المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل الإسلام فكر بدوىّ قَبَلىّ كما تردّد الببغاوات ؟



الجندى
08-14-2007, 01:59 PM
هل الإسلام فكر بدوىّ قَبَلىّ كما تردّد الببغاوات ؟
د. إبراهيم عوض

نسمع هذه الأيام من بين المنتسبين إلى الإسلام من يعملون على التنقص من هذا الدين العظيم من خلال اتهامه بأنه فكر قبلى بدوى متخلف ، على أساس أنه ظهر فى بلاد العرب ذات المجتمعات التى تغلب عليها القبلية والبداوة . وبعض الذين يسمعون هذا الكلام قد يصدقونه، فليس كل الناس عندهم الوقت للتحرى والتقصى ولا النظرة الناقدة التى تمحص ما تسمعه، وبخاصة إذا كان ظاهر الأمر يمكن أن يوحى للمتعجلين بصحة ما يقال ، وعلى وجه أخص إذا جاء هذا الزعم فى مثل ظروفنا الحالية التى لا تخفى على أحد والتى وصل فيها حال المسلمين إلى درك غير مسبوق لا على المستوى العسكرى والسياسى فقط ، بل على المستوى النفسى والفكرى أيضا ، إذ لم يظهر فيهم مِنْ قَبْلُ مِثْلُ هذا العدد الكبير الذى يتبع كل ناعق من مبغضى الإسلام دون فهم أو وعى بما يدبَّر خلف الستار . إنها عملية انتحار حضارى يجمع بين الغباء والإجرام تقوم بها فئة مارقة تريد أن تجرّ معها بقية الأمة لحساب الأعداء الذين يعملون منذ قرون على تدميرنا وتركيعنا وقطعوا فى ذلك أشواطا ، وما زالوا مستمرين فى عملية التدمير والتركيع دون كلل أوملل ودون أن يراعوا عهدا أو ذمة.
وبادئ ذى بدء نقول إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن بدويا بأى حال من الأحوال ، إذ كان من أهل مكة ، فهو إذن حضرى لا بدوى ، وإن كان هذا لا يعنى التنقص من المجتمعات البدوية بأى معنى ، فهى طراز اجتماعى مَثَله مَثَل طراز المجتمعات الريفية وطراز مجتمعات المدينة وطراز حياة الغابة وطراز حياة الإسكيمو ... إلخ . ولا يستطيع عاقل أن ينكر التنوع البيئى والاجتماعى الذى تعرفه الكرة الأرضية ، فهو سنة كونية لا يمكن تغييرها ، كما أنه مظهر من مظاهر الثراء الحضارى . ولكم أمدت الباديةُ التاريخَ الإنسانى بالعظيم من الأفكار والرجال، وكان لها دور لا ينكَر فى كثير من عمليات التطور الحضارى . ومن الغباء أن ننظر شزرا إلى المجتمعات البدوية فى كل الظروف والأحوال .هذه نقطة مبدئية أحببت أن أجلّيها قبل أن أدخل فى صميم الموضوع .
والآن نتساءل : إذا كان الإسلام دينا بدويا متخلفا كما تردد الببغاوات التى تقع عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها ، فكيف يا ترى استجابت له كل هاتيك الأمم والشعوب التى دخلت ومازالت وستظل تدخل فيه بإذن الله مع اختلاف بيئاتها ونظمها الاجتماعية عن بيئة البداوة ، ومنها الأوربيون والأمريكان ، فضلا عن العراقيين والمصريين والسوريين والفرس والهنود والصينيين ، وهؤلاء أصحاب حضارات عريقة لا كالغربيين الذين لم يعرف معظمهم طعم التحضر إلا بعدهم بأحقاب كما هو معروف لكل من لديه أدنى إلمام بالتاريخ ؟ فليفسر لنا الببغاوات إذن ، أو بالأحرى فليفسر لنا أسيادهم الذين يجرّونهم من أنوفهم كما تُجَرّ البهائم ، تلك الظاهرة ! ألا إن هذه شِنْشِنَةٌ استشراقيةٌ تبشيريةٌ معروفةٌ لكل من اطلع على شىء من القىء الذى تقذف به أفواه الحقد ضد دين رب العالمين . والمستشرقون والمبشرون يعلمون قبل غيرهم أن ما يقولونه فى هذا الصدد إنما هو إفك من الصنف التافه الرخيص ، لكنهم يعرفون أيضا أن كثرة الطنين به قد يأتى بثمرته بين ذوى العقول القرودية السخيفة والضمائر المنكوسة المهزومة الذين يظهرون بين ظَهْرانَىِ الأمم الضعيفة فى أوقات الهزيمة والتحلل ، بالضبط كما يظهر الطفح المرضى على الجلد بسبب اختفاء المناعة أو ضعفها. وكيف يفسرون يا ترى استمساك المسلمين ، ما عدا هذه القلة المارقة الشاذة ، بدينهم رغم أن المغريات بتركه فى المرحلة الأخيرة من تاريخهم كثيرة ؟
كذلك كيف يشرحون لنا السر فى أن هذا الدين قد أنتج حضارة من أبدع وأغنى ما عرفته البشرية من حضارات ؟ ولست هنا بسبيل تعداد المنجزات الحضارية التى أبدعها الإسلام فى كل الميادين ، ولكنى أكتفى فقط بالإيماء إلى ما اقتطفته أوربا من ثمار هذه الحضارة واتخذت منه منطلقا للخروج من وهدة التخلف التى كانت مرتكسة فيها حين كان المسلمون يجسدون المثال الأعلى فى المدنية والثقافة على السواء ، ثم شرعت تضيف إليه بعد أن رسخت قدمها فى مضمار العلم والاختراع حتى صارت إلى ما هى عليه الآن ، وأخذت تعمل على ألا يعود المسلمون كما كانوا مدنية وعلما وقوة . أهذا كله إنتاج بدوى قبلى ؟ إن كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن القبلية والبدوية شىء عظيم لا يعاب ، اللهم إلا ممن فى قلوبهم مرض ! ويا من تتشدقون بازدراء الإسلام من ببغاواتنا المنكوسة المنحوسة ، ها أنتم أولاء تعيشون فى مجتمعات حضرية ، فما الذى يمنعكم من أن ترتقوا وتقوَوْا وتقضوا على المشاكل التى تعانى منها أممكم وتناطحوا أمم الغرب التى أذاقتكم الويل والهوان ؟ لكنكم أعجز وأضأل وأذل وأقل وأضل من أن تستطيعوا ذلك ولا عشره ولا واحدا على المائة ولا الألف ولا حتى المليون منه رغم الإمكانات الهائلة التى فى أيديكم بالمقارنة بما كان متاحا للمسلمين الأوائل مما لم يكن يتعدى الصفر ، اللهم إلا قوة العقيدة والإيمان بالله والرسول والقرآن ، هذا الإيمان الذى قلّل فى أعينهم كل شىء ومكّنهم من صنع ما يُعَدّ اليوم من قبيل المعجزات ! إننا الآن مليار ونصف ، وتحت أيدينا من الإمكانات ما يحتاج إلى كُتُبٍ وكُتُبٍ وكتبٍ وكتبٍ وكتبٍ لإحصائه ، ومع هذا فنحن فى ميدان السياسة والإنتاج والقوة الحربية والعلم صفر كبير ، أما المسلمون الأوائل الذين خرجوا من الجزيرة العربية ، وكانوا فى أغلبهم من البدو الذين يظن القرود أنهم قادرون على النيل منهم وتحقير صورتهم وإنجازاتهم الفريدة على مدى الدهر، فكانوا بضع عشرات من الألوف ليس إلا ، ومع ذلك استطاعوا أن يفرضوا صوتهم وشخصيتهم على التاريخ ويُنطِقوه بالعربية ويصبغوه بصبغة الله التى ليس مثلها من صبغة ... إلى أن أخذت قبضتهم على عروة الدين تتراخى فحدث لهم ما حدث مما نعيش عقابيله الآن هما وغما وخوفا وذلة وتخلفا ، بالإضافة إلى السفالة التى يغادينا ويماسينا بها هؤلاء القرود الذين ينتفخون ويشمخون كأنهم سادة ، وما هم فى واقع الحال إلا عبيد أذلاء لا قيمة لهم بأى معيار من معايير الحضارة والكرامة الإنسانية . ينبغى أن نفرق بين الإسلام ، الذى هو دين سماوى عالمى للإنسانية جمعاء ، وبين المسلمين الأوائل الذين جاء كثير منهم من البادية ثم انضم إليهم أهل الحضر من الشعوب التى دخلت بعد ذلك فى دين الله أفواجا وأحبته وخالط منها شغاف القلوب وبذلت فى سبيله المُهَج والأموال رخيصة تبتغى بذلك وجه المولى الكريم . ثم تعالَوْا ننظر ما قدمه الغرب المتحضر غير البدوى لنا على مدار عشرات العقود من إذلالٍ واستعمارٍ ونهبٍ لثرواتنا وتدميرٍ لكل طاقاتنا وآمالنا فى الانعتاق من الضعف والتخلف ومَلْخٍ لفلسطين الغالية وتقسيمٍ لبلادنا وزرعٍ لعوامل التفرقة بيننا، كل ذلك على نحو مخطط مدروس مُمَنْهَج ، إلى جانب القصف اليومى فى هذه الأيام النحسات للعراق الحبيب وأرض الإسراء والمعراج المباركة الغالية وأفغانستان المسكينة بكل أسلحة الفتك الرهيبة وهدم البيوت والمؤسسات وقتل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ دون أى ذنبٍ جَنَوْه سوى أنهم مسلمون رِخاص لا يستحقون أن ينعموا ببلادهم وثرواتهم ، وفى تحدٍٍّ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية مما ضج منه الشرفاء والأحرار من كل أنحاء العالم بما فيها أوربا وأمريكا أنفسهما ولا يزالون !
هذا من ناحية الإطار ، فماذا عن المضمون ؟
لننظر فيما كان سائدا فى بلاد العرب عند ظهور الإسلام من قِيَمٍ وأوضاعٍ ونقارن بينه وبين ما جاء به الرسول الكريم لنرى أهذا الذى جاء به هو من نتاج تلك البيئة أم لا . وبذلك نحسم هذه المسألة بدلا من الاستمرار فى الشقشقة بالكلام الذى يمكن أن يطول فيه الجدل إلى ما لا نهاية : وأول شىء نود أن نقف إزاءه هو العقيدة ، فما الذى أتى به الرسول فى هذا المضمار ؟ لقد كان العرب بوجه عام قوما وثنيين ، لكل قبيلة أو عدة قبائل صنمها الذى تعبده وتتعصب له ولا تعرف شيئا عن التوحيد ، لكن الإسلام كانت له هنا كلمة أخرى ، إذ دعا إلى الوحدانية المطلقة التى لا تشوبها شائبة ، فلا أوثان ولا ثنوية ولا تثليث ولا بنوة لله ، ولا اقتصار لربوبيته تعالى على أمة معينة يكون هو ربها من دون باقى الأمم كما هو الحال فى اليهودية حيث يُنْظَر إليه سبحانه على أنه إله بنى إسرائيل فحسب ، فلا يعرف سواهم ولا يقيم وزنا فى رحمته ولا فى تشريعاته لغيرهم مهما انحط اليهود وكفروا ، ومهما آمن غيرهم وعدل وأحسن واستقام . فالإله فى الإسلام هو رب العالمين جميعا لا لقبيلة أو أمة بعينها ، وهو ليس منحصرا فى مكان دون مكان ، وبابه مفتوح دائما للجميع ، ورحمته وسعت كل شىء، وهى سابقة أبدا غضبه ، والحسنة عنده بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها فحسب ، هذا إن لم يمحها محوا ويسترها على صاحبها كأنه لم يرتكب شيئا . والعبرة عنده بحسن النية والإخلاص وبذل الوسع ، وهى أمور فى متناول كل إنسان ، فلا قرابين ولا مُحْرَقات ولا إيمان بأشياء لا تدخل العقل بل تُعْنِت الضمير وتغرق الإنسان فى حيرة وبلبلة وتدفعه لمدابرة المنطق . فأين البدوية والتخلف هنا ، وما جاء به الإسلام يتفوق تمام التفوق على كل ما كان معروفا آنذاك وحتى الآن من عقائد وأديان سواء على مستوى الفكر أو الشعور أو الضمير ؟ ليس هذا فحسب ، بل إنه يترك الإنسان رغم ذلك لاختياره ، فإن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، وحتى لو لم يؤمن فليس العقاب الأخروى بواقع عليه ضربة لازب، إذ إن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وما دام الحق قد عُمّىَ عليه ولم يبزغ له نوره رغم بذله الجهد وإخلاصه فى رغبة الوصول إليه فإن رحمة الله قريب من عباده المجتهدين المخلصين . كذلك فالعقاب الأخروى لم يكن معروفا عند العرب ، اللهم إلا نفرا قليلا لا تأثير له فى حياتهم .أما فى الإسلام فهناك حساب وثواب وعقاب وجنة ونار ، والإنسان ليس كمًّا مهملا فى الكون يأتى إلى الدنيا ويموت ثم ينتهى أمره عند هذا الحد كما تنتهى الحيوانات العجماء.
وفى المجتمعات البدوية نجد أن ولاء الفرد إنما يكون دائما لقبيلته ، كما أن مفهوم الخير والشر مفهوم قبلى ، فالشر الذى يوقعه الإنسان بواحد من غير قبيلته لا يُعَدّ شرا ، وعلى أبناء القبيلة أن يهبوا لنصرة أى منهم ظالما كان أو مظلوما . كذلك كان التفاخر بالأنساب القبلية بينهم جامحا أشد الجموح ، وكانت المنافرات جزءا من نسيجهم القِيمِىّ والاجتماعى لا يَرَوْن الدنيا إلا من خلاله ، فكأن القبيلة هى كل شىء ولا وجود لأى شىء آخر وراء حدودها . ثم لما بزغت شمس الإسلام كانت هذه المفاهيم والقيم الغبية الضيقة من أول ما انهال عليه بمعول هدمه ، إذ نادى بأعلى صوته أن ليس لقرشى أى فضل على غير القرشى ولا للعربى على العجمى ، واسِمًا الدعوة إلى العصبيات القبلية بأنها منتنة ، ومُحِلاََّ أُخُوّة الإسلام العالمية محل الأخوة القبلية ، ورافضا أن بعتدى المسلم على غير المسلم دون وجه حق لأنهما إن كانا مختلفين فى الدين فإن رابطة الإنسانية تجمع بينهما ، علاوة على الروابط الاجتماعية التى ينبغى عليه أيضا مراعاتها فى التعامل معه بالمودة والحسنى ما دام لم يؤذه أويهدده ، وموجبا كذلك عليه أن يكف أخاه عن الظلم إذا هم به أو شرع فيه ، مفهما إياه أن هذا هو المعنى الجديد لنصرة الظالم التى كانت العقلية القبلية تفهمها على نحو مخالف تماما.لقد انتزع الإسلامُ الإنسانَ العربىَّ من تلك الدائرة الضيقة إلى آفاق أرحب وأسمق وأهدى سبيلا . لقد نقله من القبلية إلى الإنسانية والعالمية فى خطوة واحدة سابحا بكل قوة ونبل وجسارة عكس التيار الذى كان سائدا فى بلاد العرب أوانذاك .فأين الفكر البدوى المتخلف كما تقول ببغاواتنا القصيرة العقل الطويلة اللسان ؟ والله إن كانت هذه هى البداوة فإننى أول المتبدّين ، إذ لا يُعْقَل أن أهجر كل هذا النبل والسموق الفكرى والوجدانى والأخلاقى وأجرى لأكون فى خدمة الغربى الأنانى المتحجر القلب الذى لا يرى لغير الرجل الأبيض أى حق فى الحياة الحرة الكريمة لأن الدنيا فى زعمه الشيطانى المريض إنما خُلِقَتْ له هو وحده . الحق أنه لا يفعل ذلك إلا الببغاوات التى رُكّبَت عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها، فهى تحصر نفسها فى الكلمات ، وتؤمن أو تكفر لا بِناءً على ما يؤديها إليه عقلها بل بناءً على ما يحمّله المغرضون للكلمات من معان لا حقيقة لها. إن هذه هى عبودية الفكر والضمير ، وهى أسوأ وأمقت من عبودية الجسد وأدل على انحطاط الجِبِلّة ، لأن الإنسان قد يكون عبدا بجسده ولكنه سيد بفكره ووجدانه ، على العكس من ببغاواتنا المتصايحة دون عقل أو كرامة!
ثم لقد كان العرب ينتفضون إلى الحرب لأتفه سبب مدمرين أنفسهم فى صراعات عبثية فى أكثر الأحوال ، فجعل الإسلام لحياتهم معنى وربطهم بالسماء وبقيم البناء والتقدم والحضارة حتى لقد أصبحوا بناة إمبراطورية فى غضون سنوات قلائل ، إمبراطورية احتلت مكان الصدارة العالمية لقرون طوال ،على حين كانت أوربا أثناءها تعيش عيشة همجية فى كل مناحى الحياة تقريبا ، أوربا التى تصدّع أدمغتنا الآن هى وأذنابها من ببغاواتنا باتهام الإسلام بالبداوة والتخلف ! والله إن هذه قلة أدب قبل أن تكون شيئا آخر !
وكانت عادة الأخذ بالثأر فاشية بين العرب فُشُوًّا فظيعا فوقف الإسلام فى وجهها ودانها وأقام بدلا من هذه الفوضى نظاما تشريعيا يأخذ فيه أولياء القتيل حقهم عن طريق الدولة لا بأيديهم مُنْشِئًا بذلك دولة المؤسسات .كما كان العرب مشغوفين بالخمر ، يتغنى بها شعراؤهم ويَرَوْن فيها إحدى المفاخر العظيمة ، فماذا فعل الإسلام هنا ؟ لقد جاء بتحريمها تحريما قاطعا لا هوادة فيه ، ونجح فى هذا السبيل نجاحا لم ينجحه أى دين أو تشريع آخر فى القديم أو الحديث . وبالمثل كان العرب يعتقدون فى العرافين والكهان والسحرة ويعملون لهم ألف حساب ، فوجّه الإسلام إلى هذه المعتقدات المتخلفة أيضا ضربة مُصْمِية ! وكان كثير منهم يبغضون خِلْفة البنات ، وبعضهم كان يئد بنته الرضيعة تخلصا من شبح الفقر والعار كما ذكر القرآن الكريم ، فوبّخهم الإسلام على هذا السلوك الوحشى وندّد بمرتكبيه وتوعدهم بأفظع ألوان العذاب فى جهنم يوم تُسْأَل المسكينة : بأى ذنب قُتِلَت ؟ وكان توفيقه هنا أيضا توفيقا هائلا . كما كان البدو ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لأنها لا تشارك فى الحروب ، ومن ثم لم يكن لها نصيب فى الميراث ، لكن الإسلام لم يرض هذا الوضع وجعل لها حقا فى التركة كما للرجل ، وزاد فأوصى بمعاملتها معاملة كريمة تراعى وضعها وظروفها ، ومن بين ما قاله الرسول العظيم فى هذا الصدد أنه لا يكرمها إلا كريم . حتى قيمة الكرم التى كان العرب يفاخرون بها أشد المفاخرة كان للإسلام فيها نظرة أخرى ، إذ ربطها بالنية وابتغاء وجه الله لا ابتغاء السمعة والرياء، وهو أمر لم يكن العربى يتصوره أو يدور له ببال على الإطلاق . فكيف يمكن لعاقل أن يتهم الإسلام بالبداوة ؟ إذا لم يكن هذا هو التحضر والرقىّ بعينه وقضّه وقضيضه فما التحضر إذن ؟ أجيبونا يا ببغاواتنا الحمقى ، أو فليجب بالأحرى من يصفعونكم على أقفائكم كى تهاجموا دينكم وأنتم تظنون أن هذا الهجوم على دين رب العالمين سيجعل منكم ناسا متحضرين !
وعندنا كذلك ميدان العلم الذى لم يكن للعرب فيه باع أىّ باع ، إذ كانت معارفهم لا تزيد على كونها شذرات بدائية متفرقة لا تقدم ولا تؤخر ، بل كانت الأمية أيضا فاشية فيهم إلى حد رهيب ، وكان الورق يكاد يكون معدوما عندهم ، وكان النبى نفسه أميا ، ورغم هذا نجد القرآن والسنة النبوية يوليان العلم وطلبه والمساعدة عليه والاستزادة منه ورقىّ الدرجات المتتالية فيه اهتماما عظيما ليس له سابقة فى تاريخ الأديان والحضارات: فالعالِم أفضل من العابد مثلما يَفْضُل القمرُ الكواكبَ فى ليلة الرابع عشر ، والرسول ذاته لم يؤمَر فى القرآن بالاستزادة من شىء إلا من العلم . بل إن العلم ليس حقا للمسلم فقط ، بل هو واجب وفريضة يأثم إن لم يقم بها . كما أن العلماء ورثة الأنبياء ، فضلا عن أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وهو ما ليس له ضريب فى أى دين أو فلسفة أو مذهب على مدار التاريخ ، وهذا من شأنه أن بفجر الطاقات الفكرية والابتكارية عند الفرد والأمة على السواء. وكانت النتيجة هى هذه الأعداد الرهيبة من العلماء المسلمين فى جميع ميادين المعرفة . وإن من له أى اتصال بالتراث الفكرى عند أمتنا ليذهل من الأمداء المتناوحة التى كان العقل الإسلامى يصول فيها ويجول بكل جسارة ونشوة . وقد كان من ثمرة ذلك أيضا أن استطاع ذلك العقل أن يبلور ويقنن المنهج الشكّىّ والمنهج العلمى التجريبى اللذين نقلهما الأوربيون أيام نهضتهم فكانا بمثابة المفتاح الذى يمكن الدخول به ، وبه وحده ، إلى مخبإ كنوز على بابا ، إذ لولا هذان المنهجان اللذان وقعت عليهما أوربا غنيمة باردة جاهزة ما استطاعت أن تبلغ شيئا مما بلغته فى مضمار المعرفة والاكتشافات والاختراعات العلمية . أفهذه هى البداوة التى تتحدثون عنها أيها الببغاوات ؟ خيّبكم الله فوق خيبتكم وأخزاكم وسوّد وجوهكم أكثر مما هى مسودّة ! والله إنها لفضيحة الدهر أن يتطاول هؤلاء الأرجاس المناكيد على سيد الأنبياء والدين العظيم الذى أُوحِىَ إليه ، وهم الذين لا يجرؤ أى عُتُلٍٍّ زنيم منهم أن يمس أى دين آخر حتى ولو كان دين عُبّاد البقر فيفتح فمه المنتن بأى انتقاد له رغم أن جميع الأديان الأخرى غير الإسلام هى أديان من قوارير هشّة تنكسر لأقل لمسة! ولكن لا غرابة فى هذا ، فإن الدمى لا يمكنها أن تتصرف من تلقاء عقلها ، لأنها ببساطة ليس لديها أى عقل !
ولقد علّم النبى أتباعه كثيرا من قواعد السلوك والذوق الراقى ، سواء على المستوى الشخصى أو الاجتماعى أو الإنسانى بعد أن كانوا لا يعرفون شيئا فى هذا الصدد تقريبا : لقد عرّفهم مثلا أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وأن قضاء الحاجة فى ظل الأشجار أو فى الماء الراكد تصرف آثم ، وأن الرأفة بالحيوان مما يقرّب العبد من ربه ويُجْزَى عليه خير الجزاء ، وأنه لا يليق بالمسلم أن يترك أسنانه دون تسويك أو شعره دون تمشيط أو ملابسه دون عناية وتنظيف ، وأن عليه الاحتراز من أن يؤذى الآخرين بشىء من هذا . ولقد بلغ الأمر فى هذا المجال أن جعل الإسلامُ النظافةَ ركنا أصيلا من أركان الإيمان مما لا نعرف له مثيلا فى غيره من الديانات . كما نبّه معتنقيه إلى أهمية احترام خصوصية الآخرين فلا يدخلون بيوتا غير بيوتهم قبل أن يستأذنوا أصحابها ويؤذَن لهم ، وأوجب على الخدم والأطفال أيضا ألا يقتحموا غرف نوم الآباء إلا بعد الاستئذان ...إلخ ... إلخ إن كان لذلك من آخر . أترى ببغاواتنا المنخوبة العقل والكرامة والضمير ستقول إن هذه أيضا بداوة وقبلية وتخلف ؟ والله رب محمد ما متخلف إلا لَعَقَة فضلات الغرب وزُبالتِه!
وأخيرا نختصر الكلام اختصارا ونقول : أَوَ لَوْ كان الإسلام فكرا بدويا قبليا متخلفا كما تردد الببغاوات أكان العرب البدو يتحزبون ضده ويناصبونه حربا دموية لسنوات وسنوات وينفقون فى معاداته النفس والنفيس ولا بؤمنون به إلا بعد جولات وجولات من المعارك الطحون بينهم وبين النبى عليه الصلاة والسلام ؟ ألم يكن المنطقى أن يسارعوا إلى الإيمان به والدخول فيه ما دام يعبر عنهم ويؤكد ما يعتنقونه ويتمسكون به من عقائد وعادات وتقاليد؟ لقد عرضوا بالعكس من ذلك على النبى أن يبذلوا له ما يريد من مال ومنصب ورئاسة لقاء الرجوع عما جاءهم به والرضا بالأوضاع السائدة ، لكنه رفض ذلك أيما رفض وآثر أن يمضى فى طريقه مع ما يجره ذلك عليه من أذى وترويع وأخطار وفقدان للأمن واحتمال فقدان الحياة أيضا . ترى لم وقع منه ومنهم هذا كله لو كان الذى أتاهم به ليس شيئا آخر غير الذى كان عندهم ؟ فليجب الحمقى من ببغاواتنا ، أو بالأحرى فليجب من يكلفونهم بهذه المهام القذرة التى تناسبهم ثم يَبْقَوْن فى الظلام يرقبون الموقف ويفركون أيدهم حبورا بالخيبة القوية التى جَرّوا إليها فريقا من أبناء المسلمين !

قرآن الفجر
08-14-2007, 02:35 PM
ثم تعالَوْا ننظر ما قدمه الغرب المتحضر غير البدوى لنا على مدار عشرات العقود من إذلالٍ واستعمارٍ ونهبٍ لثرواتنا وتدميرٍ لكل طاقاتنا وآمالنا فى الانعتاق من الضعف والتخلف ومَلْخٍ لفلسطين الغالية وتقسيمٍ لبلادنا وزرعٍ لعوامل التفرقة بيننا، كل ذلك على نحو مخطط مدروس مُمَنْهَج ، إلى جانب القصف اليومى فى هذه الأيام النحسات للعراق الحبيب وأرض الإسراء والمعراج المباركة الغالية وأفغانستان المسكينة بكل أسلحة الفتك الرهيبة وهدم البيوت والمؤسسات وقتل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ دون أى ذنبٍ جَنَوْه سوى أنهم مسلمون رِخاص لا يستحقون أن ينعموا ببلادهم وثرواتهم ، وفى تحدٍٍّ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية مما ضج منه الشرفاء والأحرار من كل أنحاء العالم بما فيها أوربا وأمريكا أنفسهما ولا يزالون !


تأبى الرماح إذ اجتمعن تكسراً ** وإذ افترقن تكسرت آحادا