مشاهدة تغذيات RSS

د.ربيع أحمد

الفوائد والدرر من حديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة والرد على الزائغين

تقييم هذا المقال
اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.ربيع أحمد مشاهدة المشاركة
الفوائد والدرر من حديث
"لن يدخل أحدكم عمله الجنة"
والرد على الزائغين



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه.



أمَّا بعدُ:

فسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - مليئة بالفوائد والدُّرر، والكلام القليل الذي يحمل من المعاني الكثير، والعلم النافع الذي يَهدي العباد إلى العمل الصالح، ويُرشد العقول إلى الخير المأمول.



وكي نحصلَ على هذا الخير، لا بد أن نفهم السنَّة في ضوء القرآن، وليس بمعزلٍ عنه، وإن كان هذا ليس شرطًا مطَّردًا؛ لأن في السنَّة تفصيلاتٍ لا وجود لها في كتاب الله.




ولا بد أن يكون عندنا أدواتُ العلم، وأن نستفيدَ من علم اللغة، وعلم أصول الفقه، وعلم مقاصد الشريعة، وغير ذلك من العلوم النافعة المُعِينة على فَهْم النصوص على الوجه الصحيح.



وليس معنى أن الشخص قد امتلَك أدوات الفهم، أنَّ فهمه للنص يكون صحيحًا، فكم من العلماء مَن فَهِم النص على خلاف مراد الشرع، مع امتلاك العالِم لأدواتِ الفهم والاستنباط، وتجرُّد العالِم للحق، والسرُّ في ذلك: الاختلافُ في الاستعدادات الفِطْرية والمكتسبة لدى العلماء، واختلاف نظرتهم للنص، وتفاوُت عِلمهم، ودرجة استنباطهم، والقواعد التي يَبنون عليها فَهْم النصوص، فرُب قاعدةٍ يسير عليها عالِم لا يُقرُّها عالِمٌ آخرُ، ورُبَّ عالم يبني استنباطَه على قاعدة باطلةٍ ودليلٍ باطل.




والفهم الصحيح للنص توفيقٌ من الله مع الأخذ بأسباب الفهم، فندعو الله أن يَهدينا إلى الحق فيما اختُلف فيه.




ولتفاوت العلماء في الفهم، فمن الأفهامِ ما يوافق الكتابَ والسنَّة، ومن الأفهام ما يخالف الكتاب والسنَّة؛ فالواجب عرضُ كلام العلماء على الكتاب والسنَّة، فما وافقهما، قبِلناه، وما خالفهما، رددناه.



ومن النصوص التي فَهِم منها البعضُ خلاف ما يوافق مراد الشرع حديثُ: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنَّةَ))، وهذا الحديث الشريف في الصحيحين؛ فهو في أعلى درجات الصحة.




والحديث نصُّه عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا؛ فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يَتغمدَني اللهُ بمغفرة ورحمة))[1].




وفي رواية عن عائشة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أن لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنةَ، وأنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قلَّ))[2].




وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن ينجِّي أحدًا منكم عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمة، سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا))[3].




ودعونا نَحْيَ في رحاب هذا الحديث، ننهل منه الدررَ والفوائد والعِبر؛ فقولُ السيدة عائشة - رضي الله عنها -: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، يدلُّ على رواية النساءِ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: نشر النساء الصحابيات للحديث النبوي، وحِفظهن للسنَّة؛ أي: إن للنساء دورًا في نشر السنَّة وحفظها، كما نشَرها الرجال وحفظوها، فلا يُنكِر دورَ النساء في نشر السنَّة وحفظها إلا جاهلٌ بعلوم الحديث.




وتحديث السيدة عائشة أم المؤمنين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على أن نساء النبيِّ - رضي الله عنهنَّ - كان لهنَّ دورٌ في نشر السنة والدين، وحفظ السنة والدين، وقد روت السيدة عائشة - رضي الله عنها - "2210" حديثًا، وروت السيدة أم سلَمةَ "378" حديثًا، وروت السيدة ميمونة - رضي الله عنها - "76" حديثًا، وروت السيدة أم حبيبة - رضي الله عنها - "65" حديثًا، وروت السيدة حفصة - رضي الله عنها - "60" حديثًا، وروت السيدة جُوَيرية - رضي الله عنها - خمسة أحاديث.




ومن هنا نُدرك أن تعدُّدَ زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعله اللهُ سببًا من أسباب نشر الدين وحِفظه، وهذا يدل على امتثال أُمهات المؤمنين لقوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].




والآية فيها حضُّ نساءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - على نشر وتعليم العلم الشرعي، المتمثلِ في القرآن والسنَّة؛ فالذي يُتلى في بيوت زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - هو كتابُ الله، والحكمةُ، التي هي سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا أمرٌ للنساء أن يُشاركْنَ الرجال - حيث لا فتنةَ - في تبليغ القرآن والسنَّة.




ولا يقال:

الأمر خاصٌّ بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن خطاب الله - سبحانه وتعالى - لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيه نساءُ المؤمنين؛ إذ نساء المؤمنين تَبَع لهن في ذلك، وإنما خصَّ الله - سبحانه وتعالى - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لشرفهنَّ ومنزلتهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنهن القدوةُ لنساء المؤمنين، ولقرابتِهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - والعبرة بعموم اللفظِ لا بخصوص السبب[4]، ما لم يَرِدْ دليلٌ يدل على التخصيص.




وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) من السداد، والسداد: الصواب من القول والقصد[5]، أو الإصابة في المنطق والتدبير والرأي[6]، والتسديد: هو إصابةُ الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرضَ المَرْميَّ إليه، ولم يُخْطِئْه[7]، وفُسِّر السدادُ بالصواب، وهو مقارب للقصد؛ لأن التقصير في المطلوب أو المغالاة فيه، تُخرجه عن الصواب.




ومعنى "سدِّدوا":

اقصدوا السداد، واطلبوه، واعملوا به في الأمور، وهو القصد فيها دون التفريط ودون الغُلو[8]، فالسداد هو الاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه[9].




قال ابن رجب: "السداد: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرضٍ، فيُصيبه"[10].




وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بالسداد؛ أي: ابْلُغوا بأعمالكم درجةَ السداد والصلاح، والأمر يفيد الوجوب[11] ما لم يأتِ صارف، وما دام السدادُ في الأمور واجبًا، فهذا يفيد وجوبَ القصد والاعتدال فيما طلبه الشرعُ منَّا؛ أي: وجوب الاستقامة؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، والمعنى: فاستقمْ كما أمرك ربُّك في كتابه، فاعتقِد الحقَّ، واعمل الصالح، واترُك الباطل، ولا تعمل الطالح أنت ومَن معك من المؤمنين؛ ليكونَ جزاؤُكم خيرَ جزاء يوم الحساب والجزاء[12].




وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) أمرٌ بتصحيح العقيدة، ونهي عن الشرك؛ لأن السدادَ ليس في القول والفعل فحسب، بل أيضًا في الاعتقاد، والأمر باستقامة المعتقد يستلزم النهي عن الشرك، وفي النهي عن الشرك قال - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].



وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)) النهي عن التقصير في الطاعات؛ لأن الأمر بالسداد أمرٌ بفعل الطاعة كما ينبغي، والتقصير يخالف ذلك.



وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): نهي عن التشدد في الدين؛ لأن التشدد غلوٌّ في الدين، والشرع أمرنا بالقصد، ونهانا عن المغالاة؛ فالغلو خروج عن المقصود، وخروج عن الاعتدال.



وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): أمرٌ بالإخلاص في العمل، ونهي عن الرياء؛ لأن العمل كي يكون سديدًا صوابًا، لا بد من إخلاص النية؛ بأن يقصِد المرءُ بعبادته التقربَ إلى الله - سبحانه وتعالى - والتوصل إلى دار كرامته؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: وما أُمِروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا اللهَ وحده، قاصدين بعبادتهم وجهَه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان.



والأمر بإخلاص النية نهيٌ عن الرياء؛ لأن الأمرَ بالشيء نهيٌ عن ضده[13].



وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا)): أمرٌ بموافقة الشرع، ونهي عن البدعة؛ لأن العمل كي يكونَ سديدًا صوابًا لا بد من موافقةِ ما شرعه الله، وما شرعه الله هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أتى بما لم يكن عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعمله ليس بصوابٍ، بل عمله مردودٌ، بل يأْثَم على فعله، وفي حُرمة الإتيان بفعل ليس على هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرِنا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[14]؛ أي: الأمرُ الديني المُحدث مردودٌ باطل.



وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[15]؛ أي: الأمر الديني المحدَث بدعة وضلالة يقع الإثم على فعْله.



والعمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإن كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا، لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكونَ لله، والصواب أن يكون على السنَّة.



وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا)): دليلٌ على وسطية الدين واعتداله، فلا يأمر الدينُ إلا بالقصد والاعتدال، وإعطاء كلِّ ذي حق حقَّه؛ لأن السداد هو التوسط والاعتدال في العمل بلا إفراط أو تفريطٍ، وألا يجورَ شيء على شيء، وعندما قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لأبي الدرداء: إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كل ذي حق حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صدَق سلمانُ))[16].

--------------------------------------------------------------------------------

[1]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6467، باب القصد والمداومة على العمل.
[2]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6464، باب القصد والمداومة على العمل.
[3]رواه البخاري في صحيحه 8/98، حديث رقم 6463، باب القصد والمداومة على العمل، ورواه مسلم في صحيحه 4/2169، حديث رقم 2816، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله.
[4] المحصول؛ للرازي 3/125، والفروق؛ للقرافي 1/114، والأشباه والنظائر؛ للسبكي 2/134، و نهاية السول شرح منهاج الوصول؛ للإسنوي ص 219.
[5] معجم ديوان الأدب 3/64.
[6] الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 197.
[7] شرح صحيح البخاري؛ لابن رجب 1/151.
[8] انظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/210.
[9] النهاية في غريب الحديث 2/ 352.
[10] جامع العلوم والحِكم ص 512.
[11] إرشاد الفحول؛ للشوكاني 1/250، قواطع الأدلة في الأصول؛ للسمعاني 1/81.
[12] أيسر التفاسير 2/584.
[13] الفصول في الأصول؛ للجصاص 2/164، والعدة في أصول الفقه؛ للقاضي أبي يعلى 2/368، والتبصرة في أصول الفقه؛ للشيرازي ص 89.
[14] رواه البخاري ومسلم في صحيحهما.
[15] سنن أبي داود 2/610 حديث رقم 4607، قال الألباني: صحيح.
[16] رواه البخاري في صحيحه 3/38 حديث رقم 1968، باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع، ولم يَرَ عليه قضاءً إذا كان أوفقَ له.

أرسل "الفوائد والدرر من حديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة والرد على الزائغين" إلى Google أرسل "الفوائد والدرر من حديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة والرد على الزائغين" إلى Digg أرسل "الفوائد والدرر من حديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة والرد على الزائغين" إلى del.icio.us أرسل "الفوائد والدرر من حديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة والرد على الزائغين" إلى StumbleUpon

التصانيف
غير مصنف

التعليقات

شبكة اصداء