبطلنا حجّته، بل بانَ أنه حجّةٌ عليه!



وأما قوله: إن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لم يُبعث لتعريف الطبّ, فما في هذا الخلاف، لكن إذا تكلّم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بالطبّ, كما قد وقع، فأيّهما الأكمل لشأنه –صلى الله عليه وسلم-؟




أن نقول: إنه لم يأت لتعريف الطبّ، وأن كلامه فيه باطل، وأنه أطلق عباراتٍ من غير يقين لتضرَّ الناسَ ولا تنفعهم!!!




أم أن نقول: إنه وإن لم يأت لتعريف الطبّ، لكن دلّ أمته بالوحي على أصول من أصول التداوي؛ كما جاء في القرآن الكريم قولُه تعالى: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" [النحل:69]، وما ادُّعِيَ في القرآن لهذا ولغيره من أخبار الكون والعلوم المختلفة أنه ليس وحيًا؛ بحجّة أنه لم يأتِ إلا للشرعيّات!!!


بأيّ حجّة يُخرجُ أحاديثَ الطب من النصوص الدالة على أنه –صلى الله عليه وسلم- لا ينطق إلا بوحي: ابتداءً، أ و إقرارًا، أ و تصويبًا. أمّا ما صرّح –صلى الله عليه وسلم- بأنه قاله بالظن، كما في حديث تلقيح النخل، فهذا قد صَرّح –صلى الله عليه وسلم- فيه أنه ليس وحيًا، فلا حُجّة فيه على ما قطع به؛ للتباين الكبير الواضح بين الخبرين الصادرين عنه –صلى الله عليه وسلم- : الخبر المظنون، والـمُتَيـَقَّن، فهو تباينٌ واضحٌ وضوحَ الفرق بين اليقين والظنّ!.


ولولا ضيق الوقت ونفاسة الزمان لأتيتُ على كل حديث من أحاديث الطبّ، اتّخذه بعض المعاصرين دليلًا على أنها ليست من الوحي, فأجبت عنها حديثًا حديثًا، ولكني أضع للقارئ قواعدَ الجوابِ عن استشكالاتهم على الأحاديث النبوية.



وقواعد الجواب هي:
- أن يكون الحديث غير صحيح، وربما كان باطلًا شنيع اللفظ، فيتخذونه دليلًا على أنه ليس بوحي. وكان الأولى بهم أن يتثبّتوا من صحّته أوّلًا، لكي لا ينسبوا إلى النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ما يُنزَّهُ العقلاء عنه، فضلًا عن أفضل الخلق –صلى الله عليه وسلم-.


- أن يكون فهمهم للحديث غير صحيح. حتى لقد وجدت بعضهم ينقل التأويل الصحيح للحديث المرويّ في الطب عن أهل العلم السابقين, ولجهله بأساليب البيان العربي يستنكر ذلك التأويل. فبدلًا من أن يفرح بأن فسّر له العلماءُ الحديثَ بما لا يخالف العلم المعاصر, إذا به يردّ ذلك التفسير؛ لأنه لابُدّ أن يُثبتَ خطأ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في ذلك الحديث!! ليقول أخيرًا –مخالفًا مُحكمات النصوص- : إن أحاديث الطب ليست وحيًا!!! أهذا شيءٌ يستحقّ كُلَّ ذلك التشمير؟!! أحنظلٌ وعلى رؤوس النخل؟!!


- أن يكون العلم المعاصر لا يخالف الحديث، ومع ذلك يتسرّعون إلى ردّ الحديث بدعوى مخالفته له.




ولهذا صُور: إمّا أن الذي في العلم المعاصر مما لم يزل ظنًّا غير مجزومٍ به (نظريّة)، ومع ذلك يتّخذه دليلًا على ردّ الحديث.



وإمّا أن العلم المعاصر لم يدرس ما جاء في الحديث النبوي, فلا في العلم المعاصر ما يثبته ولا ما ينافيه، ومع ذلك يردّه هؤلاء؛ لأنّ ما لم يُثبته العلم عندهم ليس بثابت!! إلى هذا الحدّ بلغ غلوّهم في العلوم العصريّة على حساب ضعف ثقتهم بالسنة النبويّة!!!



وإمّا أن العلم المعاصر أثبت ما جاء في الحديث النبوي، لكن لجهلهم بالعلم المعاصر, ولعدم مواكبتهم لاكتشافاته الحديثة، جهلوا أنه قد توصّل إلى ما أنكروه، ونسبوا إليه جهلًا هذا الإنكار!!!



وأقول لهؤلاء: من أوْلى من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عملًا بقوله تعالى: "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الإسراء: 36 ]؟!

ومن أحقّ الناس بُعْدًا عمّا عاب الله به المشركين من النبيّ –صلى الله عليه وسلم-؟! وذلك في




قوله تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" [النجم:28] وقوله تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" [الأنعام: 116]؟!!
ثم يُريد هؤلاء أن يجعلوا النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أحاديث الطبّ (وغيرها من أمور الدنيا) لا متكلّمًا بغير وحي فقط, بل متكلّماً جهلًا بغير علم !!! وحاشاه من ظنّ السوء –صلى الله عليه وسلم- !!!


واللهِ .. لو جمعتُ ما صحّ من أحاديث الطب (وغيرها من أمور الدنيا) عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, وفيها ما فيها من أحكام جازمة، وعباراتٍ ذاتِ دلالاتٍ قطعيّةٍ، ثم نسبتُها إلى غيره من الناس، وأطلعتُ أحد العقلاء عليها، على أنها مقالاتٌ صدرت من أحد الناس على الظن، وأنه أخطأ فيها .. لنسبَ الذي أطْلَعْتُهُ عليها صاحبَ تلك المقالاتِ إلى المجازفات والكذب وقلّة الأمانة أو نقص العقل!!!
أفلا يتنبّهُ هؤلاء طَيِّبـُو النوايا، إلى ما في مذهبهم من خبيث الجنايا!!!
إنّي لأحبسهم لو تَنبـّهوا إلى اللوازم الفاسدة من مذهبهم هذا، لكانوا أنفر الناس منه وأبعدهم عنه، وهو المظنون بعامّتهم .



وما أحسن قول العالم الفقيه الحنفي الصوفي أبي بكر الكلاباذي (ت380هـ) في كتابة (بحر الفوائد) : « وردُّ الأخبار والمتشابه من القرآن طريقٌ سهلٌ، يستوي فيه العالم والجاهل، والسفيه والعاقل. وإنما يتبيّنُ فضلُ علم العلماء، وعقل العقلاء، بالبحثِ والتفتيش، واستخراج الحكمة من الآية والسنّة، وحَمْل الأخبار على ما يوافق الأصول، وتُصحّحه العقول »().
وأرجو أن أكون بهذا المقال قد أبَنْتُ عن وجه الحق في مسألة السنّة في أمور الدنيا، وأنها وحيٌ كغيرها من السنن المأثورة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، على التفصيل الذي ذكرته فيه.



وألخّص هنا أهم مفاصل هذا المقال:
أولاً: أنّ ذلك التنكُّرَ للسنة في أمر الدنيا، بإخراجها عن عصمة الوحي لها من الخطأ، معارضٌ معارضةً قويّةً للقرآن والسنة الثابتة وإجماع الأمّة.



ثانيًا: لعدم وجود ضابط عندهم لأمر الدنيا الذي يُخرجون به السنة عن الوحي، يَلْزَمُهم جرَيًا على مسار قولهم: إخراجُ نصوص السنة في البيع والشراء، والنكاح والطلاق، والآداب، والأخلاق وغيرها من أمور الدنيا عن الوحي أيضًا، ولا يبقى إلا العقائد والعبادات المحضة. وهذا لازمٌ يدل على بطلان هذا القول، إلا عند غُلاة أهل الضلال و أجلاد المُبْطلين.



ثالثًا: يلزمهم على إخراج صنفٍ من أحاديث النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا (كأحاديث الطبّ مثلًا) عن أن تكون بوحي، واعتقادهم أنّه أخطأ –صلى الله عليه وسلم- فيها, أو في عامّتها = أن يوصف النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بما لا يليق بأهل العقل والأمانة والبُعْد عن المجازفات في الأخبار، إذْ إن كثرتها وجَزْمها بما تَضمّنتْه من أخبار، لا يُطيقُ عاقلٌ أن تُجمع له أمثالُها من الأخطاء والمجازفات والإخبار على وجه التهوّر والظن، ولا يقبل وجيهٌ أن تُنْسَبَ إليه .



رابعًا: أن اجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا لا يُلغي علاقته بالوحي: ابتداءً أو إقرارًا أو تصويبًا؛ لأن دعوى أن مجرّد اجتهاده –صلى الله عليه وسلم- يلغي علاقة خبره بالوحي: ينسحب على أمور الدين, فقد اجتهد النبي –صلى الله عليه وسلم-, وأخطأ في اجتهاده، في أمور الدين أيضًا.



خامسًا: أن حديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ليس حجةً لهم، بل هو عليهم:
1- أن قوله –صلى الله عليه وسلم- "أنتم أعلم بأمر ديناكم" لا يصحّ أن تكون قاعدةً عامةً من جهتين:



الأولى: أن العقل يأبى قبول عمومها؛ لأنّ عمومها يعني أنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يقدّم الناسَ عليه وعلى علمه بكل أمور الدنيا! وهذا لا يرضاه عاقلٌ لنفسه، ولا يصح وجود عاقل يتحقّق فيه؛ لأنه لابُدّ أن تكون لديه يقينيّات في كثير من أمور الدنيا، يستوي في بعضها مع غيره، ويعلو ببعضها الآخر على آخرين سواه.



الثانية: أنّ أمور الدنيا تشمل كل ما سوى العقائد والعبادات المحضة, والتزامُ هذا العموم باطلٌ كما سبق . وتخصيص بعض أمور الدنيا بلا دليل كما فعلوا، ليس ملجأً يحميهم من التزام الباطل الذي هربوا منه؛ لأنّ الباطل أصلًا هو ما لا دليل عليه ولا برهان له.
وأفضل فهمٍ لتلك العبارة هو ما دلّ عليه سياقها، وهو أن تُحمل على ما أخبر به النبيّ –صلى الله عليه وسلم- على سبيل الظنّ والاجتهاد، دونما أخبر به على وجه القطع به وأُقِرّ عليه.


2- أن هذا الحديث (حديث تلقيح النخل) جاء خبرُ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيه على الظنّ المصرَّح بعدم التيقُّن من صحّته. فكيف يُقاس على هذا أخباره –صلى الله عليه وسلم- المقطوع بها؟!


3- أن خطأ الصحابة –رضي الله عنهم- في ترك تلقيح النخل لم يكن من جهة أنهم ما كان ينبغي عليهم فَهْمُ خبره –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا على أنه وحي، بل هو كذلك، لو كان خبرًا قاطعًا لا ظنّ فيه ولا تردّد . وهذا ما دلَّ عليه جواب النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عليهم، عندما قال: "إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن". وإنما كان خطؤهم في تنزيل ظنّه –صلى الله عليه وسلم- منزلة قطعه، وهذا أبعد ما يكون عن فهم المخالفين لهذا الحديث.


4- أن الصحابة فهموا ظنّه –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا أنه ينبغي أن يُقدَّم على يقينهم، فأين هذا ممن احتجّ بهذا الحديث على تقديم ظنّه على يقين النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, والذي عرفنا يقينيّته عنده من جهة أنه قطع به وأقرّه عليه ربّه –عز وجل- ؟‍‍‍‍‍‍‍‍!


5- أن سلف الأمة وأئمة الدين والفقه كلَّهم مضوا على إنزال أحاديث النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا والدين منزلة سواء: في الاحتجاج, وفي اعتقاد العصمة.
هذا مفاصل هذا المقال, ورؤوس مسائله .



أسأل الله تعالى أن يجعل فيه هدايةً للحائر, وشفاءً لداء الشُّبهة، وضياءً للمستبصرين!
والله أعلم.
والحمد لله رب البريّة، والصلاة والسلام على هادي البشريّة، وعلى أزواجه والذريّة.

قرآن الفجر
10-04-2006, 02:34 AM
المراجع:
(1) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#2)انظر: الإجماع في التفسير: لمحمد بن عبد الرحمن الخضيري (396 – 398).
(2) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#4)صَحّ من مرسل مجاهد وقتادة, ويؤيدهما سياق الآيات .
فانظر: تفسير عبد الرزاق (2/117)، وتفسير الطبري (19/113) .
(3) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#6)هذا العموم مأخوذٌ من قوله تعالى: "فِيمَا شَجَرَ" فـ(ما) اسمٌ موصول، وهو من ألفاظ العموم.
(4) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#8)أخرجه الإمام أحمد (رقم6510، 6802، 6930، 7018،7020)، وأبو داود (رقم3641)، والدارمي (رقم501)، وابن خزيمة (رقم2280)، والحاكم وصححه (1/104 –105، 105 – 106). وهو حديث صحيح.
(5) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#10)أخرجه الإمام أحمد ( رقم 17174، 17193،17194،) وأبو داود (رقم 3798، 4594) والترمذي (رقم 2664)، وابن ماجه (رقم 12، 3193)، والدارمي (رقم 606)، وابن حبان (رقم 12) والحاكم وصححه (1/109) من وجوه، وهو حديث صحيح .
(6) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843#12)إنجيل يوحنا (16/12 – 13) .
....................................
(1) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#2)البحر المحيط للزركشي (4/214)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/3889) .
(2) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#4)وفي ذلك يقول أبو المظفّر السمعاني في قواطع الأدلة (4/84- 85): « وإنما تحرم المخالفة, وإن كان صدر عن اجتهاد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان معصومًا عن الخطأ في الأحكام، فإن كان معصومًا عن الخطأ محروساً عن الزّلل، كان ما يصدر عنه محكومًا بصحّته، مقطوعًا بذلك؛ فلذلك حَرُمت مخالفته ».
(3) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#6)المسوّدة لآل تيمية (79، 190) .
ومما يدل على ذلك آيات عتابه –صلى الله عليه وسلم-, مما يدل على حصول الاجتهاد منه –صلى الله عليه وسلم-, ووقوع الخطأ، وأنه –صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عليه.
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ل، قالت: دخل عليّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله–صلى الله عليه وسلم-، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود". قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرتِ أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟". قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر. (أخرجه مسلم: رقم 584) .
وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 – 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 – 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث: أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمـّا وجد أماراتٍ تدل على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار. ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنة في أمور الدنيا ليست وحياً. فهذا الحديث وقع فيه للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.
(4) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#8)الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري- (4/471).
(5) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#10)بدليل قلّة المسائل التي صُوّبَ فيها اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-, وبدليل أنه –صلى الله عليه وسلم- أَوْلَى الخلق بإصابة الحق!
(6) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#12)الشِّيص: التمر الذي لم يكتمل نُمُوُّهُ ونُضْجُهُ، حتى ربّما لم يأتِ له نوى .
(7) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#14)ومن أمثلته أيضاً حديث ثابت بن يزيد الأنصاري –رضي الله عنه-، قال: كنّا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في جيش، فأصبنا ضِبَابًا، فشويت منها ضَبًّا، فأتيتُ به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فجعل ينظر إليه ويُقلِّبُه, وقال: (( إن أُمّةً مُسخت، لا يُدْرَي ما فَعَلت، وإني لا أدري لعل هذا منها )). فما أمر بأكلها، ولا نهى. (أخرجه أبو داود: رقم 3789، والنسائي: رقم 4320 – 4322، وابن ماجه: رقم 3238) بإسناد صحيح.
وحديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (( يا أعرابي، إن الله لعن أو غضب على سِبْطٍ من بني إسرائيل، فمسخهم دوابَّ يَدِبُّون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منها، فلست آكلها ولا أنهى عنها )). (أخرجه مسلم: رقم 1951).
وحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (( فُقِدت أمةٌ من بني إسرائيل، لا يُدرى ما فعلت، ولا أُراها إلا الفأر. ألا ترونها إذا وُضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وُضع لها ألبان الشاء شربته )).(أخرجه البخاري: رقم 3305، ومسلم رقم: 2997). وقوله (وأُراه) بضم الهمزة، أي: أظنّه.
ثم إن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه بما صحّ من حديث عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه-، أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- سئل عن القردة والخنازير، أهي ممّا مُسخ؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله لم يجعل لمسخ نَسْلاً ولا عَقِباً، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك )). (أخرجه مسلم: رقم 2663) .
فتبيّن أن ما قاله –صلى الله عليه وسلم- في شأن الضبّ والفأر كان ظنًّا (كما جاء مصرِّحًا به)، ثم أُوحي إليه –صلى الله عليه وسلم- بأن الـمُسُوخ لا نسل لها. فقطع بذلك دون ظنّ أو تردّد. وهذا ما قرّره الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/325-327، 328، 338 رقم 3273 – 3288).
(8) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#16)هذا ما صرح به شيخ الإسلام إن تيميه (مجموع الفتاوى: 18/12) .
(9) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#18)فيض القدير (2/567) .
(10) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#20)وقد قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/48) معلّقاً على هذا الحديث: « فأخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: أن ما قاله من جهة الظن: فهو فيه كسائر الناس في ظنونهم، وأن الذي يقوله ممّا لا يكون على خلاف ما يقوله: هو ما يقوله عن الله –عز وجل-» .
فتنبهْ أن الطحاوي (رحمه الله) جعل القِسْمَةَ: ظنًّا ووحيًا، لا دنيا ودين، وهذا هو موطن الشاهد في كلامه، وهو واضح الدلالة لمن تأمله.
(11) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#22)انظر الحاشية (3) ص(11-12).
(12) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#24)مجموع الفتاوى (18/11- 12) .
(13) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#26)لأن أمور الدين لا يمكن أن يكون عندهم فيها يقينٌ، ولا يكون عند النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه إلا الظنّ!
(14) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#28)ففي حديث أم سلمة ل، قالت: قال رسول الله: "إنكم تختصمون إليَّ، و لعلَّ بعضكم أن يكون أَلْحَنَ بحُجّته من بعض، فأقضي له على نحو ممّا أسمع منه. فمن قطعتُ له من حقّ أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار" (أخرجه البخاري: رقم 2458، 2680، 6967، 7169، 7181، 7185، ومسلم: رقم 1713) .
(15) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#30)كما في الحديث الذي ذكرته في التعليقة السابقة. .
(16) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#32)إكمال المعلم للقاضي عياض (7/334-335).
(17) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#34)الشفا للقاضي عياض – مع شرحه لملا علي القاري– (4/471).
(18) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#36)أخرجه البزار (كشف الأستار: رقم 1803)، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 1708)، والطبراني في ا لكبير (6/34- 35 رقم 5409)، بإسناد حسن .
وله شواهد، فانظر: التلخيص الحبير لابن حجر (4/114 – 115)، ومرويات غزوة الخندق للدكتور إبراهيم المدخلي (134-135) .
(19) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#38)مقدمة ابن خلدون (493 – 494) .
(20) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7893#40)بحر الفوائد للكلاباذي (356) .

يسرى أحمد حمدى
10-05-2006, 04:47 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
أختى قرآن الفجر
شكرا على هذا الموضوع خطير الأهمية

وبارك الله فيك وفى نقلك
وكل عام وأنتى بخير

مراقب 2
07-10-2007, 10:41 AM
تنظيما للحوار وليواصل القارئ قراءة هذا البحث العلمي الذي لم ينته بعد نقلت الحوارات والتعليقات على الموضوع إلى رابط آخر هو :
حوار مع منكر للسنة حول صحة اعتبار الأحاديث الصحيحة وحيا من الله (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=9608)

قرآن الفجر
07-12-2007, 01:23 AM
تعقيب على بحث:


"السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843)"
للدكتور / الشريف حاتم العوني ، بتاريخ 10/8/1427هـ.


من الدكتور / سعد الدين العثماني(*) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#119) بعنوان:
"هل السنة كلها وحي؟"


9/9/1427
02/10/2006

قرآن الفجر
07-12-2007, 01:29 AM
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg موضوع قديم يتجدد (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#108)
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg هل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بالوحي ؟ (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#110)
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيوية (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#112)
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg "إن هو إلا وحي يوحى" (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#114)
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#118) نشر الدكتور الشريف حاتم العوني مقالا بعنوان: " السُّنّةُ وَحْيٌ مِن رَّبِّ العَالَمِين فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843) ". ولأهمية الموضوع فإني أسهم في مناقشته مستعينا بالله تعالى، سائلا إياه أن يجنبني الخطأ والزلل، ويلهمني الصواب.



موضوع قديم يتجدد (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#107)
إن النقاش حول هذا الموضوع المهم ليس جديدا، بل هو قديم نشأ منذ تعامل المسلمون مع نصوص السنة. وهو ما حكاه الخطيب البغدادي (ت 463)، يقول: "باب القول في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ليس فيها نص كتاب، هل سنها بوحي أم بغير وحي. قال بعض أهل العلم : لم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة إلا بوحي، واحتج من قال هذا بظاهر قول الله تعالى : وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى (...)ومنهم من قال : جعل الله لرسوله أن يسن ما يرى أنه مصلحة للخلق ، واستدل بقوله تعالى : "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، قال: وإنما خصه الله بأن يحكم برأيه ، لأنه معصوم ، وأن معه التوفيق واستدل من السنة (...) وقال آخرون : ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من سنة إلا ولها أصل في كتاب الله ، فسنته فيما لم يرد فيه بعينه نص الكتاب بيان للكتاب"(1) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#1). ثم أورد كلام الإمام الشافعي حول أنواع السنن التي لم ينص عليها في الكتاب. وهو نفس ما قاله الشافعي في "الرسالة". فقد حكى عن العلماء في ذلك أربعة أقوال، نوجزها في الآتي:

ـ أن الله جعل له (…)أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب

ـ أنه لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب (…) فما أحل وحرم فإنما بين فيه عن الله

ـ أنه جاءته به رسالة الله

ـ أنه ألقي في روعه كل ما سن

ثم قال الشافعي: "وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله …"(2) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#3). وواضح أن الرأيين الأخيرين هما اللذان يجعلان السنة وحيا.

أما الأول فهو تفويض من الله للرسول أن "يسن"، فهو ليس بالضرورة وحيا.

والقول الثاني يتحدث عن أن ما سن الرسول هو بيان للكتاب، والبيان أيضا ليس بالضرورة وحيا. ولم يكن هدف الشافعي من هذا التقسيم إلا الاستدلال على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال.

وممن حكى الخلاف وأوجهه في الموضوع ابن تيمية في المسودة، فقال: " مسألة قد كان يجوز لنبينا صلى الله عليه و سلم أن يحكم باجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، ذكره ابن بطة والقاضي وابن عقيل وأبو الخطاب وأومأ إليه أحمد وبه قالت الحنفية وأكثر الشافعية خلافا للمتكلمين من المعتزلة الجبائي وابنه وكثير من الشافعية وقد حكى الشافعى فى أول رسالته فيه خلافا والأشعرية وأبو حفص العكبري من أصحابنا. واحتج بقوله إن هو إلا وحي يوحى، وبحديث ذكره، وكذلك ذكر أنه لا يجوز للنبي صلى الله عليه و سلم أن يقضي برأي واجتهاد، هذا قول أهل الحق كافة أنه لا يجوز أن يحكم ويقضى في دين الله إلا بوحي، وأحسبه كلام أبي عبد الله بن حامد فى كتابه فى أصول الدين، وعن الشافعية كالمذهبين.

قال شيخنا قال ابن بطة فيما كتب به إلى ابن شاقلا فى جوابات مسائل، وقال: والدليل على أن سنته وأوامره قد كان فيها بغير وحى وأنها كانت بآرائه واختياره أنه قد عوتب على بعضها ولو أمر بها لما عوتب عليها، من ذلك حكمه في أسارى بدر، وأخذه الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمتخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له ومنه قوله وشاورهم في الأمر فلو كان وحيا لم يشاور فيه.

قال القاضي وقد أومأ أحمد إلى صحة ما قاله أبو عبد الله بن بطة فى رواية الميموني لما قيل له هاهنا قوم يقولون ما كان فى القرآن أخذنا به، قال: ففي القرآن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه وما علمهم بما أوتى؟

وأما أبو حفص العكبري فإنه ذكر فى باب التسعير قوله ( لا يسألنى الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني الله بها )، قال: هذا يدل على أن كل سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته فبأمر الله وبهذا نطق القرآن.

قلت: كلام أحمد لا يدل إن دل إلا على القول الثاني، لأنه استدل بقوله أوتيت الكتاب ومثله معه والذي أوتيه هو السنة فلم يكن عند أحمد شىء مجتهد فيه، وإنما اجتهاده في الأمور الجزئية قولية أو عملية من باب تحقيق المناط وهذا لا خلاف فيه وقصة داود من هذا الباب ويجب الفرق بين الأحكام الكلية العامة وبين الأحكام الشخصية الخاصة"(3) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#5).

لقد أطلت في إيراد كلام هؤلاء العلماء لأدلل على أمور منهجية أولية، منها:
ـ أن العلماء المشاهير من قديم طرحوا القضية للنقاش، وطرحوا مختلف الآراء. ويبدو من كلامهم تشعب المسألة وأدلتها.

ـ أن القول هكذا بإطلاق بأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كله وحي في أمور الدين والدنيا ليس هو المشهور بين العلماء، وأن أكثرهم توسعا في نسبة تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوحي كانوا دائما يستثنون أمورا عدة، تارة هي أمور تدبير الحروب، وتارة هي الأمور الشخصية الخاصة، وتارة غيرها.

ـ أنه لا تلازم بين القول بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته وبين القول بأنها كلها وحي من عند الله. وبالتالي فليست الآيات والأحاديث الآمرة بالطاعة المطلقة للنبي –صلى الله عليه وسلم- دليلا ولا حجة في الموضوع. فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تجب في أوامره ونواهيه التي هي وحي، وتجب في التي هي اجتهاد ورأي في أمور الشريعة، كما تجب في أوامره الدنيوية بوصفه وليا للأمر يرعى مصلحة الأمة وهي في أصلها اجتهاد ورأي في أمور تتعلق بالمصلحة العامة للمجتمع، كما تجب في أحكامه القضائية التي بنص الحديث الذي سنراه بعد قليل ليست وحيا وإنما هي اجتهاد معرض للخطأ والصواب.

يتبع

قرآن الفجر
07-14-2007, 11:36 PM
هل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بالوحي ؟ (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#109)

لقد ذهب الدكتور الشريف حاتم العوني في مقاله إلى "أن كل ما صدر منه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ بالوحي" وإلى أنه "لا يتكلم إلا بالوحي". ثم استدل بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق [وأشار إلى شفتيه صلى الله عليه وسلم]" (4) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#7)، على "أنّ الاستدلال ببشريّة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لزعم أنّ بعض ما يقوله –صلى الله عليه وسلم- ليس بوحي استدلالٌ باطلٌ، لا من جهة نفي البشريّة عنه –صلى الله عليه وسلم-، بل هو بشر –صلى الله عليه وسلم-، لكنه معصومٌ بالوحي عن قول ما سوى الحق, ومعصومٌ اجتهاده عليه الصلاة والسلام عن الإقرار على الخطأ.

وبذلك يكون هذا الحديث من أقوى الأحاديث دلالةً على وجوب اعتقاد عصمة كل ما نطق به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، لكونه وحيًا من الله تعالى: ابتداءً أو مآلًا".

هكذا استنتج من الحديث، والصحيح أنه قد وردت أحاديث كثيرة بيّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أن بعض تصرفاته كانت بحكم بشريته، وأنها ليست وحيا، وليس فيها الرسول معصوما، وهي بالتالي ليست تشريعا يتبع. ومن ذلك :

1 ـ أنه بيّن صلى الله عليه وسلم أن من تصرفاته ما هو صادر عنه بمقتضى الجبلة والبشرية، فقال: "إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر، فأيما دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة"(5) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#9).

فهذا تصرف يأتيه صلى الله عليه وسلم بطبيعته و جبليته، لا اختيار له فيه. كما أنه صلى الله عليه وسلم ليس معصوما فيه، بل قد يصدر عنه تجاه شخص وهو ليس له بأهل. وهذا شيء أكد عليه العديد من شراح الحديث.

فعلق عليه القاضي عياض وعلى أحاديث مماثلة بقوله: "قد يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، لكن بما جرت به عادة العرب في دغم كلامها وصلة خطابها، وإيراد بعض ألفاظها عند حرجها وتأكيدها وعينها، ليس على نية إجابة ذلك، كقوله: تربت يمينك، وعقرى حلقى، ونحوه مما جاء في الحديث من قوله : لا كبر سنك، ولا أشبع الله بطنك، وقد يسمون السب لعنا، فأشفق ـ عليه السلام ـ من موافقة أمثالها، فعاهد ربه ودعاه ورغب إليه بأن يجعل ذلك القول رحمة وقربة كما قال"(6) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#11).

وقد استقى الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في تعليقه على دعائه صلى الله عليه وسلم على معاوية بقوله: "لا أشبع الله بطنه"(7) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#13)، عبارات القاضي عياض، ثم قال: "ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متواترة"(8) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#15).

ثم أنكر على من يردون هذه الأحاديث وما تدل عليه تعظيما بزعمهم للرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء، إلى إنكار مثل هذا الحديث بزعم تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وتنزيهه عن النطق به. ولا مجال إلى مثل هذا الإنكار فإن الحديث صحيح، بل هو عندنا متواتر، فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرنا، ومن حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما، ومن حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي الطفيل وأبي سعيد وغيرهم"(9) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#17).

ثم قال: "وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما مشروعا، إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صحيحا ثابتا، وبذلك يجتمع الإيمان به صلى الله عيه وسلم عبدا ورسولا، دون إفراط ولا تفريط"(10) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#19).

2 ـ وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه قد يتصرف تصرفا دنيويا بحكم الخبرة البشرية. فقد مر بقوم يؤبرون النخل فأشار عليهم بأن لو لم يؤبروه (أي لو لم يلقحوه) لصلح، فتركوه، فخرج رديئا، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل"(11) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#21).

وفي إحدى روايات الحديث: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".

وقد بوّب الإمام محيي الدين النووي لهذه الأحاديث بقوله: "وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي"(12) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#23).

فاعتبر هذا التصرف النبوي تصرفا دنيويا يختلف عن تصرفه صلى الله عليه وسلم في أمور الشرع. وسنعود لهذا الحديث لنقف أكثر عند دلالاته.

3 ـ وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه قد يتصرف لمصلحة المسلمين بالرأي والاجتهاد، وهو تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة. وذلك مثل عزمه مصالحة قبيلة غطفان في غزوة الخندق على نصف ثمار المدينة على أن يرجعوا بجيوشهم عن محاصرتها. وكتب كتاب الصلح وأرسل إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعرض عليهما الأمر، فقالا له: "يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال: بل شيء أصنعه لكم…"(13) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#25).

فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا تدبير يدبره لمصلحة المسلمين وليس شيئا أمره الله به، ولا رغبة شخصية مجردة منه صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن إلا هذا النص، لكان كافيا في الدلالة على وجود تصرفات نبوية غير موحى بها.

4 ـ وبين صلى الله عليه وسلم أنه قد يتصرف وفق الحجج والبينات عندما يقضي بين الخصوم، فقال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"(14) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#27).

فهذا التصرف ليس وحيا، بل هو اجتهاد محض منه عليه الصلاة والسلام من مقام القضاء. وتبين تراجم العلماء لهذا الحديث إجماعهم على هذا المعنى. فقد ترجم النووي لرواية مسلم له بقوله: "باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة"، وقال الترمذي: "باب ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له أن يأخذه"،
وقال أبو داود: "باب في قضاء القاضي إذا أخطأ"، وقال ابن ماجة: "باب قضية الحاكم لا تحل حراما ولا تحرم حلالا".

أما أبو جعفر الطحاوي فقد ترجم له في "شرح معاني الآثار" بقوله: "باب الحاكم يحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر"(15) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#29).

فقد اتفق هؤلاء العلماء ـ انطلاقا من الحديث ـ على أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بين المتقاضين ليس وحيا، وليس تشريعا عاما، بل هو حكم جزئي قابل للخطأ والصواب.

وقد صرح الإمام الشافعي في كتابه الأم أن قضاءه صلى الله عليه وسلم لا يكون عن وحي. يقول: "فقد أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أنه يقضي بينهم بما يظهر له وأن الله ولي ما غاب عنه، وليستن به المسلمون فيحكموا على ما يظهر لهم"، ثم أضاف قائلا: "ولو كان القضاء لا يكون إلا من جهة الوحي لم يكن أحد يقضي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أحدا لا يعرف الباطن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(16) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#31).

وهذا الكلام من الشافعي يبين مراده من قوله الأول في معنى السنة وأنواعها لدى العلماء.

5 ـ وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه قد يقول القول على سبيل المشورة والإرشاد، فإن الصحابية بريرة لما أعتقها أهلها، كلمها رسول الله في أن تراجع زوجها مغيثا، فقالت: "يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع"، قالت: "لا حاجة لي فيه"(17) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#33).

فصرح صلى الله عليه وسلم أن هذا التصرف ليس تشريعا منه، وإنما هو شفاعة منه صلى الله عليه وسلم وإرشاد لما يمكن أن يلم شمل الزوجين.

فهذه كلها نصوص ثابتة، وبعضها في الصحيحين، تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يتكلم بالكلام من غير الوحي بحكم بشريته. ولا ضير في ذلك ولا نقص من مكانته الشريفة، بل هو من معاني قوله سبحانه وتعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" (الكهف/110)، وقوله: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) ( ... ).

يتبع

قرآن الفجر
07-19-2007, 08:00 PM
تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيوية (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#111)


نأتي الآن إلى الفرق بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في الدين وتصرفاته في الدنيا، ذلك أن التمييز بينهما مما شهدت به الأحاديث النبوية ونصوص العلماء الأعلام عبر القرون. والأصل في ذلك الحديث الصحيح المروي في ثلاثة مواقف ومناسبات مختلفة والذي أسند فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمور الدنيا إلى أهل الخبرة والتجربة.


ـ الحديث الأول: رواه جماعة من الصحابة منهم موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا"، قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل"(18) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#35).


ورواه رافع بن خديج وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"(19) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#37).


ورواه كل من عـــــائشة وأنس قالا إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"(20) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#39).


قال البزار: "ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أنس وعائشة ورافع بن خديج وجابر بن عبد الله ويسير بن عمرو"(21) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#41).


ـ الحديث الثاني: عن أبي قتادة في حديث طويل أنهم كانوا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم ناموا عن صلاة الفجر فقال بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون ؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ"(22) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#43). وهذه قصة أخرى ومناسبة مغايرة لقصة تأبير النخل.


ـ الحديث الثالث: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في النخل بالمدينة، فجعل الناس يقولون: فيها وسق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيها كذا وكذا، فقالوا: صدق الله ورسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فما حدثتكم من الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ"(23) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#45).


فهذه ثلاث مناسبات مختلفة وضح فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن من كلامه ما هو "ظن" في أمور دنيوية، وأنها قد تكون صوابا وقد تكون خطأ، وأنها بالتالي ليست للاتباع ولا للتشريع. وهو أصل مهم في الشريعة يؤصله النبي صلى الله عليه وسلم، ويقضي بأن قوله في أمور الدنيا التي لم يوح بها إليه، هو فيها مثل سائر الناس يصيب ويخطئ. وبهذا قال العديد من العلماء.


فمنهم القاضي عياض اليحصبي الذي ذهب إلى أن مثل هذه التصرفات "من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها: يجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها ما ذكرناه (أي يجوز عليه فيها الخطأ)، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة".


وقال أيضا: "أما أحواله في أمر الدنيا فقد يعتقد صلى الله عليه وسلم الشيء منها على وجه يظهر خلافه"(24) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#47).


وعلق على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة ومراجعة الصحابي سعد بن معاذ له قائلا: "فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها، كل هذه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها ما ذكرناه من اعتقاد شيء على وجه فيظهر على خلافه، إذ ليس فيها نقيصة، إنما هي من أمور اعتيادية يعرفها من جربها، وشغل نفسه بها، وهو صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة"(25) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#49).


ومنهم أبو محمد ابن حزم الذي قال لما ساق حديث تأبير النخل المذكور سابقا: "فهذا بيان جلي - مـع صحة سنده - في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين".


ثم قال: "وإننا أبصر منه بأمـور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل وهو أعلم منا بأمر الله تعالى، وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي…"(26) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#51).


وقال في موضع آخر: "فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتهما إشكالا، وأخبرا أنه صلى الله عليه و سلم أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه، ففي هذا كان يشاور أصحابه، وأخبرا أنه صلى الله عليه و سلم جعل أمر آخرتنا إليه لا إلى غيره وأمر الآخرة هو الدين والشريعة فقط، فلم يجعل ذلك صلى الله عليه و سلم إلى أحد سواه، وبطل بذلك رأي كل أحد وحرم القول بالرأي جملة في الدين وبالله تعالى التوفيق.


وهذا يبين معنى قول الله عز و جل "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" إنما هو في أمر الدين، فكل ما تكلم به النبي صلى الله عليه و سلم في شيء من تحريم أو تحليل أو إيجاب فهو عن الله تعالى بيقين، وما كان من غير ذلك فكما قلنا لقوله صلى الله عليه و سلم إذ قيل له حاضت صفية فقال عقرى حلقى، وكقوله صلى الله عليه و سلم إني اتخذت عند الله عهدا أيما امرىء سببته أو لعنته في غير كنهه أو جلدته فاجعلها له طهرة أو كما قال صلى الله عليه و سلم، ومثل قوله صلى الله عليه و سلم لذي اليدين: "لم تقصر ولا نسيت". وهذا يبين فساد قول من اعترض بمثل هذا على سائر أوامره -صلى الله عليه وسلم- ليردها ناطقا في ذلك بلسان أهــل الإلحاد المعترضين في الإســلام ونعــوذ بالله من الخذلان"(27) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#53).


وما قاله ابن حزم مبني على مذهبه الظاهري الذي ينكر اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل ما قاله من الشرع فهو وحي من الله. لكنه انطلاقا من الأحاديث المذكورة يعتبر قوله في أمور الدنيا رأيا قابلا للصواب والخطأ.


وقال أبو جعفر الطحاوي: "فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما قاله من جهة الظن، فهو فيه كسائر البشر في ظنونهم، وأن الذي يقوله مما لا يكون على خلاف ما يقوله، هو ما يقوله عن الله عز وجل"(28) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#55).


أما أبو المظفر السمعاني فقد أكد أن قوله صلى الله عليه وسلم إنما هو حجة في أمور الشرع دون "مصالح الدنيا"، فقال أثناء حديثه عما ينعقد فيه الإجماع: "وأما أمور الدنيا كتجهيز الجيوش وتدبير الحروب والعمارة والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالإجماع ليس بحجة فيها، لأن الإجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا، وكذلك الإجماع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رأيا في الحرب راجع الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم وقد ورد مثل هذا في حرب بدر وحرب الخندق وغير ذلك ولم يكن أحد يراجعه فيما يكون من أمر الدين"(29) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#57).


كما قال محيي الدين النووي تعليقا على الحديث: "قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك"(30) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#59). وإنما نعني بتصرفاته صلى الله عليه وسلم الدنيوية ما قاله وفعله برأيه وظنه مما لم يكن دينا ولا تشريعا.


وبهذا يتبين أن القول الذي يميز بين ما هو من القول والفعل النبويين سنة للاتباع والاقتداء، والتي جانب منها وحي، وبين ما هو منهما تصرف بشري دنيوي، هو القول الوسط الذي تشهد له العديد من النصوص الصحيحة، وعليه أقوال جماهير من العلماء، وهو الذي يتم به تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما مشروعا، يجتمع الإيمان به صلى الله عيه وسلم عبدا ورسولا، دون إفراط ولا تفريط، كما قال الشيخ الألباني في كلامه السابق.

يتبع

قرآن الفجر
07-21-2007, 12:22 AM
"إن هو إلا وحي يوحى" (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#113)

يبقى أمامنا دليلان، واحد من القرآن وواحد من السنة هما عمدة من يتمسكون بكون التصرفات النبوية كلها وحيا. وسنحاول تبيان ما نرجحه في فهمهما، سائلين الله التوفيق والسداد.

دليلهم الأول ومستندهم الأساس هو قوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" (النجم/3ـ4). فضمير (هو) عندهم يعود على جميع ما ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام، فيكون كل كلامه صلى الله عليه وسلم بالتالي وحيا.

لكن الآيتين عند التدبر لا تفيدان كون جميع تصرفاته -صلى الله عليه وسلم- وحيا. فهي من آيات مكية نــزلت في أول البعثة النبـوية في سياق الــرد على الكفار الذين يزعمون أن القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطــير الأولين، أو إفك افتراه النبي -صلى الله عليه وسلم-(31) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#61).

فالضمير بهذا يعود على القرآن الكريم وليس على ما سواه من كلام النبي الكريم. ومعناه أن جميع ما يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ليس عن هوى إنما هو عن وحي. وهذا المعنى هو المروي عن جماهير من المفسرين والأصوليين. فعن قتادة أنه يقول: "وما ينطق بالقرآن عن هواه إن هو إلا وحي يوحى إليه"(32) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#63).

وقال ابن جرير الطبري في تفسيره: "القول في تأويل قوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى" يقول تعالى ذكره: وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه، "إن هو إلا وحي يوحى" يقول: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". ثم أورد قول قتادة المذكور(33) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#65).

وعبر فخر الدين الرازي عن هذا المعنى قائلا: "الظاهر خلاف ما هو مشهور عند بعض المفسرين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق إلا عن وحي، ولا حجة لمن توهم هذا في الآية، لأن في قوله تعالى "إن هو إلا وحي يوحى" إن كان ضميرا للقرآن فظاهر، وإن كان ضميرا عائدا إلى قوله، فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه شاعر، ورد عليهم، فقال: "ولا بقول شاعر" وذلك القول هو القرآن"(34) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#67).

ويقول جار الله الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: "أي وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، وإنما هو وحي من عند الله يوحى به إليه"(35) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#69).

وإلى ذات المعنى ذهب من المفسرين كل من أبي حيان في البحر المحيط(36) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#71)، وابن جزي في "التسهيل"(37) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#73)، والقاسمي في محاسن التأويل(38) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#75)، والألوسي في روح المعاني(39) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#77) وغيرهم.

أما ابن عطية فقد ادعى في "المحرر الوجيز" حصول الإجماع على أن المقصود في الآية هو القرآن، فقال: "وقوله: "إن هو إلا وحي يوحى" يراد به القرآن بإجماع"(40) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#79).

وممن صرح باختصاص الآية بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن من الأصوليين، أبو بكر الجصاص(41) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#81) (ت 370 هـ)، وأبو الخطاب الكلوذاني(42) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#83)، وأبو البركات النسفي (ت 710 هـ)، الذي قال: "وأما قوله تعالى: "ما ينطق عن الهوى" فنازل في شأن القرآن، أي وما أتاكم به من القرآن ليس بكلام يصدر عن هواه، إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه"(43) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#85).

وذهب إلى المعنى نفسه بدر الدين الزركشي(44) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#87) (ت 794 هـ)، وأبو المظفر السمعاني(45) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#89)، وابن الحاجب(46) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#91)، وصاحب التقرير والتحبير(47) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#93)، والشوكاني(48) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#95).

ويدل على رجحان هذا المذهب في تفسير الآية إضافة إلى ما مر شيئان اثنان هما:
أولا ـ وجود آيات قرآنية كثيرة تستدرك على الرسول صلى الله عليه وسلم بعض تصرفاته وتعتب عليه بعضها الآخر. وذلك مثل قوله تعالى : "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرة" (الأنفال:67) وقوله: "عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صدقوا وتعلم الْكاذبينَ" [التوبة:43]، وقوله: "عبس وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى" [عبس:1-2] إلى غير ذلك من الآيات.

ففي الآية الأولى مثلا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد شاور أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب في مفاداة الأسرى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: "لَوْلا كِتَاب مِن اللَّهِ سبق لمَسكم فيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". ولو كان ما ذهب إليه من ذلك وحيا ما شاور فيه أصحابه وعمل فيه بما رجحه، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه(49) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#97).

ثانيا ـ النصوص النبوية الصريحة المذكورة أعلاه، والبالغة مبلغ التواتر، وهي التي تؤكد أن من التصرفات النبوية ـ قولية كانت أو فعلية ـ تصرفات بشرية أو دنيوية معرضة للخطأ، بضوابط يذكرها العلماء. ولهم في ذلك بعض القواعد المؤطرة.

صحيح أن هناك من يستغل هذا التمييز بين الدين والدنيا في هذه النصوص ليذهب إلى أن لا شأن للدين بأمور المعاملات ولو وردت فيها نصوص القرآن والسنة، وإلى أن الدين يختص بالعقائد والأخلاق والأمور الشخصية، دون أمور المجتمع. لكن هذه النظرة الكنسية للدين بعيدة عن حقيقته في الإسلام، وبعيدة عن مقصد العلماء الذين أوردنا كلامهم منذ قليل. فالدين عندهم هو ما ورد فيه عن الوحي في القرآن أوفي السنة بيان، والدنيا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم عن رأي واجتهاد شخصي في أمور الحياة.

والإمام شهاب الدين القرافي يعبر عن ذلك التمييز بما كان لمصلحة الآخرة وما كان لمصلحة الدنيا. وهذه طريقة بديعة وجيدة للتمييز بينهما، لكنها تحتاج إلى مزيد دراسة وتعميق.

وهكذا يتبين أن المقصود من التصرفات النبوية الدنيوية ليس هو ما يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله من أخبار أو أحكام، فهذه هو فيها صادق أمين، معصوم عما يطالها من خلف أو خلل، ولو كانت متعلقة بأمور المعاملات بين الناس.

يتبع

قرآن الفجر
07-22-2007, 01:42 AM
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#117)

لم يبق إلا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مستندا أخيرا لمن يعتبرون كل كلامه وأفعاله صلى الله عليه وسلم وحيا.

فقد قال رضي الله عنه: "كنت أكتب كُلّ شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, و رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلَّم في الغضب والرضا! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق [وأشار إلى شفتيه صلى الله عليه وسلم]".

وهذا حديث صحيح، لكنه ليس في مستوى صحة الأحاديث الصريحة المتواترة حول تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم البشرية، والتي سردنا بعضها من قبل. وهي في الصحيحين وغيرهما. فوجب تأويله ليوافق تلك الأحاديث، وأن يفهم في تلاؤم معها. هذا هو منهج أهل الحديث والعلماء الأعلام حتى يؤخذ كلام رسول الله كله، ولا يضرب بعضه ببعض.

والراجح ـ والله أعلم ـ أن المقصود هو أن رسول الله لا يكون إلا صادقا فيما ينقل عن الله عز وجل، فهذا حق لا خلف فيه. ولذلك فإن بعض العلماء الذين ميزوا بين التصرفات النبوية الدينية والدنيوية أوردوا هذا الحديث أثناء الكلام عن تصرفاته الدينية للتدليل على ذلك.

وأقف هنا عند مثال القاضي عياض اليحصبي -رحمه الله- في كتابه: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى". فقد عقد قسما خاصا "فيما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم وما يستحيل في حقه أو يجوز عليه وما يمتنع أو يصح من الأحوال البشرية أن يضاف إليه". ثم أورد في هذا القسم بابين هما:

ـ الباب الأول، فيما يختص بالأمور الدينية والكلام على عصمة نبينا عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم.

ـ الباب الثاني، فيما يخصم في الأمور الدنيوية وما يطرأ عليهم من العوارض البشرية.

وفي الباب الأول أورد ضربين من أقواله أيضا هما:
ـ ما طريقه البلاغ(50) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#99): فهو فيها "معصوم من الإخبار بشيء منها بخلاف ما هو به لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا". ثم أكد على إجماع المسلمين على "أنه لا يجوز عليه خلف في إبلاغ الشريعة والإعلام بما أخبر به عن ربه وما أوحاه إليه من وحيه، لا على وجه العمد ولا على غير عمد، ولا في حالي الرضى والسخط والصحة والمرض". ثم أورد حديث عبد الله بن عمرو.

ـ ما ليس سبيله سبيل البلاغ(51) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#101)، "من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحي، بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه، فالذي يجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره، لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا، وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفي حال سخطه وجده ومزحه وصحته ومرضه".

وفي الباب الثاني(52) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#103) أفاض القاضي عياض عليه رحمة الله ورضوانه فيما يجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية. وأورد في ذلك جوانب عدة من شخصية الرسول الكريم البشرية. لكني أكتفي بأمر واحد هو رأيه في أمور الدنيا. يقول: "فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع"(53) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#105).

ثم أورد حديث تأبير النخل المشهور ثم قال: "فهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها".
هكذا إذن عرض القاضي عياض الأمر في توازن واعتدال دون إفراط ولا تفريط.

هذا رأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
والله أعلم وأحكم. والحمد لله رب العالمين

قرآن الفجر
07-22-2007, 01:45 AM
المراجع:
(*) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#120) الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي .
(1) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#2)الفقيه والمتفقه، ص 90 .
(2) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#4)الرسالة، ص 92 – 93 .
(3) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#6)المسودة، 1/452
(4) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#8)أخرجه الإمام أحمد (رقم6510، 6802، 6930، 7018،7020)، وأبو داود (العلم/الحديث 3641)، والدارمي (العلم/الحديث 501) وغيرهم.
(5) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#10)أخرجه مسلم (البر والصلة/الحديث رقم 2603) عن أنس بن مالك.
(6) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#12)إكمال المعلم، 8/72، وانظر الشفا، 2/172، وشرح النووي على مسلم، 16/156.
(7) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#14)مسلم / نفسه.
(8) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#16)سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ج1 / 121.
(9) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#18)نفسه، ج 1/124.
(10) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#20)نفسه.
(11) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#22)أخرجه مسلم (الفضائل/ رقم 4356)، وأحمد في المسند (رقم 1322).
(12) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#24)شرح النووي على صحيح مسلم ، ج 15 / 116.
(13) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#26)عماد الدين خليل " دراسة في السيرة " ، 214 ـ 215 .
(14) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#28)أخرجه البخاري (الأحكام/رقم 6634، وغيره)، ومسلم (الأقضية/رقم 3231 و3232)، والترمذي (الأحكام/رقم 1259)، وأبو داود (الأقضية/ رقم 3112) وابن ماجه (الأحكام/ رقم 2308) وغيرهم عن أم سلمة.
(15) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#30)شرح معاني الآثار ، ج 2 / 287 .
(16) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#32)الأم: 7 / 11 ، وانظر القرافي في الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 99 إلى 103 .
(17) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#34)رواه البخاري (الطلاق/رقم 4875)، والنسائي (آداب القضاة/رقم 5322) وابن ماجه (الطلاق/رقم 2065) وغيرهم.
(18) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#36)رواه مسلم (الفضائل/رقم 4356)، وابن ماجة (المزارعة/رقم 2480)، والبزار (رقم 937) وغيرهم.
(19) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#38)رواه مسلم (الفضائل/رقم 4357).
(20) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#40)رواه مسلم (الفضائل/رقم 4358).
(21) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#42)مسند البزار، 152 ـ 154.
(22) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#44)أخرجه أحمد (رقم 21506).
(23) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#46)أخرجه البزار في مسنده بإسناد حسن، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ج1 / 739.
(24) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#48)الشفا ، 2 / 183 .
(25) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#50)نفسه، 2/163.
(26) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#52)الإحكام، ص 703 ـ 704 .
(27) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#54)نفسه، 775 ـ 776.
(28) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#56)شرح معاني الآثار، 3/48.
(29) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#58)قواطع الأدلة في الأصول، 2/16.
(30) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#60)شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 116 .
(31) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#62)الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 27 / 94 .
(32) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#64)تفسير القرطبي ، ج 17 / 85 .
(33) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#66)جامع البيان، ج 23 / 25 .
(34) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#68)مفاتيح الغيب، ج 27 / 282 .
(35) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#70)الكشاف، ج 4 / 28 .
(36) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#72)البحر المحيط، ج 8 / 157 .
(37) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#74)التسهيل، 4/75.
(38) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#76)محاسن التأويل، ج 15 / 47 .
(39) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#78)روح المعاني، ج 27 / 46 .
(40) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#80)المحرر الوجيز، 6/222
(41) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#82)الفصول في الأصول، ج 3 / 243 .
(42) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#84)التمهيد في أصول الفقه، 3/419 ـ 420. ؟؟؟؟
(43) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#86)كشف الأسرار، 1/ 169 .
(44) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#88)البحر المحيط، ج 6 / 215 .
(45) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#90)قواطع الأدلة، 2/105.
(46) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#92)شرح المختصر، ج 2 / 292 .
(47) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#94)التقرير والتحبير، ج 3 / 299 .
(48) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#96)إرشاد الفحول، ص 238 .
(49) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#98)مسلم (الجهاد والسير/ رقم 3309 عن عمر بن الخطاب)، وأحمد(رقم 203 عن عمر، رقم 13066 عن أنس، ورقم 3452 عن عبد الله ابن مسعود. وانظر (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45.
(50) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#100)الشفا، 2/123.
(51) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#102)نفسه، 2/135.
(52) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#104)نفسه، 2/178.
(53) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#106)نفسه، 2/183.

قرآن الفجر
07-23-2007, 01:08 AM
السنة وحي ... تعقيب على تعقيب:


"تعقيب للدكتور / الشريف حاتم العوني
على تعقيب الدكتور / سعد الدين العثماني"



18/11/1427
09/12/2006

قرآن الفجر
07-23-2007, 01:22 AM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه وذريته المكرمين، أما بعد:
فقد قرأت تعقيبًا للدكتور سعد الدين العثماني بعنوان (هل السنة كلّها وحي)، وهو تعقيبٌ له على مقالٍ لي بعنوان (السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين) (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid= 7843).

وقد حاولت الإجابة عن تساؤل الدكتور (وفقه الله)، وحاولت إعادة توضيح ما كنتُ قد ذكرته في مقالي السابق عن هذه المسألة، إثراءً للمسألة علميًّا، وإحياءً لمنهج الجدل العلمي، الذي سبق الدكتور إليه (وفقه الله).

وأبدأ بأوّل عنوان وضعه الدكتور العثماني، عندما قال عن موضوع النقاش –حسب رأيه-: (( موضوع قديم متجدّد))، فإني أسأله السؤال التالي:

ما هو الموضوع القديم الذي يتجدّد؟
فما ذكره الدكتور العثماني في فاتحة مقاله، من نقل عن الخطيب والشافعي وغيرهما، ليس هو موضوع النقاش أصلاً. لأنها نُقُولٌ يُريُد أن يُثبت فيها أن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد فيما لم ينزل عليه فيه وحيٌ. وهذا ليس هو محلّ الخلاف؛ لأني ذكرتُهُ في مقالي بتفصيل واضح، وممّا قلتُه في مقالي: "إن وقوع الاجتهاد من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- مسألةٌ خلافيّةٌ بين العلماء.. (إلى أن قلتُ) ومنهم من جَوّز الاجتهاد في أمور الدين، وهو قول الجمهور…". وهو ما رجّحتُه أيضًا في مقالي، واستدللتُ على وقوعه بآيات العتاب، وبحديث عائشة –رضي الله عنها- في عذاب القبر، كما سيراه من قرأ مقالي.

فلماذا يصرُّ الدكتور على أن يجعلني مخالفاً له في مسألةٍ نحن فيها متفقان؟ وصريح مقالي لا يترك مجالاً لاعتقاد أننا مختلفان!!

إن إثبات الخلاف في هذه المسألة لن يدل على وجود خلافٍ معتبرٍ في وجوب الطاعة المطلقة للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- وتصديقه المطلق في أوامره وأخباره، وهذا هو لبّ الموضوع وأساس المسألة.

فالموضوع القديم المتجدّد هو وقوع الاجتهاد من النبي –صلى الله عليه وسلم-، لكن وقوع الاجتهاد منه –صلى الله عليه وسلم- لا يلزم من القول به عدم الإيجاب المطلق بطاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- في أوامره وتصديقه المطلق في أخباره. ولذلك: فهذا الإمام الشافعي، وكما نقل الدكتور كلامه، ومع نقله للاختلاف في اجتهاده –صلى الله عليه وسلم- يقول بعد ذكر المقالات في ذلك: "وأيّ هذا كان: فقد بيَّنَ اللهُ أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحدٍ من خلقه عذراً بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله…". [الرسالة:104].

وكذلك فعل الخطيب البغدادي، كما نقل ذلك عنه الدكتور العثماني، فمع نقل الخطيب للاختلاف في السنن التي ليس فيها نصّ كتاب، لكنه قرّر عند نقل كل قول ما يدل على وجوب الطاعة المطلقة والتصديق المطلق لما صدر عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فانظر قول الخطيب حاكياً رأي من جوّز الاجتهاد من النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "وإنما خصه الله بأن يحكم برأيه؛ لأنه معصوم، وأن معه التوفيق". (الفقيه والمتفقه:91). وهذا مثل كلام أبي المظفّر السمعاني الذي نقلتُه سابقاً، وسأشير إليه لاحقاً.

ولذلك لا نستغرب أن يُنقل الإجماع على وجوب طاعة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في كل مُحْكمٍ غير منسوخ ووجوب تصديقه في كل ما أخبر به؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن مقتضيات شهادة (أن محمداً رسول الله).

ولذلك قال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتّفقوا أن كلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا صحَّ أنه كلامه بيقين: فواجبٌ اتّباعه.. واتّفقوا أنه لا يحل ترك ما صحّ من الكتاب والسنة" (175).

وقال أبو الحسن ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع: "وأجمعوا على التصديق بما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كتاب الله تعالى، وما ثبت به النقل من سائر سُننه، ووجوب العمل بمحكمه، والإقرار بنصّ بمتشابهه، وردّ كل ما لم نُحط به علمًا بتفسيره إلى الله تعالى، مع الإيمان بنصّه". (رقم 129).

فما نقل الدكتور فيه الخلاف، وكان فيه خلافٌ حقًّا، قد سبقتُ إلى نقل الخلاف الذي فيه. وما كان فيه إجماعٌ، ومضى سلفُ الأمّة على الإجماع عليه، هو ما استمسكت به، ورفضت الخلافَ الحادثَ فيه، المحجوجَ بالإجماع، المنقوضَ بمخالفة دلائل الكتاب والسنة، ولم يذكر الدكتور ما يدل على وقوع خلافٍ فيه.

والذي حاولتُ أن أوجّهه في مقالي، هو بيان المستند الذي جمع سلفَ هذه الأمة وأئمتها عليه: من وجوب الطاعة المطلقة للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- ووجوب التصديق المطلق له –صلى الله عليه وسلم-. فلماذا وكيف أجمعوا على ذلك، مع اختلافهم في إمكان اجتهاد النبي –صلى الله عليه وسلم-، بل مع كون جمهورهم على إمكان اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-؟!! بل كيف نجمع بين نصوص القرآن الكريم الكثيرة الآمرة بالطاعة المطلقة للنبي –صلى الله عليه وسلم-، في أمور الدين والدنيا، مع أنه –صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد، والمجتهد في الأصل معرّضٌ للخطأ؟!!
هذا هو ما حاولتُ الإجابة عنه، وذكرتُ جوابين لأهل العلم فيه.

كان الجواب الأول الذي ذكرتُه: أنه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ في اجتهاده من الخطأ، وهو ما نقلتُ فيه كلام أبي المظفّر السمعاني.

والجواب الثاني، وهو الذي ارتضيتُه: أنه غير معصوم في اجتهاده، حتى في أمور الدين، لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ فيه. وبأحد هذين الجوابين استطعنا أن نفهم: كيف نؤمر بمطلق الطاعة وبمطلق التصديق، والنبيّ –صلى الله عليه وسلم- بشر، ويجتهد، فقد يخطئ. فجاء هذان الجوابان ليبيّنا أنه إنّما صحّ ذاك الإطلاق بالأمر بالطاعة والتصديق للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- لأنه مؤيَّدٌ في بلاغه: إما بالعصمة (وهي هنا: سَلْبُ القدرة على الخطأ)، أو بعدم الإقرار على الخطأ، فيما لو أخطأ. والثاني هو الذي رجّحتُه، وهو الذي استدللتُ لصحّته.

وأنت تلحظ في هذين الجوابين أنهما يعودان بالاجتهاد النبوي إلى أنه معبِّرٌ عن مراضي الله تعالى في التشريع: إمّا بعصمة النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الخطأ في الاجتهاد، أو بعدم إقراره –صلى الله عليه وسلم- على الخطأ، فما أُقر عليه (وهو الغالب) فهو مُقَرٌّ عليه من الله تعالى، فالله تعالى راضٍ عنه. وما لم يُقر عليه، فقد بلَّّغنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيه عن مراضي الله، فكان اجتهادُه –صلى الله عليه وسلم- الأول كالمنسوخ ببلاغه الثاني لتصويب الله تعالى الذي جاء كالناسخ له.

ولم يقل أحدٌ من أهل العلم، لا من السلف ولا من الخلف: إن ما لم يُقرَّ عليه النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته مشروعٌ يجوز العمل به، وكيف يقول هذا أحدٌ وهو –صلى الله عليه وسلم- لم يُقرَّ عليه من ربّه عز وجل. فهذا الصِّنف من اجتهاداته –صلى الله عليه وسلم- خارجُ محلِّ النقاش أصلاً، ولا ينازع فيه أحد.

وأمّا ما سواه: فقد أفادنا الجوابان السابقان أنّ الاجتهاد النبوي فيه معّبرٌ عن مراضي الله عز وجل، في التشريع، وبالتالي فهو وَحْيٌ، لكنه وَحْيٌ مآلاً، كما أطلقتُ عليه ذلك في مقالي السابق، وكرّرتُه، ولم يقف الدكتور العثماني عنده.

وَوَصْفُهُ بأنه وحي مآلاً هو التعبير الصحيح لهذه الحالة للسنّة، التي نعترف بأنها ليست وحيًا بالابتداء، لكنّها بلاغٌ عن مراضي الله تعالى في الانتهاء، وما الوحي إلا التبليغ لمراضي الله بواسطة رسوله.

فالبلاغُ عن مراضي الله بواسطة المَلَكِ ابتداءً وحيٌ، والبلاغ عن مراضي الله تعالى بواسطة رِضَى الله تعالى المُسْتَدَلِّ عليه بالإقرار وحيٌ انتهاءً.

وما دام مقصودُ الوحي تبليغَ مراضي الله تعالى، فلا فرق بين أن يكون العلم بالرضى الإلهي قبل البلاغ أو بعده، للمأذون له بهذا البلاغ عن الله تعالى، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

فإن لم يوافقني الدكتور (وفقه الله) أو غيره على تسمية الاجتهاد النبويّ المقَرِّ عليه من الله عز وجل وحيًا مآلاً، ورفضوا هذه التسمية، مع استدلالي لها بما لم أقرأ ما ينقضه حتى الآن = فليست هذه التسمية هي محلّ النقاش.

وإنّما محلّ النقاش: هل نحن مُلزَمون بمطلق الطاعة لأوامر النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ وهل نحن ملزمون بمطلق التصديق لأخباره صلى الله عليه وسلم؟ أم أننا لسنا ملزَمين بذلك؟ هذا الإلزام هو محلّ النّقاش، وهو ما أنفي وجودَ خلافٍ معتبر فيه؛ لأنه مخالفٌ للإجماع ولقطعيّات الكتاب والسنة.

وما الأقوال التي نقلها الدكتور العثماني إلا من جنس ما ذكرتُه في مقالي، فهي في إثبات اجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ومن الأقوال التي نقلها الدكتور ما تؤيد الإجماعَ الذي أتيقّنُه، ككلام الإمام الشافعي وكلام الخطيب اللذين سبقا.

يتبع

قرآن الفجر
07-27-2007, 12:47 AM
وكما فعل الدكتور في مسألة اجتهاد النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما عرضها وكأنها محلّ خلاف بيننا، عرضَ مسألة أخرى كذلك، وهي محلّ اتّفاق أيضاً (والحمد لله).

وهي مسألة: حوادث العين التي لا عموم لها، وهي لذلك ليست بلاغاً عامًّا للأمّة، كالفصل بين الخصوم في القضاء، وتدابير الحروب، والسياسة الشرعية في حالةٍ خاصّة. فقد ذكر الدكتور هذه الأمور، ونصوص العلماء على أنها لا يلزم أن تكون بوحي.

ولا أدري ألم يقرأ الدكتور العثماني قولي بالحرف الواحد: "وهذه الأحكام الخاصة التي لا عموم فيها (كحكمه صلى الله عليه وسلم على سبيل القضاء والإمامة والسياسة) هي التي ربما عبّر عنها العلماء بأمور الدنيا، التي لا يلزم أن تكون بوحي، بل التي قد يحكم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيها بحكم، ولا يُصوَّب، ويكون مخالفاً للواقع؛ لأن الخطأ في هذه الأمور لا يؤدّي إلى خطأ في التصوُّر للأمّة كلّها إلى قيام الساعة، ولا يفهمُ الناس منه أنه حكمٌ يتعدَّى إلى غير من حُكِم له أو عليه، ولا يَؤُول إلى خللٍ في بلاغ الدين".

إذن فأنا أقرّر أنّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قد يجتهد في هذه الأمور، بل إني لأقرر أيضاً أنه قد يخطئ في اجتهاده، بل أضيف إلى أنه قد لا يُصوَّبُ خطأه في هذه الحالة؛ لأنه في حُكمه على زيدٍ من الناس بأن عليه حقًّا لعَمرو، أو أن الرّماة يوم أحد يقفون على جبلهم، لن يفهم الناس من ذلك أن هذا هو حكم زيد من الناس مطلقا، ولا أنّ المعارك لا تصح إلا بأن يقف الرماة على جبل الرماة!! هذا لا قائل به من العقلاء، ولا بلغ الفَهْمُ البشري إلى هذا الحدّ من التدنيّ، لذلك لو أخطأ النبي –صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأمور ولو لم يصوَّب هذا الخطأ لا يكون في ذلك خطر على صحّة تبليغ الشريعة، ولا يؤدّي ذلك الخطأ –لو وقع- إلى تحريف معالم الدين؛ ولذلك لم يكن هناك ضرورة مطلقةٌ إلى تصويب مثله. وهذا بخلاف الخبر الجازم من النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، الذي يفهم المخاطَبون به أنه حقٌّ وصِدْق، وهو بخلاف ذلك، فيما لو أُقر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيه على الخطأ. فإنه يؤدّي إلى تحريف الحقيقة، وتشويه الدين..

لقد كنتُ قد ذكرتُ في هذا السياق حديثَ أمِّ سلمة –رضي الله عنها-، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون أَلْحَن بحجّته، من بعض، فأقضي له على نحوٍ ممّا أسمع منه. فمن قطعتُ له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار".

وذكرتُ أنه دليلٌ على أن النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قد يجتهد في حوادث الأعيان التي لا عموم لها، ويخطئ، ولا يصوّبُ الوحيُ خطأه.

فلماذا يُعيدُ الدكتور كلامي واستدلالي، وكأنه يخالفني في هذا المعنى، اللهم إلا إن كان الدكتور (وفقه الله) يريد أن يُساوي بين أمور الدنيا التي لا عموم لها (كهذه الحوادث العينيّة) والأمور العامّة والأخبار المطلقة، بحجّة أن الجميع من أمور الدنيا.

وعندها يكون قد ساوَى بين غير المتساويين، ولزمه أن يعطينا الفارق الواضح بين ما يُحتجُّ به من السنّة في أمور الدنيا وما لا يحتج به؛ إذ إنّ اطّراد هذا القول حينها سيكون هو ردَّ السنّة في أمور الدنيا كلّها، وأنها لا تُقبل إلا في العقائد والعبادات المحضة؛ كما سبق وبيّنتُه في مقالي السابق.

والدكتور (وفقه الله) كاد أن يعترف بأنه لا فارق واضحاً لديه لأمور الدنيا التي تلزم فيها طاعةُ النبي –صلى الله عليه وسلم- والتي لا تلزم فيها الطاعة، وأنه لم يصل لوضع ضابط صحيح لذلك.

فهو عندما أورد رأي شهاب الدين القرافي في التمييز، وأنه: ما كان لمصلحة الآخرة وما كان لمصلحة الدنيا، وأثنى على هذا التمييز، عاد وقال: "لكنها تحتاج إلى مزيد دراسة وتعميق". وهو إنما أعلن حاجته إلى ذلك؛ لأنه قد علم أن ما ذكره القرافي ليس ضابطاً للتمييز، فبهذا التعبير الذي نقله عنه يمكنني أن أُخرج نُصوصَ المعاملات، ولا يفيدني ذلك الوصفُ ما يمنع من هذه النظرة الكنسيّة (حسب تعبير الدكتور).

وأمّا قول الدكتور: "وهكذا يتبيّن أن المقصود من التصرفات النبويّة الدنيويّة ليس هو ممّا يبلّغه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الله من أخبار أو أحكام، فهذه هو فيها صادق أمين، معصوم عمّا يطالها من خُلْف أو خلل، ولو كانت متعلقة بأمور المعاملات بين الناس"، فليس فيه بيان ضابط التفريق بين أمور الدنيا التي يبلّغها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الله تعالى، وأمور الدنيا التي ليست بلاغاً عن الله تعالى. وما الذي جعل أمور المعاملات عن الله تعالى، دون أمور الطب مثلاً؟!

لقد كنتُ في مقالي السابق قد ذكرتُ ضابطًا لا يُحرج الذي ما زال يحتجّ بالسنة في غير العبادات والعقائد، كالمعاملات المالية وغيرها من أمور الدنيا؛ لأنه ضابطٌ حدَّدَ أمور الدنيا بحوادث الأعيان التي لا عموم لها.

أمّا من احتجّ بالسنة في أمور المعاملات وهي من مصالح الدنيا، وردّها في الطب مثلاً، فقد تناقض؛ وإلا فيلزمه أن يبيّن لي كيف عرف أن الأولى بلاغٌ عن الله تعالى دون الثانية!

ومن دلائل بطلان القول (أيّ قول) فسادُ لوازمه؛ ومن وسائل إثبات عدم صحّة رأي طَرْدُه لتتضح نتائجه الخطيرة، وهذا ما حرصتُ على بيانه في مقالي السابق، ولم يقف الدكتور عند ذلك، ولا مَرّ به في تعقيبه، ولا مرور الكرام على اللغو.

يتبع

قرآن الفجر
08-05-2007, 11:16 PM
وبهذا نكون قد انتهينا من أهمّ مسألتين في تعقيب الدكتور العثماني وفقه الله، وبقي التعليق على بعض ما أرى أنه يحسن التعليق عليه:

أولاً: ذكر الدكتور العثماني فيما ذكر مما يستدل به على أن من السنة ما ليس بوحي (ابتداءً): الأفعال التي يفعلها النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الجبّلة البشرية، ونقل ما يستدل به على أنها ليست وحيًا.

وهذا مما لا أخالف فيه، لكني أسأل الدكتور: ألا يستدلّ العلماء كلُّهم على إباحة تلك الأفعال التي كان يفعلها النبيّ –صلى الله عليه وسلم- على وجه البشرية؟ هل كان أحدٌ منهم يقول أو يعتقد: أن هذه الأفعال يُمكن أن تكون محرّمة مع كون النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كان يفعلها؟!! إذن فإقرار الله تعالى لتلك الأفعال الجبليّة من النبي –صلى الله عليه وسلم- يجعل أقل ما يُستفاد منها الإباحة، والإباحة تشريع.

كما أن الإقرار الإلهي لنبيّه –صلى الله عليه وسلم- وَجْهٌ من وجوه الوحي، كما قدّمناه. ولذلك نزلت تشريعاتٌ وقيود في بعض الأمور العاديّة البشرية: في الأكل والشرب واللباس.. وغيرها، ولا تردَّدَ أحدٌ من أهل العلم في الاحتجاج بها.

وبذلك يتّضح أن قولي بأنّ السنة كلّها وحي حالاً أو مآلاً، يتناول أيضًا الأفعال التي كان النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يفعلها على وجه الجبلّة والعادة؛ لأنّها مع الإقرار الإلهي تدل على الإباحة في أقل الأحوال.

وهنا أنبّه إلى وَهَمٍ قد ينقدح في بعض الأذهان، وهو أن القول بوجوب الطاعة المطلقة للنبيّ –صلى الله عليه وسلم-، لا يعني أن كل ما صدر من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يقتضي الوجوب، ولا يقول هذا أحد. وإنما المقصود وجوب الامتثال لما دلّت عليه السنة، سواء أكانت قوليّة أو فعليّة أو تقريريّة، فقد تدل على الوجوب أو التحريم، وقد تدل على الاستحباب أو الكراهة، وقد تدل على الإباحة.

فالواجب امتثال دلالة السنة مطلقاً، دون استثناء؛ إلا ما لا حاجة إلى استثنائه، لوضوحه، وهو ما كنت قد بيّنتُه آنفاً وفي مقالي السابق.

ثانياً: إذا كان الدكتور يحتج باجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا، وبالخطأ الذي قد يتعرّضُ له هذا الاجتهاد، على أن هذا النوع من السنة في أمور الدنيا لا تجب طاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه ولا تصديقه عليه؛ لأنه قد يكون خطأ. فيلزمه أن يقول ذلك تمامًا في أمور الدين، بل في أجل أمور الدين، وهي الأمور الغيبيّة من العقائد!!لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد اجتهد فيها، وقد أخطأ أيضًا!!!

فقد ذكرتُ في مقالي السابق حديث عائشة –رضي الله عنها- في عذاب القبر، وهو حديث صحيح في صحيح مسلم، وبيّنتُ هذا الإلزام. فلا أجاب الدكتور عن هذا الإلزام، ولا أشار إليه.

والجواب عن خطأ النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة العقديه، سيكون هو الجواب نفسه عن أمور الدنيا. وهو أن التصويب الإلهي قد حفظ السنة الموحَى بها (إبتداءً أو مآلا) من التهاتر والتعارض، وبيّن هذا التصويبُ أن القول الأول كان خطأً ليس من السنة التي هي وحيٌ: ابتداءً، أو مآلاً بالإقرار، بل هو اجتهادٌ محضٌ من النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يَقره الله عليه، فخرج عن سنةِ الوحي تمامًا.

ثالثاً: احتجّ الدكتور على رأيه بحديث تأبير النخل، مع أني كنتُ قد فصّلتُ الردّ على الاحتجاج به، وبيّنت الصواب فيه.

واحتجّ أيضًا بحديث أبي قتادة الأنصاري، عندما كانوا في سفر مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فناموا عن صلاة الفجر، حتى طلعت الشمس، فقال بعضهم لبعض: فرّطنا في صلاتنا! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ما تقولون؟! إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ"، قالوا: يا رسول الله، فرّطنا في صلاتنا!، فقال: "لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة...." أخرجه أحمد رقم (2546).

وهذا الحديث جاء في الاجتهاد من الصحابة في أمر الدين بمحضر النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، وهذا كالاجتهاد في مورد النصّ؛ ولذلك قال النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لهم هذا القول.

ومعنى الحديث حينها: أمور الدنيا التي لا نصّ فيها فلكم الاجتهاد فيها، أما ما كان فيه نصّ فلا اجتهاد في مورد النصّ.

ولا علاقة لهذا الحديث بتقسيم السنة إلى: سنة في أمور الدنيا، وسنة في أمور الدين؛ لأن من أمور الدنيا ما وردت فيه سنةُ وحي، كما يوافق الدكتور العثماني عليه في المعاملات، وعندها ستكون هذه الأمور الدنيوية التي وردت فيها السنة (بورودها فيه) من أمور الدين؛ لأنها أصبحت تشريعًا وحكمًا إلهيًّا. فالقسمة لا يصح أن تكون بناءً على الدنيا والدين، بمعنى فصل الدين عن الحياة، هذا التقسيم باطلٌ من أساسه، كما ذهب إليه الدكتور نفسه.

وإنما جاء الحديث ليبيّن للصحابة: متى يحق لهم الاجتهاد بمحضر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ومتى لا يحق لهم ذلك. فما كان فيه نصٌ فهو دينٌ بورود النصّ فيه، وما يتعلق بالحلال والحرام فهو دينٌ أيضاً، كالنوم عن الصلاة وترتّب الإثم عليه وعدم ترتبه عليه؛ فهذا لا حاجة للاجتهاد فيه مع وجود المبلِّغ عن الله تعالى وحضوره بين أيديهم، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

وما لم يكن فيه نصٌّ من أمور الدنيا والمعاش، فهذا ما يجوز للصحابة أن يجتهدوا فيه، ولو بمحضره –صلى الله عليه وسلم-.

كما احتجّ الدكتور بحديث ابن عباس –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يطوف في النخل بالمدينة، فجعل الناس يقولون: فيها صاع، فيها وَسَق، يَحْزِرون، فقال النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "فيها كذا وكذا"، فقالوا: صدق الله ورسوله.
فقال –صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس، إنما أنا بشر: فما حدثتكم به من عند الله، فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي، فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب". أخرجه البزار في مسنده رقم (4726، 5033)، وأبو الشيخ في طبقات الإصبهانيين (1/425-426 رقم 76)، وأبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان (1/304-305).
وهو من طريق حسين بن حفص بن الفضل الأصبهاني، عن خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.

وقال البزار عقبه: "لا نعلمه رواه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد". قلت: وهذا الانفراد من قبل هؤلاء الرواة ممّا يضعف الاعتماد عليه، وخاصة خطاب بن جعفر، فإنه وإن رضينا بقبوله، فهو ليس محلّ الاعتماد على انفراده. وأبوه في روايته عن سعيد بن جبير ضعف، كما قال ذلك عثمان بن سعيد الدارمي في ردّه على الجهميّة (45رقم 15)، ونقله عنه الحافظ في التهذيب (2/108).

وليس هذا الضعف هو ما يهمّني، فإن الحديث لو صَحّ فإنه بمعنى حديث تأبير النخل، والجواب عنه هو الجواب الذي كنتُ قد ذكرتُه عنه. ويلزم من فَهْمه الفهم الذي أردُّه لوازمُ فاسدة، كما سبق، تدل على عدم صحّة ذلك الفهم.

فقصّة الحديث تبيّن أن عدداً من الصحابة كانوا يَحْزِرون (أي يخمّنون) مقدار ما يجب من الزكاة من نَخْل كان مثمراً حينها، وشاركهم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- الكلام بالحَدْس والظنّ، لكنهَّم فهموا أنه خبر، فقطعوا حَدْسَهم مُحيلين ذلك إلى ما حسبوه يقينًا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "صدق الله ورسوله"، فعاجل النبيّ –صلى الله عليه وسلم- تصحيح ما فهموه، وأنه تكلَّم بحدسه دون وحي، وَحَدسُه وظنُّه لا يوجب التسليم المطلق في أمور الدنيا التي ربما كان في الناس من هو أكبر خبرةً منه بها.

ولا ندري هل كان لفظ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- دالاًّ على الظنّ حين تكلَّم؟ كما وقع ذلك في حديث تأبير النخل، فنقله بعض الرواة دون بعض بالتصريح بلفظ الظن، كما بيّنتُه في مقالي السابق.

أم أنه –صلى الله عليه وسلم- اكتفى بقرينة الحال، وهي أن الحديث كان دائراً بالحدس والظن بينهم، فلمّا ظنّوه يقينًا لا يكون إلا بالوحي، بادر –صلى الله عليه وسلم- إلى تصحيح هذا الخطأ منهم: حينما لم يراعوا قرينة الحال الدالة على أن الكلام بظن، وحينما فهموا أن هذا الخبر منه –صلى الله عليه وسلم- خبرٌ عن الله تعالى لا يجوز عليه إلا التسليم الكامل.

وكما قلنا في حديث تأبير النخل: فَهْمُ جيل الصحابة لكلام النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى أنه وَحْيٌ، وفي قصص متعدّدة، يدل أن هذا هو الحق الذي كان مستقرًّا عندهم، وأنهم لا يخرجون عن هذا الأصل لمجرّد أنه –صلى الله عليه وسلم- تكلّم في أمور الدنيا، وإنما يخرجون عنه إذا تيقنوا من النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه ليس وحيًا: إما بالنصّ الواضح كما هنا، أو بابتدائه أنه –صلى الله عليه وسلم- يظن ولا يوقن، كما كنتُ قد بيّنتُه في مقالي السابق.

ولا يتم تصوّر الجواب التصور الكامل عن هذا الحديث، إلا بإدراك الفهم الآخر، وما يستلزمه من لوازم فاسدة، وما يقدح فيه من ثغرات لم يُجب عنها الدكتور العثاني (وفقه الله).وإن كان فيما سبق كفاية، من الكلام عن ضعفه، إلى آخر الجواب.

رابعاً: عمد الدكتور العثماني إلى آية واحدة مما ذكرت فردّ على استدلالي بها، وهي آية النجم "وما ينطق عن الهوى" وعمد إلى حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص، فرّدّه أيضًا.

والواقع أن دليلي على ما ذهبت إليه لم يكن آيةً واحدةً أو آيتين، ولا حديثاً واحداً أو حديثين، بل العديد من النصوص التي ذكرتُ بعضها وأحلتُ إلى بعضها الآخر وأشرتُ إلى غيرها. فليس في الردّ على ذينك الدليلين ما يكفي لتمام الردّ، ولا يتوهَّمُ أحدٌ أن هذا كفيل بنقض ما احتججتُ به.

هذا.. مع أني كنتُ قد أشرتُ إلى الجواب عن الاعتراض الذي ذكره الدكتور العثماني على استدلالي بآية سورة النجم، حيث أحلتُ عند الكلام عليها إلى كتاب (الإجماع في التفسير) للخضيري، وهي إحالةٌ غريبةٌ لعنوانٍ يستدعي البحث ويسترعي الانتباه إليه.

حيث إن صاحب هذا الكتاب قد ناقش الفهم الذي ذهب إليه الدكتور العثماني، وردَّ عليه، وردّ على دعوى الإجماع الذي نقله ابن عطيّة في تفسيرها، ولذلك أحلت إليه، عسى أن يستوفي الردّ عليه من أراد أن يخالفه.

وأمّا حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص –رضي الله عنهما- فقد أبنت عن معناه بمالا يتعارض مع حديث تأبير النخل، وبما يتأيّد بقطعيّات الكتاب والسنة، وبالإجماع.

وذلك من خلال بيان المقصود بالحق الذي ورد في قوله –صلى الله عليه وسلم-: "ما خرج منه إلا حق"، وأنه الوحي ابتداءً أو الاجتهاد المؤيّد بالإقرار الإلهي، فلا يبقى بعد ذلك مجال لردّه بحجّة معارضته للمتواتر؛ لأنه موافق غير معارض، وهو حديث صحيح السند والمتن، صحيح المعنى.

وأخيراً: لا يخفى على الدكتور المنهج العلمي في تناول المسائل العلميّة، فهو خريج هذا المنهج وأستاذه الآن. ومن أصول المنهج العلمي عند تحرير مسائله، أن يتناول الباحث القول الذي يعارضه فيردّ على أدلّته جمعيها؛ لأن بقاء دليل واحد كافٍ لإثبات دعوى مخالفه، ثم على الباحث أن يذكر رأيه وأدلّته (غير المنقوضة) عليه.

والدكتور (وفقه الله) لم يفعل ذلك، كما هو واضح من مقاله. مع أني كنت لخّصتُ أهم أدلتي في آخر المقال، وحاولت إبرازَها بوضوح. ومع أني رددت على حديث تأبير النخل، فعاد واحتجّ به دون أن يردّ على المعنى الذي ذكرته. ومع أني نقلتُ كلاماً لبعض العلماء يدل على رأيي، فنقل عنهم هو ما يعدّه دالاً على رأيه، دون أن يحلّ إشكال هذا التناقض...

فلكي نصل إلى الحق الذي هو بُغْيتنا جميعاً، أرجو أن يكون نقاشُنا علميًّا، فالنقاش العلمي، وإن لم يُغَيّر آراء المتجادلين، لكنه مثمر، ويعين المحايدين على استجلاء الحقيقة والوصول إليها.

والدكتور العثماني أدرى بذلك كله، وأعتذر إليه عن أي لفظ بدر مني (دون قصد) قد يجد عليّ فيه. فإني أُحيل إلى علمٍ وعقلٍ، وأكله إلى حبّه لخدمة دينه.


والله يوفقنا وإيّاه، ويجعل أعمالنا خالصةً في رضاه.
والله أعلم.
والحمد لله ذي الجلال، والصلاة والسلام على رسول الله وأزواجه والآل.

قرآن الفجر
08-06-2007, 09:02 PM
المصدر ..

السُّنّةُ وَحْيٌ مِن رَّبِّ العَالَمِين فِيْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا وَالدِّيْنِ .. (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7843)

هل السنة كلها وحي؟ .. (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=7994#109)

السنة وحي ... تعقيب على تعقيب .. (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=8331)

memainzin
06-24-2010, 12:11 PM
جزاكم الله الخير كله فى الدنيا والاخرة

ليلى الأخيلية
07-03-2010, 01:51 AM
لاطَوَيت لَك صَحِيْفَة وَلَا أَسْكَت الْلَّه لَك صَوْتَا