المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دفاع عن البخاري أمام أوهام فؤاد سزكين ....



الروض الممنوع
07-05-2007, 07:49 PM
دفاع عن صحيح البخاري
أمام أوهام فؤاد سزكين=====================================

ليس من الأمر الثابت الدائم أن يكون الهجوم على السنة من اناس مأجورين اوحاقدين عليها ، فأحيانا يشكل الجهل بجزئيات تاريخها ، أو دقيق عناصر علومها الفذة المتشعبة ركنا ركينا من أسباب التخليط في دراستها ، وتتبع قواعدها في الرواية والدراية ، ودراسة مشاهير رواتها وعلمائها الذين صاغوا علومها ، وتحملوا مهمة تبليغها للدنيا على مر العصور 0
فقد قام بعض الناس قديما وحديثا باقتحام الميدان الصعب ، وهو الهجوم علي السنة النبوية ، وهم لم يلتفتوا إلي أن حفظ السنة فرع علي الذكر ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) {1} ، وأن نصرها هو فرع علي نصر النبي صلي الله عليه وسلم( فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ){2} وأن المستهزئين صنف واحد شرقوا أم غربوا ، تقادموا أم تحادثوا ، وهم جميعا مدحورون ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ، إنا كفيناك المستهزئين ) { 3 }ومن أجل أعمدة السنة ، وأرسي جبالها ، ذلك الكتاب الأغر الذي صنفه زين المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، والذي سماه ( الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنته وأيامه ) {4} 0
وكان البخاري طبيب الحديث حقا وصدقا ؛ فقد شهد بذلك الفضل معاصره وقرينه مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح ، إذ أهوى علي قدمه ، وقال : " دعني أقبل قدمك يا أستاذ الأستاذين ويا طبيب الحديث في علله ولعل أحسن ما وصف به الصحيح قول القائل :
صحيح البخاري ـ لو أنصفوا لما خُطَ إلا بماء الذهب
قال العلامة العقيلي معارضاً :
صحيح البخاري لو أنصفوا لما خُطَ إلا بماء البصر
وما ذاك إلا لضبط الأصول وعدل الرواة بنقل الخبر
وقد فاق فضلا علي غـيره فأضحي إماما لكتب الأثر
والشهادات التي جمعها الإمام الحافظ ابن حجر في مقدمة شرحه للصحيح دليل علي رسوخ الكتاب وصاحبه والتي لا تذكرمنها إلا هذه الشهادة للبخاري من شيخه الجليل علي بن عبد الله المدني إذ يقول : " هو ما رأى مثل نفسه " {6}
سزكين والدقة العلمية :
فالإمام البخاري ـ إذن ـ أضحي صخرة تهزأ بالناطحين ، ومنهجه في كتابة الصحيح ، يعد مفخرة علماء الحديث قاطبة ، بل علماء الدنيا بأسرها ، ولذلك نعجب من سلسلة الاتهامات التي ساقها الأستاذ سزكين في كتابيه :
1 ـ الأول الذي صنفه ـ بالغة التركية ـ عن البخاري 0
2 ـ الثاني " تاريخ التراث العربي " الذي صنفه بالتركية ، وترجم إلي العربية في مصر سنة 1971م 0 {7} ومصدر عجبنا أن الأستاذ سزكين مشهور بدقته وتحريه ، ومثل هذا النوع يستغرب منه إلقاء القول علي عواهنه ـ الأمر الذي يجعلنا نتساءل بأي قياس علمي ادعى سزكين دعاواه الجديدة ، فقد قرر فؤاد سزكين في كتابه عن البخاري :
1 ـ أن كتابه ( الصحيح ) " ليس إلا جمعا ملخصا للمؤلفات السابقة "
2 ـ وأنه ليس رائدا في ميدان التصنيف علي أبواب الفقه 0
3 ـ وأنه استخدم الكتب السابقة دون انتقاء ، ودون توفيق 0
4 ـ وأنه لم يكن موفقا أيضا في جمع المواد اللغوية والتاريخية والفقهية 0
5 ـ تم ختم ذلك بأن البخاري في كتابه " الجامع " قد " برهن علي أنه ليس عالم الحديث الذي طور الإسناد ، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد " {8} 0
ومثل هذه الاتهامات المتلاحقة تجعلنا لا نتردد في اتهامه بالتسرع الذي يستغرب من أمثاله في سياقه الأحكام غير المفسرة ولا المبرهن عليها ، بل التي تخالف كل المعطيات التاريخية والمنهجية ، وإذا كانت هذه الاتهامات غير المدققة جديرة بأن يفرد لها دراسة ـ من خلال هذا الرد علي اتهامات الأستاذ سزكين لكثير من المحدثين في مقدمته التي كتبها عن علوم الحديث (من ص 225 إلي ص 249) وفي غيرها من صفحات كتابه الضخم " تاريخ التراث العربي- الذي طبع في مصر ثم أكملت طباعته في المملكة العربية السعودية ، وأصبح مفزع الباحثين في تاريخ العلوم أو معينا لهم في تبين ملامحها0
لهذه ( الحيثيات ) جميعا ينبغي تناول مجهود البخاري في كتابه الجامع الصحيح بالذات من هذه الزوايا التي طرحها سزكين - رحمه الله وعفا عنا وعنه - مع معرفتنا بقدر الأستاذ في الدفاع عن التراث اللإسلتمي والتأريخ له ، ولكن تكون الزلة أحيانا أمرا لا مفر من إظهاره لما وراءها من مغبات لا تحمد 0
فقد اتفقت كلمة العلماء علي أن الإمام البخاري هو أول من صنف في الصحيح ، خاصة وأن كتابه هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالي ، وقد قال الإمام البخاري عن نفسه " أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، ومائتي ألف حديث غير صحيح " {9} غير أن أحاديث " الجامع الصحيح هي طائفة منتقاة من محصول البخاري الحديثي ، فهي لا تتجاوز السبعة آلاف حديث بالمكرر.{10}
الدقة في الانتقاء :
والذى يطلع علي هذا المنهج الذي اتبعه البخاري في انتقاء أصح الأحاديث ليجعلها في كتابه الصحيح لا يستطيع أن يكتم العجب ، فقد أتاحت له خبرته العميقة بطبقات الرجال وتبين الملامح الدقيقة في عملية الضبط والتثبت ، وتمييز الفروق الدقيقة بين تلاميذ الشيخ الواحد حين تجمعهم صفة الصدق والأمانة ـ أقول : أتاح له ذلك كله منهجا فذا في اختيار أصح الصحيح ؛ فهو لم يكتف بشرط الصحة الذي اكتفي به غيره ، وإنما اختار من أحاديث كل شيء أحسنها ـ علي أساس التمييز بين الثقات الذين رووا عنه ، ويوضح الحافظ أبو بكر الحازمي ذلك بقوله :
" فلنوضح ذلك بمثال ؛ وهو أن نعلم أن أصحاب الزهري {11} مثلا علي خمس طبقات ، ولكل طبقة منها مزية علي التي تليها ، فمن كان في الطبقة الأولي فهو الغاية في الصحة ، وهو مقصد البخاري 0 والطبقة الثانية شاركت الأولي في التثبت ، إلا أن الأولي جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري ، حتى كان منهم من يزامله في السفر ، ويلازمه في الحضر ، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه ، فكانوا في الإتقان دون الأولي وهم شرط مسلم 000 " {12}
هل يصح بعد هذا أن يقال أن البخاري استخدم الكتب السابقة عليه دون انتقاء ودون توثيق ؟ وأن كتابه ليس إلا جمعا ملخصا للكتابات التي سبقته ؟ وأن هذا يدل علي أن الإسناد قد بدأ يفقد قيمته ، ومكانته عند البخاري ؟!
أفلا يصح أن يستنتج من هذا المنهج حقا أن الناحية العلمية الراقية الموفقة لاستخدام الإسناد كانت علي يد البخاري رحمه الله ؟
( التعليق ) وانهيار الإسناد :
ويصرح الأستاذ سزكين - رحمه الله ـ بغير تحفظ ـ مشايعا جولد زيهر وغيره من المستشرقين ـ أن الأسانيد ناقصة في حوالي ربع المادة ، وقد أطلق علي هذا الأمر ـ ابتداء من القرن الرابع ـ اسم ( التعليق ) {13 } ، وبهذا يفقد كتاب البخاري كثيرا من سمته مصنفا جامعا شاملا ، أما البخاري فقد برهن علي أنه ليس عالم الحديث ـ الذي طور الإسناد إلي الكمال 000 بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد 0 {14 }
وقد تطرق مثل هذا الوهم السابق إلي بعض الرواة ، حيث سأل الإمام البخاري عن خبر حديث ، فقال له البخاري : " يا أبا فلان : تراني أدلس ؟ وأنا تركت عشرة آلاف حديث لرجل لي فيه نظر ، وتركت مثله أو أكثر منه لغيره لي فيه نظر ؟ {15 }
قال الحافظ ابن حجر :
" يعني إذا كان يسمح بترك هذا القدر العظيم ، كيف نشره لقدر يسير ؟ فحاشاه من التدليس المذموم " {16}
مع أن الذي يقرأ ما قاله الحافظ في كتابه ( تغليق التعليق ) أو في ( هدى الساري ) يدرك أن موضوع ( التعليق ) في صحيح البخاري هو وسام آخر علي صدر الإمام رحمه الله ، إذ أنه يكشف ـ لمن اجتهد في دراسته ـ عن خبرة واسعة وفقه ثاقب 0
ولقد أدرك هذه الحقيقة المهمة رجال الحديث منذ القرن الرابع ـ الذي يجعله سزكين تاريخا لمصطلح ( التعليق ) ، وتأصلت ضوابط ذلك عند ابن حجر العسقلاني ، أحسن سراج الصحيح فيما نعلم ، وإنما نلخص أهم الدواعي التي جعلت الإمام البخاري يذكر الحديث معلقا فيما يلي :
أولا : الأحاديث الموقوفة علي الصحابة ومن بعدهم ـ وإن صحت ؛ لأن ذلك ليس من شرط الصحيح المند 0
ثانيا : الحديث الصحيح الذي في إسناده بعض من لم يرق إلي شرطه في الكتاب ـ وإن كان ثقة عنده ، وحديثه علي شرط غيره من جهابذة النقد ، وذلك مثل قوله في كتاب الطهارة : " وقالت عائشة : كتان النبي صلي الله عليه وسلم يذكر الله علي كل أحيانه " 0 وهو حديث صحيح علي شرط مسلم ، وقد ذكره في صحيحه ، وشاركه في روايته مسندا غير معلق الإمام أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم 0 {17}
ونظن أن الذي جعل البخاري يعلقه ـ مع صحة إسناده ـ هو تفرد ( زكريا ابن أبي زائدة) به ، فكل هؤلاء الذين ذكرنا رووه من طريقه فقط ، وقد نبه الترمذي إلي هذا التفرد حيث قال : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة " {18 } وهو يعني من حديثه عن أبيه ، فتعليق البخاري له تنبيه منه علي أن هذا الحديث ـ وإن صح ـ ليس من شرطه الذي اشترطه في كتابه 0
ثالثا : الحديث الصحيح الذي ساقه في موضوع موصولا بإسناده التام ، ثم احتاج إلي ذكره في موضع آخر لفائدة فقهية ، وليس له عنده أسانيد أخرى غير السابق ، فحينئذ يسوقه معلقا إشعارا بأن هذا الحديث ليس له إلا هذا الإسناد 0
ولهذ التعليق فوائد حديثيه متعلقة بالإسناد ، لو اطلع عليها فؤاد سزكين ـ والله ـ ما شرع فيما صنع ، ولولا أن موضوع التعليق ليس هو موضوع المقالة أصلا لاستطردنا فيه فليراجع علي سبيل المثال مقدمة كتاب ( التغليق ) لإبن حجر ( 1/ 283: 308 ) ولقد كان بودنا أن يتروى المحقق الذي خدم التراث العربي خدمات لا تنكر ـ في أحكامه قبل إنفاذها ، خصوصا إذا كانت هذه الأحكام تتعلق بشخصية وكتاب أعطاهما الفكر الإسلامي قبلنا كل تقدير
تنبيه خطير :
إن الكتابة في السنة تاريخا أو اصطلاحا او مدونات هي مسئولية دينية قبل ان تكون مهمة عللمية لها أدواتها التي لا يجوز الجرأة على الإقدام على دراستها أو الجرأة في استخلاص نتائجها قبل التحقق من تحصيلها 0 ومن ثم اضحى من أوليات المور الخطيرة في هذا الصدد ان ينتبه الباحثون في هذا الحقل الكريم إلى التحلي بالصدق والتسلح بالعلم الدقيق والفهم الواعي قبل الخوض في غمارها - بخاصة الموسوعيين الذين يكتفون م نكل علم بقشوره ، فالأمر بالنسبة لهم اشق لأن علم السنة ليش كأي علم ، وإنما هو علم البناء الفقهي والأخلاقي والتربوي لأمة الإسلام 0
والله من وراء القصد ،،،



الحواشي
{1} سورة الحجر / 9 0
{2} سورة الطور / 48 0
{3} سورة الحجر / 94، 95 0
{4} هدى الساري 0 ابن حجر ط / بولاق : ص 6 0
{5} إتحاف القاري بمعرفة شروح البخاري 0 محمد عصام عرار ط / اليمامة ص 13 .
{6} تهذيب التهذيب : ابن حجر ط / صادر ـ بيروت 9/50 .
{7} نشرته دار الكتاب العربي (جزءين فقط منه ) بترجمة د 0 فهمي أبو الفضل ، القاهرة سنة 1971 م .
{8} سزكين ـ 1/307 0
{9} التقييد والإيضاح 0 العراقي : ص 27 {10} المرجع السابق ص 26 وانظر : فتح المغيث للسخاوى ص 18 { 11} الزهرى : هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهرى ، وينسب أحيانا إلي جده شهاب : وهو الفقيه العالم الحافظ الثقة الحجة ـ أحد الأئمة الأعلام ت 123 هـ { 12} شروط الأئمة الخمسة ـ للحازمي ص 43 ، 46
{13} التعليق : هو اختصار الإسناد بحذف بعض شيوخ المصنف ، وربما وصل الحذف إلي الصحابي 0
{14} سزكين : 1/307 {15} تاريخ بغداد : الخطيب : 2/25 0
{16} تغليق التعليق 0 ابن حجر 2/10 0 {17} صحيح مسلم : كتاب الحيض 1/282 ،
المسند : 6/70 ، 153 0
سنن أبي داود : كتاب الطهارة : 1/5 ، الترمذى : كتاب الدعوات : 5/ 4630
{18} سنن الترمذى : 5/ 463 0