"إفصاح خاطف" عن بعض ما ظهر لي بشأن اصل البشر والكائنات شبه البشرية.
أشكل على كثيرٍ من المؤمنين بالخلق الخاص ما يخرجه علم الإحاثة كل فترة وحين من أدلة على وجود كائنات "شبه بشريه"، بعضها أصل لإنسان اليوم، هكذا يقولون، وبعضها يوازي انحدار سلالته ولكن يلتقون معه في "جد أعلى"، وبغض النظر عن رأيي التفصيلي في الموضوع - إذ لو شرعت في شيء من التفصيل لرأيت من الواجب عليّ الإكمال إلى آخر لحظة ، ولست لهذا الآن - فإني أشير إشارة لخلاصة جزء يسير مما تحصل لدي في مشوار التأمل والتحليل لنظرية أصل الإنسان. هذه الخلاصة على شكل نقاط موجزة:
* قرأت كتب دارون و بعض أمهات كتب الإحاثة والتطور التجريبية قراءة فاحصة عميقة طويلة - وقد اجتمع عندي ملاحظات حرجة أدعو الله أن ييسر تقييدها في المنتدى بما يليق - ثم قرأت آيات الخلق وتأملتها قدر ما وسعني التأمل: لغةً وعقلاً ونقلاً، فتحصل لدي - وإن كانت هذه بديهة بسيطة عند كثير من المؤمنين طبعاً - أن الإنسان الذي هو نحن خُلق خلقاً خاصاً بالفعل وأنه لا مجال لتأويل الآيات، رغم أني اجتهدت أن أوجد تأويلاً سائغاً، بما يخالف هذا الذي ذكرته....أقول: لا مجال إطلاقاً للتأويل إلا بمخالفة مقصود القرآن، لمن فقه لغة التنزيل وأعطاها حقها.
* وجدت في القرآن العظيم ما يحتمل دلالة مباشرة وصريحة على وجود هذه الكائنات "شبه البشريه" - فيكون القرآن بنصّه على خلق الإنسان خلقاً مباشراً وبدلالته على وجود أجناس من الكائنات تشابه البشر قد جمع بين الأقوال وقضى على كثير من القلق تجاه التضاد المتوهم بين القرآن والكشوف - وذلك في قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). وظاهر الآية معناه "كما أنشأكم من آبائكم اللذين سبقوكم" ، وهو تفسير لبعض العلماء، ولكن الأرجح عندي، وهو اختيار الطبري رحمه الله، هو أن حرف "من" في الآية للبدلية، فيكون المعنى "أنشأكم بدلاً من قوم سبقوكم"، لأن الخطاب لجنس البشر وليس للمخاطبين وقت التنزيل.
* لا أخفيكم أني فوجئت حينها بقول - في الحقيقة ليس بقوله وإنما بدقة ووضوح رأيه - الإمام الطبري رحمه الله :"وأما قوله : ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، فإنه يقول : إن يشأ ربك ، يا محمد ، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه ( يذهبكم ) ، يقول : يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، يقول : ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم ، يخلفونكم في الأرض " من بعدكم " ، يعني : من بعد فنائكم وهلاككم ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم . ومعنى " من " في هذا الموضع التعقيب ، كما يقال في الكلام : " أعطيتك من دينارك ثوبا " ، بمعنى : مكان الدينار ثوبا ، لا أن الثوب من الدينار بعض ، كذلك الذين خوطبوا بقوله : ( كما أنشأكم ) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين ، ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنهم أنشئوا مكان خلق خلف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم".[1]
* يُلاحظ أن وصف هؤلاء المتقدمين على بني آدم بأنهم "قوم"، وهذا فيه إشارة ضمنية إلى مجانستهم للبشر في شيء من الخلقة والطباع والاجتماع، لا مجانستهم ومضارعتهم فيما كرمهم الله به من الخلق في أحسن تقويم، ومن حملهم في البر والبحر، وتكليفهم الأمانة...الخ ، والله أعلم.
* ختاماً، معنى البدلية الكائن في الآية، هو المعنى الذي يحمل في طياته سرّ الجواب عن ما يسمى بــ" الحلقة المفقودة"، أي تلك الوصلة التي تصل ظهور الإنسان المفاجيء - هكذا صرّح بعض التطوريين تعبيراً عن حيرتهم - بما سبقه من كائنات شبه بشريه من عائلة الــ "هومينيد"، كما يحلو لأولئك القوم. والذي أقصده هو أن معنى "التبديل" مضاد لمعنى "التطور" المتصل السلس، فمن هنا كان حقاً وفعلاً من المشروع ومن الطبيعي أن يعجب الجميع، تطوريين وغيرهم ، من وجود الـــ missing link ، وهذا ببساطة لأن العملية لم تكن في يوم من الأيام تطور يترقى وإنما عملية إبدال أو تبديل، كما يخبرنا القرآن [2].
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
[1] تفسير الطبري [جــ 9 / ص565] ، بتحقيق التركي.
[2] لما كان الأمر في حقيقته عملية تبديل، الأمر الذي لا يترك أثراً لسلسلة التطور المفترضة، لجأ بعض التطوريين لافتراض كون أصل البشر من خارج الأرض - طبعاً ليس من الله ولا انه أُهبط من الجنة - جاؤوا محمولين على ظهر كويكب اصطدم بالأرض، وعلى ظهر هذا الكويكب "بذرة" الجنس البشري التي نبتت في الأرض ونمت...ثم إذا هم بشر ينتشرون...العجيب في هذا الافتراض أن بعضه يوافق ظاهر القرآن (والله أنبتكم من الأرض نباتا).