مقالات جديدة في نقض و فضح كلام الملاحدة العقيم ،والرد على دعاويهم ومغالطاتهم فأسال الله التوفيق والسداد يتبع
عرض للطباعة
مقالات جديدة في نقض و فضح كلام الملاحدة العقيم ،والرد على دعاويهم ومغالطاتهم فأسال الله التوفيق والسداد يتبع
الإجابة على أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق
د.ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على أسئلة الملاحدة واللادينيين حول الغاية من الخلق ،وهي في الحقيقة ليست أسئلة بل شبه في صورة أسئلة .
أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق
يقول الملاحدة أنتم أيها المسلمون عندما نسألكم لماذا خلق الله البشر ؟ تجيبون خلقنا الله لنعبده ، و السؤال لكم أيها المؤمنون : هل يحتاج الله لعبادتنا ؟ وما الذي سيستفيده من عبادتنا له ؟ ،وإذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ وإذا كان خلقنا لعبادته فلماذا يعبده بعض الناس لا كل الناس ، ولماذا لم يجعلنا كلنا نعبده ؟ ولماذا لم يستأذن منا قبل أن يخلقنا ؟
دأب الملاحدة واللادينيين سوء الأدب مع رب العالمين
دأب الملاحدة في كل زمان ومكان سوء الأدب مع الله ،و الاعتراض على أحكامه و أفعاله فيقول الواحد منهم معترضا – وإن كان لا يؤمن بالله أصلا - لماذا خلقني الله ؟ ويكلم أحدهم الله – عز وجل - متبجحا : لماذا خلقتني يا الله ؟ لماذا تريد مني أن أعبدك أتحتاج عبادتي ؟ لماذا لم تستأذن مني قبل أن تخلقني ؟ إن كنت تحبنا فلماذا لم تخلقنا كلنا صالحين نؤمن بك ؟ لماذا لم تدخلنا الجنة دون المرور بالدنيا ؟ إلى غير ذلك من التجاوزات وسوء الأدب : ﴿ و َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ( الزمر : 67 ) .
وكيف لمخلوق لا يساوي في الكون شيئا أن يعترض على ملك الكون و ملك الملوك ؟!! كيف له أن يعترض على تصرف الله في الكون و الخلق خلق الله و الكون ملك الله ؟!! قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) .
وإذا كان لأي مالك التصرف فيما يملكه بما شاء وكيف شاء ، و إذا كان لصاحب المال التصرف في ماله بما شاء وكيف شاء ،وإذا كان للسيد حرية التصرف في عبده بما شاء وكيف شاء فأي نوع من العقول هؤلاء الملاحدة يعترضون على فعل الله في ملكه و فعل الله في عبيده ؟! قال تعالى : ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾( آل عمران : 26 ).
لماذا خلقنا الله ؟
بين الحق سبحانه و تعالى الغاية الكبرى التي من أجلها خلق الجن و الإنس فقال سبحانه : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56) ،و إذا كان الله هو الخالق فله الحق أن يُعبَد إذا كان الله هو الخالق فهو المستحق بالعبادة ، و نحن نعبد الله ؛ لأنه خلقنا وأمرنا أن نعبده قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 21 )
ومما ينبغي علينا معرفته أن الإنسان أصبح كائنا حيا موجودا بعد أن لم يكن له وجود ولا حياة ، و خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئا ووهب الحياة له ما هو إلا فضل و جود وكرم من الله للإنسان ،و نعمة الوجود و نعمة الحياة لا تقدر بثمن ،والإنسان لا يتمتع فقط بنعمة الوجود والحياة بل يتمتع أيضا بنعمة الصحة و نعمة السمع و نعمة البصر و نعمة التذوق و نعمة اللمس و نعمة الكلام و نعمة الحركة إلى غير ذلك من النعم التي يتمتع الإنسان بها .
و إذا كان من فعل لك معروفا له حق أن يشكر ، و أن تذكر معروفه وتكسبه المقالة الحسنة فهل الخالق واهب النعم للإنسان لا يستحق منا الشكر و التقدير والاعتراف بفضله وجوده وكرمه ؟!!
وعبادتنا لله من شكرنا له ،ونحن لو عبدنا الله طيلة حياتنا ما وفيناه حق نعمة واحدة وهبنا إياها فكيف بكل هذه النعم الكثيرة التي لا تعد و لا تحصى ؟!! قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( النحل : 18 )
وعبادة الله في حد ذاتها نعمة عظيمة و خير كبير إذ العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه ، وما يحبه الله عبارة عن أوامر يحب أن تفعل و نواهي يحب أن تجتنب ،ولا يأمر الله إلا بكل معروف ، ولا ينهي إلا عن كل منكر ،وفعل المعروف ،و ترك المنكر فيه الخير و الصلاح لنا ولمجتمعنا والسعادة لنا و لمجتمعنا ،و كأن الله خلقنا لننعم بعبادته و ننعم بشرعه .
وإذا عبدنا الله حق عبادته سعدنا في الدنيا و فزنا بالجنة في الآخرة قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل:97) ،و قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ﴾ ( البقرة : 82 ) ، و قال تعالى : ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله يُدْخِلهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم ﴾ ( النساء : 13 ) و قال تعالى : ﴿ إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ( الأحقاف : 13 - 14 ) .
و الالتزام بشرع الله و عبادته سبحانه يؤدي إلى السعادة في الدنيا ،ويترتب على الالتزام بشرع الله و عبادته الفوز و السعادة في الآخرة ،و كأن الله خلقنا لننعم بطاعته في الدنيا و ننعم– إذا أطعناه في الدنيا – بجنته في الآخرة وكأن الله خلقنا كي نعيش في سعادة في الدنيا بالتزام شرعه و كي نعيش في سعادة في الآخرة بالعيش في الجنة إذا التزمنا شرعه في الدنيا .
.
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلا : لماذا يريد الله منا أن نعبده أيحتاج عبادتنا ؟
إن من يعترض على الله قائلا لماذا تريد مني يا الله أن أعبدك أتحتاج عبادتي ؟ كالعبد الذي يعترض على سيده أمره بشيء فقال له : سيدي لماذا تريد مني أن أفعل ما تأمرني به أتحتاج ذلك ؟ و هذا خطأ ،ووجه الخطأ في ذلك أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال ؛ لأنه عبد لسيده ،وهل يعقل أن يحاكم العبد سيده ؟!! ونحن عبيد لله فكيف لنا أن نحاكمه ؟!! هذه واحدة .
و الأمر الآخر : هذا السؤال نفسه مبني على مغالطة أن كل أمر يأمر به السيد عبده يحتاجه السيد من العبد ،وهذا ليس صحيحا فقد يكون الأمر اختبارا من السيد لعبده ،وقد يكون الأمر تشريفا للعبد بفعل شيء جدير أن يفعله ، وقد يكون الأمر لمحبة السيد أن يرى امتثال عبده له وطاعته له ، وقد يأمر السيد عبده بشيء إذا فعله رفع منزلته عنده و أفاض عليه بعطايا عظيمة ، ولله المثل الأعلى .
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده ،و في عبادته سبحانه صلاحنا و سعادتنا في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة فنحن الذين نحتاج عبادته ،ونحن من ننتفع بعبادته فأمره لنا بالعبادة من حبه لنا ،ومن فضله وكرمه علينا قال قتادة و غيره من السلف : « إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه ، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم » .
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا تشريفا لنا و تمييزا لنا عن كثير من خلقه سبحانه .
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده ؛ لأنه يحب أن يرى امتثالنا و طاعتنا له سبحانه ،وإذا طلب منك ملك من ملوك الدنيا فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك ،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!!.
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا لينعم علينا في الآخرة - إذا عبدناه وحده وأطعناه - بالسعادة الأبدية ،وذلك كرم منه و فضل .
وكون الله هو الخالق فهذا يقطع بعدم احتياجه لغيره فكيف ندعي أنه يحتاج عبادتنا ،وهو لايحتاج لغيره ؟!!
و الله – عز وجل - ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة ؛ لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق و أيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ» وصيامِ «عَمْرٍو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك .
و الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان إنما تنفع صاحبها، وكذلك الأعمال السيئة لا تضر إلا صاحبها، وأما الله تعالى فغني عن العالمين فالخلق هم المستفيدون من الطاعة والمتضررون من المعصية قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ (فصلت : 46 )
وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ ( إبراهيم : 8 ) أي : إن تكفروا بالله أنتم وجميع أهل الأرض فلن تضروا الله شيئًا; فإن الله لغني عن خلقه, مستحق للحمد والثناء, محمود في كل حال .
و قال تعالى : ﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً ﴾ ( النساء : 131 ) أي : إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه فإنه سبحانه غني عنكم; لأن له جميع ما في السموات والأرض. وكان الله غنيّاً عن خلقه, حميدًا في صفاته وأفعاله .
وفي الحديث القدسي قال الله - عز وجل - : « يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر » .
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟
إن من يعترض على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟ كالعبد الذي يعترض على سيد اشتراه فقال له : لماذا لم تستأذن مني قبل أن تشتريني ؟ و هذا خطأ ، ووجه الخطأ في ذلك أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال ؛ لأنه عبد مملوك لا اختيار له مع اختيار سيّده ومالكه .
و من يعترض على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟ كالابن الذي يعترض على أمه قائلا : لماذا لم تستأذنيني يا أمي قبل أن تلديني ؟ ولا يخفي ما في هذا الاعتراض من السخف والغلط .
ولاشك أن الوجود بعد العدم خير ، ووجود الإنسان في هذا الكون وتمتعه بالحياة خير ،وفعل الخير لا يحتاج استئذان أرأيت أما تستأذن رضيعها لتغذيه ؟ّ! أرأيت أبا يستأذن ابنه كي يربيه ؟! أرأيت شخصا يستأذن شخصا كي ينقذه ؟!!، أرأيت غنيا يستأذن فقيرا كي يعطيه مالا ؟!! ولله المثل الأعلى فقد خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا وجعله كائنا بعد أن لم يكن ،وبدل من أن يشكره الإنسان على خلقه له يتبجح قائلا هل استأذنتني يا الله قبل أن تخلقني ؟! منطق معكوس .
و من يقول إذا كان وجود الإنسان في الدنيا عبارة عن امتحان من الله للإنسان ،و أنا لم أوافق على دخول هذا الامتحان فليس من العدل إقحامي في امتحان لم أوافق عليه يقال له اعتراضك لا يصح فأنت عبد لله ،و السيد يتصرف في مملوكه بما شاء .
و هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة فمن عمل صالحا في الحياة الدنيا كان الجزاء جنة عرضها السموات والأرض فهذا الامتحان من أجل جائزة كبرى لمن نجح في الاختبار ألا وهي دخول الجنة ،ومن رشح للفوز بجائزة كبيرة مقابل اجتياز اختبار لاشك أنه سيقبل الاختبار ،والناس تتسارع في المسابقات من أجل الفوز فكيف بالجنة ألا تستحق أن نتسارع من أجلها ؟ وهذه الدنيا امتحان يبين من يستحق دخول الجنة و من لا يستحق .
الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لم يخلق الله كل البشر صالحين ؟
يتسائل الملاحدة في دهشة إذ كان الله يحبنا ،ويحب أن نعبده فلما لم يخلقنا كلنا طائعين صالحين ؟! والجواب أن الله هو مالك البشر ،والمالك يتصرف في ملكه بما شاء وكيف شاء قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) ،وقال تعالى : ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأعراف : 54 ).
والإنسان حر في اختيار طريق الخير و طريق الشر ،و حر في اختيار طريق النور و طريق الظلام ،و حر في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر قال تعالى : ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ ( الإنسان : 3 ) ،وقال تعالى : ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ( الكهف : 29 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس : 99) ،و مادام الإنسان حرا فاختياره قد يكون حجة له أو حجة عليه .
.
وقد اقتضت حكمة الله أن يكون الإنسان حر الإرادة غير مجبر على الإيمان أو الكفر ،و الله حكيم في أفعاله فكل فعل يفعله له حكمة عرفناها أو لم نعرفها قال تعالى : ﴿ و اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( النساء : الآية 26 )و قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ( الأنعام : 18) و قال تعالى : ﴿ و َإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (العمران : 62 ) .
وحرية اختيار الإنسان ميزة قد ميزه الله بها عن كثير من المخلوقات فليس الإنسان كالحيوان أو الجماد بل الإنسان يطيع الله باختياره ،ومن يعترض على عدم جعل الناس جميعا طائعين مؤمنين هو في الحقيقة يعترض على جعل الإنسان مخيرا لا مسيرا هو في الحقيقة يعترض على الميزة التي تميز بها الإنسان عن الحيوان و عن الجماد .
و لو جعل الله جميع الناس طائعين صالحين عابدين له لربما ظُن أنه يحتاج لعبادتهم .
وبوجود الطاعة والمعصية يحدث التدافع بين الخير و الشر ،ويحدث التدافع بين الحق والباطل ،ويحدث التدافع بين الكفر والإيمان ،و تظهر حلاوة الطاعة و مرارة المعصية ،و تظهر حلاوة التوبة ومرارة التمرد والعصيان ،ولولا قبح المعصية ما عرف حسن الطاعة ،ولولا وجود العصاة ما عرف نعمة الهداية ،ولولا اقتراف المعاصي ما عرف نعمة التوبة ،و الضـد يظهـر حسـنه الضـد وبضدهـا تتمـيز الأشـياء .
الرد على سؤال الملاحدة : إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟
يتسائل الملاحدة في دهشة إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ ، وهذا السؤال مبني على مغالطة مبناها أننا مادمنا لا ندرك الحكمة من أمر الله لنا بالعبادة فلا حكمة و الأمر عبث ، و هذا الكلام غير صحيح إذ كثير من الأمور لا ندرك حكمتها ،وكوننا لا ندرك حكمتها ليس معناه ألا يوجد حكمة إذ علمنا قاصر ،وليس معنى عدم العلم العدم .
والواحد منا قد لا يدرك الحكمة من فعل شخص شيئا من الأشياء ،وهو مثله في البشرية و مع ذلك لا يستطيع أن يقول ألا حكمة في فعله فكيف لو كان عبقريا من العباقرة أو عالما من العلماء ؟!! ،وكيف لو كان الفاعل هو خالق العباقرة و العلماء وجميع البشر ؟!
والواحد منا يتعفف من أن يفعل شيئا عبثا ،ويستنكر على من يفعل شيئا بلا هدف فكيف ننسب ذلك للخالق ؟!!
وسؤال الملاحدة : إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ مبني على مغالطة مبناها أن الفعل الذي لا يستفيد الشخص من فعلِه فعلُه عبث ،وهذا غير صحيح إذ قد يفعل الشخص شيئا لا يستفيد منه ،ولا ينتفع به بل ليفيد غيره و لينتفع به غيره فقد يفعل الواحد منا شيئا من قبيل الكرم و الجود والفضل أو من قبيل حب الخير للناس وحب الخير للغير .
و الله قد أنعم علينا بالوجود و الحياة فضلا منه وجودا ،وهل يصح جعل فعل الكريم الجواد من قبيل العبث وعدم الغائية ؟!! و من حب الله لنا أن خلقنا و أمرنا بعبادته وهل يصح جعل الفعل الدال على المحبة من قبيل العبث وعدم الغائية ؟!!!.
الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لم تدخلنا يا الله الجنة دون المرور بالدنيا ؟
يقول الملاحدة أنتم أيها المؤمنون تزعمون أن الله خلقنا لننعم في الآخرة بالجنة فلماذا لم يدخلنا الجنة دون المرور بالدنيا ؟ والجواب أن الله هو مالك البشر ،والمالك يتصرف في ملكه بما شاء وكيف شاء قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) ،وقال تعالى : ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأعراف : 54 ).
و الله حكيم في أفعاله فكل فعل يفعله له حكمة عرفناها أو لم نعرفها قال تعالى : ﴿ و اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( النساء : الآية 26 )و قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ( الأنعام : 18) و قال تعالى : ﴿ و َإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (العمران : 62 ) .
وقد جعل الله الدنيا دار اختبار للبشر تبين من يستحق دخول الجنة منهم ممن لا يستحق ،وتبين المؤمن من الكافر ،وتبين الصالح من الطالح مما هو معلوم لله قبل ظهوره في الحاضر و الواقع فيكون علم شهادة بعد أن كان علم غيب قال تعالى : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ (الكهف : 7 ) وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ( الملك: 2) وقال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( آل عمران: 179) ، و قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ( محمد: 4) ، وقال تعالى : ﴿ أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( آل عمران: 142).
.
وليس من العدل التسوية بين الصالح والطالح ، وليس من العدل التسوية بين المؤمن به و الكافر به قَالَ تَعَالَى : ﴿ أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون ﴾ (القلم : 35 – 36 ) ، و قَالَ تَعَالَى : ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ﴾ ( السجدة : 18 )
وإذا كان الواحد منا لا يرضى أن تساوي المدرسة أو الكلية بين الطالب الذي يذاكر و الذي لا يذاكر ،و لا يرضى أن تساوي المدرسة أو الكلية بين الطالب الناجح النبيه والطالب الفاشل الكسول فكيف بالخالق العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أنعتقد أنه يساوي بين المؤمن والكافر أو يساوي بين الطائع والعاصي يوم القيامة ؟!!
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
الملحد و دعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون
د.ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله نقض دعوى الكثير من الملاحدة أن قوانين الكون قد أنشأت الكون ،ونقض دعوى بعض الملاحدة أن بسبب وجود قانون كقانون الجاذبية فإن الكون يمكنه وسيمكنه خلق نفسه من العدم ، ونقض قول بعضهم نشأة الكون لم تكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء ،و لم يكن الكون بحاجة إلى إله يشعل فتيل ما لخلقه وعلى ما يزعمون الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون .
ما هي القوانين الفيزيائية ؟
قبل بيان بطلان دعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون لابد أن نعرف ما هي القوانين الفيزيائية فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ، والقوانين الفيزيائية عبارة عن وصف لظاهرة فيزيائية معينة أو سلوك معين للمادة يتكرر تحت نفس الظروف في صورة معادلات وثوابت يتم استنباطها من خلال دراسة تلك الظواهر أو السلوكيات للمادة ،وتكون هذه القوانين عادة عبارة عن استنتاجات تستند إلى تجارب علمية تمت على مر فترة زمنية طويلة فأصبحت مقبولة بشكل عام ضمن المجتمع العلمي.
وجود قانون يدل على وجود مقنن له
من البديهيات أن وجود قانون ما يدل على وجود مقنن واضع لهذا القانون سن هذا القانون ،وواضع القانون ( الفاعل ) لابد أن يسبق القانون ( المفعول ) ،والكون الذي نعيش فيه محكوم بقوانين فلابد أن يكون لها من قننها و سنها فمن الذي فرض هذه القوانين على الكون وسنها ؟
من الذي فرض قوانين الكون على الكون ؟
بما أن أي قانون لابد له من مقنن سنه فمن الذي فرض قوانين الكون على الكون ؟
والجواب الذي سن هذه القوانين التي تحكم الكون إما أن يكون الكون نفسه أو القوانين نفسها أو شيء آخر خارج عن الكون .
و إن قالوا الكون نفسه فمقتضى قولهم أن الكون يحرك نفسه بنفسه ،و لا يمكن أن يكون الشيء بعينه محركاً لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، و هذا محال .
و إن قالوا من سن القوانين القوانين نفسها فهذا تصوير للقوانين على أنها محرك و هذا فاسد ؛ لأن القوانين مجرد وصف سلوك لظاهرة في الكون يتكرر تحت نفس الظروف .
و إما أن يكون من سن القوانين شيء خارج عن الكون فهذا إثبات لشيء خارج عن الكون ونحن نقول أنه الله .
العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء ، و ليس لماذا تعمل ومن الذي عملها ؟
مما ينبغي معرفته أن العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء ، و ليس لماذا تعمل الأشياء ومن الذي عملها ؟ أي يعرفنا آلية عمل الأشياء ،وطريقة عملها ،ولا يفسر العلم لنا لماذا تعمل الأشياء ؟ ، ومن الذي جعلها تعمل بهذه الطريقة ؟ فلا يبحث العلم عن الفاعل بل يبحث عن الفعل ،ولا يبحث عن الحادث بل يبحث عن الحدث ،ولا يبحث عن موجِد القوانين بل يبحث عن القوانين نفسها .
إدراك كيفية عمل الشيء لا ينفي وجود مسبب للشيء
مما ينبغي معرفته أن إدراك كيفية عمل الشيء لا ينفي وجود مسبب للشيء فليس معنى أني عرفت كيف تطير الطائرة أن الطائرة ليس لها مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للطائرة مخترع ومصمم ، و قد اخترع الطائرة الأخوان رايت - أورفيل وويلبر - ،و آلية عمل الطائرة لا تنفي وجود مخترع للطائرة ولا تنفي وجود مصمم للطائرة .
وليس معنى أني عرفت كيف تعمل السيارة المعتمدة على البنزين أن السيارة المعتمدة على البنزين ليس لها مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للسيارة المعتمدة على البنزين مخترع ومصمم ، ومخترع السيارة المعتمدة على البنزين هو كارل فريدريش بنز ،وآلية عمل السيارة المعتمدة على البنزين لا تنفي وجود مخترع للسيارة المعتمدة على البنزين ولا تنفي وجود مصمم لها.
وليس معنى أني عرفت كيف يعمل المصباح الكهربائي أن المصباح الكهربائي ليس له مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للمصباح الكهربائي مخترع ومصمم ومخترع المصباح الكهربائي هو توماس ألفا إديسون ،و آلية عمل المصباح الكهربائي لا تنفي وجود مخترع للمصباح ومصمم له .
و من هنا نستنتج أيضا أنه ليس معنى أن العلماء قد عرفوا كيف نشأ الكون ،وأسباب نشأة الكون وعرفوا الآليات التي يعمل بها الكون أن الكون ليس له موجِد ،وليس له مصمم ،وليس له مسبب سبب أسباب نشأته،والقول بأن معرفة العلماء كيف نشأ الكون ،والآليات التي يعمل بها الكون يغني عن البحث عن موجد للكون و يغني عن البحث عن سبب وجود الكون قول غير صحيح إذ فيه خلط بين آلية نشأة الكون و موجِد الكون ومسبب الكون .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حَبَنَّكَة الميداني : ( قد يعض الكلب الحجر الذي رآه يتجه نحوه ليصيبه، أما الإنسان المفكر فإنه يبحث عن الذي رمى الحجر نحوه بقصد، فإذا عرفه واستبان أنه قد قصد قتله أو إيذاءه حاول أن ينتقم منه دفاعاً عن نفسه، ولم يفكر بالانتقام من الحجر مطلقاً.
وهنا نقول: إن الماديين الذين يقفون عند الأسباب المادية للظواهر الكونية التي يتجلى فيها القصد، ولا يبحثون عن السبب الحقيقي، مع أن هذه الأسباب تحتاج هي أنفسها إلى أسباب تفسر ظاهراتها وتعلل حدوثها، إنما يفكرون بمثل دماغ الحيوان الذي يعض الحجر الذي قُذف عليه ) .
إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعاد سبب الظاهرة
مما ينبغي معرفته أن إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعاد سبب الظاهرة ، و الإقرار بوجود ظاهرة لا يلغي وجود سبب لها كما أن الإقرار بالفعل لا يلغي وجود فاعل ، و على سبيل المثال لو وقعت جريمة من الجرائم فتفسير كيفية وقوعها لا يغني عن وجوب البحث عن فاعل لهذه الجريمة .
و العلماء يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف تعمل القوانين في الأشياء ، ونحن نريد إجابة عن موجد الكون و موجد القوانين التي تحكمه .
لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود
لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود ،ولا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج حدثا من الأحداث بل غاية قوانين الطبيعة وصف العلاقة بين أحداث معينة بعدما أوجدتها الأسباب ،ومن يعتقد أن القوانين تستطيع أن تسبب شيئا من الأشياء كمن يعتقد أن القوانين الحسابية يمكن أن توجد مالا ،و كمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها و هذا قول في غاية السخف والسقوط .
بطلان دعوى أن توافر الظروف لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبب
القول بأن توافر الظروف لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبب ،والقول بأن توافر الظروف لنشأة الكون كاف لنشأة الكون فلم يكن الكون بحاجة إلى إله يشعل فتيل ما لخلقه قول في غاية السخف والسقوط ،وهو كمن يقول توافر الظروف لحدوث الجريمة أدي لحدوث الجريمة ،وعليه فليس للجريمة مرتكب .
لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون
لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون كما لا تعارض بين مخترع الشيء و آلية عمل الشيء ، ووجود حدث لا ينفي وجود محدِث له بل يؤكد على وجوده .
و لا تعارض بين وجود قوانين تتحكم في عمل الكون و بين وجود خالق للكون فالله يدير الكون من خلال قوانين قد سنها للكون ،ولا يدير الكون بالمعجزات ،وهذا لا يمنع من التدخل الإلهي المباشر في بعض الأحيان فالله خالق القوانين ، و إذا شاء أن تعطل عطلها .
و الاعتقاد بوجود الله و أنه مسبب الأسباب و أنه خالق القوانين الفيزيائية لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح ، وإنّما هو اعتقاد بأن الله هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعية ، ومسبب لهذه القوانين الفيزيائية ،و حتى لو سلمنا جدلا أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية و كل القوانين التي تدير الكون فهذا لا ينفي وجود الخالق بل هذه الأسباب الطبيعية و هذه القوانين دالة على موجد لها فكل سبب له مسبب ، وكل قانون له مقنن و الله عز و جل مسبب هذه الأسباب الطبيعية ،وخالق هذه القوانين .
قانون الجاذبية ولد بعد نشأة الكون فكيف يكون سببا لنشأة الكون ؟
مما ينبغي معرفته أن قانون الجاذبية ولد بعد نشأة الكون فبعد وقوع الانفجار العظيم وانخفاض درجة حرارة الكون بشكل متوالي ولدت الجاذبية التي حالت دون تبعثر نواتج الانفجار العظيم وعليه كيف تكون الجاذبية سببا لنشأة الكون ، وهي قد ولدت بعد وجود الكون ؟!!
هل الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون ؟
انتشر بين الملاحدة مقولة الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون ،وهذا و إن دل فإنما يدل على قلة علم هؤلاء الملاحدة وضحالة مستواهم الثقافي إذ وجود الله من القضايا الإيمانية الغيبية ، و القضايا الإيمانية الغيبية لا تدرك بالتجارب و لا المختبرات و العلم المادي لا يتدخل في القضايا الإيمانية الغيبية , و العلم الحديث كله لا يملك دليلاً صحيحاً واحداً يستطيع أن يثبت عدم وجود خالق للكون بل الكون شاهد على وجوده سبحانه .
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال
1- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
2- كيف بدأ الخلق د.عمرو شريف
3- العقيدة في الله د. عمر سليمان الأشقر
4- الشرك في القديم والحديث الشيخ أبو بكر محمد زكريا
5- كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني
الملحد و خطأ حصر الأدلة العلمية في الأدلة التجريبية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله النقض لأحد المغالطات الشديدة لهم ألا وهي حصر الأدلة العلمية في الدليل التجريبي فقط ،ودعواهم أن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له ودعواهم أن ما لا يخضع للبحث التجريبي لا يسمّى علميًّا .
ما هو الدليل العلمي ؟
قبل بيان مغالطة الملاحدة في حصر الأدلة العلمية في الدليل التجريبي لابد أن نعرف ما هو الدليل العلمي ،والدليل العلمي مكون من كلمتين : كلمة دليل و كلمة علمي .
و الدليل هو المرشد إلى المطلوب أو ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة مطلوب خبري ( حكم من الأحكام ) ، أو أنه ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ،و الأمر الذي يكون قبل إقامة الدليل عليه يسمى دعوى، ووقت إقامة الدليل يسمى مطلوباً ، وبعد إقامة الدليل يسمى نتيجة .
والعلمي نسبة إلى العلم ،و العلم هو معرفة الشيء على حقيقته أو معرفة الشيء على ما هو به في الواقع أما معرفة الشيء على غير حقيقته كمعرفته باعتقاد أمر غير واقع فيه فيعد من الغلط والجهل به، فلا يسمى ذلك علماً.
هدف الدليل العلمي و أقسامه
الغرض من الدليل العلمي هو التوصل إلي معرفة شيء من الأشياء على ما هو به في الواقع ،وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق الحس كالعلم بأن النار محرقة ،والعلم بأن الثلج بارد ،و العلم بأن الشخص له رجلان ويدان ورأس ،وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق التجربة كالعلم بأن النعناع يفيد تقلصات البطن ،والليمون يفيد الزكام ، وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق العقل كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، والعلم بأن الكل أكبر من الجزء ،والعلم بأن النقيضين لا يجتمعان ،والعلم بأن لكل حادث محدِث ،ومن هنا ندرك أن الدليل العلمي أقسام فمنه الدليل الحسي المادي ومنه الدليل التجريبي و منه الدليل العقلي .
الدليل العلمي ليس منحصرا في الدليل التجريبي
الدليل العلمي ليس نوعا واحدا ،و ليس منحصرا في الدليل التجريبي ؛ لأن العلوم أصناف شتى ،و كل علم من العلوم له الأدلة التي تناسبه ،ودليل العلوم الطبيعية التحليلية ليس كدليل العلوم الإنسانية .
و من العلوم ما يناسبه الدليل الحسي المادي و الدليل التجريبي كعلم الفيزياء و الكيمياء والأحياء ،وهذه العلوم الثلاثة علوم طبيعية تحليلية تجريبية تقوم على ملاحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية ووضع الفروض لها واختبار هذه الفروض بالتجربة أو ما يقوم مقامها ثم استنتاج الفرض الصحيح للظاهرة .
ومن العلوم ما يناسبه اللجؤ إلى أفضل التفسيرات كعلوم البدايات مثل بداية الكون و بداية الحياة و اللجؤ إلى أفضل التفسيرات يعتبر قاعدة علمية في التفضيل بين الأدلة أكثر من كونها دليل قائم بحد ذاته فإذا كان يمكن تفسير ظاهرة ما بشكل بسيط، وبشكل معقد، فإن التفسير البسيط هو الأفضل .
و من العلوم ما يناسبه الدليل العقلي كعلم الفلسفة أحد العلوم الإنسانية حيث الاعتماد فيه على معلومات عقلية لا تحتاج إلى إحساس وتجربة .
و من العلوم ما يناسبه الوثائق و الآثار كعلم التاريخ أحد العلوم الإنسانية ، وهذا العلم مبني على الوثائق ولا مجال للتجربة فيه حيث نحتاج لإثبات الحادث التاريخي إلى أخبار و آثار تبرهن على وجود هذا الحدث التاريخي في الماضي ،و الوثائق و الآثار التي يعتمد عليها علماء التاريخ قد تكون مكتوبة كالرسائل و السجلات ،و قد تكون غير مكتوبة كالألبسة و النقود و الأوسمة والمباني .
و هناك علوم كثيرة لا مجال للتجربة فيها أو تندر التجربة فيها فأين التجربة في علم اللغة و الأدب ؟ و أين التجربة في علم التاريخ ؟ و أين التجربة في علم المنطق ؟ و أين التجربة في علم الفلسفة ؟ و أين التجربة في علم الاجتماع ؟ و أين التجربة في علم القانون ؟ و أين التجربة في علم الاقتصاد ؟
و من هنا ندرك أن ليس كل الأدلة العلمية أدلة حسية أو أدلة تجريبية ،وأن هناك علوم لا مجال للدليل الحسي أو التجريبي فيها .
الحواس قد تخطيء
بالغ الملاحدة في الاعتماد على الحس في الحكم على الأشياء أشد المبالغة رغم أن الاعتماد على الحس وحده في الحكم على الأشياء قد يؤدي للوقوع في الخطأ فالحس قد يخطئ ،و العقل يصحح خطأ الحواس .
ومن الأمثلة على خطأ الحواس ظاهرة السراب ،وهو نوع من الوهم البصري فهو خدعة بصرية تحدث نتيجة ظروف البيئة المحيطة من اشتداد درجة الحرارة، والأرض المستوية، واختلاف في معامل الانكسار، مما يجعلها في حالة توهج شديد حيث تبدو كالماء الذي يلتصق بالأرض ليعكس صورا وهمية للأجسام وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبيرة .
ومن الأمثلة على خطأ الحواس أيضا ظاهرة انكسار الضوء ،و هي عبارة عن انحراف الضوء عن مساره عند انتقاله إلى وسط شفاف آخر فبدل أن يستمر في الحركة على نفس الخط المستقيم الذي كان يستمر فيه ينحرف عن مساره بنقطه انتقاله بين الوسطين فإذا وضعنا قلماً في كأس ماء بدا القلم للناظر مكسوراً ،و هو ليس كذلك .
ومن الأمثلة على خطأ الحواس أيضا الخداع البصري ،و هو أن يرى الناظر الصورة التي أمامه على غير حقيقتها التي هي عليها في الحقيقة نتيجة أن المعلومات التي تجمعها العين المجردة وبعد معالجتها بواسطة الدماغ تعطي نتيجة لا تطابق المصدر أو العنصر المرئي فالخدع البصرية إذا هي صور و مشاهد مصنوعة مسبقا بطريقة مدروسة لتظهر للناظر بطريقة معيّنة و هي ليست كذلك .
و من هنا ندرك أن الحواس يمكن تضليلها بسهولة ،والدليل الحسي و الدليل التجريبي يعتمد على الحواس في رصد النتائج فهو عرضة للتضليل ،ومما سبق يتبين خطأ الاعتماد على الحواس كمصدر وحيد للمعرفة ،وأن المعرفة لا يمكن أن تبنى فقط على الحواس فالحواس قد توهمنا وتخدعنا .
بطلان دعوى ما لا يدرك بالحواس لا وجود له
كثير ما نقرأ أو نسمع للملاحدة أن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له ، و هذا زعم باطل يغني فساده عن إفساده فهذه الروح التي بنزعها نموت غير محسوسة بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها مع أن الروح موجودة ،ويدرك وجودها بأثرها .
و العقل و الإدراك غير محسوس بالحواس فلا نستطيع أن نسمعه أو نراه أو نشمه أو نلمسه أو نتذوقه مع أن العقل موجود ويدرك وجوده بأثره.
و العدل و الظلم و الحكمة و الحب و الكره و السعادة و الفرح و الرضا و الغضب و غير ذلك من الصفات المعنوية غير محسوسة بالحواس مع أنها موجودة و من أنكرها عد من المجانين .
و الجاذبية موجودة لكنها لا تدرك بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها لكن الجاذبية تدرك بغير الحواس إذ يدرك وجودها بأثرها .
والكهرباء موجودة لكنها لا تدرك بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها بل تدرك بغير الحواس إذ يدرك وجودها بأثرها .
والكون مليء بالموجودات التي لا تقع تحت نطاق الحس و لا تعرف عن طريق الرؤية و إنما نستدل عليها عن طريق العقل و ظهور الآثار .
و الملاحدة يؤمنون بوجود الحس ويجعلونه أصل نظريتهم و أساسها مع أن الحس نفسه غير محسوس فإن قالوا هو محسوس ، فبأي الحواس أثبتوا وجوده بالبصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس ؟! ، و إذا كان الحس موجوداً فقد اعترفوا بموجود غير محسوس ، وإن كان الحس غير موجود فهذا أساس نظريتهم المادية ،وقد انهار .
و على منهج هؤلاء الملاحدة الماديين لن يستطع أحد الحكم باستحالة شيء أو بضرورة شيء آخر ؛ لأن الاستحالة بمعنى عدم إمكان وجود الشيء ،و عدم إمكان وجود الشيء ليس مما يدخل في نطاق التجربة ، و لا يمكن للحواس أن تكشف عنه و مع سقوط مفهوم الاستحالة يكون التناقض ممكناً .
و إن أقروا بجواز استحالة شيء و استنجوا منه استحالة وجوده في الخارج فالانتقال من الحكم باستحالة تصور شيء أو إحساسه إلى الحكم باستحالة وجوده في الخارج هو استنباط شيء من شيء ، و هذا الاستنباط خارج على مذهب الماديين أنفسهم .
و تعميم الحكم من الجزئي أو الفرد الذي أجرينا عليه التجربة على كافة أفراد النوع ( على أمثاله ) حكم عقلي لا تجريبي أي التعميم نفسه تجاوز لمصدر الحس و ليس مما يقع في خبرة الحواس بل هو استنباط ،و الاستنباط خارج على مذهب الماديين أنفسهم .
والتجربة لوحدها تحتاج إلى القوانين والقواعد العقلية الأولية في أكثر معارفها و لا قيمة للحواس في عملية المعرفة بدون العقل الذي يوجهها ويضبطها ويجمعها ويرتب صورها ويعطي أحكاما على مجالاتها .
و التجربة نفسها لا تثبت مبدأ العلية ؛ لأن العلية لا تثبت عن طريق التجربة و مع انهيار مبدأ العلية تنهار قاعدة إثبات العلوم و إن أقروا بوجود مبدأ العلية فقد أقروا بمبدأ عقلي و المبادئ العقلية خارجة على مذهب الماديين أنفسهم .
و نخلص من هذا إلى خطأ القول بأن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له بل ما لا يدرك بالحواس قد يدرك بغيرها .
خطأ مطالبة الملاحدة رؤية الله للإيمان به
رغم أن الأدلة على وجود الله كثيرة من شرع و عقل وفطرة و حس إلا أن الملاحدة يرددون دائما أنهم يريدون أن يروا الله جهرة كي يؤمنوا به ، وهذا الذي طلبه الملاحدة ما هو إلا تعنت منهم واستكبار عن قبول الحق إذ الأدلة الدالة على وجود الله يؤمن على مثلها البشر ،وهي أكثر مما اقترحوه و كافية في إثبات وجود الله لكن القلب إذا استحكم فيه الكفر والهوى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدي ، و تعللات لا تفيد .
.
و قد قضى الله سبحانه وتعالى أنه لن يراه أحد في الدنيا إذ جعل الدنيا دار امتحان و ابتلاء ليؤمن بعض الخلق بالغيب ويكفر البعض الآخر ، ولو رأى الناس الله في الدنيا لانتفت الحكمة التي من أجلها أوجد الناس في هذه الحياة الدنيا إذ عدم رؤية الله في الدنيا هي مادة الاختبار في هذه الحياة الدنيا فكيف نريد أن نرى الله في الدنيا و نكون في وضع الاختبار ؟!!
وقال المعلمي – رحمه الله - : ( والحكمة التي اقتضت الخلقَ والتكليفَ اقتضت أن لا تكون حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف ) .
و عدم رؤية الشئ لا يعني عدم وجوده ،و في الكون أشياء كثيرة لا ترى كالروح و الحياة و العقل ،ورغم ذلك يؤمن الناس بوجودها لأثرها فلما لا نؤمن بوجود الله ،وهو لا يُرى في الدنيا ،و الآثار على وجوده أكثر من الآثار على وجود الروح و الحياة و العقل ؟!!! .
وهذه النباتات والحيوانات والبحار و المحيطات و الأنهار والجبال ، وكل ما نشاهده في هذا الكون وجدت بعد أن لم تكن فمن الذي أوجدها ؟
وهذه المجرات و النجوم و الكواكب و الأقمار وجدت بعد أن لم تكن فمن الذي أوجدها ؟
وهذا الكون بما فيه من تناسق و نظام بديع من الذي نظمه ؟
و كل ما في الكون يسير بقوانين و نظم لا يمكن أن يحيد عنها فهي مفروضة عليه فرضا فمن الذي قنن هذه القوانين ،وفرضها على كل ما في الكون ؟
و قد هدت آثار الله في الكون الكثير من العلماء إلى الإقرار بوجوده سبحانه فقد قال العالم الفلكي هرشل : ( كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته و لا نهاية ، فالجيولوجيون ، و الرياضيون ، و الفلكيون، و الطبيعيون قد تعاونوا و تضامنوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده ) .
و قال الدكتور سيسل هامان عالم البيولوجي : ( أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم، رأيت الأدلة على التصميم والإبداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى ) .
و قال العالم جون كليفلاند كونران عالم الكمياء و الرياضة: (...إذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلو نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها؛ فلا بد أن الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي، وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفاً بالعقل والحكمة ) .
و قال العالم ماريت ستانلي كونجدن أخصائي الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم : ( إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء: بتحليل ظواهر الكون ودراستها حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية؛ فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمه، ذلك هو الله الذي لا نستطيع الوصول إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته ) .
الملاحدة يؤمنون ببعض الغيب ولا يؤمنون ببعض
وفي الختام أنقل للقارئ كلاما نفيسا للشيخ الميداني يبين فيه تناقض وانتقائية الملاحدة الماديين التجريبين حيث يؤمنون ببعض الغيب ولا يؤمنون ببعض .
يقول الشيخ – رحمه الله - : ( التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل بعد إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما زال عاجزاً حتى الآن عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي، الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.فالمعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً ما زالت عاجزة عن أن تقيس أشياء كثيرة في هذا العالم المادي الذي نشاهد ظواهره، بشهادة كبار العلماء الماديين أنفسهم، وبدليل تجدد المعارف والمكتشفات يوماً بعد يوم، ومتى زعم العلم الإنساني أنه اكتشف كل شيء فقد سقط في الجهل، وأجهز على نفسه بنفسه منتحراً.
يضاف إلى ذلك أن العلماء الماديين من بعد كل دراساتهم ومشاهداتهم وملاحظاتهم المادية يحاولون تفسير ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية، يقررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها: إنها قوانين طبيعية.
ومن أمثلة ذلك قانون الجاذبية، إنه قانون غدا من الحقائق العلمية الطبيعية لدى العلماء الماديين. فما هي حقيقة هذه الطاقة؟ هل باستطاعة العلماء أن يشاهدوها بأدواتهم وأن يعرفوا كنهها؟ وكيف أثبتوها؟
ألم يثبتوها بالاستنتاج العقلي استناداً إلى ما شاهدوه من ظواهرها وآثارها ؟ هذه هي الحقيقة فما بال هؤلاء الملاحدة يسلمون بهذه القوانين الخارجة عن نطاق المشاهدات المادية، وهي بالنسبة إلى حواسهم وإلى الأدوات العلمية المتقدمة أمور غيبية، ثم ينكرون وجود الخالق - جل وعلا - لمجرد كونه خارجاً عن نطاق الإدراك الحسي، ولا يمكن التواصل إلى إدراكه بالأجهزة العلمية المتقدمة ؟ )
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال
1- العقائد الإسلامية الشيخ سيد سابق
2- براهين وأدلة إيمانية الشيخ عبد الرحمن الميداني
3- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
4- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني
5- قضايا فلسفية في ميزان العقيدة الإسلامية د.سعد الدين صالح
6- توحيد الخالق الشيخ عبد المجيد الزنداني
7- آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني
الملحد ووهم أزلية المادة والكون
د.ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله النقض لأحد هذه الشبه والمغالطات والدعاوي وهو قولهم بأزلية المادة و أزلية الكون فعندما تسأل أحد الملاحدة عمن أوجد المادة يجيب : المادة أزلية موجودة منذ الأزل فليست بحاجة إلى خلق وخالق ، وعندما تسأل أحدهم عمن خلق الكون يجيب : الكون وجد منذ الأزل ،والكون ليس إلا مادة وطاقة ومادة الكون أزلية والكون أزلي ليس بحاجة لخالق .ويستدل بعضهم بأن المادة لا تفنى و لا تستحدث من عدم ،ويستدل بعضهم بنظرية الحالة المستقرة ،وبعضهم يستدل بفرضية الكون المتذبذب ،وبعضهم يقول أن المفردة التي نشأ منها الكون أزلية ،وكل هذه الأقوال ظنون و أوهام لا تغني من الحق شيئا .
ما هي المادة ؟ وما هو الكون ؟ وما صفات الشيء الأزلي ؟
وقبل نقض شبهة أزلية المادة والكون لابد أن نعرف ما هي المادة ؟ وما هو الكون ؟ وما صفات الشيء الأزلي ؟ و كلنا نعلم أن المادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ ،ومن أمثلة المادة : الماء ،والهواء ،والكواكب ،والنجوم ،والنباتات ،والجمادات ،والحيوانات وغير ذلك .
و الكون هو ذلك الفضاء المحيط بنا و كل ما يحويه من مجرات و نجوم وكواكب وغير ذلك .
وكلنا يعلم أن الأزلي ما ليس لوجوده بداية فوجوده ذاتي لا ينفك عنه أي يبقى إلى الأبد ،ولا يعتمد في وجوده ولا استمرار وجوده على غيره فهو مستغن عن غيره و لا يتبدل و لا يتغير .
تحول المادة لطاقة ينافي الأزلية
ومن المعلوم أن المادة يمكن أن تتحول إلى طاقة ،والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة طبقا لقوانين معينة ،وهذا يدل أن الوجود ليس صفة ذاتية ملازمة للمادة أو الطاقة إذ لو كان الوجود صفة ذاتية ملازمة للمادة لما انفك عن المادة وفارقها بأي حال من الأحوال ،و لو كان الوجود صفة ذاتية ملازمة للطاقة لما انفك عن الطاقة وفارقها بأي حال من الأحوال أي أن الوجود صفة عارضة للمادة والطاقة تعترض المادة أو الطاقة في بعض الأحوال ،وتنفك عن المادة أو الطاقة في بعض الأحوال ،وهذا يستلزم أن يكون لوجود المادة بداية أي المادة محدثة ليست أزلية ،وكل محدَث له محدِث.
تحول المادة من صورة لأخرى ينافي الأزلية
ومن المعلوم أن المادة يمكن أن تتحول من صورة لصورة أخرى طبقا لقوانين معينة ،والتحول والتغير يدل أن بقاء المادة في صورة معينة يحتاج شروط معينة خارجة عن ذاتها فإذا زالت تلك الشروط زالت تلك الهيئة والصورة أي المادة تحتاج شروط معينة كي تبقى على صورة معينة وحاجة الشيء إلى غيره تعني أنه غير مستغني بنفسه عن غيره ، وهذا معناه أنه غير قائم بذاته أي يحتاج إلى من يقيمه أي يحتاج إلى غيره ،وهذا ينافي الأزلية .
خضوع المادة لقوانين لا تحيد عنها ينافي الأزلية
ومن المعلوم أن أي مادة من المواد في الكون تخضع لقوانين معينة ،ولا تستطيع المادة الخروج عن هذه القوانين ،ويستحيل عليها تغييرها ،ولو كانت هذه القوانين من المادة نفسها لكان بإمكانها أن تغيرها لكن الواقع أنها لا تستطيع تغييرها , ولا الخروج عنها وإنما هي مفروضة عليه فرضا , فدل ذلك على أن هذه القوانين ليست من المادة و بالتالي فهي مفروضة من غيرها ،ووجود قانون ما يدل على وجود مقنن واضع لهذا القانون سبق القانون ،والمادة تحكمها قوانين ،ومقنن القوانين وواضعها سابق للقوانين مما ينافي القول بأزلية المادة ،وإذا كان للمادة قدر لا تستطيع تجاوزه وتعجز عنده فهي مخلوقة لا محالة .
احتجاج الملاحدة بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم على أزلية المادة
يحتج بعض الملاحدة على أزلية بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم معللين ذلك بعلة عليلة فيقولون إذا كان في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في الوجود أي لم يكن هناك وجود للمادة، فمن أين لها أن تنشأ؟! ولكن وجود المادة يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات ،و في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء ،والجواب على هذا الاستدلال السقيم أن الخالق لا يعجزه شيء ، وإذا كان المخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء فالخالق قدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير قادر على خلق الأشياء من عدم ،و قادر على خلق الأشياء من جنسها ،و قادر على خلق الأشياء من غير جنسها و قادر على إفناء الأشياء ، قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( يس : الآية 82 ) ، والعلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار ،ولا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون ؟ فلا ينبغي علينا أن نتكلم فيما لا نعلمه ،و قال تعالى : ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ ( الإسراء الآية 36 ) ،وكون المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم فهذا كلام تجريبي على المادة التي نتعامل معها و نختبرها أما المادة الأولى لنشأة الكون فلا سبيل للعلم للوصول إليها فضلا عن أن يختبرها .
دعوى الملاحدة أن المفردة التي نشأ منها الكون أزلية
ادعي بعض الملاحدة أن المفردة التي نشأ منها أو المادة التي نشأ منها أو السديم أو المادة الأولى للكون أزلية ،وهذا كلام بلا دليل ،والجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أن العلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار ،و لا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون و تطور منها كل شيء ؟
الوجه الثاني : ليس هناك ما يدعو إلى أن المادة و الطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم .
الوجه الثالث : الفضاء والزمان وجدوا مع الانفجار العظيم ، والمادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ أي المادة تحتاج لمكان أو حيز ليحويها ،وبالتالي لا مادة دون وجود المكان الذي سيحويها .
الوجه الرابع : كون الكون تطور من المادة الأولى إلى الحالة التي هو عليها فهذا يدل أن المادة الأولى قد طرأ عليها التغير و التبدل ،وما يجري عليه التغير والتبدل لا يكون أزليا ؛ لأن كل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادامت المادة الأولى احتاجت إلى سبب يغيرها من حال إلى حال و سبب يبدلها من حال إلى حال فالمادة محتاجة إلى غيرها غير مستغنية بنفسها مما يدل أن المادة حادثة ،و لو كان الأصل فيها الوجود الأزلي لم تكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .
الكون ممكن الوجود ،وهذا ينافي الأزلية
هذا الكون بكل ما فيه من مجرات و نجوم وكواكب وبحار و أنهار و محيطات و نباتات وحيوانات وغير ذلك يقبل الوجود و العدم فإننا نرى أعيان ما في الكون تموت وتحيى ، و توجد و تنعدم ،و كانت غير موجودة ثم وجدت ،ونعلم أن المجرات و النجوم و الكواكب و الحيوانات و النباتات و الجمادات لم تكن موجودة ثم وجدت ،وعليه فلا مانع عقلا من انعدام الكون ،و لا يلزم من فرض وجود الكون محال ،و لا يلزم من فرض عدمه محال ،وهذه صفات ممكن الوجود ،وممكن الوجود الأصل فيه العدم إذ لو كان الأصل فيه الوجود لكان واجب الوجود فلا يكون مع ذلك ممكن الوجود والعدم ، وإذ كان الكون مسبوقا بالعدم فلابد من وجود من رجح وجود الكون على عدمه لبطلان الترجيح بلا مرجح ،و الممكن لا يوجد بنفسه بل بغيره ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً ،وهذا ينافي الأزلية .
القول بأزلية الكون يستلزم وجود أحداث لا نهائية تمت في الكون وهذا باطل
القول بأزلية الكون يستلزم وجود أحداث لا نهائية تمت في الكون ،و لا يمكن أن يكون هناك عدد لانهائي من الأحداث تم في الكون ؛ لأن أحداث الماضي واقعية ، و ليست مجرد أفكارا ، فإن عدد أحداث الماضي يجب أن يكون نهائياً أي يجب أن يكون له بداية .
الكون بالموجودات التي فيه يعتريه التغير و التبدل،وهذا ينافي القول بأزليته
الكون يحمل دائما صفات حدوثه إذ من المشاهد أن الكون بالموجودات التي فيه من مجرات ونجوم وكواكب و غير ذلك يتغير من حال إلى حال ،ويتبدل من حال إلى حال ، وكل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادام الكون يحتاج إلى سبب يغيره من حال إلى حال و سبب يبدله من حال إلى حال فالكون محتاج إلى غيره غير مستغن بنفسه مما يدل أن الكون حادث ،و لو كان الأصل في الكون و الموجودات التي به الوجود الأزلي لم يكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .
و قال الشيخ عبد الرحمن الميداني – رحمه الله - : ( فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لا بد له من علة ، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها ) .
الكون من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته في حركة دائرية مما ينافي الأزلية
من المعلوم أن الكون من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته في حركة دائرية ، و على سبيل المثال : الإلكترون يدور حول نواة الذرة ،والأرض تدور حول الشمس ،والقمر يدور حول الأرض ،و المجموعة الشمسية تدور حول مركز المجرة ، و المجرة تدور حول مركز تجمع مجري ،والشيء الدائر لابد أن تكون له نقطة بداية بدأ منها دورته ،وبما أن الكون بأكمله في حركة دائرية فلابد أن تكون له بداية بدأ منها ،وهذا ينافي الأزلية .
استمرار انتقال الحرارة من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة ينافي أزلية الكون
حسب قانون الديناميكا الحراري الثاني فإن الحرارة تنتقل من الجسم الساخن إلى الجسم البارد ،و الطاقة المركزة الموجودة في نظام معزول تنتشر وتتوزع فيه بالتساوي مع مرور الزمن ،و الاختلافات في تركيز الطاقة تختفي بمرور الوقت ، وتتساوى درجة الحرارة بمرور الوقت ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها معين الطاقة ,وهو ما يعرف بالموت الحراري ،وعندها لن تكون هناك عمليات كيميائية أو فيزيائية ، ولن يكون هناك أي أثر للحياة نفسها في هذا الكون ،ولما كانت الحياة ما زالت قائمة ،و العمليات الكيميائية والفيزيائية مازالت مستمرة فهذا يستلزم أن الكون لا يمكن أن يكون أزلياً ، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود .
ظاهرة الإشعاع الحراري تنافي أزلية الكون
من المعلوم أن الأجسام الساخنة تشع طاقة حرارية ويطلق على الإشعاعات الصادرة عن الأجسام بفعل حرارتها اسم الإشعاع الحراري ، ومن الأجسام التي تشع طاقة حرارية النجوم ،و الكون مليء بالعديد من النجوم ،و هذه النجوم عبارة عن أجرام سماوية شديدة الحرارة ملتهبة مشتعلة تبعث العديد من الإشعاعات ، وموت النجوم يكون بانتهاء وقودها من غاز الهيدروجين الذي يزودها بالطاقة فإذا ما نفدت هذه المادة انكمش النجم و تقلص حجمه إلى أقل مما كان عليه بملايين المرات ثم انهار و فقد نشاطه ، و ما دامت الشمس و الكثير من النجوم مازالت مشتعلة وتبعث الإشعاعات، إذن فلا بد من وجود بداية لها؛ لأنها لو كانت أزلية لنفد وقودها منذ مليارات السنوات.
.
نظرية الانفجار العظيم تنافي أزلية الكون
تقول نظرية الانفجار العظيم Big Bang إن الكون نشأ من كتلة واحدة ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت ،وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم ،ومادام الكون له بداية فكيف يكون أزليا ؟!!.
و من أدلة حدوث الانفجار العظيم : وفرة غاز الهيدروجين و الهيليوم في الكون ،و إشعاع الخلفية الكونية ،و توسع الكون باستمرار .
و نعلم أن أي انفجار لا يكون إلا مخربًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد، ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فإن هناك إذن وراءه يد قدرة وعلم وإرادة فوق الطبيعة ،وهي يد الله – سبحانه وتعالى - .
وفرة غاز الهيدروجين و الهيليوم في الكون تنافي أزلية الكون
وجد العلماء أن غاز الهيدروجين يكون أكثر قليلاً من (74%) من مادة الكون، ويليه في النسبة غاز الهليوم الذي يكون حوالي (24%) من تلك المادة ، ومعنى ذلك أن أخف عنصرين يكونان معاً أكثر من (98%) من مادة الكون المنظور، أما بقية العناصر مجتمعة فتكون أقل من (2%) من مادة الكون ، ونسب وجود غازَي الهيدروجين والهليوم في الكون تتطابقان مع حسابات نظرية الانفجار العظيم ، ولو كان الكون أزليًّا لاحترق جميع الهيدروجين وتحول إلى غاز الهليوم.
احتجاج الملاحدة بنظرية الحالة الثابتة أو نظرية الحالة المستقرة على أزلية الكون
يحتج الكثير من الملاحدة بنظرية الحالة الثابتة أو نظرية الحالة المستقرة Steady State theory أو نظرية الكون اللامتناهي أو الخلق المستمر على أن الكون أزلي ،وموجود منذ الأبد لا يتغير ،وهذه النظرية عبارة عن نموذج تم تطويره في عام 1949 من قبل فريد هويلو توماس غولد و هيرمانبوندي وآخرون كبديل عن نظرية الانفجار العظيم ،وحسب نظرية الحالة الثابتة، هناك مادة جديدة تتشكل وتخلق باستمرار مع توسع وتمدد الكون، بحيث يؤمن الحفاظ على المبدأ الكوني المثالي ،وقد تراجع الكثير من العلماء عنها في أواخر الستينات مع اكتشافهم إشعاع الخلفية الكونية cosmic background radiation .
و إشعاع الخلفية الكونية ما هو إلا ضوء خافت يملأ الكون ساقطاً نحو الأرض من كل الاتجاهات بشدة ثابتة تقريباً , و يمكن القول أنه الحرارة المتبقية من الخلق – بقايا التوهج الناتج عن الانفجار الأعظم – التي ظلت تتدفق عبر الفضاء خلال ال 14 مليار سنة الماضية فعندما كان الكون صغيرا جدا وقبل تكون النجوم والمجرات كان شديد الحرارة ، وكان يملأه دخان ساخن جدا موزعا توزيعا متساويا في جميع أنحائه، ومكونات هذا الدخان كانت بلازما الهيدروجين، أي بروتونات وإلكترونات حرة من شدة الحرارة وعظم الطاقة التي تحملها.
وبدأ الكون يتمدد ويتسع فبدأت بالتالي درجة حرارة البلازما تنخفض، إلى الحد الذي تستطيع فيه البروتونات الاتحاد مع الإلكترونات مكونة ذرات الهيدروجين، وأصبح الكون مضيئا وانتهت فترة الظلمة، وكانت الفوتونات الموجودة تنتشر في جميع الأرجاء إلا أن طاقتها بدأت تضعف حيث يملأ نفس عدد الفوتونات الحجم المتزايد بسرعة للكون، وهذه الفوتونات هي التي تشكل اليوم إشعاع الخلفية الكونية ، وانخفضت درجة حرارتها عبر نحو 14 مليار سنة الماضية هي العمر المقدر فلكيا للكون .
و يعتبر إشعاع الخلفية الكونية من الأدلة الهامة على صحة نظرية الانفجار العظيم فقد قال العلماء : لو كان هناك مثل هذا الانفجار لكان من الضروري أن يخلف وراءه إشعاعًا. وفعلاً تم العثور على هذا الإشعاع عام 1989م .
توسع الكون باستمرار ينافي أزليته
لاحظ العلماء أَن هناك مجرات في الكون تتحرك مبتعدة بعضها عن بعض و أن الأجسام السماوية تترك عند تحليل طيفها لوناً أكثر احمراراً في حال كانت تقترب من مركز المراقبة، ولكنه يميل إلى الأزرق عندما تبتعد فالضوء المنبعث من النجوم في مجرات بعيدة ينحرف نحو موجات الضوء الحمراء والطويلة للطيف ،وهذه الظاهرة تدعى الإزاحة الحمراء red shift فسرت على أنها ناتجة عن الحركة السريعة للمجرات في ابتعاد كل منها عن الأخرى. وأصبح بمقدور العلماء أن يحسبوا سرعة حركة المجرة من الانحراف الأحمر .
و قد أعلن أدوين هابل عام 1929م أن المجرات تبتعد عنا بسرعة تتناسب طرديًّا مع بعدها عنا أي أن الكون يتمدد و يتوسع باستمرار ، وما دام الكون في توسع دائم، إذن لو عدنا بحساباتنا إلى الوراء فمن الضروري أن الكون في الماضي كان كله متركزًا في نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم الذرة البدائية أو الحساء الكوني.
وتوسع الكون ينافي أزليته فإذا كان الكون يتمدد ،وكان أزليا لكان قد تبعثر ، وتناثرت مادة الكون وتشتت الكون .
احتجاج الملاحدة بفرضية الكون المتذبذب
يحتج بعض الملاحدة على أزلية الكون بفرضية تدعى الكون المتذبذب ،وهذه النظرية ترى أن الكون نشأ من انفجار أعقبه انسحاق أعاد الكون إلى حالة المفردة ثم أعقب ذلك انفجار ثم انسحاق ثم انفجار ثم انسحاق و هكذا إلى ما لا نهاية في القدم ،وهذه النظرية مجرد ظن لا يغني من الحق شيئا فلا دليل على أن كوننا كان قبله قد سبقه كون منسحق ،و حسب قوانين الديناميكا الحرارية يستحيل أن تكون هناك انفجارات أزلية ؛ لأن كل انفجار يجب أن ينتج كونا له عمر أطول من الكون السابق أي دورة الكون السابق أقصر من الكون اللاحق فإذا رجعنا إلى الوراء، سيتقلص زمن كل كون في هذه السلسلة، ونعود إلى كون زمن دورته صفر ، فنسأل عن هذا الانفجار الأول وعن المؤثر الذي أحدثه، وستكون هذه هي بداية دورات التذبذب ،و أيضا يستحيل تحقق اللانهائية في الواقع فهو مفهوم رياضي يستحيل تحققه في العالم المادي ،و لا يمكن أن يكون هناك عدد لانهائي من الأكوان تم في الماضي ؛ لأن أحداث الماضي واقعية ، و ليست مجرد أفكارا ، فإن عدد أحداث الماضي يجب أن يكون نهائياً أي يجب أن يكون له بداية .
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال :
1- أوهام الملحدين أوهى من بيت العنكبوت شحاته صقر
2- الشرك في القديم والحديث أبو بكر محمد زكريا
3- الفيزياء ووجود الخالق د.جعفر شيخ إدريس
4- الله يتحدى الملحدين د.محمد شيخاني
5- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
6- للكون إله د.صبري الدمرداش
7- موقف الإسلام من نظرية ماركس أحمد العوايشة
8- العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية د.فرج الله عبد الباري
9- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني
الملحد وسؤاله الخاطئ من خلق الله ؟
د.ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله بيان خطأ سؤالهم من خلق الله فهو سؤال غير منطقي و غير صحيح إلا أن الملاحدة يكررونه دوما .
بيان شبهة الملاحدة
يقول الملاحدة : أنتم أيها المؤمنون بوجود الإله تسألون عن علة وجود المادة الأولى للكون وتجيبون بأن علة وجود المادة الأولى للكون هي الله، ونحن نسألكم وما علة وجود الله ؟ وستجيبون بأن الله غير معلول الوجود، فلماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟ و هنا نجيبكم ، و لماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود، وبذلك يُحسم النقاش .
ويقول بعضهم : إذا قلنا بأن للكون خالق فهذا سيؤدي بنا إلى القول أن هذا الخالق له خالق آخر ، وهذا يمهد الطريق لآخرين ليضيفو خالقين آخرين ،وهذا تسلسل ممنوع فالتوقف عند الكون يعني التوقف عند المحسوس والملموس المدعوم بدليل، ويغلق الباب أمام من يحاول إضافة أسباب أخرى، بينما الإيمان بخالق هو بحد ذاته من يفتح الباب للقول بالتسلسل .
عدم منطقية سؤال من خلق الله
سؤال من خلق الله من الأسئلة غير المنطقية فالخالق لا يُخلق ،و الله ليس مخلوقا لنسأل من خلقه ، و الله قديم ليس حادثا أول ليس قبله شيء ، فلاينطبق عليه قانون الحوادث في السؤال عن خالقه ، و السؤال عمن أحدثه ،و المخلوقية من صفات الحوادث ،وهي الأشياء التي وجدت بعض أن لم تكن موجودة فكيف نصف الخالق بصفات الحوادث و ننسب له ما لا يليق ؟!!.
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾ (الحديد : الآية 3 ) أي : الله هو الأول الذي ليس قبله شيء, وهو الآخر الذي ليس بعده شيء, وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء, وهو الباطن الذي ليس دونه شيء, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وهو بكل شيء عليم .
و الله – سبحانه وتعالى - أزلي ليس لوجوده بداية فوجوده ذاتي لا ينفك عنه أي يبقى إلى الأبد ،وإذا كان الله ليس لوجوده بداية فكيف نسأل عن سبب وجوده ؟!! وكيف نسأل عن علة لوجوده ؟!
والأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء لايعطيه ، وإذا كان وجود الله هو الأصل ، فهذا يستلزم أنه لا يحتاج إلى موجِد يوجده ، ولا علة لوجوده إذ لا يبحث عن علة وجود ما الأصل فيه الوجود .
وقول القائل : إن خالق الكون بحاجة إلى خالق رغم أنه خالق قريب من قول القائل إن الملح يحتاج إلى ملح كي يكون مالحاً رغم أنه ملحا، وإن السكر يحتاج إلى سكر حتى يكون حلواً رغم أنه سكر ، وإن الأحمر يحتاج إلى اللون الأحمر كي يكون أحمرا رغم أنه أحمر.
و قول القائل : من خلق الله ؟ يساوي قوله : ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله ؟ و يساوي قوله : ما بداية الشيء الذي لا بداية له ؟ ويساوى قوله : ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده ؟ وهذا قول في غاية السخف والسقوط .
الرد على زعم بعضهم أن استغناء الله عن علة توجده يستلزم أن الله توقف في وجوده على نفسه
يقول بعض الملاحدة قولكم أيها المؤمنون بأن الله لا علة لوجوده يستلزم أن الله توقف في وجوده على نفسه أي أن الله هو الذي أوجد نفسه بنفسه ،و هذا يستلزم أنه الله علة لنفسه ،و الجواب كلامكم أيها الملاحدة يصح لو كان الله ممكن الوجود إذ ممكن الوجود هو ما كان حادثاً بعد عدم أي وجوده له بداية فيتصور العقل وجوده وعدم وجوده فيمكن أن يوجد و يمكن ألا يوجد و هذا الحادث بعد عدم لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه أي يحتاج في وجوده إلي موجِد .
ولكن الله عندنا واجب الوجود أي وجوده ذاتي لا ينفك عنه فلم يكن في زمن من الأزمان بمفتقرٍ إلى الوجود ، و لم يكن في زمن من الأزمان معدوماً حتى يحتاج إلى من يخرجه من العدم إلى حَيّز الوجود سبحانه خالق الزمان والمكان ، وعليه فإن الله لا يصدق عليه أنه مخلوق ومعلول حتى نسأل عن خالقه وعلته أو أن نقول بأنه خلق نفسه بنفسه .
الرد على سؤالهم لماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟
يقول الملاحدة عندما نسألكم أيها المؤمنون عن علة وجود الله تجيبون بأن الله غير معلول الوجود ، فلماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله ؟ والجواب على سؤالهم من وجوه :
الوجه الأول : أن الأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لايعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده .
الوجه الثاني : أن الله أزلي فوجوده ذاتي لا ينفك عنه فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده ، ووجوده ليس له بداية .
الوجه الثالث : أن الله له الكمال المطلق إذ هو واهب الكمال لمخلوقاته فهو أحق بالاتصاف بها من الموهوب ، وكل كمال ثبت للمخلوق المحدث المربوب الممكن، فإنه يكون ثابتا للخالق من باب أولى ،وإذا كان الكمال المطلق لله ،والاحتياج يناقض الكمال المطلق فالكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره ،وعليه فالخالق لا يحتاج إلى غيره ،وإذا لم يحتج إلى غيره فهو غير معلول ،و إذا كان غير معلول فلايصح أن نسأل عن علته .
الوجه الرابع : أن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث و أنه لم يكن موجودا ثم أصبح موجودا بعد عدم ،والله قديم وليس حادثا .
الوجه الخامس : لو قلنا بأن كل خالق له من خلقه أي خالق الكون له من خلقه،ومن خلق خالق الكون له من خلقه ومن خلق خالق خالق الكون له من خلقه وهكذا إلى ما لا نهاية فهذا يستلزم أن لا خلق للكون ،وهذا باطل لوجود الكون فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لانهاية ، إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة ، و لا بد من سبب تنتهي إليه الأسباب وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء ، وإلا لم يكن هناك شيء أي أن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية ، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا أحد ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ ( النجم : الآية 42 ) .
و للتقريب نأخذ مثال الجندي والرصاصة الجندي يريد أن يطلق النار ،و لكن حتى يطلق النار، يجب على الجندي أن يستأذن من الجندي الذي خلفه ، و هذا الجندي حتى يعطي الإذن يجب أن يستأذن من الجندي الذي خلفه، و هكذا إلى ما لا نهاية. السؤال، هل سيطلق الجندي النار ؟ الجواب لا ؛ لأنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه الإذن بإطلاق النار أما إذا انتهت السلسلة إلى شخص لا يوجد فوقه أحد ليعطيه الإذن بإطلاق النار فستنطلق الرصاصة و بدون هذا الشخص ومهما كثر عدد الأشخاص لن تنطلق الرصاصة فهم كالأصفار إذ وضعتها بجانب بعضها البعض فمهما كثرت وبلغت حدا لا نهاية له : فستظل لا تساوي شيئا إلا أن يوضع قبلها رقم 1 فأكثر .
الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود ؟
يقول الملاحدة إذا كان الله عندكم لا علة لوجوده فلماذا لا تفترضون أن المادة الأولى غير معلولة الوجود ؟ والجواب فرق شاسع بين صفات الخالق التي تحمل دليل قدمه و أزليته و بين صفات المادة التي تحمل دليل حدوثها وافتقارها لمحدث ،وقول الملاحدة أن المادة الأولى غير معلولة الوجود قول بلا دليل ،والجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أن العلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار العظيم الذي نشأ منه الكون ،و لا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون و تطور منها كل شيء ؟
الوجه الثاني : ليس هناك ما يدعو إلى أن المادة و الطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم .
الوجه الثالث : الفضاء والزمان وجدوا مع الانفجار العظيم ، والمادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ أي المادة تحتاج لمكان أو حيز ليحويها ،وبالتالي لا مادة دون وجود المكان الذي سيحويها .
الوجه الرابع : كون الكون تطور من المادة الأولى إلى الحالة التي هو عليها فهذا يدل أن المادة الأولى قد طرأ عليها التغير و التبدل ،وما يجري عليه التغير والتبدل لا يكون أزليا ؛ لأن كل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادامت المادة الأولى احتاجت إلى سبب يغيرها من حال إلى حال و سبب يبدلها من حال إلى حال فالمادة محتاجة إلى غيرها غير مستغنية بنفسها مما يدل أن المادة حادثة ،و لو كان الأصل فيها الوجود الأزلي لم تكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .
.
هل القول بخالق للكون يفتح الباب للتسلسل الممنوع ؟
يزعم الملاحدة أن القول بخالق للكون سيؤدي بنا إلى القول أن هذا الخالق له خالق آخر ، وهذا يمهد الطريق لآخرين ليضيفو خالقين آخرين مما يفتح الباب للتسلسل الممنوع وهذا الكلام فيه خلط للحقائق ،وتسوية بين صفات الخالق القديم الأزلي ،وصفات المخلوق الحادث فالخالق لا يُخلق ،والقديم لا يُحدَث ،وكون الله الخالق قد خلق الكون فهذا يقطع بعدم التسلسل في الفاعلين ؛ لأن من صفات الخالق أنه الأول فليس قبله شيء ،وبذلك لايوجد تسلسل في الفاعلين .
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال :
1- الشرك في القديم والحديث أبو بكر محمد زكريا
2- الفيزياء ووجود الخالق د.جعفر شيخ إدريس
3- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني
4- كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني
الملحد ودعواه أن الأخلاق مصدرها الطبيعة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى يكثر تكرارها من الملاحدة و اللادينين ألا وهي أن أخلاق الإنسان مصدرها الطبيعة و تستمد من الطبيعة ، ومنشأ الأخلاق هو منشأ طبيعي بحت هدفهُ الحفاظ على النوع واستمرار بقاء الفرد وتحقيق فائدة شخصية غير مباشرة من خلال الفائدة العامة المباشرة .
ومنهم من يقول الأخلاق يجب أن تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا لقانون طبيعي، فمنطق الحاجة الطبيعيَّة المباشِرة هو الذي يتحكَّم في الأخلاق الإنسانيَّة، تمامًا مثلما تتحكَّم الجاذبية في سقوط التفَّاحة.
و بالغ بعضهم في الطبيعة حتى وصل أن قال إننا مجبورون على السير في الطريق الذي رسمته لنا الطبيعة فإننا لا نسير إلا في الطريق الذي نحبه ولكننا لم نحب نحن هذا الطريق, ولكن الطبيعة هي التي جعلتنا نحبه وهي التي تجبرنا على السير فيه ،و الإنسان نظام كغيره من النظم في الطبيعة يخضع بدوره لقوانين الطبيعة الحتمية .
ومنهم من يزعم أن الانتخاب الطبيعيّ هو صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان ،و قد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريّ نوع من القاعدة الأخلاقيّة الكونيّة ، والأخلاق تطورت تطورًا تدريجيًّا، وليس عبر قفزات نوعية .
ومنهم من يدعي أن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري .
ومنهم من يزعم أن وجود قيم أخلاقية مشتركة بين الشعوب المختلفة يمكن تفسيره بالداروينية الاجتماعية .
ومنهم من يدعي أن الأخلاق قوانين سلوكية تفرضها الطبيعة وحسب آليّة الانتقاء التّطوريّ والقائمة على الغربلة الطّبيعية المستمرة عبر ملايين السّنين صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السّلوكيات الأنانية (الشريرة) من ناحية، والسّلوكيات الأخلاقيّة الإيثارية (الخيّرة) من ناحيةٍ أخرى، ممّا مكنها من التّعاون الدّاخلي وتحسين مجتمعها والحفاظ على بقائها ضد الأعداء .
وقبل الرد على هذه الدعاوي لابد من معرفة مفهوم الأخلاق و معرفة مفهوم الطبيعة و معرفة مفهوم الداروينية الاجتماعية .
مفهوم الأخلاق
الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .
والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .
وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .
و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .
ولابد أن نفرق بين الخلق والتخلق إذ التخلق هو تكلف و تصنع خلق معين وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلف لا يسمى خلقًا حتى يصير عادة وحالة للنفس راسخة يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، فالذي يصدق مرة لا يوصف بأن خلقه الصدق ومن يكذب مرة لا يقال إن خلقه الكذب بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًا في سلوكه .
مفهوم الطبيعة
الطبيعة لفظ مشترك المعاني – أي له عدة معاني – غامض جدا مما دعا بعض علماء الطبيعة في القرن السابع عشر إلى تجنب استعماله لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مشاهد .
و الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك ، وقد تعني الخصائص الثابتة التي تميز كائنا أو شيئا ما بحيث لا يمكن تصوره بدونها كالاحتراق بالنسبة للنار أو المكر بالنسبة للثعلب ، وقد تعني مجموع الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقتة أو الثانوية ، وقد تعني صفات الكائن الحي واستعداداته المنتمية إلى الإرث البيولوجي في مقابل الصفات المكتسبة ،وقد تعني مجموعة الأشياء التي لم يتدخل الإنسان في صنعها كالأشجار و الجبال مثلا وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته ،وقد تعني المادة التي تتكون منها الأشياء في العالم المشاهد المحسوس ،وقد تعني مجموعة الخصائص الفطرية و الغريزية التي تولد مع الإنسان و المشتركة بين جميع الناس، كالأكل و النوم. و بهذا المعنى فالطبيعة هي عكس ما هو مكتسب و ثقافي.
و يكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسفي الغربي محل كلمة المادة فهي عند الفلاسفة الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون ، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء ، و مصدر الحركة ، والمادة التي تصنع منها الأشياء .
وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم ، فالطبيعيون والمثاليون و الواقعيون و الدارونيون يرون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء .
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ( مفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.
2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان) ، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها ، وهي قوانين كامنة فيها.
3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية) .
4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.
5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.
يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان) . وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.
ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي» ، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي» ، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي» ، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقول «الإنسان المادي» ، وبدلاً من «الطبيعية ( بالإنجليزية : ناتشوراليزم naturalism) » نقول «مادية» . وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة» ، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه ) .
مفهوم الأخلاق
الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .
والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .
وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .
و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .
ولابد أن نفرق بين الخلق والتخلق إذ التخلق هو تكلف و تصنع خلق معين وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلف لا يسمى خلقًا حتى يصير عادة وحالة للنفس راسخة يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، فالذي يصدق مرة لا يوصف بأن خلقه الصدق ومن يكذب مرة لا يقال إن خلقه الكذب بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًا في سلوكه .
مفهوم الطبيعة
الطبيعة لفظ مشترك المعاني – أي له عدة معاني – غامض جدا مما دعا بعض علماء الطبيعة في القرن السابع عشر إلى تجنب استعماله لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مشاهد .
و الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك ، وقد تعني الخصائص الثابتة التي تميز كائنا أو شيئا ما بحيث لا يمكن تصوره بدونها كالاحتراق بالنسبة للنار أو المكر بالنسبة للثعلب ، وقد تعني مجموع الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقتة أو الثانوية ، وقد تعني صفات الكائن الحي واستعداداته المنتمية إلى الإرث البيولوجي في مقابل الصفات المكتسبة ،وقد تعني مجموعة الأشياء التي لم يتدخل الإنسان في صنعها كالأشجار و الجبال مثلا وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته ،وقد تعني المادة التي تتكون منها الأشياء في العالم المشاهد المحسوس ،وقد تعني مجموعة الخصائص الفطرية و الغريزية التي تولد مع الإنسان و المشتركة بين جميع الناس، كالأكل و النوم. و بهذا المعنى فالطبيعة هي عكس ما هو مكتسب و ثقافي.
و يكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسفي الغربي محل كلمة المادة فهي عند الفلاسفة الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون ، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء ، و مصدر الحركة ، والمادة التي تصنع منها الأشياء .
وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم ، فالطبيعيون والمثاليون و الواقعيون و الدارونيون يرون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء .
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ( مفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.
2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان) ، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها ، وهي قوانين كامنة فيها.
3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية) .
4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.
5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.
يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان) . وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.
ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي» ، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي» ، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي» ، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقول «الإنسان المادي» ، وبدلاً من «الطبيعية ( بالإنجليزية : ناتشوراليزم naturalism) » نقول «مادية» . وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة» ، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه ) .
مفهوم الداروينية الاجتماعية
الداروينية الاجتماعية كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820) . وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون.
والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.
ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح .
الطبيعة محايدة
من المعلوم أن الطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال ،والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي و ما هو غير أخلاقي ، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدا بالنسبة للأخلاق ولذلك فهو إما أن يكون صادقا في أخلاقه أو كاذبا، أو مازجا بين الصدق والكذب، وهي حالة أكثر شيوعا بين البشر , فكيف تكون الطبيعة المحايدة مصدرا لشيء غير محايد ؟! والإنسان عنده وعي أخلاقي و الطبيعة ليس عندها وعي أخلاقي و الملحد إذ اعتبر نفسه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاق عنده ؛ لأن المادة لا أخلاق عندها ،و كيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمدة مما لا خلق عنده ؟!! وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب .
الطبيعة حتمية
الطبيعة عند الماديين خاضعة لقوانين آلية ثابتة ومنتظمة وصارمة و مطردة ولا إرادة فيها و لا اختيار وما يميِّز فعل الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه ؛ إذ يصدر الفعل الأخلاقي من داخل النفس البشرية من المبادئ والقيم والمُثُل المغروسة فيها دون قسر أو إكراه خارجي عليه فالإنسان يتمتع بالإرادة ،وحرية الاختيار فيمكن أن يفعل الشيء بإرادته واختياره ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته مثلا : يمكن أن يصدق بإرادته واختياره ويمكن ألا يصدق ،ويمكن أن يفي بعهد من العهود بإرادته واختياره و يمكن ألا يفي ،ويمكن أن يرفق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره و يمكن ألا يرفق ،ويمكن أن يحترم غيره بإرادته واختياره ،ويمكن ألا يحترم ،فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادة فيها ولا اختيار مصدرا لأخلاق الإنسان التي يتحلى بها عن إرادة واختيار وفاقد الشيء لا يعطيه ؟!!
وكيف تكون الطبيعة حتمية و الإنسان لا تجوز عليه الحتمية ثم يقال أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة ،و الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين الطبيعة ؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية ؟!!
و إذا كان الإنسان يسرى عليه ما يسرى على الطبيعة وهو من الطبيعة و ابن الطبيعة فكيف يتمرد عليها من أين له حرية الإرادة و القدرة على التمرد على الطبيعة ؟
والحتمية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور لا اختيار له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامش من الإرادة فضلا عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار .
الطبيعة مادية
إذا كانت الطبيعة هي المادة ،والمادة هي الطبيعة والمادة تدرك بالحواس ،و الأخلاق صفات معنوية ،وليست صفات حسية تدرك بالحواس فلا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق الحميدة كالشجاعة و الكرم و أداء الأمانة والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء ، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، ، والحياء، والرحمة، والرفق ، والبر، والشكر، والصدق، والعدل، والعفة وغير ذلك.
ولا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق السيئة كالكبر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف ، والتشاؤم ، والمن، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة و السباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم،والعجب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغش، والغرور، والجفاء، والتعيير، والفجور، والكذب، وقول الزور، ، والكبر وغير ذلك ،وعليه كيف تكون الطبيعة أو المادة مصدرا لشيء غير مادي ،ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟!!!
أخبرونا أيها الملاحدة : من أي مادة جاءت الرحمة ؟
ومن أي مادة جاء العدل ؟
ومن أي مادة جاء الكرم ؟
ومن أي مادة جاء الإيثار ؟
ومن أي مادة جاء الصدق ؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة ؟
وفي إطار المرجعية المادية يصير كل شيء مباحاً ونسبياً فعلى أي أساس مادي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم ؟!
وفي إطار المرجعية المادية كيف نحب الصدق و نكره الكذب ؟!،و كيف نحب العدل ونكره الظلم ؟!! وكيف نحب الكرم و نكره البخل ؟!! وكيف نحب الشجاعة و نكره الجبن ؟!! و كيف نحب الأمانة و نكره الخيانة ؟
و في إطار المرجعية المادية كيف يكون عندنا إدراك للأخلاق الحسنة و إدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك ؟!!
وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشد العجز عند تفسير خلق كالإيثار و التضحية ،و لا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة تؤثر مادة على نفسها ،ولا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة ترفض ما هو أصلح لها كمادة وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها .
والأخلاق تضع الملحد في مأزق فليس أمامه إلا خيارين إما أن يؤمن بوجودها و بذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تسبب في نشأتها ،وإما ألا يعترف بوجودها وبذلك يصبح كائن غير أخلاقي مثله مثل الجماد .
الطبيعة تتميز بالوحدة و السببية
الطبيعة عند الماديين تتسم بالوحدة فهي نظام واحد صارم ، وفعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها ، و الطبيعة أيضا سببية فلكل ظاهرة سبب، وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان مثلا الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان ، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد .
والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها ،و من المشاهد و الملاحظ تباين طباع الناس وأخلاقهم ، فلو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف ؟ وكيف تختلف أفعالها ؟! و لو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخلق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين .
و الإنسان حر في اختياره قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية ومقاييس مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييس تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادي، شيء متجاوز المادة شيء متجاوز الطبيعة .
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ومسئوليته تجاه أفعاله
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ؛ لأن الطبيعة تتسم بالحتمية فلا معنى لحرية الإرادة و الاختيار بل يصبح الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً ،و الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه وبذلك يصبح القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة ملغيا لالتزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها ، و لا تستقيم أمور الدنيا علي ذلك ؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل فهو قول فاسد لا اعتبار له .
و هل يمكن أنْ نكلّف شخصاً بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟ وكيف نمدح الناجح في عمله و نذم الفاشل إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل ؟
و في عالم الحتمية لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم ،ويصبح الحديث عن القيم الأخلاقية العليا لغوا لا معنى له إذ كل شيء يجري وفق قوانين ثابتة لا يمكن أن يحيد عنها .
و في عالم الحتمية المحسن لا يكون مختاراً عندما يحسن، ولا المسيء يكون مختاراً عندما يسيء .
مفهوم الداروينية الاجتماعية
الداروينية الاجتماعية كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820) . وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون.
والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.
ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح .
الطبيعة محايدة
من المعلوم أن الطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال ،والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي و ما هو غير أخلاقي ، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدا بالنسبة للأخلاق ولذلك فهو إما أن يكون صادقا في أخلاقه أو كاذبا، أو مازجا بين الصدق والكذب، وهي حالة أكثر شيوعا بين البشر , فكيف تكون الطبيعة المحايدة مصدرا لشيء غير محايد ؟! والإنسان عنده وعي أخلاقي و الطبيعة ليس عندها وعي أخلاقي و الملحد إذ اعتبر نفسه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاق عنده ؛ لأن المادة لا أخلاق عندها ،و كيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمدة مما لا خلق عنده ؟!! وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب .
الطبيعة حتمية
الطبيعة عند الماديين خاضعة لقوانين آلية ثابتة ومنتظمة وصارمة و مطردة ولا إرادة فيها و لا اختيار وما يميِّز فعل الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه ؛ إذ يصدر الفعل الأخلاقي من داخل النفس البشرية من المبادئ والقيم والمُثُل المغروسة فيها دون قسر أو إكراه خارجي عليه فالإنسان يتمتع بالإرادة ،وحرية الاختيار فيمكن أن يفعل الشيء بإرادته واختياره ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته مثلا : يمكن أن يصدق بإرادته واختياره ويمكن ألا يصدق ،ويمكن أن يفي بعهد من العهود بإرادته واختياره و يمكن ألا يفي ،ويمكن أن يرفق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره و يمكن ألا يرفق ،ويمكن أن يحترم غيره بإرادته واختياره ،ويمكن ألا يحترم ،فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادة فيها ولا اختيار مصدرا لأخلاق الإنسان التي يتحلى بها عن إرادة واختيار وفاقد الشيء لا يعطيه ؟!!
وكيف تكون الطبيعة حتمية و الإنسان لا تجوز عليه الحتمية ثم يقال أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة ،و الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين الطبيعة ؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية ؟!!
و إذا كان الإنسان يسرى عليه ما يسرى على الطبيعة وهو من الطبيعة و ابن الطبيعة فكيف يتمرد عليها من أين له حرية الإرادة و القدرة على التمرد على الطبيعة ؟
والحتمية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور لا اختيار له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامش من الإرادة فضلا عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار .
الطبيعة مادية
إذا كانت الطبيعة هي المادة ،والمادة هي الطبيعة والمادة تدرك بالحواس ،و الأخلاق صفات معنوية ،وليست صفات حسية تدرك بالحواس فلا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق الحميدة كالشجاعة و الكرم و أداء الأمانة والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء ، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، ، والحياء، والرحمة، والرفق ، والبر، والشكر، والصدق، والعدل، والعفة وغير ذلك.
ولا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق السيئة كالكبر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف ، والتشاؤم ، والمن، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة و السباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم،والعجب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغش، والغرور، والجفاء، والتعيير، والفجور، والكذب، وقول الزور، ، والكبر وغير ذلك ،وعليه كيف تكون الطبيعة أو المادة مصدرا لشيء غير مادي ،ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟!!!
أخبرونا أيها الملاحدة : من أي مادة جاءت الرحمة ؟
ومن أي مادة جاء العدل ؟
ومن أي مادة جاء الكرم ؟
ومن أي مادة جاء الإيثار ؟
ومن أي مادة جاء الصدق ؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة ؟
وفي إطار المرجعية المادية يصير كل شيء مباحاً ونسبياً فعلى أي أساس مادي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم ؟!
وفي إطار المرجعية المادية كيف نحب الصدق و نكره الكذب ؟!،و كيف نحب العدل ونكره الظلم ؟!! وكيف نحب الكرم و نكره البخل ؟!! وكيف نحب الشجاعة و نكره الجبن ؟!! و كيف نحب الأمانة و نكره الخيانة ؟
و في إطار المرجعية المادية كيف يكون عندنا إدراك للأخلاق الحسنة و إدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك ؟!!
وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشد العجز عند تفسير خلق كالإيثار و التضحية ،و لا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة تؤثر مادة على نفسها ،ولا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة ترفض ما هو أصلح لها كمادة وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها .
والأخلاق تضع الملحد في مأزق فليس أمامه إلا خيارين إما أن يؤمن بوجودها و بذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تسبب في نشأتها ،وإما ألا يعترف بوجودها وبذلك يصبح كائن غير أخلاقي مثله مثل الجماد .
الطبيعة تتميز بالوحدة و السببية
الطبيعة عند الماديين تتسم بالوحدة فهي نظام واحد صارم ، وفعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها ، و الطبيعة أيضا سببية فلكل ظاهرة سبب، وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان مثلا الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان ، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد .
والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها ،و من المشاهد و الملاحظ تباين طباع الناس وأخلاقهم ، فلو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف ؟ وكيف تختلف أفعالها ؟! و لو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخلق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين .
و الإنسان حر في اختياره قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية ومقاييس مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييس تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادي، شيء متجاوز المادة شيء متجاوز الطبيعة .
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ومسئوليته تجاه أفعاله
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ؛ لأن الطبيعة تتسم بالحتمية فلا معنى لحرية الإرادة و الاختيار بل يصبح الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً ،و الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه وبذلك يصبح القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة ملغيا لالتزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها ، و لا تستقيم أمور الدنيا علي ذلك ؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل فهو قول فاسد لا اعتبار له .
و هل يمكن أنْ نكلّف شخصاً بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟ وكيف نمدح الناجح في عمله و نذم الفاشل إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل ؟
و في عالم الحتمية لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم ،ويصبح الحديث عن القيم الأخلاقية العليا لغوا لا معنى له إذ كل شيء يجري وفق قوانين ثابتة لا يمكن أن يحيد عنها .
و في عالم الحتمية المحسن لا يكون مختاراً عندما يحسن، ولا المسيء يكون مختاراً عندما يسيء .
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي دور الإنسان في التاريخ و الحضارة
إذا كان الإنسان يخضع لحتميات الطبيعة فلا إرادة عنده و لا عزيمة و لا اختيار و لا رغبة في التغيير و لا إرادة للتغيير مثله مثل أي كائن آخر في الطبيعة .
وأحد دعائم التاريخ و الحضارة العنصر البشري الذي مهمته التغيير و البناء و الابتكار و الإبداع و هذا يحتاج إرادة ذاتية وعزيمة داخلية تنبعث في نفس الإنسان تحثّه على التغيير و البناء و الابتكار و الإبداع ،ومن خلال العقل المدرك الذي وهبه الله للإنسان و العزيمة الداخلية و الإرادة الذاتية و الطاقات التي زوده بها يستطيع الإنسان أن يصنع تاريخه و حضارته على هذه الأرض .
و الواقع العملي أثبت الدور الإيجابي للإنسان في صنع التاريخ والحضارة لكن الماديين يريدون سلب هذا الدور من الإنسان و بذلك يلغون مصدر أصيل في إنشاء التاريخ إذ الحتمية تفترض أنه لا إرادة للإنسان ،وكأن الإنسان يشاهد حركة التاريخ و يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا مخالف للواقع .
التفسير الدارويني لنشأة الأخلاق
فسر كثير من الملاحدة نشأة الأخلاق بالتطور الدارويني الذي آليته الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح فكل كائن حي يسعى من أجل بقائه، و ينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح و عليه فأخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا ثم استقرت تبعا لما يحقق للإنسان المصلحة والتفوق والانتخاب الطبيعيّ هو صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان ،و قد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريّ نوع من القاعدة الأخلاقيّة الكونيّة فالأخلاق ما هي تكيف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقائنا والعملية البيولوجية هي معيار الأخلاقيات، وكل شيء يدعمها فهو خير، وكل شيء يعارضها فهو شر .
و زعم الدارونيين أن كل كائن حي يسعى من أجل بقائه، و ينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح زعم باطل ورجم بالغيب فمن المشاهد و الملاحظ وجود تعاون بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقي و تعاون و تكامل بين الكائنات أقوى من الصراع ،وهذا الالتقاء والتعاون والتكامل هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء.
و قد شهد التاريخ ببطلان نظرية التنازع من أجل البقاء والبقاء للأصلح والأقوى فإذا نظرنا إلى تاريخ البشر نجد خلاف هذه النظرية فها هم أهل الكتاب يهود و نصارى عاشوا ضعاف في الدولة الإسلامية 12 قرنا ، ومازالوا باقين ،و هاهم المسلمون كانوا هم حاكمي البلاد و بالتالي هم الأقوياء و مع ذلك بقي أهل الكتاب في حكمهم و هاهم المسلمون كانوا في بداية الدعوة ضعفاء ثم قويت شوكتهم ،و هاهم النصارى كانوا ضعفاء في الدولة الرومانية ثم قويت شوكتهم ،و هاهم اليهود كانوا في بداية دعوة موسى عليه السلام ضعفاء ثم قويت شوكتهم .
و من المعلوم بالحس و المشاهدة أن أي دولة من الدول تجد فيها الضعيف و القوي و مع ذلك لم ينقرض الضعفاء و مازال الأقوياء موجودين .
و بالنسبة للحيوانات و الطيور و الأسماك و النباتات فليس هناك تنازع من أجل البقاء و لا بقاء للأقوى و الأصلح بل بقاء الحيوانات و الطيور و الأسماك و النباتات يرجع لعدم وجود عوامل الانقراض و التي من أهمها :
القطع الجائر للنباتات .
الصيد الجائر للحيوانات والطيور و الأسماك .
تعديل البيئة فتعديل البيئة يؤدي إلى إبادة كثير من الأنواع النباتية والحيوانية و العديد من الطيور .
تلوث البيئة ،وقد أهلكت الملوثات المائية من زيت البترول و العناصر الثقيلة و المبيدات العديدة من الطيور المائية و الأحياء البحرية الدقيقة و الأسماك التي تتغذى عليها .
و ترجع عوامل البقاء إلى توافر مقومات الحياة ،و عدم وجود عوامل الانقراض ،و لو كان البقاء للأقوى لما انقرضت الديناصورات و بقيت الحشرات .
ومن المعروف أن الكثير من الكائنات الحية لا تستطيع إنتاج غذائها بنفسها فتتغذى على غيرها ،وغيرها يتغذى عليها و هذا من التكامل بين الكائنات مثلا يأكل الأرنب الأعشاب و تأكل البومة الأرنب و تموت البومة فيأكلها الضبع و يموت الضبع فتتغذى عليه الكائنات المحللة أو قمح يأكله فأر و الفأر يأكله ثعبان و الثعبان يأكله نسر و النسر يموت فتتغذى عليه الكائنات المحللة و هكذا .
و الذكر القوي إذا تزوج بأنثى قوية لا يستلزم ذلك إنجاب ولد قوي فقد ينجبا ولدا ضعيفا حسب قوانيين الوراثة و كم رأينا من رجل جميل يتزوج بامرأة جميلة و ينجبا طفلا غير جميل و رأينا العكس أيضا .
و عقليا ومنطقيا البقاء عن طريق التعاون بين الإنسان والحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع .
و تفسير نشأة الأخلاق بالتطور الدارويني الذي آليته الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح تفسير لا يفرز إلا الوحشية والدناءة ، فالتطور الدارويني لا يُنتج إلا أمثال هتلر، والمجتمع الدارويني لا يكون إلا مجتمعاً فاشيا ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العرقية .
و قد كان الفكر التطوري الدارويني سببا في نشأة اثنين من أسوأ النظم الاجتماعية والسياسية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي ،والنازية في ألمانيا ،وقد طبق الفكر السياسي الاستعماري هذه النظرية على الشعوب المستعمرة وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين .
و دارون يعتبر الأخلاق من نتائج الانتخاب الطبيعي في المجال السلوكي مثلها مثل أي صفات بيولوجية أخرى مثل منقار الطائر هل يوصف منقار الطائر بأنه خير أو شر ؟ إنه فقط مفيد للقيام بوظائفه لهذا الطائر بالتحديد تحت هذه الظروف في هذه الفترة من الزمن لذلك فاستخدمنا لاصطلاح جيد أو سيء يكون من منطق الفائدة المادية ،وليس القيمة الأخلاقية أي ليس هناك أخلاق فاضلة و أخرى شريرة ، ولكن هناك سلوكيات و مفاهيم تعين بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع من أجل البقاء .
و إذا كان الانتخاب الطبيعي مبني على تحقيق المنفعة الفردية حيث كلُّ فرد لا يهمه إلا نفسه في صراعه مع الآخرين من أجل البقاء، فهذا التفسير يلغي الأخلاق إذ من قوام الفضائل الأخلاقية التضحية و الإيثار و التعاطف مع الآخرين وفي التضحية يبذل الشخص النَّفس أو الوقت أو المال لأجل الآخرين دون مقابل منهم ، وفي الإيثار يقدم الإنسان حاجة الآخرين على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه و في التعاطف يضع الشخص نفسه محل الآخر ويتبنى مشاعره وأحاسيسه وآلامه ،وكل هذه السلوك الأخلاقية من منطلق مادي لا تخدم البقاء و ليس فيها تحقيق منفعة للفرد بل تحقق منفعة لغيره ولذلك هذه السلوك الأخلاقية تضع الانتخاب الطبيعي في مأزق .
والانتخاب الطبيعي يعجز عن تفسير وجود أخلاق حميدة تمارسها الكائنات تجاه كائنات من أنواع أخرى كالرفق بالحيوان و الشفقة على الحيوان فهذه السلوك الأخلاقية لا تخدم البقاء و ليس فيها تحقيق منفعة مادية للفرد .
و إذا كانت نشأة الأخلاق تفسر بالتطور الدارويني و الانتخاب الطبيعي فما المصلحة من وجود الأخلاق السيئة كالكذب و الغش و الغدر و الخيانة و القتل فهل مثل هذه الأخلاق تخدم البقاء أم تساعد على الفناء ؟!! والإنسان يقوى بإخوانه فهل قتل الناس بعضهم بعضا يخدم البقاء أم يساعد على الفناء ؟
و إذا كانت الأخلاق نشأة بآلية الصراع من أجل البقاء و البقاء للأصلح فلماذا يوجد الخلق و ضده فإما الخلق الحسن هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي أو الخلق المذموم هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي .
وحسب الانتخاب الطبيعي فأي شيء يحافظ على بقاء صور الحياة الأكثر تعقيداً والأفضل تكاملاً يوصف بالخير ، وما يعوق التطور الدارويني يعتبر شراً ولو تركنا قانون الغاب يعمل عمله بأن يبقى الأصلح وحده ، فإن سلوكنا عندئذ يكون صواباً لأن الاتجاه الرئيسي للتطور الدارويني يكون قد حقق الهدف منه ، ولكن لو تدخلنا في مسار التطور الدارويني بمعاونة الأضعف على البقاء ، فإن سلوكنا عندئذ يكون من الناحية الأخلاقية خاطئاً .
و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى حماية الضعفاء والمرضى والمعاقين و الإشفاق عليهم والعناية بهم دعوى ضد الطبيعة ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح .
و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى الإنفاق على الفقراء واليتامى والمساكين دعوى ضد الطبيعة ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح .
و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى تحريم الزنا و زواج المحارم دعوى ضد الطبيعة و ضد الانتخاب الطبيعي .
و إنسان دارون إنسان الغاب لا مانع عنده أن تخونه زوجته أو يزني بمحارمه .
و الإنسان يمكن أن نسميه كائناً أخلاقياً بينما لا نسمى الحيوان كائناً أخلاقياً ، إذ لا معنى للحديث عن قيم خلقية وسلوك خلقي ومسئولية و جزاء في عالم الحيوانات فالأخلاق مرتبطة بالاختيار ، ويقوم الاختيار على الوعي بمبادئ وقواعد يتصرف الإنسان وفقاً لها ، ولا ترتبط هذه القواعد والمبادئ بالغريــزة والحاجة القريبة دائماً ، لكن سلوك الحيوان محدود بحاجاته القريبة فقط .
إن السلوكيات الأخلاقية وآدابها هي التي تميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث الجنس والأكل والشرب والنظافة، وتذوق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنها في المعاشرة والمحادثة والتعاون والتآلف وتبادل المحبة والإكرام والإحسان والتراحم والتعاطف وغيرها ولهذا فالآداب الأخلاقية زينة الإنسان وحليته الجميلة، وبقدر ما يتحلى بها الإنسان يضفي على نفسه جمالا وبهاء، وقيمة إنسانية .
وإذا كانت الأخلاق التي يتحلى بها الجنس البشري يتحلى بها عن وعي كامل و قدرة على الاختيار ، ولا نجد في غيره من الكائنات مثل ذلك فلماذا حصل هذا التطور عند النوع الإنساني دون غيره ؟ أي إذا كان الإنسان على زعمهم يمثل امتدادا طبيعيا لمن سبقه في سلم التطور البيولوجي فلماذا خضع الإنسان للتطور في الأخلاق دون غيره ؟.
و الزعم بأن أخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا يحتاج إلى دراسة تاريخية متعمقة تشمل الإنسان الأول إلى أن تصل للإنسان المعاصر ، وتسير الدراسة مع الإنسان سيراً متأنياً لتكشف عن سلوكه و أخلاقه خلال الظروف والأحوال التي تحيط به .
و لابد للدراسة أن تبين هل كانت هناك مؤثرات خارجية غيرت من سلوك الإنسان الأخلاقي أم لا ؟ والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها .
و يصعب إخضاع السلوك الإنساني الأخلاقي للتجربة ،والتأكد من صحة الفروض شرط أساسي من شروط المنهج العلمي فإن التجربة تقتضي قدرة الباحث على التحديد والضبط و التحكم في السلوك الإنساني الأخلاقي محل البحث وضبط كل المتغيرات المؤثرة فيه ،و لخصوصية السلوك الإنساني فهو أمر يصعب ضبطه ويستحيل أن يطلب الباحث من الإنسان تكرار السلوك الإنساني بهدف إجراء التجربة .
و لا يخضع الإنسان لمبدأ الحتمية التي تخضع لها الظواهر الطبيعية بل يخضع للأهواء و الميولات و التقلبات وهذه الأمور و غيرها تجعل القول بأن أخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا تحكم علمي ومجازفة ورجم بالغيب .
و الزعم بأن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقائنا يجعل الأخلاق نسبية غير مطلقة وتختفي مع النسبية أي معايير أخلاقية ، وبالتالي تلغى الأخلاق فقد يكون السلوك الأخلاقي محرماً عند شخص ولكنه محلل عند شخص آخر ، وقد يكون السلوك محمودا عند شخص ولكنه مذموم عند شخص آخر ،وقد يكون الفعل من قبيل الرحمة عند شخص ،وعند شخص آخر من قبيل القسوة ،وهذا الكلام مخالف للواقع والتاريخ .
والخير خير عند الصالح والطالح والشر شر عند الصالح والطالح و هناك سلوكيات مستهجنة عند جميع المجتمعات كالسرقة و الكذب و الغدر و الخيانة و البخل وهناك سلوكيات مستحسنة عند جميع المجتمعات كالصدق و العدل والأمانة و الوفاء والكرم .
و ثبات الأخلاق يبعث الطمأنينة و السعادة في حياة الفرد، و المجتمع ،و لا تتأتى السعادة والأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاق يمارسها الفرد ويتوقعها من الآخرين حوله .
و في عالم دارون عالم الغاب لا يأمنُ الناسُ على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس .
و الزعم بأن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري يلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها فلا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم .
و في الختام أهمس في أذن كل ملحد قائلا إذا كانت الأخلاق قد نشأت عن طريق التطور الدارويني و تنازع البقاء و انتخاب الأصلح – على حد زعمك - فمن الذي يصطفي هذا الخلق دون غيره ؟!!
والانتخاب الطبيعي ما هو إلا وصف لظاهرة ،وليس هو سبب الظاهرة فمن الذي ينتخب و يصطفي ويختار هل هو الطبيعة أم الانتخاب نفسه أم شيء غير الطبيعة و الانتخاب ؟!! إن قلت الطبيعة فهذا خطأ ؛ لأن الطبيعة لا إرادة لها ولا اختيار ،وإن قلت الانتخاب نفسه فهذا خطأ ؛ لأن الانتخاب حدث و الحدث لابد له من محدِث فيتعين أن هناك شيء غير الطبيعة هو الذي يصطفي و يختار فأنت من هذا المنطلق تثبت شيء غير الطبيعة و المادة ،وهذا يخالف ويناقض اعتقادك .
و إني أسأل كل من يدعي أن الطبيعة مصدر الأخلاق : كيف عرفت أن الطبيعة هي مصدر أخلاقك ؟ هل أعلمتك ذلك أم رأيتها تعطيك الأخلاق أم ماذا ؟
هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال :
التعريفات للجرجاني
الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبد الوهاب المسيري
خرافة الإلحاد للدكتور عمرو شريف
علم النفس الإسلامي العام والتربوي للدكتور محمد رشاد خليل
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز
موسوعة الفلسفة للدكتور عبد الرحمن بدوي
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري
الملحد ودعواه نسبية الأخلاق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى يرددها الكثير من الملاحدة واللادينين ألا وهي نسبية الأخلاق و حسب كلامهم أن الأخلاق أمور اعتبارية نسبية لا ثبات لها فهي تختلف من شعب إلى شعب، ومن أمة إلى أمة، ومن زمان إلى زمان... فبعض الأمور تعتبر منافية لمكارم الأخلاق عند شعب من الشعوب أو أمة من الأمم في حين أنها غير منافية لمكارم الأخلاق عند شعب آخر أو أمة أخرى، وبعض الأمور كانت في زمان مضى أموراً منافية لمكارم الأخلاق، ثم صارت بعد ذلك أموراً غير منافية لها؛ وهذا يدل على أن الأخلاق مفاهيم اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها، وليس لمقاييسها ثبات.
و يقول بعض الملاحدة واللادينين : من المستحيل أن تعمم على جميع البشر .. نعم قد يتفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيم أخلاقية معينة ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قبل جميع الناس ؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض... فماذا نقول عن بعض المجتمعات التي من عادتها في استقبال الضيوف جلوس الضيف على حضن المستضيف كنوع من التكريم أو التعبير عن المحبة ونجد أن هناك عادات غربية قد يستهجنها الشرقيين وهذا أمر طبيعي ونستطيع أن نطلق إذا صفة النسبية على الأخلاق.
ويقول بعضهم : كل الأخلاق أخلاق نسبية قد تكون صحيحة هنا و خطأ هناك .
و يقول بعضهم : الأخلاق مبنية على المنفعة ،ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة أو البعد عن الألم علي أقل تقدير. و لهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لأخر بناءا علي اختلاف الاحتياجات و الخبرات و الثقافات و بالتالي تصبح الأخلاق علي إطلاقها نسبية و لكن بدور في غاية الأهمية ؛ لأنها تضع القوانين التي يستطيع أفراد المجتمع أن يحققوا بها سعادتهم من خلال البناء الاجتماعي و بدون القلق من تعرض أمانهم للاعتداء من الآخرين ... و من هنا تتطور الأخلاق, فكل ما يهدم هذا البناء الاجتماعي و يجعل الفرد في حالة انعدام للأمان هو لا أخلاقي ؛ لأنه يعود بالإنسان ( و لو في لحظة) لحالة العشوائية و قانون الغاب الذي هجره الإنسان ليصل إلي ما هو أفضل منذ أزمان بعيدة .
ويقول بعضهم: لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن المرغوب فيه يختلف تبعا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة .
ويقول بعضهم: المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات.
ويقول بعضهم: إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب فيه هو ما تقرر الثقافة (والثقافة وحدها هي الحكم) أنه كذلك، فالحرب، والأخذ بالثأر، وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض، والديكتاتورية، كل هذه أمور تكون مرغوبا فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك، فالقيم إذن نسبية إلى طبيعة الإنسان، كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي والثقافي .
وقبل الرد على هذه الدعاوي لابد من بيان مفهوم الأخلاق ،ومفهوم النسبية الأخلاقية .
مفهوم الأخلاق
الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .
والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .
وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .
و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .
مفهوم نسبية الأخلاق
نسبية الأخلاق تعني أن الأخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان و الثقافة و الأشخاص والمجتمع فلا توجد أخلاق مطلقة، وعليه ليس هناك صواب وخطأ أخلاقي فقد يكون السلوك الأخلاقي محرماً عند شخص ولكنه محلل عند شخص آخر ، وقد يكون السلوك محمودا عند شخص ولكنه مذموم عند شخص آخر ،وقد يكون الفعل من قبيل الرحمة عند شخص ،وعند شخص آخر من قبيل القسوة ،وقد يكون السلوك محمودا في مجتمع ولكنه مذموم في مجتمع آخر .
مخالفة القول بنسبية الأخلاق للواقع
إن القول بنسبية الأخلاق يخالف الواقع إذ توجد مجموعة من الأخلاق تفرض نفسها على الجميع فرضا فيوجد سلوكيات مستهجنة عند جميع المجتمعات كالسرقة و الكذب و الغدر و الخيانة و البخل ويوجد سلوكيات مستحسنة عند جميع المجتمعات كالصدق و العدل والأمانة و الوفاء والكرم .
ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون العدل فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون الوفاء فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة في زمن معين و يكون رذيلة في زمن آخر.
مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر
مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر فليس لدينا مقياس نفرق به بين الخير والشر ،و ليس لدينا معيار نحكم به أن هذا الخلق خير و هذا الخلق شر ،و ليس لدينا قيم أخلاقية ثابتة مطلقة يمكن أن نحتكم إليها ،و تجعل بوسعنا الحكم والتمييز بين ما هو خير من الخلق و ما هو شر ، و إذا كان مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر ،وهذا أمر باطل فالقول بنسبية الأخلاق قول باطل ؛ لأن ما يلزم منه اللازم الباطل فهو باطل لا اعتبار له .
و نحن في الكثير من الأحيان نستطيع التّمييز بسهولة بين ما هو خير وما هو شرّ، و إن كان في أحيان أخرى لمؤثرات معينة قد يلتبس علينا الأمر فنظن أن الشيء فيه خيرًا وهو شر، أو نظن أن الشيء فيه شرا وهو خير ،و تمييزنا في كثير من الأحيان بين ما هو خير وما هو شر يدل أن لدينا معايير نحكم بها على أن هذا الخلق خير و هذا الخلق شر ،وهذا يناقض القول بنسبية الأخلاق .
و من مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تساوي بين قتل عشرات الناس و بين إطعام عشرات الناس فعلى النسبية الأخلاقية قتل عشرات الناس لا خير فيه و لا شر ، وإطعام عشرات الناس لا خير فيه و لا شر .
و من مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تساوي بين اغتصاب فتاة و بين إنقاذ فتاة من خطر معين فعلى النسبية الأخلاقية اغتصاب فتاة لا خير فيه و لا شر ، وإنقاذ فتاة من خطر معين لا خير فيه و لا شر .
مع القول بنسبية الأخلاق تلغى الأخلاق
مع القول بنسبية الأخلاق تلغى الأخلاق فما هو حسن عند شخص يكون قبيحا عند آخر ، و ما هو مستحسن في مجتمع يكون مستقبحا في مجتمع آخر ،وما هو خلق رفيع في زمان يكون خلقا وضيعا في زمان آخر وبالتالي تختفي مع النسبية أي معايير أخلاقية ؛ لأن المبدأ الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود ،وعليه فالدعوة إلى النسبية الأخلاقية دعوة إلى التحرر من القيم الأخلاقية ودعوة إلى إلغاء القيم الأخلاقية .
وكيف نحكم على سلوك أنه موافق للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟
وكيف نحكم على سلوك أنه مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟
وكيف نحكم أن القتل مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الغدر مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الظلم مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الغش مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الاغتصاب مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟
القول بنسبية الأخلاق يهدم المسئولية الأخلاقية
لو كانت الأخلاق نسبية فستفقد قوتها الإلزامية إذ لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم في وجود النسبية الأخلاقية ، وكيف يلتزم الإنسان بقيم خلقية يؤمن بأنها متغيرة و نسبية ؟ وكيف يشين المجتمع سلوكا معينا لشخص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف يشيد المجتمع بسلوك معين لشخص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وعليه فالقول بنسبية الأخلاق يفقد الأخلاق قوتها الإلزامية وبالتالي يهدم و ينكر مسئولية الفرد الأخلاقية ،و إنكار مسئولية الفرد الأخلاقية مخالف للواقع .
وكيف للناس تجريم القتل إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تجريم الاغتصاب إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تجريم الغش إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟
وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الأمين إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشجاع إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المصلح إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المخلص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشهم إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟
ولو كانت الأخلاق نسبية لما جرم القاتل إذ له أن يحتج بأنه تصرف وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة ، ولو كانت الأخلاق نسبية لما جرم المغتصب إذ له أن يحتج بأنه تصرف وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة ، ولو كانت الأخلاق نسبية لما وجد الكثير من الناس حرجا في التحلي برذائل الأخلاق ،و من هنا ندرك أن الدعوة إلى نسبية الأخلاق دعوة إلى الانحراف الأخلاقي ،ودعوة إلى اقتراف الجرائم و الأخلاق المشينة إذ مع نسبية الأخلاق لا معنى للعقاب و لا معنى للذم و لا معنى للتجريم .
الناس أنفسهم يعملون بخلاف القول بنسبية الأخلاق
الناس أنفسهم يعملون بخلاف القول بنسبية الأخلاق فتجد الواحد من الناس يحكم على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق مثل زنا المحارم و السباب و الفساد في الأرض مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق .
والواحد من الناس يحكم على بعض سلوكيات الأفراد أنها حميدة مثل الشجاعة والشهامة والكرم مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها حميدة .
وهناك سلوكيات كالبخل و الجشع و السباب يذمها جميع الناس إلا النذر اليسير مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها مذمومة .
و الناس تمدح الشخص ذي الأخلاق الحسنة وتذم الشخص ذي الأخلاق السيئة ،ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للمدح أو الذم معنى .
وأي دولة من الدول تجرم بعض السلوكيات من الأفراد ،وتعاقب على فعل بعض السلوكيات و أي مجتمع من المجتمعات يجرم بعض السلوكيات من الأفراد ، ويعاقب على فعل بعض السلوكيات مثل الخيانة والاعتداء والفساد ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للتجريم أو العقاب معنى .
بعض ملامح المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا يأمنُ الناسُ فيه على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس إذ كل شخص يفعل ما يريد وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة .
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا سعادة فيه ولا أمن ولا استقرار إذ كيف تتأتى السعادة وكيف يأتي الأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاق حميدة يمارسها الفرد ويتوقعها من الآخرين حوله ؟!!.
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا يشجع على فضيلة ،ولا يُبَغِض في رذيلة فيقل فيه فعل الفضائل و يكثر فيه فعل الرذائل .
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا قيمة فيه للعفة و الطهر فيكثر فيه الزنا وإتيان الفواحش .
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع يصبح الإنسان فيه كالحيوان فكما أن سلوكيات الحيوان لا تمدح و لا تذم فكذلك إنسان المجتمع النسبي الأخلاق سلوكياته لا تمدح و لا تذم .
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع ضعيف مفكك لكثرة النزاع والصراع فيه و لا وجود لقيم ثابتة يحتكم إليها الناس فتفض النزاع .
القائل بنسبية الأخلاق يناقض نفسه
نجد الكثير من القائلين بنسبية الأخلاق يناقضون أنفسهم فمنهم من يستقبح الظلم و يستحسن العدل و يحب الخير و يكره الشر ،وهذا يخالف مذهبه بنسبية الأخلاق إذ استقباح الظلم و استحسان العدل وحب الخير وكراهة الشر دليل على وجود أخلاق مطلقة .
ومنهم – إن لم نقل كلهم - من يقابل الظلم في حقه بالانتقام فلما يقابل الظلم في حقه بالانتقام ،والظلم عنده نسبي فما يراه ظلما قد يراه غيره عدلا ؟!!
ومنهم– إن لم نقل كلهم - من يعاقب ابنه على فعل سلوك غير أخلاقي كالكذب ،ويمدح ابنه على فعل سلوك أخلاقي كالصدق فلما يعاقب ابنه على الكذب و يمدح ابنه على الصدق ولا معنى للعقاب ولا معنى للمدح في إطار نسبية الأخلاق .
المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة و غيرهم من المضللين لتسويغ القول بنسبية الأخلاق
بعد أن بينا أن القول بنسبية الأخلاق قول باطل يخالف الواقع ،ويستلزم لوازم باطلة ويعمل الناس بخلافه حتى من يعتقد به قد لا يعمل به حري بنا أن نبين المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق من كلام الشيخ عبد الرحمن الميداني – رحمه الله – فقد بين و أجاد و أفاد ،وذكر أن المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق كالتالي:
مدُّ عُنوان الأخلاق مداً يشمل التقاليد والعادات والآداب، وبعض الأحكام الدينية التي لا علاقة لها بموضوع الأخلاق من حيث ذاتها.
مفاهيم بعض الناس للأخلاق ولأسسها، مع أنها مفاهيم غير صحيحة.
اضطراب الفكر الفلسفي في تحديد المبادئ التي يرجع إليها الأخلاق، كالقوة، والمنفعة، واللذة، وغيرها.
ومن التعميم الفاسد الذي يطلقونه ويقررونه، ومن مفاهيم بعض الناس غير الصحيحة للأخلاق، ومن اضطراب الفكر الفلسفي في تحديده للمبادئ التي ترجع إليها الأخلاق، يجد المضلون أمامهم مجالاً مُهَيّأً لاستغلال أمثلة تدخل في هذه الأُطر العامة الموسّعة بالباطل، وهذه الأمثلة تخضع للتغيّر والتبدّل، ولا تظهر فيها قِيمٌ خلقية ثابتة، لأنها في الحقيقة ليست من الأخلاق، وإنما دُسَّت في الأخلاق تزييفاً لنقض الأخلاق بها.
و اللعبة تتم على الوجه التالي: هذه أمثلة من مفردات الأخلاق التي يؤمن بها الأخلاقيون.
هذه الأمثلة تخضع للتغيّر والتبدّل، فليس لها قيم ثابتة.
إذن فالأخلاق كلها أمور ذات مفاهيم متغيرة متبدلة.
إذن فالأخلاق كلها ليس لها قيم ثابتة.
إذن فالأخلاق أمور اعتبارية، أو نسبية.
وبلعبة المغالطة هذه يسهل على مدمري الأخلاق في المجتمعات الإنسانية، إفساد الأجيال، حتى تتمرد على جميع الضوابط الخلقية، التي تُمثّل في الأمم قوى مترابطة وتماسكها، وعناصر الدفع لارتقائها الإنساني، وشروط المحافظة على أمجادها الموروثة والمتجددة بأعمالها.
شرح وتحليل :
منشأ المشكلة يرجع إلى الخطأ في تحديد مفهوم الأخلاق، وتحديد دوافعها وغاياتها، وتحديد مستوياتها، من قِبَل كثير من الناس، وفيهم كثير من الباحثين في علم الأخلاق، من فلاسفة ومفكرين.
وهذا هو الذي يفتح الثغرة الفكرية التي يعبُر منها الخبثاء الماكرون، ليهدموا الأبنية الأخلاقية الحصينة التي تتمتع بها الشعوب العريقة بأمجادها، لا سيما المسلمون الذين سبق أن رفعتهم الأخلاق العظيمة إلى قمة مجد لم يطاولهم فيها أحد.
وحين يتبصر الباحث بالأسس الأخلاقية، التي تم فيها تحديد مستوياتها، وفق المفاهيم المقتبسة من التعاليم الإسلامية، يتبين له بوضوح تساقط أقوال الذين يزعمون أن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وأنها من الأمور التي تتواضع عليها الأمم، وأنها ليست ذات قيم حقيقية، أو حقائق ثابتة .
فالباحث المتحري للحقيقة يستطيع أن يكتشف بسرعة عناصر المغالطة التي يصطنعها هؤلاء المضللون، إذ يأتون بأمثلة جزئية يزعمون أنها من الأخلاق، ثمّ يثبتون أنها أمور اعتبارية أو نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، ثمّ ينقضون بها ثبات الأخلاق نقضاً كلياً، بطريقة تعميمية لا يقبل بها العلم، حتى على افتراض أن هذه الأمثلة هي من الأخلاق فعلاً، لأنه لا يجوز علميّاً الحكمُ على النوع كله من خلال الحكم على بعض أفراه، ما لم يثبت أن سائر الأفراد مشتركة بمثل الصفة التي كانت علة صدور الحكم على بعض الأفراد .
إن مغالطتهم هذه تشبه مغالطة من يأتي بمجموعة من القرود، ويلبسها لباس بني آدم، ويدخلها بين مجموعاتهم ثمّ يقول: إن الناس جميعهم لهم صفات القرود، بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى بعض قروده - له صفات القرود، بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى فرد آخر من هذه المجموعة المزيفة- له صفات القرود. وهكذا يأتي بأمثلة متعددة من هذا العنصر الدخيل، ثمّ يصدر حكمه التعميمي في مغالطة أخرى، فيقول: ومن هذا يتبين لنا أن جميع الناس لهم صفات القرود.
إن هذه العملية قد تضمنت مغالطة مركبة تمت على مرحلتين:
المرحلة الأولى: إدخال عنصر ليس من البشر تحت عنوان البشر.
المرحلة الثانية: تعميم الحكم الذي يَصدر على هذا العنصر الدخيل، وجعله شاملاً للناس جميعاً.
وهذا مثال مطابق تماماً لمغالطتهم في موضوع الأخلاق، فهي أيضاً تشتمل على إدخال ما ليس من أفراد الأخلاق تحت عنوان الأخلاق، ثمّ تعميمهم حكمهم على هذه الأفراد الدخيلة، وجعله شاملاً لجميع أفراد الأخلاق الحقيقية .
نماذج من الأمثلة التي يدخلونها في الأخلاق وهي ليست منها :
فمن الأمثلة الجزئية التي يدخلونها في الأخلاق وليست منها، وغرضهم من ذلك التمهيد لنقض الأخلاق بها، ما يلي:
1- يقولون: إن أكل لحم الميتة أمر لا يعتبر منافياً للأخلاق عند بعض القبائل، بينما يعتبر منافياً للأخلاق عند الذين لا يأكلون لحم الميتة، حتى حين تأكل بعض القبائل موتاها من الناس فإن لها في ذلك مبرراتها الاقتصادية، إذ ترى أن انتفاعها بلحوم موتاها خير من تركها للدود، وخير من دفنها في التراب، وتركها تتعفن وتتفسخ وتتحلل.
وهذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبية، وليس لها قيم حقيقية ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة.
2- ويقولون: إن بعض الأمم تحرم شرب بعض أنواع من الأشربة، كالخمور، وتعتبر شربها عملاً منافياً للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء في شربها.
3- ويقولون: إن بروز المرأة بزينتها، وتعريها من ثيابها، وعرضها مفاتنها للرجال الأجانب، أمرٌ لا يعتبر منافياً للأخلاق عند كثير من الشعوب، بينما يعتبر عند شعوب أخرى من الرذائل الخلقية.
ويأتون بمثال تعدد الزوجات وإباحته عند أمة وتحريمه عند أمة أخرى.
4- ويقولون: إن دعم مراعاة الأنظمة المتبعة في الطعام والشراب واللباس عند بعض الأمم، يعتبر من الأمور المستنكرة جداً، والمنافية للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى خلاف ذلك، إذ ترى أن ترك الإنسان حراً يتصرف كما يحلو له في طعامه وشرابه ولباسه هو الفضيلة الخلقية.
ويأتون بأمثلة الطقوس في البلاد الأقيانوسية، ومنها تحريمهم الطعام تحت سقف، والمكث في المسكن إذا كان الإنسان مريضاً، وتحريمهم استعمال الأيدي في تناول الطعام بعد فراغ الإنسان من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق، وهكذا يوردون أمثلة هي من العادات والتقاليد الاجتماعية، أو من الظواهر الجمالية، أو من الأحكام الدينية لدين صحيح أو لدين وضعي من وضع البشر.
قالوا: وكل هذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبية، وليست لها قيم حقيقية مطلقة ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى، ومن أمة إلى أمة أخرى.
وحين يورد المضلون مثل هذه الأمثلة الجزئية، لا يعرجون على أخلاق الصدق، والعدل، والأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، والكرم، والشجاعة وأمثالها، ولا يذكرون الرذائل الخلقية المضادة لها، كالكذب، والجور، والظلم، والخيانة، والغدر، والشح، والجبن في المواطن التي تحسن فيها الشجاعة، وأمثالها.
المناقشة:
لدى تحليل الأمثلة التي يذكرونها لنقض الأخلاق بها، يلاحظ الباحث الفاحص أنها ليست في الحقيقة من فروع الأخلاق، وإنما ترجع إلى أصول أخرى.
فالمنع من أكل لحم الميتة مثلاً، أو شرب الخمور يرجع إلى أنه حكم دينيٌّ، لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو من ناحية أخرى حكم تقتضيه موجبات الحماية الصحية.
فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.
وحجاب المرأة وإلزامها بالحشمة، وعدم عرض زينتها ومفاتن جسمها للرجال الأجانب، حكم ديني لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو أيضاً أمر اقتضته قاعدة سد الذرائع، فهو يساعد على درء الفتنة، وحماية المجتمع من أن تنتشر فيه الفاحشة، التي يتولد عن انتشارها اختلاط الأنساب، وتفكك الأسر، وانهيار المجتمعات.
فإدخال هذا الموضوع في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.
وتعدد الزوجات حكم ديني روعيت فيه مصالح إنسانية لا دخل له في الأخلاق .
ومراعاة الأنظمة المتبعة عند بعض الأمم في الطعام والشراب واللباس، أمرٌ من الآداب الجمالية الحضارية لديهم، وليس فرعاً من فروع الأخلاق.
فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلط فكري، أو مغالطة وتزييف.
أليس عجيباً أن يدخلوا مثل هذه الأمثلة في باب الأخلاق مع أنها في جوهرها من أبواب غير باب الأخلاق، فهي إما أحكام دينية، أو طقوس وعادات وتقاليد؟! وإدخالها في باب الأخلاق مغالطة.
ولستر مغالطتهم التي يدخلون بها في الأخلاق ما ليس منها، تمهيداً لنسف الأخلاق من جذورها، يعتمدون على مفاهيم بعض الناس الخاطئة للأخلاق، إذ يعتبرون أن هذه المفاهيم جزء من حقيقة الأخلاق.
مع أن مفاهيم الناس قد تصدق وقد تكذب، فهي لا تمثل جزءاً من حقيقة الشيء الذي هو موضوع البحث، وإنما تمثل مقدار إدراك أصحابها لحقيقة الشيء، وهذا الإدراك قد يكون مطابقاً لحقيقة الشيء، وقد يكون مخالفاً لها، وقد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، وهو لا يؤثر بحالٍ من الأحوال على حقيقة الشيء.
لقد كان للفلاسفة القدماء مفاهيم عن السماء، وهذه المفاهيم مخالفة لواقع حال السماء، ومع ذلك فإن أي ذي عقل سليم لا يقبل اعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة السماء.
وللناس مفاهيم كثيرة باطلة عن الخالق، ولا يجوز مطلقاً أن تكون هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الخالق.
وينكر كروية الأرض منكرون، ولكن مفاهيمهم هذه لا يمكن أن تجعل الأرض في واقع حالها غير كروية.
على مثل هذا الغلط الفكري يدخل كثير من الناس في الأخلاق ما هو ليس من الأخلاق، كتقاليد، وعادات، وأحكام وضعية، ليس لها أسس ولا جذور تجعلها نابعة من الأسس الخلقية، أو منبثقة عنها.
كذلك يجحد كثير من الناس بعض ما هو من الأخلاق فعلاً، فيزعم أنه لا داعي للتقيد بقواعد الأخلاق فيها.
فهل يؤثر هؤلاء أو هؤلاء على الحقيقة المطلقة للأخلاق؟!.
إن مفاهيم الناس ليست هي التي تصنع الحقائق، بل وظيفتها أن تعمل على إدراك الحقائق، حتى تكون صورة الحقائق فيها مطابقة لما هي عليه في الواقع.
وما قيمة مفاهيم الناس حول حقيقة من الحقائق، ولنفرض أن بعض الناس استحسنوا رذائل الأخلاق، ولم يجدوا أي رادع من ضمائرهم يردعهم عنها، فمارسوا الظلم بمثل الجرأة التي يمارسون بها العدل، ومارسوا الخيانة بمثل الجرأة التي يمارسونها بها الأمانة، ومارسوا قسوة القلب بمثل الجرأة التي يمارسون بها الشفقة والرمة، ومارسوا الكذب الضار بمثل الجرأة التي يمارسون بها الصدق النافع، أفيغير ذلك واقع حال الرذائل فيجعلها من قبيل الفضائل؟!.
كم نشاهد من شعوب تألف القذارات، وتعيش فيها، ولا تشعر بأنها تعمل عملاً غير مستحسن أو غير جميل، فهل تغير مفاهيمهم من واقع حال القذارة القبيح شيئاً؟!.
إن فساد مفاهيم الناس حول حقيقة من حقائق المعرفة لا يغير من واقع حال هذه الحقيقة شيئاً، وجميع حقائق المعرفة تتعرض لمشكلة فساد مفاهيم الناس عنها، وفساد تصور الناس لها.
ويوجد سبب آخر للخطأ الذي يقع فيه الباحثون في علم الأخلاق، هو اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، ونسبوا إلى هذا المقياس العصمة عن الخطأ مع أنه مقياس غير كافٍ وحده، فقد يخطئ، وقد يُصابُ عند بعض الناس بعلةٍ من العلل المرَضِيَّة، فيعشى أو يعمى، أو تختلُّ عنده الرؤية، فيصدّر أحكاماً فاسدة .
تلخيص لأسباب الغلط أو المغالطة:
مما سبق يتضح أن أسباب الغلط أو المغالطة عند القائلين بأن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وليس لها ثبات ولا قيمٌ حقيقية مطلقة، ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تعميم اسم الأخلاق على أنواع كثيرة من السلوك الإنساني، فلم يميّزوا الظواهر الخلقية، عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البحتة، فحشروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية أو نسبية.
الأمر الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدراً يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أن في كثير من هذه المفاهيم أخطاءً فادحة، وفساداً كبيراً، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضاً إلى أمور أخرى غير ذلك.
والتحري العلمي يطالب الباحثين بأن يتتبعوا جوهر الحقيقة، حيث توجد الحقيقة، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يثبتها مثبتون , وينكرها منكرون، ويتشكك فيها متشككون، ويتلاعب بها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها.
الأمر الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، مع أن هذه عرضة للصواب والخطأ .
نظرات في كلام بعض الملاحدة
يقول بعضهم : ( من المستحيل أن تعمم الأخلاق على جميع البشر .. نعم قد يتفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيم أخلاقية معينة ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قبل جميع الناس ؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض ) ،وهذا الكلام باطل إذ المستحيل خلافه فمن المستحيل ألا تعمم الأخلاق على جميع البشر ،ويوجد الكثير من الأخلاق المطلقة التي لا تتغير من أمة لأمة و لا من زمن لزمن كفضيلة الصدق و الوفاء والعدل و الأمانة فكل الأمم تحب مثل هذه الأخلاق و تستحسنها و يوجد خلق أخرى تستقبحها و تكرهها جميع الأمم كالغدر والخيانة و الكذب .
والاستدلال بتغير عادات الناس وطبائعهم استدلال في غير محل النزاع فليست العادات والطباع من قبيل الأخلاق فالعادات من اسمها أمور تعود الناس على عملها أو القيام بها أو الاتصاف بها ، وتكرَّرَ عملها حتى أصبحت شيئاً مألوفاً ، وهي نمطٌ من السلوك أو التصرُّف يُعتادُ حتى يُفعل تكراراً ، ولا يجد المرء غرابة في هذه الأشياء لرؤيته لها مرات متعددة في مجتمعه وفي البيئة التي يعيش فيها ،وما يكون معهودا في مجتمعه وبيئته قد لا يكون معهودا في مجتمع آخر .
والطباع مفرد طبع و هو كل ما كان في أصل خِلقة الإنسان، وجُبِلَ عليه أي ثابت الأخلاق التي جبلت النفوس عليها فالطبع مجموعة من السمات الداخلية في الإنسان تؤثر في سلوكه ومن الناس من جبل على الخلق الحسن فيتخلق به ومنهم من جبل على الخلق الرذيل فيتخلق به ، وطباع الإنسان الْخُلُقيِّة يمكن تغييرها بالتهذيب والتربية ،ونحن لا نتكلم عن طباع خلقية يمكن تغييرها بل نتكلم عن استحسان الخلق الحميد و استقباح الخلق الرذيل نتكلم عن وجود أخلاق يمدح صاحبها و أخلاق أخرى يذم صاحبها نتكلم عن أخلاق يحبها جميع الناس و أخلاق أخرى يكرهها جميع الناس .
ويقول بعضهم : ( كل الأخلاق أخلاق نسبية قد تكون صحيحة هنا و خطأ هناك ) ،و هذا الكلام باطل إذ من الأخلاق ما يكون خيرا و يمدح فاعله بإطلاق كالصدق والعدل والكرم والأمانة ومن الأخلاق ما يكون شرا ويذم فاعله كالكذب والخيانة والإفساد في الأرض فيوجد أخلاق محمودة عند جميع الناس و أخلاق مذمومة عند جميع الناس .
و يقول بعضهم : ( الأخلاق مبنية على المنفعة ،ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة أو البعد عن الألم علي أقل تقدير. و لهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لأخر بناءا علي اختلاف الاحتياجات و الخبرات و الثقافات و بالتالي تصبح الأخلاق علي إطلاقها نسبية ) و الأخلاق التي تبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية و الأخلاق النفعية خارجة عن محل النزاع إذ هذه الأخلاق لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها ،واعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة ، فيصبح السلوك الواحد خيرا وشرا في آن واحد ، خيرا عند الذي حقق له منفعة ، وشرا عند الذي لم يتحقق له منفعة وبالتالي لا يوجد خلق حميد و لا خلق رذيل وهذا مخالف للواقع بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك كالعدالة و الفضيلة والكرم.
و اعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يلغي الأخلاق ؛ لأن المبدأ الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود فالمنافع متعارضة ، وما ينفعني قد لا ينفع غيري مما يؤدي لحدوث التنازع و اصطدام مصالح الناس بعضها ببعض وعموم الفوضى .
و ربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق ؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز ،والغرائز موجودة في الإنسان و الحيوان معا فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان .
ويقول بعضهم: ( لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن المرغوب فيه يختلف تبعا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة ) ،و الجواب أن الثقافة هي الإطار الأساسي والوسط الذي تنمو فيه الشخصية وتترعرع، فهي التي تؤثر في أفكاره ومعتقداته ومعلوماته ومهاراته، وخبراته ودوافعه، وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته، كما تحدد له القيم والمعايير التي يسترشد بها وتفرض عليه التقاليد التي يتمسك بها .
ويمكن أن نعرف الثقافة بأنها الطريقة التي يفكر بها الناس في مجتمع ما، ويعملون بها، وتقوم عليها نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والطريقة التي يتحدثون بها, ويسيرون بها في الشوارع، ويقودون بها السيارات، ويتعاملون بها مع بعضهم البعض داخليا، ومع الآخرين خارجيا، وعاداتهم وتقاليدهم.. إلخ .
و يمكن أن نعرف الثقافة بأنها مجموعة الأعراف والطرق والنظم والتقاليد التي تميز جماعة أو أمة أو سلالة عرقية عن غيرها .
ولكل أمة ثقافة و أسلوب للحياة و طريقة للتعايش الناس بعضهم مع بعض تتسق مع عقيدتها ،والذي يتغير تبعا للثقافة هو عادات الناس وتقاليدهم فهذه عرضة للتغيير والتبديل أما الأخلاق فلا تتغير بتغير الثقافة بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خير عند جميع الأمم كالعدالة و الأمانة والكرم ،ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها شر عند جميع الأمم كالكذب و الخيانة ،والشر محبب عند جميع الأمم والثقافات و الشر مذموم عند جميع الأمم والثقافات و الصدق والعدل والكرم والأمانة والشجاعة أخلاق محمودة عند جميع الأمم والثقافات والكذب والغش والخيانة أخلاق مذمومة عند جميع الأمم والثقافات.
ويقول بعضهم: ( المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات ) والجواب أن الذي يتغير هو أعراف الناس وتقاليدهم وعاداتهم لكن الأخلاق تتمتع بالثبات فكل العصور و كل الأمم عندها الصدق فضيلة والكذب رذيلة ،و كل العصور و كل الأمم عندها الأمانة خير و الخيانة شر ،و كل العصور و كل الأمم عندها الكرم محمود و البخل مذموم.
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
مراجع المقال :
التعريفات للجرجاني
الثقافة والشخصية لسامية الساعاتي
كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن
مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها لعلى أحمد مدكور
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز
الملحد و تشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول إن شاء الله وقدر تشكيك الملاحدة و اللادينين في مصدرية الدين للأخلاق بالعرض والنقد ،وقبل بيان دعاويهم والرد عليها لابد من معرفة مفهوم الأخلاق ومفهوم الدين
مفهوم الأخلاق
الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه[1] .
والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .
وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم [2].
مفهوم الدين
الدين له عدة تعريفات منها الشرع الإلهي المتلقَّى عن طريق الوحي[3]،ومن تعريفات الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول - باختيارهم إياه - إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل[4]،ومن تعريفات الدين كل ما يتخذه الناس ويتعبدون له سواء كان صحيحاً، أو باطلاً [5].
الشبه التي لجأ إليها الملاحدة لتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق
لجأ الملاحدة للعديد من الشبه للتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق فقالوا : وجدت الأخلاق قبل الدين ،و اخترع الدين لتنظيم المسيرة الأخلاقية فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان و اهتماماته بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخلقية في الدين فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدين .
وقال آخرون : وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي ،ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد ،و انتشار الفساد في البلاد الإسلامية الأخلاق أي يوجد من هو متدين وليس لديه أخلاق ، بينما يوجد من هو لا ديني ولديه أخلاق ،وهذا دليل على عدم مصدرية الدين للأخلاق .
واحتج بعضهم : أن الدين ثابت و أخلاقيات بعض المنتسبين إلي الدين تتغير مع الوقت .
و قال البعض : ليس من الأخلاق قطع يد السارق و رجم الزاني ،وكيف يكون الدين مصدرا للأخلاق و يشترط شهادة أربعة رجالا لتطبيق حد الزنا فلو فعلها الشخص دون علم لأحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك ؟ .
و قال البعض : ليس الدين مصدر الأخلاق إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة ؟ و عدم التخلق بالخلق السيئ خوفا من النار كأنه تقديم رشوة للرب ،و أسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار ليس من الأخلاق في شيء .
وقال البعض : لا يحق لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية و الإثم و السلوك الجنسي و الزواج و الطلاق و التحكم في النسل أو الإجهاض أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع ،والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي و الديموقراطية .
وقال البعض : العقل و الإنسانية كفيلان بجعل الإنسان يتخلق بالخلق الحسن ،ومن طبائع الإنسانية و دون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر مسائل مثل تجريم القتل و السرقة و الخيانة المالية و الزوجية و العلاقات الممنوعة بين المحارم ، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني ،والحاجة للدين كي يبين أن ممارسة جنس المحارم و قتل الإنسان هو شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لا أخلاقي وحوش ، وإذا كان هذا الوحش موجوداً داخل أي إنسان فلن ينفع لا الدين ولا القوانين بالقضاء عليه.
وقال البعض : الافتراض بأنّ الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشرّ يصور الإنسان كأنه شرّيرٌ بالفطرة لذلك لا بدّ من ترويضه بالقوة كالحيوان المتوحّش .
وقال البعض : القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية لا تصمد أمام التجارب الحقيقية على أرض الواقع
وقال البعض : إن خصصنا الأديان كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية فعليه سنقول الأديان مصدر القتل لوجود تعاليم ترتبط بالقتل و أنها مصدر الحرب لوجود تعاليم ترتبط بالحرب .
وقال البعض : لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح ويحتوي الأخلاق الصحيحة وفقط هو يمتلك هذه المعرفة. كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلاً ما تعنيه الأخلاق ؟ أي كيف يمكننا أن نقول أن كتاباً معيناً هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرة مسبقة مستقلة عما يعنيه أن يكون حكماً ما أخلاقياً أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول أن كتاباً معيناً صادق بحكم أخلاقي ما (أو بكل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقة ومستقلة وذات أولية على الدين ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدراً للأخلاق .
وقال البعض : الدين هو مصدر الأخلاق هي مقولة خاطئة لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي: لنفرض أن إنسان أ1 يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د1 وأما الإنسان أ2 فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د2. في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاِ) فإن هذا يؤدي العمل ذاته سيكون أخلاقياً من منظور الدين الأول وغير أخلاقي من منظور الدين الثاني. أي أن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكناً إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله أو الاستنكاف عن عمله هو فقط ما يسوغه دين معين أو غيره .
[1] - التعريفات للجرجاني ص 104
[2] - موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز ص 22-23
[3] - دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف ص 9
[4] - دائرة المعارف للبستاني مادة (دين).
[5] - دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف ص 10
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة لا يعتريها التبديل من عصر لعصر ولا من بلد لبلد ولا من شخص لشخص شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغير بتغير الزمان .
و رغم أن العديد من الناس لديهم ممارسات أخلاقية مختلفة، إلا أنهم يتشاركون في مبادئ أخلاقية عامة مثلا، يتفق مناصري الإجهاض ومعارضيه أن القتل أمر خاطئ، و لكنهم يختلفون حول ما إذا كان الإجهاض يعتبر قتلاً أم لا. لهذا، حتى في هذه الحالة تثبت حقيقة وجود الأخلاقيات العامة المطلقة ، و لا يوجد مجتمع بكامله يمكن أن يرى أن زنا المحارم مسألة عادية و ليس أمرا مشينا ، نعم قد يوجد بعض الأفراد الشواذ الذي يرون أن زنا المحارم مسألة عادية فالعيب في هؤلاء الأفراد الشاذين وليس في المجتمع .
و يوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خير عند جميع الأمم كالعدالة و الأمانة والكرم ،ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها شر عند جميع الأمم كالكذب و الخيانة .
وتجد جميع الأمم والشعوب في كل الأزمان و كل الأماكن تحب الخير وتمدحه و تكره الشر وتذمه ،و تحب الفضيلة و تكره الرذيلة وتحب الصدق وتمدحه و تكره الكذب وتذمه ،وتحب الأمانة وتمدحها وتكره الخيانة وتذمها ،وتحب الشجاعة وتمدحها وتكره الجبن وتذمه ،و تحب الكرم وتمدحه و تكره البخل وتذمه ،وتحب الاحترام وتمدحه وتكره الاحتقار وتذمه ،وتحب العدل وتمدحه وتكره الظلم وتذمه ،ولا معنى للمدح والذم ،ولا معنى لحب الخير و كره الشر إذ لم تكن الأخلاق مطلقة .
وتجد جميع الأمم والشعوب تشيد أو تكافئ على فعل بعض السلوكيات الحسنة كالشجاعة والوفاء والإخلاص ، وتجرم أو تندد أو تعاقب على فعل بعض السلوكيات السيئة كالسباب و الفساد والقتل والغش ،ولا معنى للثواب والعقاب إذ لم تكن الأخلاق مطلقة ،ولا معنى للمكافأة و المعاقبة و التجريم في غياب الأخلاق المطلقة .
و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تجعل السرقة عملا بطوليا و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تمتدح الكذب و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تعظم الخيانة .
و إذا كان الواحد منا يرى بعض السلوكيات فيرفضها ،ويقول أنها منافية للأخلاق كقتل الرجل لأبيه أو سب الرجل لشخص فهذا دليل على مطلقية الأخلاق و من خلال مطلقيتها حكمنا على بعض السلوك أنه منافي للأخلاق .