الالحاد المذكور هذا هو الالحاد كمذهب فلسفي.
اما الالحاد من وجهة نظر شرعية فهو امر أخر ينبغي التنبيه عليه :
اقتصرت مقالة الاخ عن الالحاد بفهوم اهلها : بمهنى أخر من يسمي نفسه ملحد هذه الايام . وليس هذا معنى الالحاد اذ له معنى اشمل في اصطلاحنا . لان الملحد ليس فقط من انكر الله عز وجل بل الملحد كل من وضع حدود غير الحدود التي امر الله بعدم تجاوزها لذلك لننظر كيف يتكلم الاسلام عن الالحاد .
اقتباس:
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
في تفسير الطبري رحمه الله:
اقتباس:
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : { ولله الأسماء الحسنى } وهي كما قال ابن عباس :
حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } ومن أسمائه : ( العزيز الجبار ) وكل أسمائه حسن
حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إن لله تسعة وتسعين أسما مئة إلا واحدا من أحصاها كلها دخل الجنة ]
وأما قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } فإنه يعني به المشركين
وكان إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها آلهتهم وأوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها فسموا بعضها ( اللات ) اشتقاقا منهم لها من اسم الله الذي هو ( الله ) وسموا بعضها ( العزى ) اشتقاقا لها من اسم الله الذي هو ( العزيز )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : إلحاد الملحدين : أن دعوا ( اللات ) في أسماء الله
حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : اشتقوا ( العزى ) من ( العزيز ) واشتقوا ( اللات ) من ( الله )
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { يلحدون }
فقال بعضهم : يكذبون
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن ابن عباس قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : ( الإلحاد ) التكذيب
وقال آخرون : معنى ذلك : يشركون
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة : { يلحدون } قال : يشركون
وأصل ( الإلحاد ) في كلام العرب العدول عن القصد والجور عنه والإعراض ثم يستعمل في كل معوج غير مستقيم ولذكل قيل للحد القبر : ( لحد ) لأنه في ناحية منه وليس في وسطه يقال منه : ( ألحد فلان يلحد إلحادا ) ( ولحد يلحد لحدا ولحودا )
وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرق بين ( الإلحاد ) و ( اللحد ) فيقول في ( الإلحاد ) إنه العدول عن القصد وفي ( اللحد ) إنه الركون إلى الشيء وكان يقرأ جميع ما في القرآن : { يلحدون } بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في ( النحل ) [ الآية : 103 ] فإنه كان يقرؤها : ( يلحدون ) بفتح الياء والحاء ويزعم أنه بمعنى الركون
وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب فيرون أن معناهما واحد وأنهما لغتان جاءتا في حرف واحد بمعنى واحد
واختلفت القرأة في قراءة ذلك
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : { يلحدون } بضم الياء وكسر الحاء من ( ألحد يلحد ) في جميع القرآن
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة : ( يلحدون ) بفتح الياء والحاء من ( لحد يلحد )
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان بمعنى واحد فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك غي أني أختار القراءة بضم الياء على لغة من قال : ( ألحد ) لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما
وكان ابن زيد يقول في قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } أنه منسوخ
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : هؤلاء أهل الكفر وقد نسخ نسخه القتال
ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ لأن قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ليس بأمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له في قتالهم وإنما هو تهديد من الله للملحدين في أسمائه ووعيد منه لهم كما قال في موضع آخر : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل } الآية [ الحجر : 3 ] وكقوله : { ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون } [ العنكبوت : 66 ] وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد ومعناه : أن مهل الذين يلحدون يا محمد في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه فسوف يجزون إذا جاءهم أجل الله الذي أجلهم إليه جزاء أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله
والنسخ المذكور هو عن" ذر الذين يلحدون في اسمائه" بمعنى اتركهم ولا تتعرض لهم , قيل نسخت بايات القتال وقيل محكمة .
اقتباس:
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40)
قال ابن جرير :
اقتباس:
يعني جل ثناؤه بقوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا } : إن الذين يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لهاوقد بينت فيما مضى معنى اللحد بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع
اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع فقال بعضهم : أريد معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا } قال : المكاء وما ذكر معه
وقال بعضهم : أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله
ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة { إن الذين يلحدون في آياتنا } قال : يكذبون في آياتنا
وقال آخرون : أريد به يعاندون
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط عن السدي { إن الذين يلحدون في آياتنا } قال : يشاقون : يعاندون
وقال آخرون : أريد به الكفر والشرك
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } قال : هؤلاء أهل الشرك وقال : الإلحاد : الكفر والشرك
وقال آخرون : أريد به الخبر عن تبديلهم معاني كتاب الله
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } قال : هو أن يوضع الكلام على غير موضعه وكل هذه الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك قريبات المعاني وذلك أن اللحد والإلحاد : هو الميل وقد يكون ميلا عن آيات الله وعدولا عنها بالتكذيب بها ويكون بالاستهزاء مكاء وتصدية ويكون مفارقة لها وعنادا ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها
ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات الله كما عم ذلك ربنا تبارك وتعالى
ومحاداة الله ورسوله هي اتباع حدود غير حدودهم
فمن غير أحكام الله فهو ملحد بأحكامه .
ومن فالاسلام وضع حدود لكل شيء فمن تعداها فقد تعدى الحدود ومن غيرها فقد حاد الله ورسوله .
فمعنى الالحاد لا يقتصر على الكفر بالله او انكاره بل هو اشمل ليتعلق بكل أحكام الله وما أخبر الله عنه من خبر في كتابه .
والله تعالى أعلم.