لا فرق بين الربوبية والألوهية !
إذاً لا فرق بين الربوبية والألوهية !
جواب38: الله جل جلاله هو الاسم الجامع فهو الله رب العالمين وهو الملك وهو القدوس وهو الرحمن وهو الرحيم جل جلاله ، ألم تقرأ قوله تبارك وتعالى "الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين" فرب العالمين صفة من صفات الله سبحانه وتعالى ، ألم تقرأ قوله سبحانه "قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس" فمن هو ؟ إنه "إله الناس"، فالرب والملك والغفار والجبار هو الله سبحانه وتعالى ، والذين فرقوا بين الرب والإله جزاهم الله خيراً قَصْدُهُم إبعاد الناس عن الشرك ومحاجة لعبّاد القبور. وكان يكفيهم أن يبينوا للناس أن من طلب من صاحب قبر أن ينفعه من دون الله فقد كفر، ومن تشفع بصاحب قبر متوسلاً به إلى الله سبحانه فقد أخطأ وابتدع وخالف الشرع الشريف . أما أن نتخذ من تخبط المشركين في السابق ومن تخبط العوام في اللاحق قاعدة أساسية في ديننا ففرق بين توحيد الربوبية والألوهية فهذا خطأ ومعناه أن – لا إله إلا الله ــ لا تكفي في التوحيد إذ ليست في زعمهم كافية. والحق أن من قال : أشهد أن محمداً رسول الله فقد آمن بجميع الرسل سواءً من ذكر في القرآن باسمه أو لم يذكر وكذلك من قال لا إله إلا الله فقد شهد بأنه لا رب إلا الله ولا ملك إلا الله ولا رزاق إلا الله ولا لطيف إلا الله بالمعنى المطلق. فكلمة رب تُصْرَف لغير الله مقيدة , نقول: رب أسرة و رب الدار، ورب البستان ، أما كلمة رب مطلقاً فلا تجوز إلا لله ، وكذلك كلمة سيد فلا تصرف لغير الله إذا أطلقت ، أما مقيدة كسيد القوم ، وقوله سبحانه "وألْفيا سيدها لدى الباب"، ووردت في حق يحيى عليه السلام مطلقة ، قال سبحانه :"وسيداً"، ولكن القيد هنا عقلي فهو ليس سيداً لمن سبقه من الأنبياء كإبراهيم، ولا لمن بعده وإنما سيداً بمعنى وجيهاً فيما بين الصالحين في زمنه ويوم القيامة هو سيد بالنسبة لمن هو دونه من قومه.
........الشيخ محمد علي سلمان القضاة رحمه الله
توحيد الالوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات
الاخ عماد السلام عليكم لا خلاف بين السلف فى هذا التقسيم توحيد الالوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات وكفار مكه كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ومع ذلك لم يشفع لهم بل ان كل الامم تقر بتوحيد الربوبية وإنما ارسل الله الرسل من اجل توحيد الالوهية والاسماء والصفات وليس لدى وقت للشرح يمكنك الرجوع الى شروح العقيدة الطحاوية والواسطية وغيرها
مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم
مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم
توحيد الألوهية سمي بذلك عند السلف لأنه المقصود بقول العبد لا إله إلا الله ، فالإله هو المعبود بحق ، وتوحيد الألوهية عندهم هو توحيد العبادة لله وتجريدها له وحده ، وتلك هي الغاية التي دعت إليها الرسل ونزلت من أجلها الكتب ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية ، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلي العباد ، فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع ، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ) ( ) .
وقد يقول البعض لا إله إلا الله ولا يعني ما سبق ، فمنهم من جعل الألوهية بمعني الربوبية وحصرها في إفراد الله بالخالقية ، ومنهم من يعني أنه لا موجود إلا الله علي اعتبار أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ، ومنهم من يعني بها العلة الأولي ، فليس كل من قال لا إله إلا الله يعني بها ما أراده الله ورسوله S ( ) .
فالألوهية عند الخلف المعروفين بأهل النظر والكلام الذين اتبعوا فلاسفة اليونان جعلوها بمعني الخالق أو القادر علي الاختراع ( ) ، وجعلوا غاية التوحيد عندهم إثبات أن صانع العالم واحد وأن الواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم .
واحتجوا علي وحدانية الإله بما يسمي بدليل التمانع ، وهو من الأدلة العقلية في إثبات توحيد الربوبية ، وملخصه أنا لو قدرنا إلهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين ، وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين ، وإرادة الثاني للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة ، إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر ، واستحال أن تنفذ إرادتهما لاستحالة اجتماع الضدين ، واستحال أيضا ألا تنفذ إرادتهما لتمانع الإلهين وخلو المحل عن كلا الضدين ، فإذا بطل القسمان تعين الثالث وهو أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر ، فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب المقهور المستكره والذي نفذت إرادته فهو الإله القادر علي تحصيل ما يشاء وذلك عندهم مضمون قوله تعالي : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( ) .
قال ابن أبي العز الحنفي معقبا علي الاستدلال بالآية السابقة علي دليل التمانع : ( وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو كان للعالم صانعان .. الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل : أرباب ، وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواء لفسدتا ، وأيضا فانه قال لفسدتا ، وهذا فساد بعد الوجود ولم يقل لم يوجدا ) ( ) .
وقد بين أيضا في معرض الرد أن الآية دلت علي أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة بل لا يكون الإله إلا واحدا ، وعلي أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالي ، وأن فساد السموات والارض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ومن كون الإله الواحد غير الله ، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره ، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السموات والأرض ، وأظلم الظلم علي الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد ( ) .
وقد بين الله عز وجل أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ويعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما قال تعالي في شأنهم : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُون ( ) .
فالقلوب مفطورة علي الإقرار بالخالق أعظم من كونها مفطورة علي الإقرار بغيره من الموجودات ، ولم يذهب إلي غير ذلك طائفة معروفة من بني آدم بل الأمر كما قالت الرسل لأممهم : قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ( ) ، فرعون الذي تظاهر بإنكار الصانع وتجاهله كان مستيقنا بالله في الباطن ، كما قال له موسي : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَل َ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( ) ، وقال تعالي : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وازدادت شكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة .. وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه ، وهذا التوحيد كان يقر به المشركون وهم مع هذا يعبدون غيره ، وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية ، وأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله ، ولا يخاف إلا الله ولا يدعي إلا الله ، ويكون الله أحب إلي العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه ( ) .
ومن ثم فإن توحيد الربوبية والأسماء والصفات في عرف السلف من قبيل الوسيلة لا الغاية فمعرفة المعبود والإقرار بأن الله خالق كل شيء وأنه ليس للعالم صانعان هو حق لا ريب فيه ، ولكن ذلك وسيلة إلي توحيد العبادة وتحقيق الغاية من خلق الإنسان .
فمعني لا إله إلا الله عند السلف لا معبود بحق إلا الله ، وعند الخلف لا خالق إلا الله ، أما عند غلاة الصوفية فإنها تعني لا موجود إلا الله ، حيث ذهب فريق من الصوفية يتزعمهم محي الدين بن عربي الأندلسي (ت:638هـ) إلي أن الله هو هذا الوجود بعينه ، وأنه لا موجود إلا هو .
أما الكثرة المشاهدة في العالم فهي علي زعمهم وهم يحكم أصحاب العقول القاصرة وهي في حقيقتها مظاهر لله فقط ، أو مرآة ويري نفسه فيها ويتعين للآخرين من خلالها أو أثواب يلبسها ويخلعها وقتما يشاء فهو السماء بما فيها من شمس وقمر ونجوم ، وهو السحاب الذي نراه بين السماء والأرض عند الصفاء والغيوم ، لا فرق بين الأنداد والأضاد ولا فرق بين الرب والعباد ، فالعابد عندهم هو المعبود والذاكر هو المذكور ، كما يقول ابن عربي : ( ما في الوجود مثل ، ما في الوجود ضد ، فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه ) ( ) ، ويقول أيضا :
فإنا أعبدٌ حقا وإن الله مولانا - وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان فقد أعطاك برهانا - فكن حقا وكن خلقا تكن بالله رحمانا ( ) .
ويزعم هؤلاء أنه كلما فنت صورة من وجود الله وخلعها عن نفسه لبس أخري ، وكذلك يظل يلبس صورة ويخلع أخري بلا انقطاع ، وهذا حكم منه اقتضاه لظهور هذا الوجود لكي لا يكون موجود إلا هو .
ويلزم علي هذا المذهب الخبيث تأليه جميع الأشياء وعبادتها فلا مانع عند ذلك أن يكون المعبود إنسانا أو جنا وشيطانا أو حجرا وحيوانا ، ولذا يري هؤلاء الزنادقة أن الأديان كلها حق ، وأن المجوس عابدي النيران والمشركين عابدي الأوثان والنصارى عابدي الصلبان وغيرهم ليسوا كفار ضلالا ، بل مذاهبهم هي عين التوحيد والإيمان ، لأنهم حين عبدوا النار والحجارة والصلبان ما عبدوا إلا الله عز وجل ، تعالي الله عن قولهم ، فهذه المعبودات عندهم تجليات ظهرت بها الذات الإلهية .
والتوحيد في زعمهم أن تعبد جميعا وأن تعظم جميعا ، والشرك الضلال عندهم أن تخصص بعض هذه المظاهر بالعبادة دون بعض ، فالكفر عندهم ليس هو عبادة غير الله ولكنه ستر حقيقة المعبود بتخصيص بعض مجاليه بالعبادة دون البعض الآخر .
وحكم هؤلاء الزنادقة أيضا بأن إمام الموحيدين هو فرعون ، لأنه كان يشاهد عين الحقيقة حين قال : أنا ربكم الأعلى ، ولم يكن كاذبا في دعواه أنه هو الله ، بل كان في أعلي مقامات التوحيد ، وقد أغرق في البحر تطهيرا له من الشرك عندما هم بالإسلام في لحظاته الأخيرة وتوهم الغيرية ، وزعموا أيضا أن موسي لم يلم قومه علي عبادة العجل ولم ينكرها عليهم ( ) ، ومعلوم أن هذه العقيدة كفر صريح بآيات القرآن التي نطقت بموت فرعون علي الكفر ، وأنه لم ينفعه إيمانه حين أدركه الغرق ، وأن الله إنما نجاه ببدنه ليكون عبرة ماثلة للأجيال من بعده .
فهؤلاء الصوفية لما شهدوا ألا إله إلا الله ، وضعوها علي هذا المعني الخبيث حتى يغتر الجاهل بشهادتهم ويظن أنهم يقصدون ما قصده أصحاب محمد بن عبد الله S ومن سار علي دربهم .
وعلي شاكلة الصوفية في تأويلاتهم الباطنية فسر الفلاسفة كابن سينا والفارابي وغيرهما معني الألوهية في كلمة التوحيد ، فالإله عندهم هو بذاته علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة ، وقد فاضت المخلوقات عن الذات الإلهية أو ما يسمونها بالعلة الأولية أو المبدأ الأول أو واجب الوجود فاضت بالعلل والمعلولات بعدها ، وكل علة عندهم أكسبت معلولها قوة الإيجاد والإعداد لما بعدها في تسلسل متصل ، وليس العالم عندهم ناتجا عن علم وإرادة وقدرة اتصف بها خالقه ، ولكنه صدر عنه صدور المعلول عن علته ، فهو سبحانه وتعالي عندهم العلة الأولي التي لا يقوم بها شيء من الصفات والأفعال ( ) .
ولما قرروا أن العالم معلول لعلة قديمة أزلية ، قالوا أيضا بقدم العالم وأنه لم يزل مع الله أزلا وأبدا ، فالرب علي أصلهم والعالم متلازمان ، كل منهما شرط في الآخر ، والرب محتاج إلي العالم كما أن العالم محتاج إلي الرب ، تعالي الله عن قولهم ، وهذه عقيدة فلسفية باطلة تؤدي إلي هدم التوحيد ونسف حقيقة الألوهية التي اتصف بها الإله ، لأن الله تعالي لم يزل ذا قدرة ومشيئة وعلم وحياة ، ولم يزل فعالا متكلما إذا شاء وكيف شاء ، والله سبحانه كان وليس شيء غيره وليس معه شيء من خلقه فكيف يقترن الخالق والمخلوق اقتران العلة بمعلولها ؟ .
فهؤلاء استخدموا الأقيسة التي تحكم عالم الشهادة في الحكم علي خالقهم الذي ليس كمثله شيء ، ومعلوم أن الله لا يخضع لقياس تمثيلي يستوي فيه الفرع والأصل ، أو قياس شمولي يستوي فيه مع بقية أفراده ، كما أنهم أيضا سلبوا عن رب العزة والجلال ما ثبت له في القرآن والسنة من أوصاف الكمال ، عندما جعلوه علة تامة أزلية لا يحدث فيها ولا منها شيء ، وجعلوه ذاتا خاملة لا حراك فيها ولا علم لها ولا مشيئة ولا قدرة ولا حكمة ولا عزة تعالي الله عن قولهم علوا كبيرا ، فالله عاب المشركين أنهم عبدوا الحجارة والأصنام ونعي عليهم كونها لا تخلق ولا تتكلم .
وفضلا عن أن عقيدة السلف في معني الألوهية تدور حول إفراد الله بالعبودية وهي تختلف عن عقيدة الأشعرية والصوفية والفلاسفة إلا أنهم يجعلون المرجع في حدوث المخلوقات كمال الصفات التي تقوم بالذات كالعلم والإرادة والقدرة والحياة والغني والحكمة عملا بقوله تعالي : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ) .
فالله عز وجل صانع كل شيء بقدرته وعلة كل شيء صُنْعُه ولا علة لصنعه ، وهو سبحانه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وليس الإله علة وجود الأشياء وإنما العلة صفاته الفاعلة ( ) ، قال تعالي : مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ) .
تقسيم التوحيد إلي نوعين عند السلف
والمصطلحات التي أطلقت علي كل نوع والعلة في إطلاقها
إذا علمنا أن توحيد الألوهية عند السلف يعني توحيد العبادة ، فيجدر بنا أن نذكر أنواع التوحيد عند السلف الصالح حتى يمكن التعرف علي عقيدتهم ومنهجهم وأدلتهم في تصنيف التوحيد ، فالتوحيد عند السلف نوعان ، وقد يقسم إلي ثلاثة أنواع علي اعتبار آخر سوف يأتي تفصيله ، أما تصنيفه إلي نوعين والأسماء التي قد يرد بها كل نوع فبيانه كالتالي :
الأول : توحيد في الغاية وهو توحيد الألوهية ، ويسمي عندهم أيضا توحيد العبادة ، وتوحيد القصد والطلب ، وتوحيد الشرع والقدر ، وتوحيد الإرادة .
الثاني : توحيد في الوسيلة ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات والمسمي عند السلف أيضا توحيد المعرفة والإثبات ، وتوحيد العلم والخبر وهذا النوع كما تقدم يمثل غاية المطلوب في توحيد الله عند كثير من الخلف أهل النظر والكلام وطائفة كبيرة من الصوفية ( ) .
أما النوع الأول فسمي توحيد الغاية وتوحيد العبادة لقوله تعالي : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( ) ، فعبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية التي خلق الله الناس من أجلها ، وهي أول الدين وآخره وظاهره وباطنه وقد بينت الآية العلة في خلق العباد بلام التعليل في قوله إلا ليعبدون .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة .. هي اللام المعروفة وهي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها علي المفعول له ، وتسمي العلة الغائية وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول ، وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل .. فمقتضي اللام في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، الإرادة الدينية الشرعية وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع فهو العمل الذي خلق العباد له ) ( ) .
وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال : ( اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ علي ذلك مواثيقكم , واشتري منكم القليل الفاني بالكثير الباقي , وهذا كتاب الله فيكم لا تفني عجائبه ولا يطفأ نوره فصدقوا قوله وانتصحوا كتابه ، واستبصروا فيه ليوم الظلمة , فإنما خلقكم للعبادة ، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون ) ( ) .
ولما جعل أهل الاعتزال غايتهم في التوحيد تدور حول إثبات الأسماء ونفي الصفات ، وكذلك الأشعرية الذين قسموا التوحيد قسمة عقلية مبنية علي ما يجب للذات من الصفات والأفعال وجعلوا ذلك غايتهم من التوحيد ، كان رد الفعل الطبيعي عند الصادقين من الموحدين أن يبنوا لجميع المسلمين الفرق بين توحيد الغاية وتوحيد الوسيلة ، وأن توحيد الغاية هو توحيد العبادة الذي من أجله نزلت الكتب وبعثت الرسل .
أما التوحيد عند هؤلاء ففضلا عن كون تصنيفاتهم له تخالف النصوص القرآنية والنبوية إلا أنها وما يدور حولها من موضوعات لم تكن محلا للخلاف بين الرسل وأممهم ، فالله عز وجل أودع في نفوس البشر من الإقرار بعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله وربوبيته لخلقه ما أقر به المشركون في الجاهلية ، فقد كانوا يعلمون أن خالقهم ورازقهم هو الله ، وأنه عظيم في ذاته لا يماثل شيئا من معبوداتهم التي يعظمونها .
فالنوع الأول هو توحيد الغاية أو توحيد العبادة ، ويسمي أيضا توحيد الألوهية أو الإلهية كلاهما صحيح ، لأنه معني قول العبد : لا إله إلا الله فقد تقدم أن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم وجميع أنواع العبادة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( توحيد العبادة هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام ، فإن الإسلام يتضمن أصلين : أحدهما : الاستسلام لله ، والثاني : أن يكون ذلك له سالما ، فلا يشركه أحد في الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه ) ( ) .
ويسمي توحيد القصد والطلب لأنه يتعلق بنية المسلم ومطلوبه في الحياة ، فمن حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ S يَقُولُ : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَي فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَي دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَي امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَي مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) ( ) .
فتوحيد القصد والطلب يتعلق بالمطالب العالية فأعلي الغايات هي الوصول إلي رضا الله تعالي والقرب منه ، وأقرب الطرق والوسائل إليه طريقة الهدي وتوحيد الطريق فلا يعدل عنها إلي غيرها وتوحيد المطلوب هو الحق سبحانه فلا يعدل عنه إلي غيره ، والهداية التامة تتضمن توحيد المطلوب وتوحيد الطلب وتوحيد الطريق الموصلة ، والانقطاع وتخلف الوصول إلي المطلوب يقع من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها .
فالشركة في المطلوب تنافي التوحيد والإخلاص ، والشركة في الطلب تنافي الصدق والعزيمة ، والشركة في الطريق تنافي اتباع الأمر ، فالأول يوقع في الشرك والرياء ، والثاني يوقع في المعصية والبطالة ، والثالث يوقع في البدعة ومفارقة السنة ، فتأمله فتوحيد المطلوب يعصم من الشرك ، وتوحيد الطلب يعصم من المعصية ، وتوحيد الطريق يعصم من البدعة ، والشيطان إنما ينصب فخه بهذه الطرق الثلاثة ( ) .
فالعبادة تتضمن الطلب والقصد والإرادة والمحبة ، وهذا لا يتعلق بمعدوم فإن القلب يطلب موجودا فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه ( ) .
وهذا النوع من التوحيد يسمي أيضا توحيد الإرادة ، فالإرادة في الأصل من راد يرود إذا سعي في طلب الشيء ، وهي قوة مركبة في قلب الإنسان جعلت اسما لشروع النفس إلي الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل ( ) ، والإرادة قريبة من القصد والنية والعزم علي الفعل ، كقوله تعالي : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ( ) .
وقد سمي هذا التوحيد توحيد الإرادة لتوافق الإرادات ، فالعبد إذا حققه توافقت إرادته مع الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية ، فالمؤمن كامل الإيمان تتوافق فيه الإرادات ، والكافر تتخلف فيه إرادة الله الشرعية فقط ، وهي إرادة بمعني الأمر الشرعي الموجه إلي المكلفين كقوله تعالي : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ( ) ، وكقوله : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ( ) ، وهذه الإرادة قد تتخلف وقد يعصيها الإنسان أما إرادة الله الكونية القدرية فهي بمعني الحكم المنتهي والقضاء المبرم والتقدير الواقع بأن يفعل أو لا يفعل ، فمتي قيل : أراد اللَّه كذا فمعناه قضاه وقدره وحكم فيه أنه واقع ، وهي بمعني المشيئة وتسمي الإرادة الكونية ، كقوله تعالي : فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد ُ ( ) ، وكقوله أيضا : قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ( ) .
سئل سهل بن عبد اللَّه التستري (ت:293هـ) عن قوله تعالي : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ( ) ، لما أمر إبليس بالسجود أراد منه ذلك أم لا ؟ فقال : أراده ولم يرده ( ) ، ويقصد بذلك أنه سبحانه أراده شرعا ، وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا ، وهي إرادة اللَّه الشرعية ولم يرده منه وقوعا وكونا إذ لا يكون في ملكه إلا ما أراد اللَّه تعالي ، وهي الإرادة الكونية ، فلو أراد كونه لكان ، ولو أراده فعلا لوقع لقوله سبحانه وتعالي : إِنَّمَا أَمْرُه ُإِذَا أَرَاد شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ( ) ، فلما لم يكن عُلِم أنه لم يرده ، فقد كان الأمران معا ، إرادته بالتكليف والتعبد وإرادته ألا يسجد ، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ( ) .
وكما سمي هذا النوع بتوحيد الإرادة ، فإنه يسمي أيضا توحيد الشرع والقدر، لأن عقيدة السلف وسط بين الجبرية والقدرية ، فالمسلم يجب أن يسلم لله في تدبيره الشرعي وتدبيره الكوني معا كما سبق ، فيعمل بشرعه ويؤمن بقدره ، لا انفكاك لأحدهما عن الآخر ، ومعني هذا أن المسلم إذا وفقه الله إلي الطاعة واجتهد في أحكام العبودية وأدي توحيد الألوهية نسب الفضل في طاعته إلي ربه ، وأنها كانت بمعونته وتوفيقه لما سبق في حكمه وقضائه وقدره ، ولا ينسب الفضل إلي نفسه أو يمن به علي ربه ، كما أنه إذا أحدث ذنبا ومعصية علم أن أفعاله وإن كانت بمشيئة الله وحكمه وقضائه وقدره إلا النسبة في العصيان مردها إلي الإنسان أو وسواس الشيطان ، فيدعوه ذلك إلي التوبة وطلب الغفران ، فيقر لربه بذنبه وأن معصيته بسبب تقصيره وخطئه ، وأنه مستحق للعقاب بحكمه وعدله ، وأن ربه منزه عن ظلم أحد من العالمين ، فإن أدخل عبدا الجنة فبفضله وإن عذبه في النار فبعدله .
قال ابن القيم رحمه الله : ( وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالي ، وليس عمل العبد مستقلا بدخولها ، وإن كان سببا ، ولهذا أثبت الله تعالي دخولها بالأعمال في قوله : بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ) ، ونفي رسول الله S دخولها بالأعمال بقوله : ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ( ) ، ولا تنافي بين الأمرين ) ( ) .
فمن نفي القدر وزعم منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته وجعل العبد مستقلا بأفعاله خالقا لها ، كما قالت المعتزلة حيث أثبتوا خالقا مع الله لا ينحصر في واحد أو اثنين فقط كما قالت النصارى ولكن جعلوا آلهة بعدد البشر ، ومن أثبت القدر محتجا به علي الشرع محاربا له به نافيا عن العبد قدرته التي منحه الله إياها ونفي أمره سبحانه ونهيه ، فقد نفي الحكمة عن أفعال ربه ونسب الظلم والعبث إليه ، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا فالمؤمنون الموحدون يثبتون القدر خيره وشره وينقادون للشرع أمره ونهيه ، ومن حديث علي بن أبي طالب قَال : ( كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ S فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ ، فَنَكَّسَ فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَال : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً ، فَقَالَ رَجَلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَفَلا نَمْكُثُ عَلَي كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَقَالَ : مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَي عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَي عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ : فَأَمَّا مَنْ أَعْطَي وَاتَّقَي وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَي وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) ( ) .
فكما قرر النبي S الإيمان بالقدر وأن الله علم مصير كل نفس من الجنة والنار فإنه أثبت الشرائع والعمل ، فالإيمان بالقدر مرتبط بامتثال الشرع وامتثال الشرع مرتبط بالإيمان بالقدر وانفكاك أحدهما من الآخر محال ، فإن الإقرار بالقدر مع الاحتجاج به علي الشرع ومحاربته به مخاصمة لله تعالي في أمره وشرعه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وطعن في حكمته وعدله ، وانتقاد عليه في إرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة لأوليائه المصدقين بها وخلق النار لأعدائه المكذبين ، ونسبة لأحكم الحاكمين - الحكيم في خلقه وشرعه والعدل في قوله وفعله وحكمه - إلي العبث والظلم في ذلك كله .
وكذلك الانقياد في الشرع مع نفي القدر وإخراج أفعال العباد عن قدرة الباري وجعلهم مستقلين بها مستغنين عنه طعن في ربوبية المعبود وملكوته ونسبته إلي العجز ووصفه بما لا يستحق ، تعالي ربنا وتقدس وتنزه وجل وعلا عما يقول الظالمون الجاحدون علوا كبيرا ، بل الإيمان بالقدر خيره وشره هو نظام التوحيد ، كما أن الإتيان بالأسباب التي توصل إلي خيره وتحجز عن شره والاستعانة بالله عليها هو نظام الشرع ، ولا ينتظم أمر الدين ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع ( ) ، فهذه أغلب الأسماء والمصطلحات التي ترد في النوع الأول من التوحيد .
أما النوع الثاني وهو المسمي توحيد الوسيلة ، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ، أو توحيد المعرفة والإثبات ، أو توحيد العلم والخبر ، فقد سمي توحيد الوسيلة لأن إثباته فقط لا يكفي لدخول الجنة ، فالله حدد الغاية من خلق الإنسان بقوله تعالي : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( ) فعبادة الله وحده لا شريك له ، وامتثال ما أمر به علي ألسنة الرسل هي الطريق الوحيد إلي الجنة ، وهي الغاية التي خلق الناس من أجلها كما تقدم ومن حديث أبي هريرة أن رسول الله S قال : ( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَي ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يأبى ؟ قَالَ : مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَي ) ( ) .
فالحصول علي الجنة سببه الطاعة والعبادة ، أما من يجعل غايته من التوحيد البحث عن وجود الله والتعرف علي أوصافه بقوانين العقل والذوق ، كما هو الحال عند الجهمية والصوفية وأحفادهم من المعتزلة والأشعرية أو حتى بالرجوع إلي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فهذا كله عند السلف وسيلة لتحقيق العبادة من خلال معرفة المعبود ، فتوحيد العبادة يدل علي توحيد الربوبية والأسماء والصفات بالتضمن ، قال ابن القيم : ( وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده ، بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع ، ولهذا كان حق الله علي عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) ( ) .
ويسمي النوع الثاني من التوحيد أيضا توحيد الربوبية والأسماء والصفات لأنه يدور حول إثبات الوحدانية في ربوبية الله عز وجل من خلال الأدلة النقلية والعقلية ، وإثبات أنه سبحانه المنفرد بالخلق والتقدير والملك والتدبير فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدي ولا سعادة ولا شقاوة إلا من بعد إذنه ، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره ولا مدبر سواه ، فهذه حقيقة الربوبية ومعني كونه رب العالمين ( ) .
وكذلك فإن هذا النوع يدور أيضا حول الطريقة المثلي في معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله وحقيقة المنهج الصحيح الذي لم يتلوث بشيء من أفكار المخالفين وأدناس الشبهات التي تؤدي إلي هدم التوحيد في قلوب المسلمين ؟ وكيف أثبت السلف الصالح لربهم حقائق الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ؟
وكيف أن مذهبهم مذهب بين مذهبين وهدي بين ضلالتين ، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين ، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟ وكيف وضعوا ضابطا يحكم منهجهم ويبين عقيدتهم في الأسماء والصفات عندما قالوا بإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ؟ وعندما قالوا : لا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل ، ولا نقول : ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استوي علي عرشه ، ولا نقول : له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم ، وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم ، بل قالوا : له ذات حقيقية ليست كسائر الذوات وله صفات حقيقية ليست كسائر الصفات ، وليست دربا من المجازات أو نوعا من التخيلات ، وكذلك قولهم في وجهه تبارك وتعالي ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه ، ولم يمنعهم ذلك أن يفهموا المراد من تلك الصفات وحقائقها ( ) ، هذا مع التعرف علي فقه الأسماء الحسني وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما ، ودعاء الله بها ، دعاء مسألة ودعاء عبادة ، وتأثير ذلك في سلوك المسلم واعتقاده .
وهذا النوع يسمي أيضا توحيد العلم والخبر لأن تحصيل العلم به ورد أغلبه فيما أخبرنا الله به في كتابه وسنة رسوله S ، فغاية ما للعقل من جهد محدود إثبات الخالق ووصفه بأوصاف العظمه ، سواء بالنظر إلي الأسباب في الآفاق أو بالنظر إلي النفس وتركيبة الإنسان كما قال سبحانه : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( ) .
أما لو ترك الإنسان لعقله العنان في وصف المعبود فسوف يضع الأقيسة والقواعد والقيود وسوف يتجاوز الحدود لا محالة في حكمه علي ذات الله وصفاته وأفعاله ، كما فعل أصحاب المدارس العقلية المنتهجين لفكر أتباع الجهمية ، وقد كانت النتيجة الحتمية أن وقعوا بجهلهم في الزيغ والضلال ووصفوا الله بالعجز والمحال ، ومن المعلوم أن الشيء لا يعرف إلا برؤيته أو برؤية مثيله ، ولا يدعي أحد أنه رأي الله بعينه أو رأي له مثيلا يحكم عليه من خلاله ، تعالي الله وتنزه عن الشبيه والمثيل ، ولذلك كان الطريق الوحيد للتعرف علي ذي العرش المجيد أن يعرفنا هو بنفسه وأن نصدق بخبره وأن نقف عند حدود ما أمرنا به كما قال : وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( ) .
فمن حق الإنسان صاحب اللسان العربي التعرف علي معاني النصوص التي وردت في أسماء الله وصفاته وأفعاله فهذا أمر مطلوب مرغوب ، ولكن ليس من حقه أن يخوض في البحث عن المحجوب من الغيبيات ككيفية الذات والصفات والأفعال ، والعلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله عز وجل ولكن العلة هي قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب ، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في قوله تعالي : إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( ) .
وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة لتقدير القيم التقريبية لحدود المؤثرات الخارجية التي يستقبلها جهاز الإدراك الحسي في الإنسان ، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس ، فوجدوا أن حاسة الإبصار في الإنسان تدرك شمعة مضاءة تري علي بعد ثلاتين ميلا في ليل مظلم صاف (290 مليميكرون ) ، والسمع يدرك دقة ساعة في ظروف هادئة هدوءا تاما علي بعد عشرين قدما ، ويدرك بالتذوق ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، ويشم نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها ستة أمتار مربعة ، ويشعر بلمس جناح ذبابة يسقط علي الصدغ من مسافة سنتيمتر واحد تقريبا ( ) .
فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا ، فمن الصعب أن يري ما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يري الملائكة أو الجن أو يري كيفية ذات الله وصفاته من باب أولي ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعني عدم وجودها ، وأن المنطق يحتم علينا أن نتعرف عليها من طريق واحد هو طريق العلم والخبر ولذلك فإن طريقة السلف في هذا الباب توافق المعقول وتصدق المنقول عن رسول الله S .
ومن ثم كان أصحاب النبي S أصدق الناس فطرة وأقومهم نظرة وتعقلا ففي ثلاثة وعشرين عاما كان يسمعون القرآن ويفهمون معناه ثم يؤمنون به ويعملون بمقتضاه ، ولم يعرف عن أحد منهم أنه تردد أو استشكل شيئا من هذه الأخبار ، أو زعم أن ظاهرها باطل يدل علي الشرك والتشبيه .
وقد ذكر ابن القيم أن الصحابة تنازعوا في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال ، بل كلهم علي إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلي آخرهم ، لم يسوموها تأويلا ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ، ولا ضربوا لها أمثالا ، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها علي مجازها ، بل تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها علي منهج واحد ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها أجزاء متفرقة ، فأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه ( ) .
وتوحيد العلم والخبر يسمي أيضا توحيد المعرفة والإثبات ، لأن المسلم مطالب بمعرفته وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S، فالتوحيد بغير إثبات الصفات هو في حقيقته نقص ومذمة كما هو الحال في الأصل الأول من أصول المعتزلة ( ) ، فالمتوحد المنفرد عن غيره لا بد أن ينفرد بصفة يتميز بها ولا يشاركه فيها أحد سواه ، أما الذي لا يتميز بشيء عن غيره ولا يوصف بوصف يلفت الأنظار إليه ، فهذا لا يكون منفردا ولا متوحدا ولا متميزا ، فمثلا لو قلت : فلان لا نظير له ، سيقال لك : في ماذا ؟ تقول : في علمه أو في حكمته أو غناه أو ملكه أو استوائه أو أي صفة تذكرها ، فلا بد من إثبات الوصف الذي تميز به وأفرده عن غيره ، لكن من العبث أن يقال لك : فلان لا نظير له في ماذا ؟ فتقول : في لا شيء ، أو تقول : لا صفة له أصلا ، فاللَّه وله المثل الأعلى أثبت لنفسه أوصاف الكمال التي انفرد بها دون غيره ، ونفي عن نفسه أوصاف النقص ليثبت توحده في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهذا هو منهج القرآن ، فبعد أن بدأ سبحانه وتعالي بالتوحيد أولا في قوله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( ) ، اتبع ذلك بإثبات الصفات التي تليق به فقال : وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ( ) ، وقال أيضا : هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُون ، هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَي يُسَبِّحُ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ْ ( ) ، ومن حديث أبي هريرة قال رسول الله S : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) ( ) ، فالتوحيد يستلزم إثبات الصفات وهذا هو المناسب للفطرة السليمة والعقول المستقيمة ومن أجل هذا سمي هذا النوع توحيد المعرفة والإثبات .
العلة في تصنيف التوحيد إلي نوعين عند السلف
المعروف بين الصحابة والتابعين مصطلح الإسلام والإيمان والإحسان ، وقد جاء جبريل عليه السلام إلي النبي S ليعلمهم حقيقة هذه الاصطلاحات التي تمثل أركان الدين ، فمن حديث عُمَر بْن الخَطَّابِ قَال : ( بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ S ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَي عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّي جَلسَ إِلي النَّبِيِّ S فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلي رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلي فَخِذَيْهِ وَقَال : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ S : الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ S ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا ، قَال : صَدَقْتَ قَال : فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ ؟ قَال : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَال : صَدَقْتَ ، قَال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ ؟ قَال : أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .. الحديث ) ( ) .
فالإسلام عرفه النبي S بالأركان الخمسة والإيمان عرفه بالأركان الستة وجعل الإحسان رابطا بينهما ، بمعني أن يكون الإسلام الحق عن عقيدة وإيمان ، ولا يعني ذلك أن نوعي التوحيد لم يكونا معروفين بين الصحابة والتابعين ، فهم يعلمون أن الإسلام الذي ورد تعريفه في الحديث هو في حقيقته توحيد العبادة لله وإفراده بها ، فالإسلام هو الخضوع والاستسلام للمعبود علي وجه المحبة والتعظيم وهذا تعريف العبادة ، أما توحيد العبادة فظاهر من الشهادة التي هي أول ركن من أركان الإسلام ، فكلهم يعلم أن الإسلام لا يصح إلا بالتوحيد ، وأن توحيد العبادة لله هو الإسلام ، وهذا واضح في قوله تعالي : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين َ ( ) .
كما أن أركان الإيمان التي وردت في حديث جبريل هي في حقيقتها توحيد الربوبية والأسماء والصفات وما يجب علي المسلم اعتقاده في باب الغيبيات ، وهذه الأركان التي ذكرها النبي S في مصطلح الإيمان بنيت علي الإقرار بما نزل في القرآن من تقرير للحقائق العظمي في حياة الإنسان ولذلك كان ترتيبها في الحديث ترتيبا نبويا مقصودا ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا وبين الكلمات موجودا ، فالمعني الموضوع بين هذه الأركان الإيمان أن يؤمن الإنسان بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه علي رسله ليحذروا الناس من الأحداث التي تقع في اليوم الآخر ، فإذا انتهي الناس وقتها بعد العرض والحساب في دار الثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله علي ما ورد في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره .
وليس في معتقد السلف في توحيد الربوبية والأسماء والصفات سوي الإقرار بما جاء عن الله في الكتاب من إثبات ما أثبته سبحانه لنفسه وما أثبته رسوله S من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ، والصحابة كانوا يضربون المثل الأعلي في تطبيق هذا المنهج علي أنفسهم وطريقتهم في الإيمان بربهم ، ومن سلك دربهم من المسلمين كان علي عقيدة السلف الخالصة في هذا النوع من التوحيد .
وأبرز دليل علي فهم الصحابة لنوعي التوحيد ما ورد في فتح بلاد الفرس عندما طلب رستم قائد الفرس من سعد بن أبي وقاص أن يبعث إليه برجل عاقل عالم يسأله عن الإسلام ، فبعث إليه المغيرة بن شعبة فلما قدم عليه سأله عن دينهم ؟ فقال : أما عموده الذي لا يصلح شىء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بما جاء من عند الله ، فقال رستم : ما أحسن هذا ، وأي شيء أيضا ؟ قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده ، فطلب رستم ورجاله من سعد بن أبي وقاص أن يبعث رجلا آخر يسألونه عن الإسلام فبعث إليهم ربعي بن عامر ، فلما دخل عليهم سألوه : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الي عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها ومن جور الأديان إلي عدل الاسلام .. إلي آخر ما حدث ، ثم كرروا الطلب مرة ثالثة وبعثوا في اليوم الثاني يطلبون من سعد رجلا آخر ، فبعث إليهم حذيفة بن محصن ، فتكلم نحو ما قال ربعي بن عامر ( ) ، كلهم كانوا علي عقيدة واحدة في توحيد الله بالعبودية والإقرار بما جاء من عنده سواء في توحيد الربوبية أو الأسماء والصفات وسائر الغيبيات .
غير أن الأمر يحتاج إلي مزيد بيان للعلة التي من أجلها قسم السلف الصالح التوحيد إلي نوعين ، ويمكن أن نطرح بعض هذه العلل التي تكشف بجلاء ووضوح صدق ما عليه السلف وبهتان ما يدعيه الخلف من تصنيفات عقلية للتوحيد ، وكيف أن تصنيف السلف يتوافق مع النقل والعقل والفطرة السليمة وأبرز هذه العلل يتمثل في النقاط التالية :
أولا : قُسم التوحيد إلي نوعين بناء علي دلالة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية جملة وتفصيلا ، ففي الجملة كل نص ورد في الآيات القرآنية أو الآحاديث النبوية شاهد لأحد نوعي التوحيد ، فالنصوص التي تضمنت الحديث عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يتعلق بتدبيره الكوني ، أو عن عالم الغيب وما فيه من مخلوقات ، أو ما يحث في القبر أو سيحدث من أمور الساعة والبعث والحساب والجنة والنار وسائر أمور الجزاء ، أو كل ما يجب علي المسلم اعتقاده والإيمان به ، كل هذه النصوص تمثل شواهد لتوحيد العلم والخبر أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
والنصوص التي تضمنت الحديث عن تدبير الله الشرعي وحكمه الديني أو منهج التكليف في الحياة وكيفية عبادة الله ، من أمر أو نهي علي سبيل الحتم والإلزام أو أمر ونهي لا علي سبيل الحتم والإلزام ، أو موقف الناس من هذه الأحكام وجزاؤهم في الدنيا والآخرة ، كلها شواهد لتوحيد الألوهية والعبادة وتحقيق لمقتضي النطق بالشهادة التي بعث النبي S من أجلها .
أما علي وجه التفصيل فهذه شواهد للتدليل والتمثيل يمكن أن يحتذي بها في التقاط الدليل علي نوعي التوحيد ، ففي أول سورة في القرآن ورد ما يدل علي أن التوحيد نوعان ، توحيد الألوهية والعبادة في قول الله تعالي : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وتوحيد الربوبية في قوله : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال ابن عباس : ( يعني إياك نوحد ونخاف ونرجو ربنا لا غيرك ، وإياك نستعين علي طاعتك وعلي أمورنا كلها ) ( ) .
ويذكر ابن القيم رحمه الله في هذين الأصلين العظيمين أن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن علي أكمل الوجوه ، والمستعان هو الذي يستعان به علي المطلوب ، فالأول من معني ألوهيته ، والثاني من معني ربوبيته ، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإنابة وإجلالا وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا ، والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلي مصالحه ، فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو ، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما سواه ، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله : فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَليْهِ ( ) ، وقوله عن نبيه شعيب : وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ ( ) ، وقوله : وَتَوَكَّل عَلي الحَيِّ الذِي لا يَموتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ( ) ، وقوله : وَتَبتَّل إِليْه تَبْتِيلا رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ( ) ، وقوله تعالي : قُل هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ مَتَابِ ( ) ، وقول الله عن الحنفاء أتباع إبراهيم : رَبَّنَا عَليْكَ تَوَكَّلنَا وَإِليْكَ أَنَبْنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ( ) ، فهذه سبعة مواضع تنظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيي التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما ألبتة ( ) .
وتأمل كيف شبه المشركون المخلوق بالخالق وأشركوا في الربوبية والألوهية معا ، عندما عظموا الأحبار والرهبان وأطاعوهم في معصية الله وجعلوا أمرهم مقدما علي أمره كما ورد في قوله تعالي : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لا إِلهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ( ) ، فكانت الأحبار والرهبان أعظم مكانة في قلوبهم من ربهم وأعلي منزلة وطاعة من خالقهم فلم يوحدوا الله في الربوبية ، وبمفهوم المخالفة كان الواجب عليهم إفراد الله بالربوبية واعتقاد أن ما سواه مهما علا فإنما هو عبد لله ، وهم مأمورون علي ألسنة رسلهم بتوحيد العبودية لله وأن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو ولكنهم وقعوا في شرك الربوبية وشرك العبادة معا .
وهذه الآية يماثلها في الدلالة علي نوعي التوحيد قوله تعالي : قُل ْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَي كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( ) ، ففيها دعوة إلي توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبودية ، وفيها دعوة إلي توحيد الربوبية ونفي أوصافها عن الذات البشرية ، وكثير من آيات القرآت جاءت بنوعي التوحيد في عبارات بليغة وترتيبات منظمة ودلالات محكمة ، كقول الله تعالي عن عيسي : إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( ) ، فتأمل توحيد الربوبية في قوله تعالي : إن الله ربي وربكم ، وتوحيد العبادة في قوله : فاعبدوه ، أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ( ) ، فهذان نوعان من التوحيد من شك فيهما أو اعتقد في عيسي الربوبية أو توجه إليه بشيء من العبودية فقد انطبق عليه قول الله تعالي : لقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَال المَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيل اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ) .
وكثير من الآيات يترابط فيها التوحيد بنوعيه ، فإما أن يكون أحدهما متضمنا للآخر أو يكون أحدهما ملزما للآخر ، كقول الله تعالي : ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلي كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ) ، فالله خالق كل شيء وقائم علي تدبير أمره ، فمن الواجب علي عبده إفراده بالعبادة ، وهذا توحيد ربوبية يوجب توحيد الألوهية ، وكذلك قوله تعالي : إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلي العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُون ( ) ، قال الحافظ ابن كثير : ( أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، أفلا تذكرون أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ) ( ) .
وعلي الوتيرة نفسها جاء قوله تعالي : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا ( ) ، وقوله سبحانه : يُولِجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّي ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لهُ المُلكُ ، وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( ) ، وكذلك قوله : ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ ، كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ، ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ) ، والآيات في هذا الباب أكثر من أن تحصي .
وأما السنة فبابها واسع في الدلالة علي نوعي التوحيد ، فتأمل توحيد الربوبية في حديث ابن عباس عندما قال : ( كَانَ النَّبِيُّ S إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قَال : اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلكَ الحَمْدُ لكَ مُلكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ S حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ) .
وتأمل توحيد العبودية في قوله S بعد ذلك : ( اللهُمَّ لكَ أَسْلمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَليْكَ تَوَكَّلتُ وَإِليْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِليْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلنْتُ ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ أَوْ لا إِلهَ غَيْرُكَ ) ( ) .
ومن حديث أبي هريرة ، قال أبو بكر الصديق : ( يَا رَسُول اللهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ ، قَال : قُلِ : اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ ، قَال : قُلهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) ( ) ، فاشتمل الدعاء علي الثناء علي الله بذكر توحيد الربوبية ، وشمولية علم الله وملكه للخلق ثم إقراره بالحق وتوحيد العبودية ، والاستعانة به من جماع أسباب الشر المتمثلة في هوي النفس وشبهات الشيطان ، ومثله أيضا الدعاء الذي يسمي سيد الاستغفار ، فمن حديث شَدَّاد بْن أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ S قال : ( سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُول : اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّي ، لا إِلهَ إِلا أَنْتَ خَلقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلي عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ ، وَأَبُوءُ لكَ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ ، قَال : وَمَنْ قَالهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالهَا مِنَ الليْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْل أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ) ( ) ، والأمثلة علي ذلك كثيرة وفيما تقدم كفاية لذوي البصيرة في دلالة النصوص علي نوعي التوحيد .
ثانيا : قُسم التوحيد إلي نوعين بناء علي نوعي الكلام .
فمن المعلوم أن الكلام العربي الذي نزل به القرآن قسمان ، قسم يطلق عليه الخبر وقسم يطلق عليه الإنشاء أو الطلب أو الأمر ، يقول ابن هشام : ( التحقيق أن الكلام ينقسم إلي خبر وإنشاء فقط ، وأن الطلب من أقسام الإنشاء ، وأن مدلول قم حاصل عند التلفظ به لا يتأخر عنه وإنما يتأخر عنه الامتثال وهو خارج عن مدلول اللفظ ) ( ) ، والخبر هو ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب ، والأمر أو الطلب هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب ( ) ، يقول عبد الرحمن السيوطي : ( الفرق بين الخبر والانشاء ، أن الخبر هو الدال علي أن مدلوله قد وقع قبل صدوره أو يقع بعد صدوره ، والإنشاء هو اللفظ الدال علي أن مدلوله حصل مع آخر حرف منه ) ( ) .
ولما كان الصحابة أهل الفصاحة واللسان ، وقد خاطبهم الله بنوعي الكلام في القرآن ، كان منهجهم في مسائل التوحيد والإيمان هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر ، فلو أخبرهم الله عن شيء صدقوه تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن ، ولو أمرهم بشيء نفذوه بالقلب واللسان والجوارح ، وتلك هي غاية التوحيد العظمي وطريقة السلف المثلي التي جاهدوا من أجل إثباتها في توحيدهم لربهم ، أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه بتصديق خبره ، وأن يطيعوا الله فيما أمر علي لسان نبيه .
فالأول عندهم هو توحيد الوسيلة والعلم والخبر والمعرفة والإثبات والربوبية والأسماء والصفات ، والثاني هو توحيد الغاية والألوهية والعبادة والإرادة والشرع والقدر ، فهم بقولهم : لا إله إلا الله ، قد عقدوا علي أنفسهم عقدا أن يكون الله عز وجل هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب ويطاع في أمره دون عصيان ، وهذه حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان .
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في مناقبهم أنهم أصحاب اللغة التي نزل بها القرآن فقال : ( باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، قرآنا عربيا ، بلسان عربي مبين ) ( ) ، فالصحابة اتفقوا علي نوعي التوحيد اتفاقا صامتا وأجمعوا إجماعا سكوتيا علي هذا المبدأ دون مخالف ، أن يصدقوا خبر ربهم وبلاغ نبيهم ، وينفذوا أمر معبودهم عن خضوع ومحبة ولم يكن بينهم من دان بغير ذلك ، ومن شك في ذلك فما قدرهم حق قدرهم وما أدرك حقيقة إيمانهم وإسلامهم ، وقد بين النبي S أن أساس الرسالة يكمن في تصديق خبره وتنفيذ أمره فمن حديث ابن عباس قال : ( لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ( ) ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ S حَتَّي صَعِدَ الصَّفَا ، فَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهْ ، فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا ، قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) ( ) ، فالصحابة جميعا صدقوه تصديقا جازما في كل ما أخبرهم عن الله والمشركون كذبوه حتي قال عمه أبو لهب : ( تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا ثُمَّ قَامَ ، فَنَزَلَتْ : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( ) ، وَقَدْ تَبَّ ) ( ) .
ومن حديث أبي هريرة قال النبي S: ( إِنَّ المَيِّتَ يَصِيرُ إِلَي القَبْرِ فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلا مَشْعُوفٍ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : فِيمَ كُنْتَ ؟ فَيَقُولُ : كُنْتُ فِي الإِسْلامِ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ S جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ ؟ فَيَقُولُ : مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَي اللَّهَ ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَي مَا وَقَاكَ اللَّهُ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَي زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ وَيُقَالُ لَهُ : عَلَي الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) ( ) ، وهم كما صدقوا نبيهم في كل ما أخبرهم عن الله عز وجل ، وهو توحيد العلم والخبر ، فإنهم أيضا أطاعوه في كل ما أمر ، وكانوا يبايعونه علي ذلك ، فمن حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْد ِاللَّهِ قَالَ : بَايَعْتُ النَّبِيَّ S عَلَي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فَلَقَّنَنِي فقال : فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ) ( ) ، ومن حديث أبي هريرة في موقفه مع أهل الصفة لما أمره النبي S بدعوتهم وإطعامهم قال : ( فَسَاءَنِي ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّي بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي ، فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ ، وَمَا عَسَي أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ S بُدٌّ ) ( ) ، وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا : يَا أَمَةَ اللَّهِ لا تُؤْذِي النَّاسَ ، لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ فَجَلَسَتْ ؟ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا : إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي ، فَقَالَتْ : مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا ( ) .
وقد بين جعفر بن أبي طالب لملك الحبشة موقف الصحابة مما جاء به النبي S من التوحيد ، سواء في باب الأخبار أو في باب الأوامر ، فمن حديث أُم سَلَمَةَ رضي الله عنها أن جَعْفر بْنُ أَبِي طَالِبٍ كلم النجاشي فَقَالَ لَهُ : ( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَي ذَلِكَ حتى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَي اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ، وعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَي مَا جَاءَ بِهِ ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْللْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَي عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا ، خَرَجْنَا إِلَي بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَي مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لا نُظْلَمَ عِنْدَكَ ) ( ) ، وقول جعفر : فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَي مَا جَاءَ بِهِ ، يتبدي منه بوضوح دليل تصنيف التوحيد إلي نوعين وقيام الإيمان علي ركنين ، ركن يتعلق بتصديق الأخبار وآخر يتعلق بالطاعة وتنفيذ الأمر .
ويذكر أبو بكر البيهقي (ت: 458هـ) أن حقيقة الإيمان والتوحيد تكمن في تصديق الخبر وتنفيذ الأمر ، لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب ، والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصي ، فمن سمع خبرا واعتقد أنه حق وصدق فقد آمن به ، ومن سمع أمرا أو نهيا فاعتقد الطاعة له ، فكأنما آمن في نفسه به ... فالإيمان بالله عز وجل إثباته والاعتراف بوجوده والإيمان له والقبول عنه والطاعة له ( ) .
وقد بين العلامة ابن القيم أن أساس التوحيد والهداية التي من الله بها علي الموحدين ، يترتب علي تصديق خبر الله من غير اعتراض شبهة تقدح في تصديقه ، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله يقول : ( وعلي هذين الأصلين مدار الإيمان ، وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر ويتبعهما أمران آخران ، وهما نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وأن لا يخمش بها وجه تصديقه ، ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الامتثال ) ( ) .
ويقول أيضا : ( وأما الدين فجماعه شيئان تصديق الخبر وطاعة الأمر ومعلوم أن التنعم بالخبر بحسب شرفه وصدقه ، والمؤمن معه من الخبر الصادق عن الله وعن مخلوقاته ما ليس مع غيره ، فهو من أعظم الناس نعيما بذلك بخلاف من يكثر في أخبارهم الكذب ، وأما طاعة الأمر فإن من كان ما يؤمر به صلاحا وعدلا ونافعا يكون تنعمه به أعظم من تنعم من يؤمر بما ليس بصلاح ولا عدل ولا نافع ، وهذا من الفرق بين الحق والباطل ) ( ) .
ثالثا : قُسم التوحيد إلي نوعين بناء علي استخلاف الإنسان في الأرض ، قال تعالي : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ( ) ، فهذه الآية حددت دور الإنسان في الحياة وأنه مستخلف في أرض الله ، وهذا من أبرز العلل التي تؤيد مذهب السلف في ضرورة تصنيف التوحيد إلي نوعين ، وبيان ذلك يكمن في فهم معني الاستخلاف الذي ورد في الآية فالخلافة في اللغة :تعني النيابة عن الغير ( ) ، ولا بد فيها من استخلاف المستخلِف بكسر اللام للمستخلَف بفتحها وتخويله له وإذنه بها ، ولا تصح في اللغة بغير هذا ، قال ابن حزم : ( ومعني الخليفة في اللغة هو الذي يستخلِفُه لا الذي يخْلُفُه دون أن يستخلِفَه هو ، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف ، تقول : استخْلَفَ فلانٌ فلانا يستخلِفُه فهو خليفَتُه ومستخلِفُه ، فإن قام مكانه دون أن يستخْلِفُه هو لم يُقَلْ إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف ) ( ) .
وإذا كانت الخلافة بمعني التخويل والإنابة ، فهل الإنسان خليفة ينوب عن الله في أرضه أم يخلف من سبق بعد موته ؟ لأن المفسرين من السلف والخلف دارت أقوالهم حول هذين الرأيين ، فمنهم من يري أن الإنسان خليفة ينوب عن الله في تنفيذ الأحكام والعمل بشريعة الإسلام ، وهذا قول عبد الله بن مسعود وبعض المفسرين ، ومنهم من يري أن الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن لقرن ، يخلف بعضهم بعضا كما في قوله تعالي : ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( ) وهذا قول عبد الله ابن عباس وطائفة أخري من المفسرين ( ) .
وحتى نصل إلي مرادنا في ضرورة تصنيف التوحيد إلي نوعين من خلال معني الاستخلاف نبين أولا الجواب ذلك ، فاستخلاف الإنسان في الأرض فعل من أفعال الله تعالي وأفعاله سبحانه كلها كمال ، وتشهد لحكمته بالعظمة والجلال ، فالله لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، كالحياة والعلم والقدرة ، والسمع والبصر والحكمة ، والعزة والعظمة والرحمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، أما ضد ذلك من أوصاف النقص ، كالموت والعجز والظلم ، والغفلة والسنة والنوم ، فقد تنزه ربنا وتعالي عن ذلك .
ولكن إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال فكان كمالا في حال ونقصا في حال فعقيدة السلف ألا نثبته لله إثباتا مطلقا ولا ننفيه عنه نفيا مطلقا ، فالموحد يقف عند ذلك مدققا يقدم البيان والتفصيل ويتقيد بما ورد التنزيل ، فقد ورد من الألفاظ في القرآن ، كالمكر والخداع والنسيان ، والاستهزاء والكيد والخذلان ، ما يوحي عند التعميم والإطلاق بالنقصان ، فهذه لا تنسب إلي الله إلا في حال الكمال فقط أما حال النقص فالله منزه عنه ، فالمكر مثلا هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء في الابتداء ، وقد يكون محمودا إذا كان في مقابل المكر السيئ ، فإذا كان المكر عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص كقول القائل : المكر صفة الله فهذا باطل ، لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، لكن يصح قول القائل : مَكْرُ الله يكون للابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، فهو مكر مقيد لا يحتمل إلا الكمال ، فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال ، كما أثبت ذلك لنفسه فقال : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين ( ) ، وما يقال في المكر يقال أيضا في الاستهزاء ، فالاستهزاء علي الإطلاق يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تقيد كقول القائل : الله يستهزئ فهذا باطل ، ولكن يصح أن يقول الله يستهزئ بالمنافقين في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، فالاستهزاء في موضع النقص هو شأن المنافقين والاستهزاء في موضع الكمال هو ما ورد في قول رب العزة والجلال : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَي شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون َ ( ) .
وكذلك القول في الخداع والسخرية والكيد وما ورد في السنة عن قول الله عز وجل في التردد : ( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءتَهُ ) ( ) ، فالتردد يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلو كان التردد عن جهل وقلة علم وعدم إحكام للأمر كان نقصا وعيبا ، وإن كان التردد لإظهار الفضل والمحبة في مقابل إنفاذ الأمر وتحقيق الحكمة ، كان كمالا ولطفا وعظمة وهو المقصود في الحديث ، وهكذا القول في سائر أفعال الله التي تدخل تحت هذه النوعية من الأوصاف ، ومن هذا الباب أيضا ما ورد في استخلاف الله للإنسان ، قال الراغب الأصفهاني : ( والخلافة النيابة عن الغير ، إما لغيبة المنوب عنه ، وإما لموته ، وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلَف ، وعلي هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض ) ( ) ، فالاستخلاف له معنيان :
1- استخلاف عن نقص الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان ، ويكون عند عجز المستخلِف عن القيام بملكه أو تدبير أمره ، إما لغيابه أو قلة علمه ، وإما لمرضه أو موته ، كاستخلاف القائد نائبا علي جنده وقومه ، كما ورد في قوله تعالي عن موسي : وَقَالَ مُوسَي لأَخيهِ هَارُونَ اخْلُفنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين ( ) ، أو كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنَّ رَسُولَ اللَّهِ S خَرَجَ إِلَي تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا ) ( ) ، ومنه أيضا استخلاف ولي الأمر نائبا عنه قبل موته ، كما روي عَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ قَالَ : ( حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَالَ : رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ ، قَالُوا : اسْتَخْلِفْ فَقالَ : أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيّا وَمَيِّتًا لَوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ لا عَلَيَّ وَلا لِي ، فَإِنْ أَسْتخلفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ منْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ S قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر : فَعرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ S غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ) ( ) .
2- استخلاف عن كمال الأوصاف ، وذلك إذا كان لتشريف الإنسان وإكرامه أو اختباره وامتحانه ، وليس لعجز المستخلِف عن القيام بشؤونه كالطبيب في سنة الامتياز إذا فحص مريضا في حضرة الأستاذ ، فإن نجح في الامتحان فقد فاز ونال الشرف بشهادة عظيمة وهذا معلوم في كل فطرة سليمة ، وإن لم يؤد الواجب علي الوجه المطلوب عاقبه الأستاذ بالرسوب ، فالله وله المثل الأعلى لما قال للملائكة في شأن الإنسان : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ( ) ، تحقق في الخلافة المعنيان ، الأول : أن يخلف بعضهم بعضا علي وجه النقصان ، والثاني : أنه خليفة لله في الأرض علي وجه الابتلاء والامتحان ، وبهذا يزول الإشكال ويتآلف الرأيان ، فقوله تعالي : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( ) ، يعني مستخلفين عمن سبق علي وجه النقص وتعاقب الأجيال وخلفاء عن الله في أرضه علي وجه الابتلاء والكمال ، وكذلك يقال في كل آية ورد فيها استخلاف الله للإنسان فإنها تدل علي المعنيين معا ، أنه خليفة لمن سبق من الذرية عن نقص في الأوصاف البشرية وخليفة لله علي وجه الكمال وإظهار المعاني الشرعية ، غير أنه لا حول له ولا قوة في معاني الربوبية .
ومن هنا يظهر السر في تصنيف التوحيد إلي نوعين ، فاللَّه استخلف الإنسان في الأرض وهو معه يتابعه يراه من فوق عرشه ويسمعه ، ولكنه بين أن استخلافه في هذه الدار إنما هو علي وجه الابتلاء والاختبار ، وأن مصيره المحتوم سيكون إما إلي الجنة وإما إلي النار ، فقال رب العزة والجلال : هَلْ أَتَي عَلَي الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ( ) ، وقال أيضا : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( ) ، فهو استخلاف ليس عن غيبة المستخلِف كما يتوهم من لم يفهم المراد من الآيات ، فإن الاستخلاف وإن اقتضي غياب المستخلِف في العادة ، إلا أنه هنا كشف سر الإيمان والعبادة بظهور عالم الغيب والشهادة ، فالله غيب بالنسبة للإنسان لأن الله جعل مداركه محدودة ، فهما غيب وشهادة ليس بالنسبة لعلم الله بخلقه ، ولكن بالنسبة لرؤية الإنسان لربه ، وعلمه بكيفية ذاته وصفاته وأفعاله ، فقال سبحانه تعالي في شمولية علمه لكل صغيرة وكبيرة في خلقه : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثي وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( ) ، وقال أيضا : ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ) ، وقال سبحانه وتعالي : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ) ، وقال في المقابل عن حدود علم المستخلَف ومدي ضعفه : وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ( ) ، وقال : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( ) .
فعلم الإنسان مهما بلغ محدود لأن حواسه عليها غطاء وقيود ، ومن ثم كان النطق بشهادة الحق أمرا وتكليفا وترك الزور وقول الصدق مدحا وتشريفا ، كما قال نبينا S تحذيرا وتخويفا : ( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قُلْنَا : بَلَي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّي قُلْتُ : لا يَسْكُتُ ) ( ) .
وقال تعالي : وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ) ، فمن الجهل والعيب ادعاء الإنسان لعلم الغيب أو القول علي الله بلا علم ، فقال تعالي : وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( ) ، ومن أجل ذلك أيضا ظهر تكليف المسلم بالتصديق الجازم لكل خبر ورد عن ذات الله وأسمائه وصفاته ، وكل ما ورد في القرآن والسنة عن أركان الإيمان وأن يثبت ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S ، وحرم عليه أن يتقول علي ربه بوضع أقيسة عقلية يحكم بها علي الأدلة النقلية ، فيأخذ منها ما يشاء ويعطل ، فيقع في التمثيل والتكييف والتعطيل والتحريف وهذا هو النوع الأول من نوعي التوحيد .
أما النوع الثاني فقد ارتبط باستخلاف الإنسان من جهة أن استخلافه في الأرض مقيد بالخضوع لأمر الله فيما استخلفه واسترعاه ، وإظهاره لتوحيد العبودية والعمل في أرض الله بالإرادة الشرعية ، والحكم في الرعية بالشريعة الإسلامية ، وذلك ظاهر في قوله S: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) ( ) .
وليس استخلاف الإنسان في الأرض نيابة عن الله في معاني الربوبية ، أو تخويلا لغيره في إرادته الكونية ، سبحانه وتعالي أن يتخذ شريكا له في ملكه أو يتخذ وليا من الذل وينعزل عن خلقه ، فالحمد لله الذي لم يجعل شيئا من الربوبية لسواه : وقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( ) ، وقال سبحانه : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( ) .
فإذا ظلم الإنسان نفسه وخلع رداء العبودية ، لينازع ربه في وصف الربوبية أو يشاركه في العلو والكبرياء وعظمة الأسماء والصافات ، كما فعل أكابر السفهاء فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان ، فليس للظالم إلا الشقاء والحرمان ودوام البقاء في النيران وليس بعد طرده من الجنان خسران ، كما قال رسول الله S : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) ( ) ، ومن حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ S قَالَ : ( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) ( ) ، وعلي هذا نخلص إلي القول بأن الله لما قال لملائكته : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ( ) ، تضمن استخلاف الإنسان في الأرض عدة أمور مجتمعة :
الأمر الأول : ضرورة تسليم العبد بنوعين من توحيد الله تعالي ، توحيد في تدبيره الكوني وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ، وتوحيد في تدبيره الشرعي وهو توحيد الطاعة والعبادة ، فالأرض أرض الله وهو مجرد أمين عليها مستخلف فيها مبتلي بها ، وطبيعة الأمين التقيد بطاعة صاحب الأمانة في أمره رغبة في الثواب وتحاشي العقاب .
الأمر الثاني : أن الإنسان خليفة لله في الأرض علي معني الكمال ، وهو الاستخلاف الذي يقصد به الاختبار والابتلاء ، فالإنسان لما حمل الأمانة ورفضتها المخلوقات هيأ الله تلك المخلوقات في الكون لتحقق معني استخلاف الإنسان في الأرض وما يسمح بوجود أمين وأمانة ومالك لها ، فالإنسان أمين في ملك الله تعالي وجاز أن ينسب إليه الملك علي سبيل الاستخلاف والابتلاء والأمانة فقط ، والله مالك للأمانة بالأصالة ، وهو المنفرد بالخلق والأمر والملك ، فله مطلق التدبير الكوني والشرعي ، والأرض هي محل الابتلاء والأمانة التي سيسأل عنها الإنسان ، والله يعطي من خيراتها لمن يشاء علي سبيل الأمانة والابتلاء ، وعلي هذا فالإنسان خليفة الله في الأرض لإظهار معاني العبودية فقط من القيام بشرعه وتنفيذ أمره ، سواء كان علي المعني الخاص الذي يراد به إمام الناس وخليفتهم أو المعني العام الذي يتناول سائر الناس .
كما إن الإنسان إن أطاع الله وأدي الأمانة وأعطي الحقوق لأهلها وكان خاضعا لربه موجها للدنيا حسب شرعه وإرادته ، أبقاه في دار الجزاء علي هذا الشرف ومزيد من التكريم ، وإن كان كافرا بالله جاحدا نعمه مشركا كان ظلوما جهولا خاسرا في الابتداء عند الابتلاء وفي الانتهاء عند الجزاء ، وبهذا يضع القرآن الكريم حلا جذريا للعلاقة بين الله والإنسان والعالم تلك العلاقة التي حيرت الفلاسفة والمتكلمين وعقول المفكرين وسائر المعنيين بالأمر من القدامى والمحدثين .
الأمر الثالث : أن الخلافة التي جعلها الله للإنسان هي خلافة ينوب فيها بعضهم عن بعض ، ويخلف كل جيل منهم جيلا سابقا ، وذلك لما لهم من معاني النقص وقصر الحياة ، فالموت يؤدي بالضرورة إلي تعاقب الأجيال علي وراثة الأرض وخلافتها .
الأمر الرابع : أن حقيقة الاستخلاف أدي إلي ظهور عالم الغيب والشهادة بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لربه ، فالله سبحانه غيب ولا يراه أحد في الدنيا من أجل الابتلاء لكن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وعلي ذلك أصبح الإيمان بالغيب وما ذكر فيه من حقائق كونية بالنسبة للإنسان أساس بنيان التوحيد الذي يقبل به عمل الموحدين ( ) .
رابعا : قُسم التوحيد إلي نوعين بناء علي رد فعلهم علي المخالفين ، فقد تقدم أن السلف في تصنيف التوحيد علي الأصول القرآنية والنبوية جملة وتفصيلا ، ولم يعتمدوا تصنيفات مبنية في جوهرها علي العقل وتعطيل النقل كما هو الحال عند المعطلة ، ولما ظهرت الجهمية والمعتزلة كنبتة لا أصل لها في عصر السلف جعلوا للتوحيد في اصطلاحهم معني خاصا يقتضي هدم عقيدة السلف وتعطيل الأسماء والصفات ، فكان رد علماء السلف الصالح التنبيه علي إثبات توحيد الأسماء والصفات كما جاءت به الروايات الصحيحة واجتهدوا في بلورته وتوضيح مفرداته للعامة والخاصة وأخذ حيزا كبيرا من بحثهم وحديثهم ومناظراتهم ، فالإمام أبو حنيفة النعمان بن ثاب (ت:150هـ) لم يتهاون في الحكم علي من أنكر علو الله علي خلقه ، حيث سئل عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ قال : قد كفر لأن الله تعالي يقول : الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي ( ) ، وعرشه فوق سبع سماوات ، قيل له : فإن قال : هو علي العرش استوي ولكن لا أدري العرش في الأرض أم في السماء ؟ قال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ( ) .
والإمام مالك رحمه الله (ت:179هـ) وقف للحمقي من المبتدعة وقفة حازمة حيث جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله : الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي ، كيف استوي ؟! قال الراوي : فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته ، وعلاه الرحضاء ، يعني العرق ، وأطرق القوم وجعلوا ينظرون ما يأتي منه حتى سري عن مالك ، فقال : ( الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، فإني أخاف أن تكون ضالا ، وأمر به فأخرج ) ( ) ، وقد بين الإمام الشافعي (ت:204هـ) عقيدته في توحيد الصفات والرد علي المخالفين فقال : ( القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما ، إقرار بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله S ، وأنه تعالي علي عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل إلي السماء الدنيا كيف شاء ) ( ) .
وقد بين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت:241هـ) أن أصول السنة عند السلف التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله S ، والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال والخصومات في الدين ، والسنّة هي آثار رسول الله S ، والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن ، وليس في السنة قياس ولا تضرب بها الأمثال ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء ، إنما هي بالاتباع وترك الهوى ، ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها ، الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها لا يقال : لم ولا كيف ؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك وأحكم له ، فعليه الإيمان به والتسليم له ، وقد ذكر بقية اعتقاد السلف في ثبوت الرؤية وعدم القول بخلق القرآن وبقية أمور الإيمان ، وقيل له : الله فوق السماء السابعة علي العرش بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم ، وهو علي عرشه لا يخلو شيء من علمه ( ) .
وفي المقابل لما أظهر أهل الضلال من المعتزلة شعار العدل في الأصل الثاني من أصولهم تدليسا وتلبيسا علي عامة المسلمين ، ستروا تحته نفي القدر السابق ولم يوحدوا الله في الربوبية ووصفوا الله بالعجز في الخالقية ، وزعموا أن العبد يخلق فعله وأن الله لا يقدر علي خلقه ، فشككوا وأشركوا ولم يوحدوا الله بأفعاله ، وقد كان من الطبيعي أن يثير ذلك حفيظة الإيمان في قلوب السلف ويبعث همتهم في رد المخالفين وردعهم ، فبينوا حقيقة توحيد الربوبية وإفراد الله بالخالقية وأنه لا خالق ولا مدبر للعالمين إلا الله .
وقد أفرد الإمام البخاري رحمه الله (ت:256هـ) أبوابا في الرد علي المعتزلة وبين شركهم في الربوبية وانتهج فيه رده الطريقة السلفية المبنية علي الكتاب والسنة فقال : ( باب قول الله تعالي : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا ( ) ، وقوله جل ذكره : وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) ، وقوله : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ( ) ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْك َ وَإِلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ ( ) .
وقال عكرمة رحمه الله : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ( ) ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ ( ) ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ) فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره ) ( ) .
قال أبو بكر الواسطي (ت:بعد320هـ) : ( ادعي فرعون الربوبية علي الكشف ، وادعت المعتزلة علي السر تقول ما شئت فعلت ) ( ) ، قال ابن تيمية معقبا : ( كلام الواسطي المذكور هنا هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وفيه الرد علي القدرية الذين يجعلون أفعال العبد خارجة عن قدرته وخلقه وملكه ، وكذلك جعل فيهم الواسطي شبها من فرعون ، فإن فرعون كشف كفره وقال : أَنَا رَبُّكُمْ الأعلى ( ) ، فادعي الربوبية علانية والقدرية تدعي أنها رب الأفعال وما يتولد عنها ، فقد ادعت ربوبيته لكن في السر وهي ربوبية أفعال الأعيان ) ( ) ، وهكذا تبلورت أنواع التوحيد عند السلف من خلال الفعل ورد الفعل في تفاعل مستمر بينهم وبين المخالفين لهم ، حتى بدا في كلامهم ذكر هذه الأنواع عند الحديث عن أمور العقيدة وإثبات ما رود فيها من الأصول القرآنية والنبوية ، قال بشر بن السري (ت:227هـ) وهو من شيوخ الإمام أحمد : ( نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي ، فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الرب تعالي وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام ، والحث علي صلة الأرحام وجماع الخير ، ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق ، والمماراة في الدين واستعمال الحيل ، والبعث علي قطيعة الأرحام والتجرؤ علي الحرام ) ( ) .
وقال نعيم بن حماد الخزاعي (ت:228هـ) شيخ الإمام البخاري في حقيقة توحيد الصفات : ( من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها ) ( ) ، وروي عن أبي تراب النخشبي (ت:245هـ) أنه سئل عن التوكل ؟ فقال : ( التوكل طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والطمأنينة إلي الكفاية ، فإن أعطي شكر وإن منع صبر ، راضيا موافقا للقدر ) ( ) ، كل هذه المرويات وردود الأفعال بلورت الاتفاق الصامت بين الصحابة والتابعين علي وجود نوعين من التوحيد ، بلورت وحددت صورة كل نوع بشكل مقنن ، فتجلت هذه الأنواع بشكل مركز بعد عصر المعتزلة وبداية عصر الأشعرية إلي زمن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
كما ظهرت أيضا أنواع التوحيد في تصنيف جديد لا يختلف عن السابق اختلاف تضاد ، ولكنه اختلاف تنوع من حيث العدد في مقابل ما أحدثه المتكلمون .
المبحث الخامس
العلة في تصنيف التوحيد إلي ثلاثة أنواع عند السلف
كل من أقر بتصنيف التوحيد إلي نوعين علي اعتبار تنفيذ الأمر وتصديق الخبر أو قسمه علي اعتبار توحيد الغاية وتوحيد الوسيلة ، أو توحيد القصد والطلب وتوحيد العلم والخبر ، أو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ، فسوف يقر ضرورة بتصنيف التوحيد إلي ثلاثة أنواع علي اعتبار أن توحيد الربوبية والأسماء والصفات نوعان وليس نوعا واحدا كما هو الحال في التصنيف السابق .
فعند الفصل بينهما تظهر أنواع التوحيد الثلاثة عند السلف : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات ، وهذه الأنواع اشتهرت بين المتبعين لنهج السلف الصالح بحيث غطت شهرتها علي التصنيف السابق بنسبة كبيرة .
• العلة في تصنيف التوحيد إلي ثلاثة أنواع :
كان الباعث علي تصنيف التوحيد إلي ثلاثة أنواع مبنية علي الأدلة القرآنية والنبوية متمثلا في النقاط التالية :
الأمر الأول : صُنِّفَ التوحيد عند السلف إلي ثلاثة أنواع علي اعتبار معني التوحيد عندهم وما يتبعه بالضرورة من إثبات معاني الكمال التي انفرد بها رب العزة والجلال عمن سواه ، فالتوحيد كما تقدم هو الإفراد ، ولا يكون التوحيد توحيدا إلا مع الإثبات ، فما الذي انفرد به رب العزة والجلال مما ورد في الآيات من إثبات ؟ عند الحصر والاستقصاء يتبين لسائر البسطاء أن الله انفرد بثلاثة أشياء جامعة لا يشاركه فيها غيره :
أولها : انفراده بالربوبية ، فلا رب للعالمين إلا الله ، ولا خالق ولا مدبر للكون سواه كما قال سبحانه وتعالي : إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) ، وثلث آيات القرآن تقريبا يدور حول هذا النوع من التوحيد .
ثانيا : أنه انفرد بالألوهية والعبادة فلا يقبل الشركة فيها أبدا ، فإما يُعْبَد وحده بإخلاص وإما يبحث المشركون عن الخلاص ، أما أن يَقْبَل من عباده أن يعبدوه ثم يعبدوا غيره معه في آن واحد ، فهذا قد يقبله معبود من المعبودات الباطلة ، أما رب العزة سبحانه فهو أغني الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيره تركه وشركه ، هكذا جاء الحديث مرفوعا عن أبي هريرة قال : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَي أَنَا أَغْنَي الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) ( ) ، وقال تعالي : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَي إِثْمًا عَظِيمًا ( ) ، وهذا النوع هو حقيقة الشهادة وتجريد التوحيد والعبادة بقول العبد عند الدخول في الإسلام والنطق بالعروة الوثقي : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله S ، وثلث ما ورد في آيات القرآن تقريبا يدور حول هذا النوع من التوحيد .
ثالثا : أنه انفرد بالأسماء الحسني والصفات العلي فكما أنه انفرد بالربوبية والألوهية فإنه أيضا انفرد بالأسماء والصفات ، فلا سمي له ولا نظير ولا ند له ولا مثيل كما قال سبحانه وتعالي : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( ) ، وقال : وَلمْ يَكُنْ له كُفُوًا أَحَدٌ ( ).
الأمر الثاني : ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين إلي ثلاثة أنواع بناء علي دلالة النصوص القرآنية والنبوية ، فالقرآن والسنة إما خبر عن الله تعالي وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الأسماء والصفات ، أو خبر عن قضائه وقدره وحكمته ومشيئته وقدرته وملكه لخلقه وتدبيره لكونه ووصفه لفعله وهذا توحيد الربوبية ، وكلاهما مستلزم للآخر متضمن له ، وإما دعاء إلي عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه ، وذلك من خلال أمر بأنواع من العبادات ونهي عن المخالفات ، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما أيضا ، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرههم به في الآخرة ، فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال ، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد ( ).
الأمر الثالث : صُنِّفَ التوحيد عند السلف إلي ثلاثة أنواع علي اعتبار وجود تصنيف مبتدع أحدثه المتكلمون من الأشعرية منذ وقت مبكر وأذاعوه بين الناس وانتشر بحكم السطوة والقربة لدي الساسة والأمراء والخلفاء ، كما حدث من حمقي المعتزلة عندما أداروا البلاد الإسلامية في عهد مجموعة من خلفاء بني العباس فغيروا وبدلوا في معني التوحيد ، هذا في مقابل ضعف السلف وزهدهم وبعدهم عن قصور الخلفاء والأمراء وأصحاب الأهواء ، فالأشعرية قسموا التوحيد إلي ثلاثة أنواع مبنية لا علي أدلة قرآنية ونبوية كما هو الحال عند السلف ولكن علي دلالات عقلية سقيمة وآراء فلسفية باطلة أطلقوا عليها أصول الدين ، قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548هـ) في بيان أنواع التوحيد عند الأشعرية : ( وأما التوحيد ، فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية : إن الله تعالي واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ) ( ) .
ففضلا عن ادعائهم أن الأشعرية هم أهل السنة وسلبهم هذا الوصف عن المنتهجين لطريقة السلف ، صنفوا التوحيد إلي ثلاثة أنواع محدثة لا دليل عليها من كتاب أو سنة ، وما هي في حقيقتها إلا محاولة لتعطيل السنة كما سيأتي تفصيل ذلك .
فلم يكن بد من رد الفعل الطبيعي لهذا التقسيم المحدث بنشر تصنيف السلف لأنواع التوحيد وإذاعته وتركيز الضوء علي أدلته ، المبنية في جوهرها علي الأصول القرآنية والنبوية ، وسواء صنف التوحيد إلي نوعين أو ثلاثة أنواع فإن الغاية المرجوة عند المخلصين كانت نشر التوحيد الحق رد ما أحدثه الآخرون من الباطل ، وقد ظهرت سلسلة من الردود المتوالية في مؤلفات كثيرة تدافع عن مذهب السلف وتعيد الناس إلي ما كان عليه أصحاب رسول الله S ، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الباع الأكبر في ذلك ، فقد أعز الله دينه بهذين الشيخين الجليلين الذين جعلهما الله حربة في قلوب المخالفين لكتابه وسنة نبيه S ، فصنفا حشدا هائلا من الردود والمصنفات في خدمة العقيدة السلفية ، ويمكن القول إن من أتي بعدهما كان عالة عليهما وعلي ما تركاه من مصنفات .
ومن الضروي أن نبين للقارئ المسلم ما يجب اعتقاده في كل نوع من أنواع التوحيد بالصورة التي تصون اعتقاده عن شبهات المخالفين ودعاوى المبطلين ، فالمسلم يكفيه أن يصدق بخبر الله تصديقا جازما دون شك أو تكذيب وأن ينفذ أمره عن خضوع ومحبة وتعظيم ، كما كان الحال في عهد النقاء والصفاء زمن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ولكن مع انتشار الأوبئة الفكرية في المستنقعات التي أحدثها أتباع الجهمية في البيئة الإسلامية ، يلزم المسلم الصادق أن يحصن نفسه في التوحيد بمضادات اعتقادية توفر لهم حماية ومناعة من أفكار المخالفين .
هل عرف هذا التقسيم عند السلف
أرجو من الإخوة الذين نقلوا هذا التقسيم عن الطبري وغيره أن لا يقفوا عند الكلمات بل عند المعاني ، فالسؤال الذي يحتاج للرد هل السلف قسموا التوحيد إلى ربوبية وألوهيةبالمعنى الذي ذكره ابن تيمية، أي أن الإنسان قد يكون موحدا في أحدهما دون الآخر، فالتقسيم المنطقي بل الشرعي أن المسلم إذا كان موحدا فهو يؤمن بالله تعالى وصفاته ويعتقد أنه يستحق العبادة والحب ولا يليق به أن نشرك معه غيره، فإذا أشرك مع الله تعالى وعبد غيره فكيف نسميه موحدا، فهذا من أهل الشرك وليس من أهل التوحيد، فأنا أؤكد مرة ثانية أن الاعتراض ليس على التقسيم ، فعلم الفقه والأصول والعقيدة بل في كل العلوم لأصحابهااصطلاحاتهم وتقسيماتهم، وهذا أمر يثري العلم ، فالعتراض أولا على نسبة ذلك للسلف، مع أن هذا المعنى وهذا التفصيل هو من ابن تيمية،فهو اجتهد في ذلك وأرى أن الأمر لا يحتاج لهذه التفصيلات التي لم يحسن أتباعه أن يضبطوها ويتعاملوا معها ، فجعلوها أصلا من أصول الدين ورتبوا عليه أمورا في غاية الخطورة، وجعلوها منهجا يدرس ويعلم وكأن ذلك أمر لا يجوز الجهل به، وبعد ذلك يقال لأي مخالف خالفت منهج السلف، فأي سلف يريدون، إن كان السلف هو ابن تيمية، فلا نرى حرجا في مخالفته، بل هذا منهجه فقد خالف كثيرا من شيوخه، ورد على أصحابه الحنابلة، فالأمر في ذلك يسير، أما إن كان مرادهم مخالفة علماء السلف كمالك وإسحاق والشافعي وابن معين بله الحابة والتابعين، فهذا هو الأمر الذي حملني على الإنكار على هذا التقسيم.
وما يقال بالنسبة للتقسيم الثنائي يقال بالنسبة للتقسيم الثلاثي والرباعي فالأمر الاصطلاحي لا مشاحة فيه، والإنكار على سوء الفهم والتنزيل .
تعقيبا على مسألة تقسيم التوحيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ...
تعقيبا على مسألة تقسيم التوحيد وإيضاحا لتطور هذه القضية ومقارنته بما كان عليه السلف الصالح .
أولا : ما المقصود بالسلف الصالح ؟ السلف هم أصحاب النبي (ص) والتابعون من أدرك عصر خير القرون من بعدهم ، وهم المعنيون بما ورد عند البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي (ص) قال : ( خَيْرُكُمْ قرني ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، قَالَ عِمْرَانُ : لاَ أَدْرِى أَذَكَرَ النبي (ص) بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ) ، رواه البخاري في الشهادات ، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد 2/938 (2508) ، وعند البخاري أيضا من رواية ابن مسعود أن النبي (ص) قال : ( خَيْرُ النَّاسِ قرني ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يجيء أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ ) ، وبصورة أكثر دقة يمكن القول : إن التعريف الاصطلاحي للسلفي هو من تحقق فيه عاملان ، أحدهما : عامل منهجي ، وهو كل من قدم النقل على العقل عند توهم التعارض ، والثاني : عامل زمني ، وهو كل من أدرك القرون الفاضلة أو عصر خير القرون ، والذي ينتهي تقريبا في المائتين والعشرين من الهجرة ؛ ويقابله أيضا مصطلح الخلف ، ويطلق أيضا على من تحقق فيه عاملان أيضا ، أحدهما : عامل منهجي وهو كل من قدم العقل على النقل أو قدم الرأي على الكتاب والسنة ، والثاني : عامل زمني وهو كل من أعقب القرون الفاضلة أو عصر خير القرون ، ويراد بهم من تبع نهج الجهمية من المعتزلة والمتكلمين ، يمكن الرجوع إلى تفصيل ذلك في كتابي المحكم والمتشابه وقضية التفويض ص9 ، ويمكن تحميله من موقع أسماء الله الحسنى .
ثانيا : منهج السلف الصالح في التوحيد في أبسط صوره أنهم كانوا يصدقون خبر الله ورسوله (ص) تصديقا جازما ، وينفذون الأمر تنفيذا كاملا ، بحيث تنسجم فطرتهم النقية مع دلالة النصوص القرآنية والنبوية ، هذا المبدأ أعني مبدأ تصديق الخبر وطاعة الأمر بعيدا عن الفلسفات العقلية والآراء الكلامية هو غاية من جاء بعدهم وسلك دربهم في مختلف العصور ، مهما تنوعت كلماته أو بدت اعتقاداته في تقسيم التوحيد .
ونحن لو نظرنا إلى هذا المبدأ بنظرة علمية تحليلية لوجدنا أنه يعبر عن العقيدة الإسلامية الصحيحة بأدق تفاصيلها ؛ فالمسلم بقوله : لا إله إلا الله ، قد عقد في نفسه عقدا أن يكون الله عز وجل هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب ويطاع في أمره دون عصيان ، وهذه حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان ، فمن المعلوم أن الكلام العربي قسمان :
الأول : الخبر ، وهو يتطلب من المخاطَب التصديق ، وقد عرفه العلماء بأنه ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب ، فالخبر هو الدال على أن مدلوله قد وقع قبل صدوره أو سيقع بعد صدوره .
الثاني : الأمر أو الطلب ، وهو يتطلب من المخاطَب الاستجابة والتنفيذ ، وقد عرفه العلماء بأنه ما لا يحتمل الصدق أو الكذب ، فمدلوله الإيجابي يحصل مع آخر حرف منه ، وهو التنفيذ والاستجابة على الفور أو التراخي بحسب مراد الآمر الناهي ، قال ابن هشام : ( التحقيق أن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط ، وأن الطلب من أقسام الإنشاء ، وأن مدلول قم حاصل عند التلفظ به ، لا يتأخر عنه ، وإنما يتأخر عنه الامتثال وهو خارج عن مدلول اللفظ ) ( ) .ويذكر البيهقي أن حقيقة الإيمان والتوحيد تكمن في تصديق الخبر وتنفيذ الأمر لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب ، والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصي ، فمن سمع خبرا واعتقد أنه حق وصدق فقد آمن به ، ومن سمع أمرا أو نهيا فاعتقد الطاعة له فكأنما آمن في نفسه به ( ) . وقد بين ابن القيم أن أساس التوحيد والهداية التي منَّ الله بها على عباده يقوم على تصديق خبر الله من غير اعتراض شبهة ، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة ، ثم يقول : ( وعلى هذين الأصلين مدار الإيمان ، وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر ) ( ) .
ولما كان الصحابة هم أهل الفصاحة واللسان ، وقد خاطبهم الله عز وجل بنوعي الكلام في القرآن كان منهجهم في مسائل التوحيد والإيمان هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر ، فلو أخبرهم الله عن شيء صدقوه تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن ، وهذا ما عرف لاحقا بعد السلف بتوحيد العلم والخبر ، أو توحيد المعرفة والإثبات ، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ، أو غير ذلك من مسميات واصطلاحات .
والصحابة أيضا لو أمرهم الله بشيء نفذوه بالقلب واللسان والجوارح ، وهو ما عرف لاحقا عند السلف بتوحيد العبادة ، أو توحيد الإلوهية ، أو توحيد القصد والطلب ، فغاية التوحيد العظمى وطريقة السلف المثلى التي جاهدوا المخالفين لإلزامهم بها ؛ أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه بتصديق خبره ، وأن يطيعوا الله فيما أمر به على لسان نبيه (ص) ، فالصحابة أجمعوا إجماعا سكوتيا دون مخالف أن يصدقوا خبر ربهم وبلاغ نبيهم ، وأن ينفذوا أمر معبودهم عن خضوع وتسليم ومحبة وتعظيم ، ولم يكن بينهم من دان بغير ذلك ، ومن شك في ذلك فما قدرهم حق قدرهم ، وما أدرك حقيقة إيمانهم وإسلامهم رضي الله عنهم أجمعين .
ونحن لو طالعنا نصوص القرآن والسنة جملة وتفصيلا لعلمنا أن أساس الرسالة يكمن في تصديق خبر الله وتنفيذ أمره ، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس أنه قال : ( لَمَّا نَزَلَتْ : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ، خَرَجَ رَسُولُ الله (ص) حتى صَعِدَ الصَّفَا ، فَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهْ ، فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) ( ) ؛ فالصحابة أجمعون صدقوه تصديقا جازما في كل ما أخبرهم عن الله ، أما المشركون فكذبوه حتى قال له عمه : ( تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا ثُمَّ قَامَ ، فَنَزَلَتْ : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] ) ( ) .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أبي هريرة أن النبي (ص) قال عن المسلم وهو يسأل في قبره : ( فَيُقَالُ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله (ص) جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ الله فَصَدَّقْنَاهُ .. فَيُقَالُ لَهُ .. عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ ، وَعَلَيْهِ مُتَّ ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ الله ) ( ) .
وهم كما صدقوا نبيهم في كل ما أخبرهم به عن ربه ؛ فإنهم أطاعوه أيضا في كل ما أمرهم به ، وكانوا يبايعونه على ذلك ، روى البخاري من حديث جرير بن عبد الله أنه قال : ( بَايَعْتُ النَّبِيَّ (ص) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فَلَقَّنَنِي فقال : فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ) ( ) ، وروى أيضا من حديث أبي هريرة في موقفه مع أهل الصفة لما أمره النبي (ص) بدعوتهم وإطعامهم وكان يتلوى من الجوع ، قال : ( فَسَاءَنِي ذَلِكَ .. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ الله وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (ص) بُدٌّ ) ( ) .
فهذا حال الصحابة وحال من سلك نهجهم ، وكل مسلم صادق نقي الفطرة من العامة والخاصة ، روى مالك في الموطأ من حديث ابن أبي مليكة أنه قال : ( مَرَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا : يَا أَمَةَ الله لا تُؤْذِي النَّاسَ لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ ؛ فَجَلَسَتْ ؟ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا : إِنَّ الذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ ؛ فَاخْرُجِي ، فَقَالَتْ : مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا ) ( ).
إذا علمنا ذلك فإن اعتقاد السلف في توحيد الأسماء والصفات هو تصديق الله في خبره ، وإثبات ما أثبته لنفسه ، وما أثبته رسوله (ص) من غير أن يقحموا عقولهم في مهالك التمثيل والتكييف ، أو يكلفوا أنفسهم تأويلا يؤدي إلى التعطيل والتحريف .
ولما ظهرت المعتزلة وهيمنت على الخلافة الإسلامية في الربع الأول من القرن الثالث الهجري ابتدعوا منهجا جديدا في التوحيد غير ما عرف بين الصحابة والتابعين وعلماء السلف الصالح ، فزعموا أن التوحيد هو إثبات الأسماء ونفي الصفات ، وأن إثبات الصفات تشبيه وتجسيم يؤدي إلى تعدد الآلهة ، أو كما زعموا يؤدي إلى تعدد القدماء ، وأن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا وصف ثم اكتسب الأسماء والأوصاف بعد أن لم تكن ؛ فهذه الأسماء والأوصاف من أقوال المسميين الواصفين المحدثين ، وقد ظهرت على إثر هذه الآراء مسألة غريبة حول الأسماء الحسنى ودلالتها على ذات الله ، هذه المسألة هي المعروفة بمسألة الاسم والمسمى ، هل الاسم هو عين المسمى أو هو غيره ؟
والسابقون من السلف كما تقدم لم يتكلموا فيها ، لكن اضطروا بعد ذلك إلى الحديث عنها لبيان الحق ودحض الشبهة ، قال أبو القاسم اللالكائي : ( وأما القول في الاسم أهو المسمى أو غير المسمى ؟ فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع ولا قول من إمام فيستمع ، والخوض فيه شين ، والصمت عنه زين ، وحسب امريء من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الصادق عز وجل ، وهو قوله : قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] ، وقوله : وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ، ويعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى ، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؛ فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر ) ( ) .
وقد تطلب الأمر من أهل العلم بعد أن ظهرت أصول المعتزلة بيان حقيقة التوحيد ورد الشبهات التي ابتدعوها وإظهار عوارهم فيها ( ) ، فمعنى قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم أثبتوا ذاتا لا صفة لها ، وجعلوا أسماء الله الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف أو أسماء بلا مسمى ، فقالوا : إن الله عليم بعلم هو ذاته ، سميع بسمع هو ذاته ، بصير ببصر هو ذاته ، أو هو عليم بلا علم ، سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر وهكذا جردوا سائر الأسماء عن الصفات ؛ فأساس مذهبهم نفي الصفات ، والعلة عندهم كما زعموا نفي التشبيه وإثبات التوحيد .
وهذا الكلام ظاهر البطلان وأساسه سوء الفهم لمعنى التوحيد ، وتخبطهم في إدراك القدر المشترك والقدر الفارق بين الأشياء ، فمن المعلوم أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق ، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل ، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل ( ) .
قال أبو عمر الطلمنكي : ( وقال قوم من المعتزلة والجمهية لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بالأسماء على الحقيقة ويسمى بها المخلوق ، فنفوا عن الله الحقائق من أسمائه وأثبتوها لخلقه ، فإذا سئلوا ما حملهم على هذا الزيغ ، قالوا : الاجتماع في التسمية يوجب التشبيه ، قلنا : هذا خروج عن اللغة التي خوطبنا بها ، لأن المعقول في اللغة أن الاشتباه لا يحصل بالتسمية ، وإنما بتشبيه الأشياء بأنفاسها وذواتها ، أو بأوصاف وهيئات فيها ، كالبياض بالبياض ، والسواد بالسواد ، والطويل بالطويل ، والقصير بالقصير ، ولو كانت الأسماء توجب اشتباهاً وتماثلاً لاشتبهت الأشياء كلها لشمول اسم الشيء لها ، وعموم تسمية الأشياء بها ) ( ) .
والقصد أن المعتزلة لما أحدثوا معان باطلة في التوحيد أدى ذلك بالسلف إلى أن يبينوا حقيقة التوحيد في الأسماء والصفات ، فكتب الإمام أبو حنيفة الفقه الأكبر وهو في الأسماء والصفا وكتب الإمام أحمد الرد على الزنادقة والجهمية وغيرهما الكثير والكثير .
ولو صدق أتباع الجهمية بخبر الله ورسوله (ص) على ظاهره الذي أراده الله ورسوله فقد وفقوا لمنهج السلف الصالح . فالمعروف بين الصحابة والتابعين مصطلح الإسلام والإيمان والإحسان ، وقد جاء جبريل عليه السلام إلي النبي (ص) ليعلمهم حقيقة هذه الاصطلاحات التي تمثل أركان الدين ، فمن حديث عُمَر قَال : ( بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ (ص) ذَاتَ يَوْمٍبْن الخَطَّابِ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَي عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّي جَلسَ إِلي النَّبِيِّ (ص) فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلي رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلي فَخِذَيْهِ وَقَال : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ (ص) : الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ (ص) ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا ، قَال : صَدَقْتَ قَال : فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ ؟ قَال : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَال : صَدَقْتَ ، قَال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ ؟ قَال : أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .. الحديث .
فالإسلام عرفه النبي (ص) بالأركان الخمسة والإيمان عرفه بالأركان الستة وجعل الإحسان رابطا بينهما ، بمعني أن يكون الإسلام الحق عن عقيدة وإيمان ، ولا يعني ذلك أن نوعي التوحيد لم يكونا معروفين بين الصحابة والتابعين ، فهم يعلمون أن الإسلام الذي ورد تعريفه في الحديث هو في حقيقته توحيد العبادة لله وإفراده بها ، فالإسلام هو الخضوع والاستسلام للمعبود علي وجه المحبة والتعظيم وهذا تعريف العبادة ، أما توحيد العبادة فظاهر من الشهادة التي هي أول ركن من أركان الإسلام ، فكلهم يعلم أن الإسلام لا يصح إلا بالتوحيد ، وأن توحيد العبادة لله هو الإسلام ، وهذا واضح في قوله تعالي : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين َ) وليس في معتقد السلف في توحيد الربوبية والأسماء والصفات سوي الإقرار بما جاء عن الله في الكتاب من إثبات ما أثبته سبحانه لنفسه وما أثبته رسوله من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف كانوا يضربون المثل الأعلي في تطبيق هذا المنهج علي أنفسهم وطريقتهم في، والصحابة الإيمان بربهم ، ومن سلك دربهم من المسلمين كان علي عقيدة السلف الخالصة في هذا النوع من التوحيد ، وقد تقدم في بيان علة تقسية التوحيد إلي نوعين أن ذلك كان رد فعل منهم علي المخالفين فنرجو قراءته جيدا .
ثالثا : تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع أو نوعين لا مشاحة فيه طالما أن الأمر محصلته في النهاية إلى تصديق الخبر على ظاهر النص ، وتنفيذ الأمر على وجه الكمال ، أما التقسيم العقلي المتبع حتى الآن من قبل المتكلمين فهو الذي يتطلب إعادة النظر ، فمن المؤسف أن الأشعرية اليوم يمثلون الأغلبية فى العالم الإسلامى ، ليس عن رغبة معتنقيه من أهل العلم فى هذا المذهب ، ولكن لكونه واقعا مفروضا فى المؤسسات التعليمية فى مرحلة التلقى والتعليم منذ الصغر ، فهذا المذهب الذى يطلق عليه معتنقوه مذهب أهل السنة ما زال مقررا فى المدارس والجامعات فى أغلب البلاد الإسلامية ، وطالب العلم يدخل منذ نعومة أظفاره إلى المدارس والمعاهد وهو خالى الذهن ، فيجد مقررا منفرا غريبا فى مادة التوحيد ، ويجد المدرسين يلقنونه ويحفظونه أنواعا من التوحيد مبنية على أدلة عقلية بعيدة عن الطريقة السلفية المعتمدة على الكتاب والسنة ، ويستمر الطالب فى دراسته حتى يصبح أستاذا جامعيا وهو يجهل حقيقة مذهب السلف .
ولو نوقش فى ذلك إما أن يستنكف عن الخضوع للحق لأنه أستاذ صاحب هيبة ومكانة ، وقبول الحق عنده يعنى إقراره بلوازم يصعب تصورها أو الالتزام بها ، وإما يزداد إصرارا على صدق الطريقة الأشعرية ويتمادى فى الدفاع عنها بحجج عقلية حتى يستحيل معه النقاش .
والحق يقال أن بعض من يقوم على التدريس للطلاب أو يلخص لهم بعض ما جاء فى المقررات أو الكتاب ، ربما يشعر بشئ من المسئولية عند فهمه للطريقة السلفية ، فينبه طلابه على أن ما يدرسونه يجب أن يكون للنجاح فى الامتحان وليس للاعتقاد والإيمان الذى يقابل به رب العزة والجلال يوم القيامة ، وقد رأيت ذلك بعينى فى الملخصات الخارجية التى تباع للطلاب مما أثلج صدرى وأثار فى نفسى العجب والاستغراب .
ويكفي أن يدرس للطلاب منهج السلف الصالح فى اعتقادهم المبني على الاستسلام لأمر الله وتنفيذه على وجه الكمال والتصديق بخبره وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله (ص) من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، فالله أعلم بنفسه ووصفه منا ونحن ما رأيناه وما رأينا له مثيلا فكيف نحكم عليه بعقولنا القاصرة ؟ . وليس هناك من خيار أمام من يدافع بإصرار عن استخدام عقله فى وصف ربه إلا أن يقع فى المحذور ويستخدم أقيسة التمثيل والشمول ، فيقول : لو كان الله كذا لكان كذا ، ويجب عليه كذا لأجل كذا ، ولو قلنا فى وصفه بكذا لكان كذا وكذا . وهو فى حقيقة مبدئه يعتبر ربه فردا من أفراد هذا القياس ينطبق عليه ما ينطبق على سائر الناس ، ولذلك كان مذهب السلف فى التوحيد قطع الطريق على هؤلاء بمنع الأقيسة العقلية المبنية على اجتهادات فكرية فى التعرف على الغيبيات أو كيفية الذات والصفات ، سواء كانت أقيسة تمثيلية أو شمولية ، وقد تقدم ذلك فى ذكر العناصر الأساسية لمذهب السلف الصالح فى توحيد الصفات . لكن إصرار المتكلمين الأشعرية على استخدام حصيلتهم العقلية فى وصف الله وأن هذا عندهم هو مذهب أهل السنة والجماعة أداهم إلى أن يقسموا التوحيد إلى ثلاثة أنواع أساسية :
1- أن الله واحد فى ذاته لا قسيم له .
2- أن الله واحد فى صفاته لا شبيه له .
3- أن الله واحد فى أفعاله لا شريك له .
والسؤال الذى يطرح نفسه على العقلاء : على أى أساس عقلى قسم هؤلاء التوحيد إلى ثلاثة أنواع ؟ هل استندوا إلى حكم العقل بأن الله أعلم بنفسه ووصفه منا فجاء هذا التقسيم مستندا على كتاب ربهم وسنة نبيهم ؟ أو أنهم استندوا إلى عقول الصحابة والتابعين وأئمة السنة المقبولين عند جميع المسلمين أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وغيرهم ؟ فى الحقيقة أنهم لم يستندوا فى تقسيمهم للتوحيد لا إلى هذا ولا إلى ذاك وإنما جعلوا الأمر مشاعا عقليا لكل من يدلى بدلوه فى الموضوع فأشبه الأمر استفتاءا شعبيا واستبيانا فكريا لسائر العقلاء كان مضمونه :
أيها العقلاء الذين لم تروا ربكم ولم تروا له مثيلا ، خمنوا وبينوا لنا ما يجب فى حق الله وما يجوز له وما يستحيل عليه ، وسنأخذ فى النتيجة النهائية برأى الأغلبية ، لأننا نعلم أنه من المستحيل اتفاق الكل على استفتاء عادى فضلا عن استفتاء فكرى ولكن سنعتبر رأى الأغلبية أصولا عقلية ، ثم نعتبرها بعد ذلك أصولا لديننا وعقيدتنا . فقبلت مجموعة كبيرة من كبار المتكلمين العقلاء المشاركة فى هذا الاستفتاء ثم خرج بعضهم بنتيجة غريبة لا يعرف فيها مقياس لفرز الآراء ولا عدد الذين اتفقوا عليها من ذوى الأصوات الصحيحة ، لكن المهم أن رأيا عاما ظهر فى هذه النتيجة ، ونسبوه إلى زعيم من الزعماء يسمى بأبى الحسن الأشعرى ، ظنوا أنه شارك معهم فى هذا الاستفتاء ، والواقع أنه لم يكن معهم أصلا فى ظهور هذه الآراء ، لكنهم على كل حال توصلوا إلى هذه النتيجه واعتبروا أنها تمثل الدستور الحق فى باب الاعتقاد ، وأن من دان بها فهو من أهل الحق وأهل السنة والجماعة ، فكان من بنود هذا الاتفاق تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع بناء على الحيثيات التالية :
النوع الأول : أن الله واحد فى ذاته لا ينقسم ، وليس له أجزاء وأبعاض لأنه إن كان له أجزاء لم يخل إما أن يكون كل جزء منه حيا عالما قادرا أو كان بعض الأجزاء مختصا بالحياة والعلم والقدرة ، فإن كان كل جزء منه حيا عالما قادرا ، كان في ذلك إثبات آلهة متعددة ويستدل على بطلانه ، وإن كانت الحياة والقدرة والعلم في جزء مخصوص لم يكن الجزء الثاني حيا عالما قادرا لاستحالة وجود العلة في محل وثبوت حكمها في محل آخر . (لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ص 98 )
النوع الثانى : أن الله واحد فى صفاته لا شبيه له ، لأنه يخالف الحوادث والحوادث لا تقوم به ، والدليل على استحالة قيام الحوادث بذات الباري تعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها ومن لم يخل عن الحوادث حادث ، فالرب متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة ، لا تحيط به الأقطار ويجل عن قبول الحد والمقدار ، والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، ويرتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان وملاقاة أجرام وأجسام .
النوع الثالث : أن الله واحد فى أفعاله لا شريك له والدليل على وحدانية الإله ، دليل التمانع وفحواه كما تقدم أننا لو قدرنا إلهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين ، وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين وإرادة الثاني للثاني ، فلا يخلو من أمور ثلاثة ، إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر ، والنتيجة النهائية تنفيذ إرادة واحد فقط هو الإله القادر على تحصيل ما يشاء .
كما ظهرت بنود أخرى كثيرة ضمن هذا الاستفتاء تضاف إلى تقسيم التوحيد عند الأشعرية منها :
1ــ أن أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وإثبات العلم بالصانع ، والدليل عليه إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى ، وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم ولا الصانع إلا بالنظر والتأمل وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب .
2ــ يجب فى حق الله القدم والبقاء والقيام بالنفس ونفى التركيب وهى صفات سلبية ، وله سبع صفات نفسية فهو بذاته مريد بإرادة عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام ، وهذه كلها معان وجودية أزلية . وقد ثبتت له هذه المعانى بناء على ما جاء فى النتائج العقلية التى أختارها أغلب المتكلمين ، أن الفعل الحادث يدل على القدرة ، والتخصيص يدل على الإرادة ، والإتقان يدل على العلم وهذه الثلاثة لا تكون إلا فى حى ، والحى لا بد أن يكون سميعا بصيرا متكلما .
3 ــ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى وردت فى الصفات الخبرية موهمة للتشبيه والجسمية وظاهرها باطل غير مراد ، فإما أن تؤول وإما أنها من أخبار الآحاد التى لا تفيد اليقين فى أمور الاعتقاد .
هذا أغلب الآراء التى نتجت عن هذا الاستفتاء من قبل عقلاء المتكلمين من الأشعرية وغيرهم ، وقد اعتبروها أصول الدين والفيصل المبين فى النظر إلى كتاب الله وسنة رسوله S ، فما وافق تلك الأصول من النصوص والآيات فهو دليل لهم ، يقدمونه فقط عند الكتابة فى المؤلفات أو عند المحاجة فى المخاصمات والمناظرات حتى يشعر المخاطب أنهم يعتمدون على نصوص الوحى فى إثبات الصفات والاعتقادات ، وما خالف أصولهم وتقسيمهم للتوحيد فينبغى التعامل معها بأى وسيلة وأن يبذل لها المرء كل حيلة ، بادعاء مجاز أو تأويل أو تهوين وتعطيل أو تقبيحها فى نفس السامع حتى تبدو ضربا المستحيل ، المهم أن يقر بأن ظهارها الذى ورد فى التنزيل باطل ومستحيل ويجب صرفه إلى شئ آخر .
الرد على الأشعرية فى تقسيم التوحيد .
قول الأشعرية فى التوحيد إن الله واحد فى ذاته لا قسيم له ، وواحد فى صفاته لا شبيه له ، وواحد فى أفعاله لا شريك له ، فيه ما يوافق ما جاء به الرسول S وفيه ما يخالفه ، وليس الحق الذي فيه هو الغاية التي جاء بها الرسول S ، بل التوحيد الذي أُمِرَ به أَمْرٌ يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى .
فهذا الكلام ضرب من التلبيس والتدليس الذى اختلط فيه الحق بالباطل لأن الإنسان لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه ، وأقر بأنه وحده خالق كل شىء ، لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله ، ويقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له .
فإنهم إذا قالوا : واحد فى ذاته لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له ، فهذا اللفظ وإن كانت نيتهم تحمل معنى صحيحا ، فإن الله ليس كمثله شيء فى ذاته أو صفاته أو أفعاله ، وهو سبحانه منزه عن تفرق ذاته أو فسادها أو تحولها إلى ذات أخرى ، بل هو أحد صمد ، والصمد هو الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده .
لكنهم يدرجون تحت هذا التوحيد المزعوم وتحت شعار أنه لا ينقسم نفي علو الله على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفى ما ينفونه من صفاته ، ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما مشابها للحوادث (1) .
يقول الرازى وهو من أعمدة المذهب الأشعرى فى نفى علو الله على خلقه وتعطيل استوائه على عرشه : (( لو كان الله مختصا بالمكان لكان الجانب الذى فى يمينه يلى ما على يساره ، فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا فى الحقيقة ، فيبطل قوله : ( قل هو الله أحد )) (1) .
وهم لما نفوا الاستواء وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين ، فالله يقول صراحة هو على العرش وهم يقولون صراحة ليس على العرش ، فما المخرج من هذه الورطة التى وضعوا أنفسهم فيها ؟ والجواب فى قول أحدهم : ( لو سئلنا عن قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ، ومنه قول الشاعر : قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق )) (1) . وهذا الشاعر هو الأخطل النصرانى الحاقد على الإسلام والمسلمين ، قال ابن كثير فى التعقيب على هذا البيت : (( هذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس فى بيت هذا النصرانى حجة ولا دليل على ذلك ، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه ، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصرانى المقبوح )) انظر البداية والنهاية 9/295 .
والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت على نفى الاستواء وتفسيره بالاستيلاء أقوى من قوة الاحتجاج بكلام الله على إثباته ، مع أن الأخطل النصرانى المشرك هو القائل فى شعره مستهزءا بالصلاة والصيام والأضاحى :
ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحى
ولست بزائر بيتا بعيدا : بمكة ابتغى فيه صلاحى
ولست بقائم كالعير أدعو : قبيل الصبح حى على الفلاح
فتفسيره بالاستيلاء تحريف للكلم عن مواضعه فى ثوب التأويل ، فالتأويل يقبل إن كان بدليل صحيح ، لكن العرب لا تعرف أبدا استوى بمعنى استولى ، بل إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب .
روى الحسن بن محمد الطبري عن أبي عبد الله نفطويه النحوي ، قال أخبرني أبو سليمان ، قال : ( كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر ، فقال الرجل : إنما معنى استوى استولى ، فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل قد استولى عليه ، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر )) (1) .
وقال أبو سليمان الخطابى وهو من أئمة اللغة : (( وزعم بعضهم أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقــدرته بكل شئ وكل بقعة من السمـاوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟!
ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشئ ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه فأى منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ! )) (1) .
فتصنيف التوحيد عند الأشعرية على معنى أن الله واحد لا ينقسم وأن الواحد هو المجرد عن الصفات تحميل للفظ الواحد ما لا يحتمل ، وهو ضرب من التحريف ، ومعلوم أن كل تأويل لا يحتمله اللفظ فى أصل وضعه وكما جرت به عـادة الخطـاب بين العرب هو نوع من التزوير والتدليس والخلط والتلبيس الذي يضيع ثوابت القول وقواعد الكلم ، فأهل العلم يعلمون أن إثبات الاستواء والنزول والوجه واليد والقبض والبسط وسائر صفات الذات والفعل لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا ولا انقساما ولا تمثيلا ، وكان أولى بالصحابة والتابعين وهم أئمة اللغة وأسياد الفهم أن يعترض واحد منهم على الأقل ويقول : كيف نؤمن بهذه الصفات التى تدل على التركيب والانقسام فى الذات ؟ ولكن الصحابة والتابعين خيبوا رجاء الأشعرية .
كما أن الكلام في المصطلحات التى أحدثوها كالجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك معاونة على نشر البدع ، لأن هذه الألفاظ المبتدعة يدخلون في مسماها الذي ينفونه أمورا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله S ، فيقولون : إن الله لا يتكلم بصوت يسمع وإلا كان محلا للحوادث ، فكلامه عندهم معنى واحد وإشارات مجملة يفهمها جبريل ثم يعبر عنها بلغة الرسل ، فإذا عبر عنها بالعربية كان الكلام قرآنا ، وإن عبر عنها بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنها بالسريانية كان إنجيلا. وهم فى الحقيقة يفررن ـ على ظنهم ـ من تشبيه بالمتكلم السوى إلى تشبيه بالأخرس العاجز ، فينسب الكمال فى القول إلى جبريل ويسلبه عن رب جبريل .
وبهذه المصطلحات أيضا نفت المعتزلة رؤية الله فى الآخرة لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة يكون جسما ، ثم يقولون : والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته ، وقالت الأشعرية قولا أعجب وأغرب من قول المعتزلة فى النفى ، فقالوا : عن الله يرى لا فى جهة ، لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته ، ولا ندرى كيف يفهم مثل هذا الكلام .
وهذه الألفظ المجملة التى ابتدعوها وأحدثوها كالجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث ، ينبغى للسلفى أن يفصل فيها ويقول : ما تريدون بهذه الألفاظ ، فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن والسنة قبلت وإن فسروها بخلاف ذلك ردت ، أو يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا ، ولا عليه إن امتنع عن التكلم بها معهم ونسبونه إلى العجز والانقطاع ، لأنه إن تكلم بها معهم دون تفصيل نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا ، وأوهموا الجهال بموافقته لهم على اصطلاحهم وحينئذ تتخلف المصلحة فى بيان الحق .
والواجب والأولى أن يقال : ائتونا بآية من كتاب الله أو حديث من سنة رسوله S حتى نجيبكم إلى هذه الاصطلاحات المحدثة ، وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة ، فلا يفصل فى النزاع بين الناس إلا كتاب وسنة ، أما العقول فكل واحد منهم له عقل يختلف عن الآخر ، وهم أنفسهم مختلفون متنازعون فى أحكام العقل ، فما يدعيه أحدهم أن العقل أداه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر ، فلهذا لا يجوز أن يكون الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة ، وبهذا ناظر الإمام أحمد أبناء الجهمية لما دعوه إلى المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم (1) .
قال ابن أبى العز الحنفى : (( والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق ومن ذلك مخالفتها الكتاب والسنة ، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم ، ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال ، وانتشر القيل والقال وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال ))
والقصد أن التوحيد عند السلف أطلقت عليه عدة اصطلاحات وقسمه السلف إلى عدة تقسيمات تعبر عن التطورات التى مرت بها هذا العلم من خلال الفعل رد الفعل ، وسواء قسموه إلى نوعين أو إلى ثلاثة أنواع فإن منهجهم واحد ومعروف فى عصر السلف وبعده ؟ وهو تنفيذ أمر الله على وجه الكمال وتصديق خبر الله على وجه اليقين .
والإنسان يجب أن يتنزه عن الهوى ويخلص نفسه من التعصب أو غير ذلك مما يقف حاجزا بينه وبين إدراك الحقيقة المنشودة ، وإخلاص النية وصدقها أو ابتغاء الحق وحده عند البحث فى القرآن أمر نفسى خلقى وليس أمرا فكريا منهجيا ، ولكن الإنسان وحدة واحدة وأجهزته تعمل جميعا حين يقوم بأعلى الأعمال وأدناها ، والفصل بين أجهزته وملكاته فى النشاط الإنسانى سبيل خاطئ ، ومن ثم لا يصح أن نتجاهل أجهزة الأدراك البشرية عند تفسير النشاط الخلقى .
فمن يقبل على القرآن وفى نفسه ابتغاء الحق وحده يهديه الله إليه ويفتح له كنوز معرفته بقدر نيته وتقواه كما قال تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) .
ومن يقبل عليه وفى صدره حاجة أخرى ، كالبحث عن تناقضات وهمية أو تدعيم لآرائه الشخصية أو تبرير لشبهاته الشيطانية أو شهواته البهيمية فالنتيجة الحتمية أنه سيسلك مسلك اليهود فى جعل القرآن عضين .
وليس فى مقدور القواعد المنهجية والأساليب الفكرية أو غيرها إلزام أحد باختيار الخير دون الشر أو العكس ، لكن التجرد لله بغية معرفة الحق عند البحث فى القرآن أول القواعد وأحقها بالالتزام وأجدرها جميعا بالتمسك والاعتصام ، فالعمل الذى لا تسبقه النية الواضحة الخالصة لله لا يقبله الله والبحث فى القرآن الكريم عبادة من أجل العبادات ، لكن لا بد فيها من الإخلاص والمتابعة كشرط لقبولها .
وينبغى لطلاب العلم أن يعلموا أن أفهام الناس فى الدين ليست من الدين وكلام العلماء حول العقيدة ليس جزءا من العقيدة ، ومن الخطأ العظيم محاكمة الدين والعقيدة إلى فكر الناس وأفهامهم لأنها جهد بشر يقبل الخطأ ويحتمل النقد ، أما الأصول الدينية القرآنية والنبوية فإنها وحى السماء ورسالة الأنبياء وهم معصومون فى البلاغ عن الله .
ولذلك فإن أغلب الذين ضيعوا أعمارهم وأفنوا أعمالهم فى تقنين المذهب الأشعرى وأصوله أعلنوا قبل موتهم حيرتهم وتوبتهم وأعلنوا ندمهم على ما أسلفوا ، فهذا الإمام الإمام فخر الدين الرازي في آخر كتابه أقسام اللذات الذي صنفه في آخر عمره قال : (( يا ليتنا بقينا على العدم الأول ، وليتنا ما شهدنا هذا العالم ، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن ، ثم قال :
نهاية أقدام العقول عقال : وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا : وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا : سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة : فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها : رجال فزالوا والجبال جبال
ثم قال : اعلم أنه بعد التوغل في هذه المضائق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق ، رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين ، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل ، لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن .
اقرأ في الإثبات : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (1) ، إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (2) ، واقرأ في النفي : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (3) ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا (4) ، وقال : هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا (5) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )).