المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القضاء والقدر من اسرار الخالق



عماد
01-16-2005, 03:26 PM
القضاء والقدر
الولد : أبي ، يخوض الناس كثيراً في بحث القضاء والقدر ، وارى لك رأيا موجزاً واضحاً في المسائل المعقدة التي مرت فأرجو ان تسمعني جواباً شافياً في هذا الموضوع الذي طالما اختلف فيه الناس .
الأب : أي بني إن كنت تذكر ان لي رأيا وموهبة على حل الأمور التي تستعصي على كثير من العلماء فأنت بهذا تذكرني بقصوري مع الله وتفريطي بواجبي تجاه الله ، فغداً يوم العرض الأكبر لا يوزن للإنسان مواهبه وانما يوزن له عمله ، وكلما كانت مواهبه اعظم كان الواجب الملقى على عاتقه أكبر ومسئوليته أمام الله أعظم، الا ترى يابني ان من كان يملك أربعين ديناراً ذهبا يجب عليه ان يدفع زكاتها ديناراً واحداً ، ومن كان يملك أربعين الف دينار يجب عليه ان يدفع زكاتها الف دينار ولا يقبل الله منه ديناراً واحداً كالأول ؟! سفيه جداً من يفتخر بمواهبه دون ان يؤدي شكرها لقد أحزنتني يابني اذ ذكرتني بنعم لم أؤد شكرها وزكاتها فجزاك الله خيراً لعلي أتدارك بعض ما فاتني بقية هذا العمر .
اي بني : هذا الموضوع خاض فيه اكثر من فئة من الناس واختلفوا فيه فمنهم من رأى ان القضاء والقدر شيء واحد وان الإنسان أمام القدر كالريشة في الفضاء لا يملك ان يفعل شيئاً أو أن يترك شيئاً . وهؤلاء قد اخطأوا لانهم عطلوا التكليف، اذا كان الانسان لا يملك قدرة ولا إرادة فكيف يكلفه الله سبحانه بقوله : ( أقيموا الصلاة ولا تقربوا الفواحش ) والله سبحانه حكيم والحكيم لا يأمر عبثاً ولا يفعل عبثاً .
ومن الناس من قال ان القضاء والقدر يقع في مالا يملك الإنسان من أمره كطوله ولونه وما يقع منه على سبيل الخطأ او السهو او النسيان . أما ما يفعله الانسان بمجرد اختياره فلا دخل للقدر فيه فالإنسان اذا شاء صلى واذا شاء سرق وهؤلاء ينكرون القدر ويرفضون الايات والأحاديث الدالة عليه كقول الله تعالى : ( وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ) فالآية صريحة بأن المشيئة التي هي مصدر الفعل لا تقع في قلب الانسان اصلاً إلا اذا أراد الله ان تحصل ويضطر كل فريق منهم الى تأويل الآيات القرآنية بما لا تحتمله أساليب اللغة العربية – لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وفريق آخر وهم اهل السنة والجماعة يعتقدون ان الخلاّق للأجرام والأعراض يعني الخالق لنا ولأعمالنا هو الله سبحانه وتعالى ، ولكن للإنسان جزء اختياري يحاسب عليه فالله تعالى يقدّر على الإنسان العمل ويخلقه على يديه لكن عندما يقع الجزء الاختياري لذلك الإنسان يخلق الله ذلك العمل، وهذا هو اقرب الأقوال الى الصواب لكن لو سألناهم من خلق ذلك الجزء الاختياري في قلب الانسان بم يجيبون ؟ اي بني : ان الجمع بين القدر والتكليف شيء فوق العقل البشري ، كيف قدّر الله عليّ ان اعمل شيئاً ونهاني عنه ، ولا راحة لنا الا بامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( وإذا ذكر القدر فأمسكوا ) ولو كان بمقدور العقل البشري أن يتسع لفهم هذا الموضوع لما قال الرسول عليه السلام ( فامسكوا ) . لذلك نحن نؤمن بالقدر لان الله سبحانه اخبرنا به ، نؤمن به كما ورد لكن لا نناقشه لانه ليس من صنعنا ، وهل يستطيع الإنسان ان يصنع قدره بيده ، ونلزم أنفسنا بالتكليف ومراقبة أعمالنا لان القدر حق وهو من صنع الله فنكله الى الله ، والتكليف نحن مطالبون به لذلك نحصر همنا به ، سيقولون لك ان الحديث ضعيف قل لهم لأنه يكبت جماحكم عن الجدل ، لذلك ضعّفتموه .
أي بني الجمع بين القدر والتكليف أمر يقف العقل أمامه ولا عيب في ذلك لان عقل الإنسان يقف أمام أمور كثيرة . اضرب لك مثلاً : لو قسمت هذه الورقة إلى قسمين ألقيت قسماً وقسمت القسم الذي بيدك إلى قسمين ثم القيت قسما وقسمت القسم الباقي بيدك الى قسمين وهكذا ... ستعجز يدك عن الجزء الصغير الباقي بيدك فاقسمه عقلياً اي فرضياً ... إلى أي شيء ستنتهي ؟ إلى جزء موجود يأخذ حيزاً من الفراغ غير قابل للقسمة هذا مالا يقبله العقل اذاً طالما هو يأخذ حيزاً من الفراغ يجب ان يكون قابلاً للقسمة رغم ما قاله الفلاسفة بأن الجزء الأصغر يسمى النقطة موجود بلا طول ولا عرض ولا وزن فهو لا يقسم . هذا هراء طالما هو موجود يجب ان ينقسم اذاً تنتهي القسمة الى مالا نهاية وهذا مستحيل ايضاً وهو يقتضي ان الأجرام في الكون غير محدودة فما لا تنتهي أجزاؤه يجب ألا تنتهي أضعافه فنقطة الحبر أمامي محدودة والكبريتة محدودة بستة جهات والغرفة التي اجلس فيها محدودة والأرض محدودة ، اذاً فجميع الأجرام محدودة وطالما هي محدودة الأضعاف فهي محدودة الاجزاء ، اذاً نصل في تقسيمنا الى لا شيء ،شيء لا يقبله العقل . اذاً فما هو الحل ؟ الحل ان العقل جزء من الكون والجزء لا يحيط بالكل فلا عيب على العقل اذا توقف هنا.
أي بني لم يصنع الانسان مدفأة تسع بترول العالم وانما تسع ما يقضي الحاجة وهذا مقتضى الحكمة . وكذلك لم يخلق الله سبحانه للإنسان عقلاً يحيط بجميع حكمة الله ولا بجميع علم الله تعالى وانما خلق للأنسان عقلاً يعرف به ربه ويصلح به شأنه .اذا العقل محدود لان مدة التفكير محدودة بالحياة ، فعلم الله غير محدود وحكمته غير محدودة بينما عقلنا محدود .
الملائكة من قبل تعجبوا من سعة علم الله وحكمته كيف يستخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء بدلاً من خلقٍ يسبحون الله ويحمدونه ولا يعصون الله ما أمرهم ! لذلك سألوا الله جلت قدرته سؤالاً يتضمن التسبيح والتعظيم لله تعالى والثناء على الله ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) يستزيدون الله علماً لانهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، فأجابهم الله تعالى جواباً عملياً عندما قال : ( يا آدم انبئهم بأسمائهم ) , نعود الآن لنقول : ليس عيباً على عقل الانسان المحدود ألا يحيط بعلم الله وليس عيباً على الانسان ان يعجز عن تفسير الجمع بين القدر والتكليف فلعل الحكمة من اخبارنا بالقدر مع توجيه التكليف الينا هو الكبح لجماح غرورنا وبياناً لمحدودية وعجز عقولنا وبياناً لسعة علم الله فنعترف لله بالكمال ونعترف على انفسنا بالنقص والعجز فنتحقق بالعبودية ونزداد بالله معرفة ولله تعظيماً . والله تعالى اعلم .
............ الشيخ محمد علي سلمان القضاة رحمه الله