بقلم الدكتور أحمد العبادي (جامعة القاضي عياض مراكش)

بنائية القرآن المجيد:
إن من أنفس ما اهتدى إليه العقل البشري عبر قرون متتالية من الكدح والمكابدة في المجال المعرفي ، هو مفهوم المنهج ( Mèthode) الذي هو عبارة عن آليات متضافرة للكشف عن الحقائق المعرفية المختلفة في مجالاتها المتعددة والمتنوعة ، والمنهج ينصبغ بصبغة المجال الذي يُعمل فيه . وقد أدى المنهج إلى بروز مفهوم أدق ، وهو مفهوم المنهجية (Méthodologie) والتي هي عبارة عن إطار مرجعي لأفكار ينتظمها ناظم موحد ..
ولم يهتد العقل البشري إلى المنهجية في المجال الكوني إلا بعد أن اكتشف أن الظواهر الكونية موحدة عضويا ، انطلاقا من بنائية الكون ووحدته العضوية .. وقد عدت هذا المفهوم إلى المجالات الاجتماعية والإنسانية مجموعة من المدارس .
وفي مقابل بنائية الكون ، التي أطلق اكتشافها إمكان البحث المنهاجي الذي فجر كل هذه العطاءات المعرفية والمادية التي نشهدها اليوم ، فقد منّ الله سبحانه بأن أقر بين ظهرانينا القرآن ترتيلا . وهذا الوحدة العضوية في القرآن المجيد ، والتي تشكل أحد أهم وجوه الإعجاز فيه ، تفتح المجال أمام القراءة المنهجية للآيات / البصائر صعدا نحو مآلات معرفية لا حصر لها .
ولطالما دندن علماؤنا حول بنائية القرآن تحت عناوين مختلفة ، فتارة سموها النظم ، وتارة سموها الترتيب ، وأخرى سموها الاتساق ، أو المعمارية أو البنائية مباشرة .
الإمام عبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم:
قال الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في معرض حديثه عن سر إعجاز القرآن معبرا عن وعيه المبكر ببنائية القرآن :
" أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه ، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها ، ومجاري ألفاظها ومواقعها ، وفي مضرب كل مثل ، ومساق كل خير ، وصورة كل عظة وتنبيه ، وإعلام وتذكير ، وترغيب وترهيب ، ومع كل حجة وبرهان ، وصفة وتبيان .
وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة ، وعُشراً عشراً ، وآية آية ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ، ولفظة ينكر شأنها ، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه ، أو أحرى وأخلق ، بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز الجمهور، ونظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم – ولو حك بيافوخه السماء – موضع طمع ، حتى خرست الألسن عن أن تقول ، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول .." .
ونظرية النظم عند هذا الإمام في عمومها كلها تؤدي هذا المؤدى .
وهو يعبر عن ذلك بجلاء حين قوله : " وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة ، إن لم يقدم فيه ما قدم ، ولم يؤخر ما أخر ، وبدئ بالذي ثني به ، وثني بالذي ثلث به ، لم تحصل تلك الصورة وتلك الصفة . فينبغي أن تنظر في الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة" .
وقد انتبه إلى بنائية القرآن المجيد طائفة من العلماء الأفذاذ الآخرين ،ذكر طرفا منهم الإمام برهان الدين البقاعي رحمه الله في كتابه النفيس "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" حيث قال في معرض حديثه عن ترتيب أجزائه:" … وطالعت على ذلك كتاب العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي الأندلسي . "المعلم بالبرهان في ترتيب سور القرآن" وهو لبيان مناسبة تعقيب السورة بالسورة فقط ، لا يتعرض فيه للآيات … ثم ظفرت بكتاب الإمام بدر الدين الزركشي المصري الشافعي ، سماه : " البرهان في علوم القرآن "، فرأيته ذكر فيه ما يعرّف بمقدار كتابي هذا ، فقال في النوع الثاني منه : ( وهو في المناسبة وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته ، وممن أكثر منه : الإمام فخر الدين ، وقال في تفسيره : أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط . وقال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المهتدين : ارتباط آية القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة : متسقة المعاني ، منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد ...
ثم فتح الله عز وجل لنا فيه ، فلما لم نجد له حملة ، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ، ختمنا عليه ، وجعلناه بيننا وبين الله ، ورددناه إليه ) " .
ولابن حزم الأندلسي رحمه الله كلام أشبه ما يكون بكلام ابن العربي ، حيث قال عن مصدر الشريعة أنه » كلفظ واحد وخبر واحد موصول بعضه ببعض ، ومضاف بعضه إلى بعض ، ومبني بعضه على بعض « .
ونقل البقاعي عن الزركشي قوله : » قال بعض مشايخنا المحققين : قد وهم من قال : لا يطلب للآي الكريم مناسبة ، لأنها حسب الوقائع المتفرقة ، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا ، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوفيق ، ما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البيّن أسلوبه ونظمه الباهر ، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها ، أو مستقلة، ثم المستقلة : ما وجه مناسبتها لما قبلها ؟ ففي ذلك علم جم . « وقال رحمه الله : » لا وقف تام في كتاب الله ، ولا على آخر سورة  قل أعوذ برب الناس ، بل هي متصلة – كونها آخر القرآن – بالفاتحة التي هي أوله ، كاتصالها بما قبلها ، بل هي أشد « .
وللإمام الشاطبي رحمه الله في موافقاته إشارات مشرقة إلى بنائية القرآن المجيد ، ووجوب رد بعضه إلى بعض ، من ذلك قوله رحمه الله :» والقول في ذلك ، والله المستعان، أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ، فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم ، والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها. فإن القضية – وإن اشتملت على جمل- فبعضها متعلق بالبعض ، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد . وإذ ذاك يحصل مقصد الشارع في فهم المكلف ، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده« .
ويضرب لذلك أمثلة بعدد من سور القرآن . وقال رحمه الله :
» وهل للقرآن مأخ‍‍‍د في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد لا بحسبه في نفسه ؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد ، لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار … وذلك أنه يبين بعضه بعضا ، حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضوع آخر أو سورة أخرى ، ولأن كل منصوص فيه من أنواع الضرورات – مثلا- مقيد بالحاجات ، فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم . فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد ، فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار« .
ومن أعزم وأجلى ما كتب حول بنائية القرآن تلك الورقات الوضيئة التي كتبها د. محمد عبد الله دراز في كتابه القيم "النبأ العظيم " وسوف نجتزئ منها بفقرات نرى فيها تعبيرا واضحا عن إدراكه العميق لهذه البنائية ، محيلين على باقيها ليراجع في موضعه ، يقول رحمه الله : » قدر في نفسك أن رجلا نزل واديا فسيحا ليس عليه بنيان قائم ، وليس به شيء من مواد البناء ولا أنقاضه ، فما لبث أن أحس برجفة أرضية أو عاصفة سماوية ، وإذا قمة الجبل تنصدع قليلا فتلقي بجانبه صخرا أو بضعة صخور . ثم تمضي فترة طويلة أو قصيرة ، وإذا هزة ثانية تلقي إليه شظيات من الحديد والحمم أو نثارات من الفضة والذهب ... أترى هذا الرجل ، أو أن أحدا من العقلاء يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة التخطيط والبنيان ؟ … فما يدريه .. لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى ، ثم ما يدريه إن عادت ، كم مرة تعود ؟ وما نوع المادة التي تتساقط معها كل مرة ، وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد ، وكم عدد الأبنية التي يمكن إقامتها منها ؟ وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء سعة وارتفاعا ، ونقشا وزخرفا ؟ وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الأبنية جملة ؟
في هذا الجو المملوء غموضا وإبهاما لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير ، فضلا عن بلد كبير ، فضلا عن أن يهب من فوره لإنفاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إليه تلك اللبنات الأولى !
ولئن افترضت إنسانا غامر هذه المغامرة ، وأن المقادير سارعت في هواه ، وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه ، أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى ، فيتخذ له في البناء أسلوبا يراغم به قانون الطبيعة ، بأن يؤلي على نفسه ألا يدع لبنة تصل إلى يديه إلا أنزلها – في ساعة وصولها – منزلها الخليق بها حيث كان ؟ ذلك على حين أن تلك اللبنات لم تتساقط إليه متجانسة مرتبة على ترتيبها في وضعها المنتظر ، بل جعلت تتناثر خفافا وثقالا مختلفا ألوانها وأحجامها، وعناصرها وطاقاتها ، وربما وقعت له الزخارف والشرفات ، قبل أن تقع له بعض القواعد والساقات، وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متنائية ، أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين ، لم يجد مناصا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة ، فيقارب بينها طورا ، ويباعد طورا ، ويعلو بها تارة ، وينـزل تارة أخرى ، حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله ، ويمسك المحمول معلقا بدون حامله !
كيف يطيق بشر – كائنا من كان – أن يضطلع بهذه المهمة ؟ ثم كيف يمضي قدما في هذا الأمر إلى نهايته ، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله فيه أول مرة، أو ليلتجئ فيه إلى كسر أو نحت أو حشو أو دعامة ؟ ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهج ، يرفع يده عن مدينة منسقة ، ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير ، إلا وقد نزل منـزلة الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن ، حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البنيان أو ساء النظام ؟ أليس ذلك إن وقع يكون تحديا لقدرة البشرية جمعاء ؟ ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا ، وإليك البيان :
(أما) الرجل فهو هذا النبي الأمي .
(وأما ) المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها الأولى فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى ان سيكون له منها ديوان تام جامع .
(وأما ) تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معدن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة ، فتلك الأحداث الكونية الاجتماعية ، والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنا بعد آن في شؤونهم العامة والخاصة ، فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيا ومسترشدا ، والمكذب مستشكلا ومجادلا ، وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجما نجما ، بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث ، وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة ، وعلى طرق تتنوع لينا وشدة ، ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتآلف تلك المجاميع المسماة بالسور ... « .
وقد أوردت هذا النص – على طوله – لنفاسته وملاءمته الكلية لسياق الكلام عن البنائية ، فلم أرد أن أثلمه بأي نوع من أنواع التصرف .. ويقول رحمه الله :
» فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تزيلها … فرأيتها وقد أعد لكل نجم منها ساعة نزوله سياج خاص يأوي إليه سابقا أو لاحقا ، وحدد له مكان معين داخل السياج متقدما أو متأخرا ، إذن لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري أن هناك خطة تفصيلية شاملة قد رسمت فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها ، بل من قبل أن تخلق أسبابها . وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم : فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها ، وما من نجم جعل في مكان ما من السورة آخراً ثم وجد عنه أبدا الدهر مصرفا ومحولا ..« .
ويقول رحمه الله :
» أقبل بنفسك على تدبر هذا النظم لتعرف بأي يد وضع بنيانه ، وعلى أي عين صنع نظامه ... ولسوف تحسب أن السبع الطوال من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة ، حتى يحدثك التاريخ أن كلها أو جلها قد نزلت نجوما. أو لتقولن إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق ، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع ، كمثل بنيان كان قائما على قواعده ، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته ، ثم فرق أنقاضا ، فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم ، وإذا البينان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة « .
ثم قال رحمه الله :
» ولماذا نقول إن هذه المعاني تنتسق كما تنتسق الحجرات في البنيان ؟ لا ، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان ، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضوعي من أنفسهما ، كما يلتقي العظمان عند المفصل ، ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب ، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب … كما يأخذ الجسم قواما واحدا ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد ، مع اختلاف وظائفه العضوية « .
وتقول د. منى أبو الفضل :
» ومن ثم فإن القرآن ليس تجميعا لنصوص محفوظة ، وإنما هو جمع آيات التحمت عبر لحظات متدافعة في مواقع متجددة وبأغراض توجيهية معلومة، سواء كان هذا التوجيه بالإعمال أو بالإبطال ،بالدعم والتثبيت أو بالتقويم والتصويب . وإذا ما انقضت المناسبات والملابسات ، بقيت هذه الآيات لا بمثابة الذكرى التي تسجل واقعة انقضت ، وليس كمحفظة تاريخية أو بيان توثيقي ، وإنما بقيت هذه الآيات تحتفظ بكامل فعاليتها التوجيهية النافذة عبر الزمان والمكان ، بالنسبة لكل موقف إنساني ، اجتماعيا كان أو تاريخيا ، يحتوي على عناصر الموقف الأساسي الذي كان سببا في النزول . ولأن المواقف التي تتخلل حياة الأفراد والجماعات والأمم لا تخلو من عناصر تلازمها ملازمة الفطرة للإنسان، فلا عجب أن ظل البيان القرآني ينبض حيوية وتفعيلا بوصفه تنزيلا من لدن عليم خبير ، خالق الإنسان ، معلمه البيان ، مدبر ومهيء الأسباب « .

أهمية بنائية القرآن المجيد في المجال المعرفي

إن القرآن المجيد في اتساق وحدته البنائية يحقق للبشرية وحدة معرفية تلملم شتات الإنسان المعرفي ، وتوحد بين زوايا إدراكه ، مما يشبه إكسابه جهاز تنسيق معرفي يمكنه من الخروج من التفرع الإدراكي ومرحلة الشركاء المتشاكسين إلى صيرورته سلما لله رب العالمين فيطفق في السير سوياً على صراط مستقيم وقد تنبهت د. منى أبو الفضل بلوذعية إلى هذه الحقيقة فقالت في معرض حديثها عن حيوية الخطاب القرآني :
» إن هذه الحيوية إنما ترجع في جانب منها إلى الإعجاز البياني في الأسلوب القرآني في الخطاب؛ والذي يجمع بين خطاب النفس الإنسانية في أبعادها الفطرية والوجدانية وخطاب العقل في أبعاده المنطقية والبرهانية . ومناط الإعجاز هنا هو في تجاوزه للقوانين النفسية التي بمقتضاها نرى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل ، وبنسب عكسية نحو تضافر وائتلاف بينهما … والدلالية العملية لذلك في مجال بحثنا هو أن الأصول المنهجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي لا بد أن تعتبر بهذا المعنى في أسلوب البيان القرآني ، فإذا كان هناك موضوع للتمييز بين تنوع جوانب ومصادر السلوك الإنساني والسلوكيات في المجتمع ، فإن علينا أن نتعامل مع الإنسان في وحدته المتضمنة لأبعاده المتنوعة ، وأن تنطلق مناهجنا في التعامل مع الظواهر الاجتماعية من تلك القاعدة التي توفر لها أوسع قدر من التكامل الممكن وسعة الأفق . والوجه الآخر لهذه الملاحظة أن علينا أن نتعامل بكثير من التحفظ مع المناهج المتداولة في مجال التخصص ، ليس فقط للاعتبار الجوهري الذي يحكم منحاها جميعا ، والذي ينشأ عن المنطلقات الفلسفية المعرفية التي تقوم عليها ، مما يتنافى مع الأصول المعرفية الإسلامية ، ولكن لأنها لا محالة واقعة بين مثالب الإفراط والتفريط ، على النحو الذي من شأنه أن ينعكس في كل من طبيعة ونتيجة الدراسات التي ترتكز إليها . وأول ما نستفيده من التعامل مع أسلوب البيان القرآني هو ضرورة اتساق الأصول المعرفية ومحتوى الرسالة مع الأصول المنهجية أو طرق الاقتراب والتناول لها. بل إننا نرى أنه من شأن تمايز الخطاب القرآني على هذا النحو الذي يؤلف فيه بين متنافرات أن يوجد نسقا إسلاميا خاصا في المعرفة ، قوامه الوحدة والاتساق ، وإمكانات التأليف بين المتباينات . وهذا على خلاف النسق السائد في المجال المعرفي المعاصر والذي هو وليد وميراث التطور التاريخي الخاص بالحضارة الأوربية في أبعادها الفكرية والروحية والواقعية« .
بين علوم التسخير وعلوم التيسير
أولا : علوم التسخير وعلاقتها بالوحدة البنائية للكون :
1) مفهوم التسخير :
قال الزبيدي: » والتسخير: التذليل، وسفن سواخر موخر من ذلك. وكل ما ذل وانقاد أو تهيأ لك على ما تريد ، فقد سخّر لك . وسخره تسخيرا : ذله وكلفه عملا بلا أجرة ... قال الله تعالى:  وسخر لكم الشمس والقمر  [ إبراهيم، 33] وقوله تعالى :  والنجوم مسخرات بأمره  [ الأعراف ، 54] قال الأزهري : جاريا جاريهن« وتسخير الخليقة للإنسان عام .. يقول تعالى :  وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه  [ الجاثية ، 13 ] وهو تسخير مؤقت :  ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين  [ البقرة ، 35 ]  إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين  [ يس ، 43] فالوحي الذي تتسخر بمقتضاه الكائنات للإنسان وحي مؤقت سوف ينسخ بوحي آخر،وإلى ذلك الإشارة في سورة الزلزلة ، إذ يقول تعالى :  إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها . يومئذ تحدث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها  [الزلزلة ، 1-5] قال القرطبي : » أوحى لها : أمرها ،قال مجاهد ... قيل : المعنى تكون الزلزلة . « قال محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير": » وأطلق الوحي على أمر التكوين ، أي : أوجد فيها أسباب إخراج أثقالها ، فكأنه أسر إليها بكلام « . وهو قوله تعالى من سورة الانشقاق :  وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت  [ الانشقاق ، 3-5 ] قال القرطبي : » ألقت ما فيها وتخلت « ألقت ما استودعت وتخلت عما استحفظت . فهو وحي جديد بالتخلي نسخ الوحي السابق بالتسخر :  يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار  [إبراهيم ، 50 ]، قال القرطبي بعد أن ساق جملة من الأحاديث التي تذكر تبدل الأرض والسماوات : » فهذه الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل « قال محمد الطاهر بن عاشور: «وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة: إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا ، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي . وحاصل المعنى: استبدال عالم جديد بالعالم الموجود « . وهذا هو ما سوف نصطلح عليه بالمؤقتية فيما سوف يلي من هذا البحث.
وثمة خصيصة أخرى تعتبر من مقتضيات التسخير الأساس ، وهي خصيصة المواءمة بين الإنسان وبين الكون فـ «هناك تناسق ذاتي بين مفردات الخليقة والانتفاع الإنساني، فالحاجات الإنسانية جزء من بناء الخليقة ، ومفردات الخليقة مصممة بقصد أن تخدم تلك الحاجات. فكل مكونات الطبيعة ذات استعداد لقبول تأثير الإنسان فيها ، ولتحمل التغيير طبقا لتصرفه والتحول إلى أي شكل يرغب فيه « . وهذا هو المقصود بعبارة " لكم " في آيات التسخير في القرآن المجيد . وقد ترد عبارة ( لهم ) كما في سورة ( يس، 41) وهو المقصود أيضا من عبارة ذلل في مثل قوله تعالى :  أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون . وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون . ولهم فيها منافع ومشارب أ فلا يشكرون  [ يس ، 70-72] وقوله تعالى :  هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور  [ الملك ، 15 ] وقد جمع الله بين المؤقتية والمواءمة في مثل قوله تعالى :  وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ، إلا رحمة ومتاعا إلى حين  [ يس ، 36-43 ] .
ب) علاقة علوم التخسير بالوحدة البنائية للكون :
إن الذي يحول دون الإنسان وتسخير الكون هو التعضية والتفرقة بين مظاهره وعدم الاستبصار ببنائيته ، فمن خلال الاتساق يتمكن الإنسان من إدراك استمرارية النظام الكوني القائم على قوانين وسنن تؤدي وظيفتها فيه وتسري سريانا لا يتخلف ولا يقصر عن مظهره ، ما علم منها الإنسان وما لم يعلم ، وبالطرائق التي أحاطت بها معرفته ، أو تلك التي لم تبلغها بعد . إن الكون نظام هادف نابض بالحياة مفعم بالمعنى ، حيث إن كل أجزائه تكوّن« بناء عضويا تتفاعل أجزاؤه وأعضاؤه بطرق لا يزال البشر في بداية الطريق إلى اكتشافها بفضل العلم ، لكن في أجزاء محدودة جدا من الطبيعة ، أما المسلمون فهم يعلمون أن الخليقة كيان عضوي ، وأن كل جزء فيها يخدم غاية ما ، حتى ولو كانوا لا يعرفونها . وهذا العلم ثمرة لإيمانهم « . إن الآيات من القرآن التي تفيد بنائية الكون وغائيته وملابسة الحكمة لكل مظاهره ودقائقه آيات كثيرة يتعذر حصرها في مثل هذا المقام، منها قوله تعالى :  أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها . رفعها سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها. متاعا لكم ولأنعامكم  [ النازعات ، 27-33] قال الزبيدي : » والسمك: السقف ، أو هو من أعلى البيت إلى أسفله « . وتلفت الآيات العديدة التي فيها خلق السماوات والأرض بالحق النظر إلى كون البناء بناء تسري في جنباته الحكمة والقصد والغائية . قال برهان الدين البقاعي ، في معرض حديثه عن قوله تعالى :  ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق  [ إبراهيم ،22] : » بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة « .
إن هذه الوحدة البنائية في الكون هي التي مكنت العقل البشري – بعد اكتشافها – من تأسيس كل العلوم التي يمكن أن نصطلح على تسميتها " علوم التسخير" ، ثم تطويرها إلى حد بلورة المنهجية التوحيدية بين التخصصات ، والتي أعطت الفكر العلمي الجديد مددا قويا ، وفتحت أمامه إمكانات في غاية الكثرة والتنوع والنفع .
ثانيا : علوم التيسير وعلاقتها بالوحدة البنائية للكون
أ) مفهوم التيسير :
اليسر بالفتح ، ويحرك : اللين والانقياد ... ويسره : لاينه . واليَسر محركة : السهل اللين الانقياد ... واليسر بالضم : السهولة والغنى ، واليسر ضد العسر ، واستيسر الشيءُ : تسهّل ، ويسره: سهّله... الغنم : كثرت نسلها ولبنها .
وقد وردت لفظة التيسير مقترنة بكتاب الله تعالى في ستة مواقع من القرآن المجيد : منها أربعة في سورة القمر بلفظ واحد هو قوله تعالى:  ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر [ القمر ، 17 ،22، 32 ، 40] ومنها قوله تعالى في سورة مريم :  فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا  [ مريم ، 97 ] ثم قوله تعالى :  فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ، فارتقب إنهم مرتقبون  [ الدخان ، 58-59] ولفظ التيسير في هذه الآيات جميعها يفيد تسهيل القرآن للذكر من لدن الله الذي يفضي إلى لين وانقياد ذاتي فيه لمن أراد الذكرى .
ب) علاقة علوم التيسير بالوحدة البنائية للقرآن :
في مقابل التسخير للكون نجد تيسير القرآن ، وفي مقابل التفكر في الكون المنتج للمعرفة فيه  الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا  [ آل عمران ، 191] نجد التدبر في القرآن المنتج للاهتداء به : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب  [ ص، 29 ] وكما أن علوم التسخير تنتج عن الوعي ببنائية الكون وخضوعه لسنن قابلة للتعقل والإدراك بمقتضى المواءمة التي بين الكون والإنسان ، وأنها علوم تتطور بفعل اتباع المنهجية الآياتية ، وتفعيل القدرة على تسمية الأسماء – كما سيأتي بيانه حين يأتي الكلام عن المنهجية الآياتية – فإن علوم التيسير تنتج عن الوعي ببنائية القرآن المجيد وتضمنه لسنن قابلة للتعقل والإدراك من لدن الإنسان ، بمقتضى المواءمة التي جعلها الله بين الإنسان والقرآن ، يقول الشاطبي رحمه الله :
» فمن حيث كان القرآن معجزا ، أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء ، أن يأتوا بمثله ، فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا ، جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ... لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ، إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة من مثله، ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا. فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال ، أعجز ما كانوا عن معارضته . وقد قال الله تعالى :  ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر  [ القمر ، 17] وقال :  فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم ، 97] وقال :  قرآنا عربيا لقوم يعلمون {فصلت،3} وقال :  بلسان عربي مبين  وعلى أي وجه فرض إعجازه فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولوا الألباب  فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر « .
غير أن علوم التسخير – وللنفع السريع الظاهر الذي ينتج عنها – قد شهدت وتشهد تطورات في غاية الأهمية والسرعة ، في حين أن علوم التيسير قد أصابتها صنوف من الانتكاس ، بسبب عوامل متعددة أهمها التقليد وانعدام الرؤية وانقطاع الطريق ، بفعل الحضور الجبار الكابت للاجتهادات للجهود الموسوعية الذي بذلها السابقون ، إلى درجة رواج مقولات محبطة في أمتنا ، من مثل : (ليس في الإمكان أبدع مما كان!) وغيرها . وبما أن المقام هنا لا يستوجب أكثر من تأكيد العلاقة بين البنائية والتيسير ، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق . والله المستعان .

بقلم الدكتور أحمد العبادي (جامعة القاضي عياض مراكش)