'الليبرالي المُستبد'!!!
03-1-2008

... وبعد فإنَّ الليبرالي المستبد، صغيرٌ، طلا نفسَه بشعاراتٍ جميلةٍ يُحبها الناس، يستخدمها لزرع الرعب في كلِّ من تُسوِّل له نفسُه معارضته، ويتتـرس خلفها ليخفي أمراضَه الفكرية والنفسية، وقد كرَّس نفسَه للتحدث في كلِّ ما يُسيءُ للأمَّـة، مُعلناً بأنه قابل للتأجير لكل من يدفع.

بقلم إبراهيم العسعس

أعترفُ بغرابة هذا العنوان وتناقضه الصارخ ! فالليبرالي هو الإنسان الذي يؤمن بحرية الناس في تبني ما يشاؤون من آراء، وهو في الوقت الذي يتمسك ـ وبكل قوة ـ بحقه في الكلام والنقد، يعترف في نفس الوقت بحق الآخرين به! وأسمى حالات الليبرالية في نظر آبائها هي تقبل الليبرالي نقد وتشريح الآخرين له بكل الرضا، بل والامتنان.

كل هذا هو الليبرالي، في حين أنَّ المستبد على النقيض من ذلك! فما الذي جمع بينهما على هذا الشكل المنكر ؟!

قبل الإجابة على السؤال أجدُ من اللازم عليَّ أن أشير إلى أن صاحب الفضل والسبق بهذا العنوان هو الإقتصادي الكبير الدكتور رمزي زكي، فقد ألف كتاباً مهماً فريداً في بابه سمَّاه "الليبرالية المستبدة"! ولأنَّه توقع أن يُـثير هذا العنوان المتناقض تساؤل القارئ فقد قدم الجوابَ قائلاً بأنَّ هذا خاص بدول العالم الثالث المتخلف، حيث تستبد وتستغل الدولُ الكبرى الاستعمارية "الليبرالية!!" دولَ هذا العالم!

وعَوداً على الجمع الغريب بين الليبرالية والاستبداد، وإجابةً عن سرِّ هذا الجمع، فإنني أقول كما قال الدكتور من أنَّ هذا الوضع المقلوب يتعلق بدول العالم الثالث المتخلف، أخصُّ العالمَ الإسلامي، لكنني لن أتحدث عما تحدث عنه، بل سأتحدث عن ظاهرة نَـمَت داخل المجتمعات الإسلامية، وهي ظاهرةٌ في كثير من حالاتها لم تتـشكل صدفة، ولا تحصل تـلقائياً، ولا تستمر عبثاً.

وهي في نظري أهم من العدوان المادي، بل هي العدوان الحقيقي، فالعدوان المادي في الحقيقة لا شيء! نعم ... هو قد يحتل ويسيطر، لكنه لا ينتصر ما لم يخترق منظومة المُستعمَرين الثـقافية.

والذين يستوردون ثقافة الغرب ـ بالطبع أقصد تلك التي تتعلق بوجهة النظر في الحياة، وضبط علاقات الإنسان بما وبمن حوله ـ ويتلبسونها، ويشتغلون بترويجها بين الأمة، هم طلائع العدوان ـ علموا أم لم يعلموا ـ الذين يعملون على تـفريغ الأمَّة من عناصر المقاومة، وسلبها ميزاتها . إنهم يهاجمون الوعي ليتركوا الجماهير قطيعاً حائراً مذهولاً.

ولكن هذه قضية أخرى تحتاج لدراسة مفصلة . أما هنا فسأكتفي بالإشارة إلى الجانب النفسي السلوكي لمن يمارسون هذا العدوان، ممن نظنُّ أنهم من الطابور الخامس، ولا نعني في كلامنا من يصدق في انحرافه ! إنما نعني من يكذب في كذبه!

من الشعارات التي يصمُّ بها هؤلاء المعتدون! منا! آذاننا شعارَ "الليبرالية"! وبصرف النظر عن صلاحية الليبرالية كمنهج حياة أم لا، فهل هؤلاء المعتدون المُدعون ليبراليون حقا؟ وهل يمارسون الليبرالية كما أرادها أصحابُها؟ أم هي خدعة يختبئون خلفها ليمرروا علينا ما يريدون باسم حرية الكلمة، وحق المخالفة؟!

إنَّ عادتنا في الأفكار التي نستوردها هي تشويهها، وتغيير معالمها، فتتحول على أيدينا إلى عامل هدم، إذ إننا نُعرِّب ما فيها من محاسن ! إلى الدرجة التي لو رآها أصحابها لأنكروها، ولما عرفوا منها إلا الاسم.

بدايةً، هل نحن بحاجة لقرن من الزمان كي نعرف كيف تسير الأمور، وما الذي يحدث ؟ هل نحتاج لوثائق كي نعرف الأسماء المأجورة أو المأزومة؟ إذ الأمر سيان! لا أعتقد أننا بحاجة لكل ذلك، يكفينا أن نعرف الأوصاف، وطريقة العمل، يكفينا أن نقرأ بعمق، بل وأحيانا بسطحية فبعضهم غبي جداً، وواضح جداً! ويكفينا أن نتابع أخبارهم، لنتعرف على حركتهم ، فنتأكد من طبيعة ارتباطاتهم، هناك عشرات من علامات الإنذار المبكر التي من خلالها نتعرف عليهم، إنها تلك التي سماها الله عز وجل: "... ولتعرفنهم في لحن القول".

فما هي أوصافهم، وكيف يشتغلون، وما هو لحنهم في القول؟

1 ـ الليبرالي المسلم! أو الذي كان مسلماً! تعرَّف على الليبرالية من خلال بعض القراءات، أو من بعض السماعات، لكنها لم تتغلغل إلى داخله، ولم تشكل شيئاً من منظومته الفكرية، كل ما الأمر أنها مرت مرور "اللئام" على سطح المعرفة لديه، فصار ليبرالياً في الحديث والتنظير، لكنه بقي في داخله من أصحاب الاتجاه الواحد، وبقي ذلك الديكتاتور القديم مسيطراً على نفسيته.

2 ـ فهو أكثر الناس حديثاً عن حرية التعبير، وحقِّ المخالفة، وحقِّ النقد، ومناقضة كل ثوابث الأمة، بل وحقائق الحياة، ثـم .... جـرِّب أن تُعارضه، وترد عليه! عندها انتظر ما يلي ـ الرجاء عند قراءتك استحضار ما يحدث فعلاً ممَّا عايشته أنت ـ :

ـ فمن عارضه جاهلٌ، مُنغلق، لم يفهم ما خطَّه يمينُ "الليبرالي المستبد"! وأنَّا له أن يفهم وهو لم يقرأ ما قرأه، ولم يسمع ما سمعه؟!

ـ سيقول لك: أنتَ تعارضني؟! إذن أنت لست ليبرالياً! وأنت ديكتاتور! تريد قمعي، وسلبي حقي في التعبير، ويدخل معك في حوار ـ من طرف واحد بالطبع ـ هو عبارة عن سلسلة من الشتائم الليبرالية، وفي بكائية طويلة حول حقوقه المسلوبة.

ـ اتهام كلِّ من يخالفه بالإرهاب، واستعداء الحكومات عليه، تلميحاً وتصريحاً! ومن أعجب العجب أنَّ بعضهم ساهم في مساعدة حكوماتهم على تمرير وتشريع قوانين تقمع المعارضة، خاصة الإسلامية! وهو إن تضايق ولم يعد يستطيع مجاراة الحوار تمترس خلف القانون وصار يضرب بسيفه!

أحد هؤلاء ممن لم يترك أحداً إلا وتكلم فيه، عندما نوقش وعُرض على النقد، هدَّد برفع دعوى قضائية على من انتـقده! وتذكروا ـ وكيف تنسون؟! ـ ألم يقف ليبراليو الجزائر مع انقلاب العسكر على حرية صناديق الانتخاب عام 92؟!

3 ـ لأنَّ الليبرالي المستبد فارغ، فإنه يعرض ما عنده على شكل ثنائية هو حدَّدها ابتداءً، وعلى القارئ أن يختار منهما على طريقة أجب بنعم أو لا.

4 ـ يُسيطر على هؤلاء هاجسُ الوِصاية على الأمَّة، فهم المفكرون الوحيدون، وهو السياسيون الأفذاذ، وهم العميقون الذين لا يفهمهم كلُّ الناس، فهم نخبة النخبة، وهم مقياس الوعي، وحراس الحرية، فمن خالفهم جاهل، أو مستبد.

5 ـ ولذلك فإنهم ليبراليون ما دام لهم الدورُ في الكلام، وكثيراً ما تـشعر عندما تتابع ردودهم على من عارضهم بلسان حالهم يقول: أنا أؤمن بحقِّ التعبير ما دام بعيداً عني! إنها حريتي أنا في نقد الآخرين، وشتمهم، والتهوين من آرائهم، وأنا الوحيد الذي يمتلك حقَّ مناقشة ثوابت الأمَّة جميعها، لكني لن أسمح لأحد بأن يمسني، وسأستخدم في سبيل إسكاته كلَّ الطرق القذرة!

6 ـ يتهم الليبرالي العربيُّ المسلمين بأنهم يريدون فرض دينهم ـ طبعاً هو يقول أيدولوجيا كي يُثبت لنا مقدار ثـقافته ـ على الناس . ولكنه في الحقيقة يُمارس فرض دينه ـ وهل العلمانية إلا دين ؟! ـ بأسلوب بشع متستراً خلف شعارات براقة، فما الفرق ؟! أليسوا يساهمون بالترويج لمشروع الرأسمالية "الأممي"، الذي تبشر به أمريكا؟ ثم أليس هذا المشروع ديناً ؟!

7 ـ نسبةٌ لا بأس بها من الليبراليين العرب، هم من مُخلفي العمل الإسلامي، الذين تحطَّم إيمانُهم بالإسلام بشكل أو بآخر، أو تغير بشكل أو بآخر! وكثيرٌ منهم طال عليهم أمَـدُ الانتظار ليصل إلى رغبةٍ انطوت عليها نفسُه، فلم يستطع الصبر فذهب يبحث عن فرصة أسهل! المساكين لم يستطيعوا احتمالَ الحرب الدعائية الهائلة الضارية، فاستسلموا. وانقلبوا ـ كلٌّ بقدرٍ ما ـ يُروِّجون للإسلام الأمريكي، مُستغلين لذلك ما عرفوه عن الإسلام وهم وُقوف على ضِفافه، إذ لم يصبروا حتى يرتوا من معينه، أو يغوصوا في أعماقه، فلا تستغرب إذا وجدتهم يُجمِّـلون مقالاتهم بقال الشافعي، وروى أحمد، وقرَّر الشاطبي، فإن القوم يقصون ويلصقون دون وعي وإدراك .

8 ـ الليبراليون المستبدون في العالم العربي، جيشٌ من الكتبة والصحفيين، ومراكز الأبحاث، بعضهم مُستـغـفَل، وكثيرٌ منهم مدركٌ للأمور، فقد قرر هؤلاء استغلال زمن العولمة، وزيادة الطلب على أقلام رخيصة تحسن الكتابة، وتعرف شيئاً عن الإسلام. وأنت ترى أنه يكفي أن يرفع أيُّ رخيصٍ رأسَه، يُلـقِّب نفسَه بالخبير بشؤون الحركات الإسلامية، لتتـلقـفه مراكزُ الأبحاث، وتستدعيه الفضائيات وتختمه بختم الوعي والخبرة والمرونة.

... وبعد فإنَّ الليبرالي المستبد، صغيرٌ، طلا نفسَه بشعاراتٍ جميلةٍ يُحبها الناس، يستخدمها لزرع الرعب في كلِّ من تُسوِّل له نفسُه معارضته، ويتتـرس خلفها ليخفي أمراضَه الفكرية والنفسية، وقد كرَّس نفسَه للتحدث في كلِّ ما يُسيءُ للأمَّـة، مُعلناً بأنه قابل للتأجير لكل من يدفع.