درس من التاريخ عن نصرة المظلوم
"لم نسمع شيئاً حتى الآن من هذه الدول.. إنني متعجب جداً من أن كافة التعهدات بالمساعدة قادمة من أوروبا وشمال إفريقيا.. حتى الدول المتضررة مثل كينيا وأثيوبيا وأوغندا مستعدة للمشاركة في المساعدة".
“.. لم يتضح حتى قيام الدول العربية الغنية بتقديم مساعدات لأشقائهم (في الصومال)، أرى ذلك أمراً مثيراً للقلق بشدة وأتساءل: أين الإنسانية هنا؟”.
لم يطلق هذه الكلمات لسان مسؤول أو عالم مسلم، أو أي مسلم يهمه أمر دينه وأمته..بل إن صاحب هذه الكلمات هو وزير التنمية الألماني - ديرك نيبل - الذي دعا العرب يوم 30 يوليو الماضي إلى المساعدة في إنقاذ المسلمين الصوماليين من كارثة المجاعة التي حلت بهم.
لقد ماتت الضمائر، وانتكست المشاعر، وانعدمت الأحاسيس عند المسلمين عموماً والعرب خصوصاً..
بينما نجد في الأمم الأخرى من ينادي ويتحرك لإنقاذ إخواننا في الصومال بصرف النظر عن المقاصد والدوافع.
لقد أصبح المسلمون أبعد ما يكون عن مبدأ النصرة والتعاون والإخوة والتكاتف؛ وهذا ما جعل الآخرين يهزؤون بنا كما فعل الوزير الألماني، وكما فعل آخرون من قبل.
وفي إغاثة (المرابطين) لإخوانهم في الأندلس خير دليل على ذلك؛ ففي أيام فقط تغيرت نظرة نصارى الأندلس إلى المسلمين هناك.
فبعد أن كان المسلمون في نظرهم جبناء أغبياء ضعفاء مهانين، أصبحوا قوة يعمل لها ألف حساب، وأعزة لا يقبلون الضيم والإذلال؛ كل ذلك بعد أن هب المرابطون لنجدة إخوانهم، واجتمعت كلمتهم وتوحدت صفوفهم وتألفت قلوبهم في ظل منهج الإسلام.
عندما تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه في العقيدة، وكتب أماناً لأهل الأَنْدَلُس ألا يتعرض لأحد منهم في بلده، وقال: "أنا أول مُنتَدَبٍ لنصرة هذا الدِّين، لا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسي". وأعلن النفير العام في قوات المرابطين، فأقبلت من مراكش، ومن الصحراء وبلاد الزاب، ومن مختلف نواحي المغرب يتوافدون على قيادتهم الربَّانية. وجهزت السفن لتحمل هذه القوات، وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود ابن عائشة. وتمركز في الجزيرة الخضراء، وتتابعت كتائب المرابطين، وكانت معهم الجمال الكثيرة، وقد أثار وجودها دهشة الأَنْدَلُسيين؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، وقد أثَّر وجودها على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها.
ولما تكامل الجيش المرابطي بساحل الجزيرة الخضراء، ركب الأمير يوسف ومعه قادة من خيرة قادة المرابطين وصلحائهم، ولمَّا ركب واستوى على السفينة رفع يديه نحو السماء مناجياً:
"اللهم إن كنت تعلم أن جوازنا هذا إصلاح للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه".
وسهل الله عبورهم، وكان ذلك يوم الخميس بعد الزوال منتصف ربيع الأول 479هـ يونيو 1086م، وصلى الأمير يوسف بالجزيرة الخضراء صلاة الظهر، وقام أهل الجزيرة بضيافة المرابطين، وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم، وبدأ الأمير يوسف في تحصين الجزيرة الخضراء، ورمَّم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها، وشحنها بالأسلحة والأطعمة، وكلف مجموعة من جنوده بحراستها ثم ساروا نحو إشبيلية.
ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه، فجعل الأَنْدَلُسيين جيشاً مستقلاً بذاته، وأسند قيادته إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الذي تولى المقدمة، وأسندت الميمنة إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس، وجعل أهل شرق الأَنْدَلُس على الميسرة، وباقي أهل الأَنْدَلُس فى الساقة.
أمَّا الجيش المرابطي فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه، وأما سير بن أبى بكر فتولى قيادة الحشم، وبقية المرابطين مع حرس الأمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش الإسلامي.
ولما استعرض ألفونسو جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكبرياءه، وقال قولة تدل على تجذر كفره وعتوه وفساد معتقده، حيث قال: "بهذا الجيش ألقى محمداً وآل محمد والأنس والجن والملائكة".
"وكانت جموع الرهبان والقسيسين أمام جيش ألفونسو يرفعون الإنجيل والصلبان لإذكاء الحماس الدِّيني في نفوس الجنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفًا.
وخرج ألفونسو بجيشه نحو بطليوس، وكتب إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد كتاباً، جاء فيه: "إن صاحبكم يوسف قد تعنَّى من بلاده وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقى، ولا أكلفكم تعباً، وأمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم".
وقصد ألفونسو بذلك أن تكون المعركة خارج بلاده فإذا انهزم ولحقوا به يكون مسيرهم في أرضهم ولابد من الاستعداد لاكتساح بلاده، وبذلك تنجو من التدمير، وإذا انتصر حدث ذلك في أرض أعدائه.
وصل ألفونسو إلى بطحاء الزِّلاقَة وخيم على بعد ثلاثة أميال من الجيش المسلم يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه المتحاربون.
لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجاً كبيراً, حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالي الأَنْدَلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب، يُقتِّل رجالهم ويسبى نساءهم، ويأخذ منهم الجزية، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتلاعب بمصيرهم، وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأَنْدَلُس، لتعم النصرانية في سائر البلاد، ويرتفع الصليب على أعناق العباد، وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته ويبددون أحلامه.
وكان رأي المرابطين أن المعركة في الأَنْدَلُس مصيرية للأمة الإسلاميَّة؛ وبذلك لا يمكن الاعتماد على شعب مهزوم وقع في أسر المعاصي والذنوب.
كما أن انتصارهم في الأَنْدَلُس يرعب أعداءهم وخصومهم في المغرب، ويتم بنصرهم إنقاذ الإسلام والحضارة في ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي.
وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتاباً يعرض عليه الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب. ومما جاء في كتاب الأمير:
"بلغنا يا أذفونش أنَّك نحوت الاجتماع بنا، وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادعائك (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)".
ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال: "أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟".
وقال لرسول الأمير يوسف: "قُل للأمير لا تتعب نفسك أنا أصل إليك، وإنَّنا سنلتقي في ساحة المعركة".
ومعنى ذلك أن ألفونسو اختار الحرب، وحاول ألفونسو حامي حمى النصرانية في إسبانيا أن يخدع المُسْلِمِين ويمكر بهم، فكتب إلى الأمير يوسف في تحديد يوم المعركة فكتب إليه: "إن بعد غد الجمعة لا نحب مقابلتكم فيه لأنَّه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثير في محلتنا، وبعده الأحد عيدنا، فنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين".
فكان جواب الأمير يوسف: "اتركوا اللعين وما أحب". فاعترض المُعْتَمِد، وقال للأمير يوسف: "إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فلا تطمئن إليه، وقصده الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار".
واستعد المسلمون لرصد تحركات النصارى، وكان حدس المُعْتَمِد صائباً صحيحاً، ورصدوا تحرك العدو نحوهم.
وانقض الجيش الذي يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر المسلمين من الأَنْدَلُسيين فتصدَّى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم الأَنْدَلُسيين، وصمد المرابطون أمام هجوم النصارى، واضطر النصارى إلى الارتداد إلى خط دفاعهم الثاني.
واحتدم الصراع، وزحف ألفونسو ببقية جيشه، وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب الأَنْدَلُسيين قبل خوضهم المعركة، ولاذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس للاحتماء بها، ولم يصمد منهم إلا المُعْتَمِد بن عَبَّاد وقومه، وأهل إشبيلية.
وأبلى المعتمد بلاءً عظيماً، وأصيب بجروح بليغة، واستمرت المعركة الرهيبة، وصمد المُعْتَمِد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف، وتكسرت الرماح، وصبر المُسْلِمُون في المعركة صبراً عظيماً.
وبدأت قوة المُسْلِمِين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى، وأيقن ألفونسو ببلوغ النصر مُعتَقِداً أن هذه هي قوة المسلمين المقاتلة التي ظهر الإعياء عليها، وأخذت موقف المدافعة.
ولم يستغرق ألفونسو طويلاً في أحلامه حتى وثب جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله الأمير يوسف بقيادة سير بن أبي بكر على رأس الحشم لمساندة القوات الإسلاميَّة؛ فتقوَّت بذلك معنوياتهم في معركة مالت إلى هزيمتهم. وزحف الأمير يوسف بحرسه المرابطي، وقام بعملية التفاف سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف، ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها، ولم ينج منهم إلا القليل. وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها الأرض، ورغاء الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر في نفوس الأعداء وهلعت قلوبهم.
وذهل ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّين، وأتته الأخبار من داخل المعسكر باستيلاء المرابطين عليه، وأنَّه خسر حوالي عشرة آلاف قتيل.
ووجد ألفونسو نفسه محاصراً من المسلمين فاضطر للقتال متقهقراً نحو معسكره المحروق، ولكن يوسف لم يترك له الفرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضَّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت. وكان الأمير يوسف يبث الحماس في نفوس المسلمين قائلاً: "يا معشر المُسْلِمِين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رُزِق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة". وكان رحمه الله يقاتل في مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة والسبعين.
وكان فقهاء المسلمين وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين، وفي هذا الجو الرهيب من القتال الذي دام بضع ساعات وسقط فيه آلاف القتلى، وغمر الدم ساحة المعركة عندما دفع الأمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال، فترجل منهم أربعة آلاف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند ونزاريق الزان.
اندفعوا إلى المعركة اندفاع الأسود فحطموا مقاومة النصرانية، وتكسَّرت شوكتهم، وانقض أحد المسلمين على ألفونسو وطعنه في فخذه، ولاذ النصارى بالفرار، ولجأ مع خمسمائة فارس من فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظلام لينجو من سيوف المرابطين.
ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم، وكانت مناسبة لألفونسو الذي تابع سيره مع الظلام إلى طُلَيْطِلَة، وصل إليها مغموماً حزيناً كسيراً جريحاً بعد أن فقد خيرة رجاله وجنوده وقادة جيشه.
وفقد ألفونسو في الزِّلاقَة القسم الأعظم من جيشه، وأمر يوسف بضم رؤوس القتلى من النصارى، فعمل المسلمون منها مآذن يؤذنون عليها.
لقد أصبح يوم (الزِّلاقَة) عند المغاربة والأَنْدَلُسيين مثل يومي (القادسية) و(اليرموك)، وتردد صداه في الشرق والغرب، وذاع صيت القائد الظافر ابن تاشفين الذي لقب منذ ذلك بأمير المسلمين.
الخلاصة
عندما غفل المسلمون عن دينهم اليوم افتقروا إلى أمثال يوسف بن تاشفين، وجاء ديرك نيبل ليعلمهم واجبهم!!!.
فلم يكتف المسلمون بأنهم مهانون، بل جاء الآخرون يعلموهم معنى التراحم ونصرة إخواننا المنكوبين، مع أن المسلم غني بتعاليم دينه..نعم.. من أدار ظهره لدينه فلا خير فيه لإخوانه.
احمد حسنى