الشورى ابتداء وانتهاء
قال الله تعالى عن صفات جماعة المسلمين وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى/38]. فمقتضى قوله وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ : أن كل أمر من الأمور المشتركة بين المسلمين ، مما يهم جماعتهم أو فئة من فئاتهم ، وليس فيه حكم منصوص ، فهو شورى بينهم . أي : يتم تدبيره والبت فيه بالتشاور والتقرير الجماعي بينهم، إما بشكل مباشر من عموم أصحاب الأمر، وإما بالوكالة منهم والنيابة عنهم.
وأول الشورى في موضوع الحكم والسياسة، هو أن يكون اختيار الناس لحاكمهم (شورى بينهم) ، ويكون عزله إذا تعين عزله ، أو تغييره إذا تعين تغييره ، (شورى بينهم).
وإذا احتاجوا إلى تحديد طريقتهم ـ أو تغييرها ـ لتولية حاكمهم ، أو احتاجوا لتحديد واجباته وصلاحياته ، أوصلاحيات غيره من المسؤولين معه ، أولتحديد كيفية إدارته للحكم ، بما في ذلك طريقة ممارسة الشورى أثناء الحكم ، فذلك أيضا (شورى بينهم).ولو أرادوا تحديد مدة حكم الحاكم الأعلى ، أو حتى غيره من الولاة والأمراء والوزراء ، فذلك (شورى بينهم)...
2. المرجعية العليا للشريعة
لا يمكن تصور نظام حكم ينتسب إلى الإسلام وإلى الشرعية الإسلامية، لا يجعل مرجعيته العليا هي الشريعة الإسلامية ، ولا يضع أحكامها الثابتة موضع التنفيذ . والآيات الآمرة بالحكم بما أنزل الله، والمحذرة من خلافه، كثيرة معلومة ، كقوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة/49] وقوله جل جلاله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب/36]
وأقل التزام عملي بهذا المبدأ هو إقرار مرجعية الشريعة ، وعدم تبني ما يعارض قطعياتها ومسلماتها.وأما القضايا الخلافية أو القضايا المستجدة ، فـهي مجال للاجتهاد والترجيح.
3. إقامة العدل بين الناس
وهذا من البدهيات التي لا يجحدها أحد ، ولا يتأخر نظام أو حاكم عن إعلان تمسكه بها.
ولأجل إقامة العدل أرسل الله رسله وأنبياءه ، وأنزل كتبه وشرائعه ، كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]. والعدل مطلوب من جميع الناس وفي جميع الشؤون . ولكنه مطلوب بصفة خاصة ممن يتولون على الناس ويحكمونهم أويقضون بينهم . قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء/58]
وإقامة العدل تتحقق أولا بتطبيق الأحكام الشرعية المنصوصة، ولكن ما يحتاج إلى العدل وليس فيه نص وحكم منصوص ، هو أكثر بكثير جدا مما هو منصوص عليه . وقد نجد بعض الحكام يطبقون ما هو منصوص، ولكنهم يملؤون الأرض جورا وفسادا فيما يعتبرونه ليس بمنصوص. فلذلك يظل العدل مبدأ وقاعدة عامة ملزمة ، في كل ما يصدر وما لا يصدر عن الولاة.
4. تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
وهذه إحدى القواعد الفقهية الجامعة لمتطلبات الولايات والسياسة الشرعية . ومفادها أن أصحاب الولايات جميعا ، ليسوا أحرارا في تصرفهم وتدبيرهم لشؤون من تولوا عليهم . بل تصرفاتهم مشروطة ومقيدة بما فيه المصلحة لمن هم تحت ولايتهم.وإذا كان أمام أحدهم خيار بين ما هو صالح وما هو أصلح ، فلا يجوز له الأخذ بما هو صالح ، بل يلزمه الأخذ بما هو أصلح ، وإلا كان تصرفه باطلا .
في تأصيل هذه القاعدة وبيان مضمونها ، يقول الإمام شهاب الدين القرافي :" اعلم أن كل من ولي ولايةَ الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة ، لقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ولقوله عليه السلام { من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم ، ولم ينصح ، فالجنة عليه حرام }. فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس فيه بذل الجهد ، والمرجوح أبدا ليس بالأحسن بل الأحسن ضده ، وليس الأخذ به بذلا للاجتهاد ، بل الأخذ بضده . فقد حجر الله تعالى على الأوصياء التصرف فيما هو ليس بأحسن ، مع قلة الفائت من المصلحة في ولايتهم لخستها بالنسبة إلى الولاة والقضاة . فأَوْلى أن يحجر على الولاة والقضاة في ذلك . ومقتضى هذه النصوص أن يكون الجميع معزولين : عن المفسدة الراجحة ، والمصلحة المرجوحة ، والمساوية ، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة ، لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن ، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة ، أو الراجحة ، ودرء المفسدة الخالصة ، أو الراجحة . فأربعة معتبرة ، وأربعة ساقطة ، ولهذه القاعدة قال الشافعي رضي الله عنه : لا يبيع الوصي صاعا بصاع لأنه لا فائدة في ذلك ، ولا يفعل الخليفة ذلك في أموال المسلمين . ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه ، دفعا لمفسدة الريبة عن المسلمين . ويَـعزل المرجوح عند وجود الراجح تحصيلا لمزيد المصلحة للمسلمين." ـ الفروق 4 / 95 ـ 96
Bookmarks