الخيال والتخيل هو درجة من درجات البحث العقلي عن الحقيقة وهو مما تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات فمنذ القديم ومنذ أن وجد الإنسان وهو يعالج المعضلات والمشكلات الوجودية المؤرقة له تارة بالحقيقة البسيطة وتارة بالخيال عندما تعجز مداركه عن استيعاب ما يحدث أمامه وما لا يستطيع أن يواجهه .
فلولا الخيال لما كان الإنسان إنسانا .. وقد اعتبره بعض الفلاسفة والعلماء أنه عبارة عن حالة من حالات الوجود تتشكل فيها سمات وجودية ربما تكون حقيقية في الوجود ذاته !
ويحضرني بيت شعر يقول :
لولا الخيال لكنا اليوم في عدم
ولا انقضى غرض فينا ولا وطر
سأتعرض في هذا الموضوع للخيال الديني فقط .. يعتقد بعض الناس أن الحقيقة هي العلامة البارزة في الأديان وأن لا وجود إلا لها وهذا غير صحيح وربما هو سبب كل الإشكاليات التي تؤدي للصراع والفتن واختلاف الآراء فكيف ذلك ؟
قال تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى .. الآية )
هذه الصورة الخيالية الجميلة هي منتهى الأشياء العذبة للبدوي في الصحراء فكانت الصورة الخيالية له مغرية جدا لتقريب مفهوم الجنة لأنه لا لم يكن هناك في ذلك الزمان أقرب لذة وتتوافق مع العربي إلا هذه الأشياء زائدا المرأة التي أثرى القرآن أوصاف الحور العين فيها بكل صنوف وأنواع الملذات .
أما الحقيقة فهي غير معروفة لأحد وأنها عالم غيبي لا يعلمها إلا خالقها .. وبنظرة بسيطة فإن الماء والعسل واللبن ليست من أهم المغريات الآن في عالم يترع بالمغريات التي لو وضعت إحصائية واستبيان لأولويتها لجاء اللبن والماء والعسل والخمر في ذيل القائمة .
وبتمعن في سياق الآية نجد أنه يشير للخيال فيها وليس للحقيقة فكلمة : ( مثل الجنة ) تشير بوضوح أنها عبارة عن تمثيل وتشبيه وهو نفسه الخيال والتخيل !
قال تعالى في وصف شجرة الزقوم : ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين )
عادة التشبيه هو لتقريب الأشياء ويكون المشبه به حاضرا أمام السامع والقارئ لكن في الآية كلاهما غائبان فلا نحن رأينا شجرة الزقوم ولا رأينا رؤوس الشياطين بغض النظر عن من سيفسر رؤوس الشياطين بشجرة موجودة في الدنيا لأن هذا غير صحيح وأوهى تفسير للخروج من المأزق .
ببساطة جدا فالآية هي منتهى العمق البلاغي حيث تجعلك تتصور العديد من الصور والخيال لتلك الشجرة وكل بحسب تصوره وتخيله لرأس الشيطان !
بمعنى : إنه الخيال وليس غير الخيال لكن المشكلة في من يصر على أنها حقائق وما عرضته هو مجرد نموذج بسيط وإلا فالقرآن الكريم والأحاديث تنضح بالخيال الديني .. ويبقى السؤال المهم : لماذا الخيال ؟
في الواقع أن الحقيقة نسبية فلسفيا ولا أحد يعرفها إلا الله وهي تخضع لمؤثرات كثيرة تأتي في مقدمتها أدوات العقل نفسه مثل الحواس فالبقرة ترى الحشيش الأخضر رمادي اللون أو قريبا منه ونحن نرى السماء زرقاء وهي ليست كذلك ونرى البحر أزرق وهو في حقيقته لا لون له وهناك أمور كثيرة نبني عليها أحكامنا وهي ليست كذلك وإنما حواسنا أعطتنا تلك المعلومة حسب إمكاناتها .
فلو وجد إنسان مصاب بعمى الألوان فأنه من المحال أن تقنعه أن لون فراشه الذي ينام عليه وردي اللون ! فما بالك لو كان الناس كلهم مصابين بعمى الألوان ؟!!
يبدو أنني استطردت في الموضوع فالخيال الديني هو ضروري جدا لحل المشاكل عاطفيا أو وجوديا فلو انعدم الخيال لما استطاع الإنسان أن يتكيف مع البيئة والحوادث .
فالقلق الوجودي هو أهم شيء لدى الإنسان فلو لم يعرف تفسيرا له فإنه ربما يتصرف تصرفا جنونيا وبعضهم يصل لدرجة الانتحار .
الكاتب الروائي أرنست همنجواي صاحب رواية الشيخ والبحر أسس في روايته قيمة رائعة جدا وهي مصارعة الإنسان وكفاحه ضد الطبيعة في تلك الرواية ونال عليها جائزة نوبل لكنه ما لبث أن انتحر لأنه كان يعرف أنها مجرد خيال فقط !
خلاصته : الأديان تعتمد على الخيال ولا ضير في ذلك مادامت في حدود تربية المجتمع ومسايسته ومداراته وجعله يلتفت لحياته وهذا أفضل من تركه قلقا لكن لا بد أن يعرف أن كل ما ذكر من خيال هو مجرد خيال وليس حقيقة ! واسلموا
Bookmarks