الشبهة الخامسة
عزل عمر له عن ولاية البحرين
من الشبه التي أثارها بعض أهل الأهواء أيضاً، قولهم: إن عزل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه له عن ولاية البحرين يثير الشك في أمانته.
وهي شبهة باطلة لما يأتي:
1- لم يكن عمر رضي الله عنه شاكاً في أمانة أبي هريرة رضي الله عنه، حين عزله عن ولاية البحرين، وإنما أراد بمساءلته له وعزله أن يقطع التساؤل حول ما نمى عنده من مال بعد ولايته للبحرين، وإن كان ذلك المال محدوداً، ولكن كما يقول المثل:"إذا لبس الفقير جديداً قيل: من أعطاك هذا"؟ وعلى افتراض أنه كان شاكاً في أمانته، فإن هذا الشك قد زال بعد سؤاله له عن مصدر هذا المال، وجواب أبي هريرة المقنع على سؤاله.
فعن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين "أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما، قال: فمن أين لك؟ قلت: خيل نتجت، وغلى رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا فوجدوه كما قال".
ومما يؤكد اقتناع عمر رضي الله عنه بجوابه، وزوال شكه في أمانته، دعوته له لولاية البحرين مرة أخرى.
فقد جاء في نفس الرواية "أنه لما كان بعد ذلك، دعا عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل، وقد طلب العمل من كان خيراً منك: يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثاً واثنتين، قال: فهلا قلت: خمساً؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، واقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي". (1)
وهذه الرواية أصح رواية في موضوع عزل عمر له، عن ولاية البحرين، لثقة رواتها، وتعدد طرقها إلى التابعي الجليل محمد بن سيرين رضي الله عنه، وهي تفيد أن عزله لم يكن لخيانة، أو قلة أمانة، أو تقصير في واجب، وإلا فبماذا تفسر دعوة عمر رضي الله عنه له ليوله ثانية على البحرين بعد أن كان قد عزله عنها؟.
2- كان من سياسة عمر رضي الله عنه المتميزة في الحكم متابعة الولاة والعمل ومساءلتهم، لأدنى ما يرفع عنهم أو يقال ضدهم، مهما علت مراتبهم، وسمت منازلهم في السبق إلى الإسلام، والفضل فيه، لذا نراه يحاسب أبا هريرة ويحاسب من هو دونه، ومن هو أعلى منه في مراتب الصحبة والفضل، كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد السابقين الأولين للإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومجابي الدعوة منهم، (2) وكان عمر رضي الله عنه قد عزله عن إمرة الكوفة، وقال بعد ذلك في وصيته لأهل الشورى: "إن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به الذي يلي الأمر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة" (3)
وعمير بن سعد بن عبيد الأنصاري الصحابي، الذي كان يقال فيه: "عمير نسيج وحده"، وقيل: إن الذي وصفه بهذا هو عمر رضي الله عنه وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لعبد الرحمن بن عمير بن سعد: "ما كان بالشام أفضل من أبيك".(4)
ومع هذا فقد روى الترمذي عن أبي إدريس الخولاني أن عمر رضي الله عنه عزله عن ولاية حمص وولى صحابياً آخر مكانه. (5)
وعليه فمساءلة عمر لبعض ولاته، وعزلهم أحياناً، كانت سياسة له كما أسلفنا، وليست بالضرورة إدانة لمن يعزلهم، لعله أراد أن يسن بها سنة لمن بعده من الخلفاء والأمراء.
ـــــــــــــ
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/612، وابن كثير: البداية والنهاية 8/116
(2) ابن كثير : البدايةوالنهاية 8/79، والإصابة 2/33.
(3) ابن كثير: البداية والنهاية 8/75، والإصابة 2/34.
(4) الإصابة 3/32.
(5) الترمذي: السنن 5/351.