الرداء الثاني : الحيل الدفاعية
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )


الحيلة الأولي : حيلة استنكف النعام عن فعلها
قال تعالي (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)
قال صلي الله عليه و سلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )


بقدر ما ظلمنا النعام اغتر بعضنا بمُلْحِدة الزمان فظلمهم !!

• طالما حدثونا – و كذبوا – أن النعام يدفن رأسه في الرمال – و حاشاه – ظنًّا منه أنه طالما لا يري صائده فصائده لا يراه !!

أيها السادة : النعام لا يفعل ذلك !!

• لكنَّ هناك من يعيش في عالم نسجه من خياله ، لا .. بل دفن رأسه في أوحاله ..
فإن تكلم عن الوجود و السببية دَفَنَ رأسه ، و زُكِمَ أنفه ، و كَظَمَ عقله ، في وحل ضيق المسام ، كثير الأسقام .
فإن أراد أن يحي حي عن بينة من أمره في كل ما أراد ، و سار رافعًا رأسه ، معملًا فكره ..
فبينا هو يسير إذ سأله سائل عن مبدأ الأمر و آخره ، فاستأذنه ثم دفن رأسه ، و زكم أنفه ، و كظم عقله ، و أتانا بما يصم السميع و يعمي البصير ، و يُسْأَل من مثله العافية !!

أيها السادة : عن الملحد أحدثكم.. الملحد يفعل ذلك !! و يشقي الإنسان إن زاد اسمه عن حقيقته !! فمن ظن في الملحدين غير ذلك فقد ظلمهم !!

علك تقول : رويدك رويدك !! فالقوم عقلاء !! و ما بجرة قلم نسلِّمُ لك بذَمِّهِم !!

أقول : خلاك ذمٌّ !! و لكن اصبر صبر يعقوب عليه السلام ، فالأمر مزلة أقلام ، مضلة أفهام !!

تقول : ففصِّل ما أوجزت !!

يا سيدي لك ما أردت و مثله معه !!

قال : فدع عنك الأماني و هات ما عندك !!

قلت : ويح الشيطان !! إني أشترط عليك شرطًا أعزم عليك ألا تنقضه ! أقسمت عليك أن تكون محايدًا !! فلا تمدد للملحد يدًا !! و إن فعلت فيدك الأخري تكون معي !!

قال : لك ما أردت !

قلت : الناس أشكال و طبائع ، و أخلاق تكتسب و أخري جبلية ، و في الدنيا مصائب تذر الديار بلاقع ، فعلي قدر اختلاف الناس في صفاتهم يختلفون في مواجهة المصائب المتتالية ، بل يختلف الإنسان ذاته بين مشكلة و أختها ، فواحدة تحل بحقها ، و أخري تُرْجَي إلي حين علها تقضي نحبها ، و أخري معلقة ، فمن الناس من يحاول إقناع نفسه بأنه لا مشكلة ، و هذه المحاولات هي الحيل الدفاعية ، أليس كذلك يا أخي ؟!

قال : ويح الشيطان !! أشترط عليك شرطًا عزمت عليك ألا تنقضه ، أقسمت عليك أن تدع المقدمات و تلج إلي الباب ، علنا نبلغ المنزل ، و عن سؤالك أقول : بلي هو كذلك .

قلت ململمًا شتات الحوار : لك ذلك ! فالملحد رأي نفسه في مشكلة .

كيف ؟

قلت : يتبع منهجًا لا يُثْبِتُه ، و إن تحدث لا يُنْصِفُه ، و إن جادل لا يَنْصُرُه ، و إن انفرد لا يركن إليه.

هذي المشكلة .. فماذا فعل ؟

قلت : أسَرَّ في نفسه ألا يدخلنها اليوم عليكم عاقل فضلا عن مجادل ! فعاش بمبادئ غير المبادئ و بني لنفسه عالمًا غير العالم ! لا يعرفه إلا هو و من علي شاكلته ! بل .. أكثر من ذلك ..
هو نفسه يعيش في هذا العالم إن كان الأمر متعلقًا بإلحاده .. فإن كان الأمر متعلقًا بعمله ، بماله ، بأهله ، بأي شيء غير إلحاده ، ترك عالمه الوحلي ذاك ، و عاد يسير رافعًا رأسه معملًا فكره كأنه من الناس و الناس منه ، فإن أثير ما يقترب من الإلحاد و لو من بعيد عاد إلي دفن الرأس في الوحل ضيق المسام كثير الأسقام ..

قال : الكلام جميل ، فقل لي أين الدليل قبل أن ينفد صبري الجميل ؟

قلت : الدليل يطول ، و بالمثال يتضح المقال ، فسأحدثك حتي ترضي ، فإن رضيت انتقلت بك إلي الحيلة الدفاعية الثانية التي يتبعها الملاحدة ، و إن لم ترضَ زدتك حتي ترضي بإذن الله ربي و ربك و رب العالمين .

قال : ويح الشيطان !! أنساني أن أسألك و ما هذه الحيلة الدفاعية التي تجعل صاحبها يعيش في عالم غير العالم حتي يظن أنه ليس ثَمَّةَ مشكلة !!

قلت : سمِّها ما شئت ، الأحلام المَرَضية في اليقظة ، الهروب المَرَضي إلي الخيال ، و أفضل من ذلك " حيلة استنكف النعام عن فعلها ".

قال : فهات ما عندك.

آه ..

للحديث شجون ..

اسمع كلام مكلوم في قوم استحوذ عليهم الشيطان و والله لولا " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً " لانفلق الكبد ..

المثال الأول : الملحد في مختبره أو معمله :

المشهد الأول من عالم الأحياء :

هذا الملحد دأب علي دراسة الكائن المسبب لمرض من الأمراض ، و هذا المرض المعروف عنه أن سببه غير معروف حتي الآن “Idiopathic” ، و لكن الملحد يعمل واصلًا ليله بنهاره لأنه يعلم أن هذه الأعراض أعراض عدوي بكتيرية في الغالب ، و أن وسيلة انتشار المرض توحي بأنه نوع من البكتريا التي تنتشر عن طريق الطعام مثلًا ، و ذلك يجعله في هم دائم " متي سأصل إلي الكائن المسبب لهذا المرض ؟؟ "

المشهد الثاني من عالم الأوحال :

هذا الملحد بعينه وَقَفَه شخصٌ مسلمٌ هادئ ، سأله عن رأيه في السببية كدليل لإثبات وجود الخالق ، و المسلم يخاطبه علي قدر عقله فالأولي من السببية أن يقال " الخالقية ".
الأهم : حك الملحد لَحْيَيَه ، و قال – و ليته سكت - " لعل الكون هو الشيء الوحيد الذي لا سبب له "
لنا صاحب لا كليل اللسان ... فيصمت عنا ولا صارم .
وشر الرجال على أهله ... وأصحابه الحمق العارم .


التعقيب :

لماذا لم يخطر في قلب الملحد و لا هب علي أذنه و لا لمع أمام عينه خاطر و هو في معمله ليقول في نفسه " لعل هذا المرض هو الشيء الوحيد الذي لا سبب له " ؟؟؟؟!!!!
لماذا و هو في المعمل لا يدفن رأسه في الوحل كما أجاب المسلم ؟!!
لأنه في المعمل يواجه مشكلة يحلها بحقها ، و مع المسلم وقع في ورطة لا حل لها .

المثال الثاني : الملحد وسط تلامذته :

المشهد الأول من عالم الأحياء :

وقف رافعًا رأسه معملًا فكره ، و قال ( من أهم القواعد التي تعينك في مسايرة الحياة و اتخاذ القرارات أن اليقين لا ينتقل عنه للشك ، فإن انتقلت عن اليقين فليكن إلي يقين أشد منه و إلا فارض باليقين )
كانت هذه آخر الكلمات قبل أن يدع طلبته و يلملم أوراقه ليخرج مارًّا بالشارع إلي بيته .

المشهد الثاني من عالم الأوحال :

بينا هو في الشارع مر به صديق مسلم قديم فسأله بعد التحية و التقدمات " أما آن لك أن ترجع إلي سابق عهدك ، أعني ترجع كما كنت قبل أن تلحد و يهجرك كل من عرفك قبل إلحادك ثم عرف عنك بعد إلحادك "
أجاب " لا لم يئن بعد " و ابتسم ابتسامة حاول أن يجمع فيها ما يمكن جمعه من ثقة في ابتسامة.
فقال المسلم " فحدثني هل مازلت علي إنكارك لوجود الله ، أم أنك وصلت لمنحدر جديد ؟ "
أجاب " لا !! أنا الآن لا أثبت و لا أنفي وجود إله ، لأني وجدت إنكارَ وجودِ إلهٍ أمرًا لا يمكن البرهنة عليه "

التعقيب :

فأنت تري الملحد كان علي يقين من أمره في دينه ، و الآن صار " لا يثبت و لا ينفي " أي صار " جاهلًا " بعد أن كان علي يقين أو علي الأقل ظن غالب ، فلم ترك اليقين إلي المحال و هو الإلحاد ثم إلي الشك و هو اللاأدرية !!؟

المثال الثالث : الملحد في متجره :

المشهد الأول من عالم الأحياء :

التاجر الذكي هو الذي يختار المنهج الذي يكون به فائزًا علي كل حال .
هذه هي الحكمة التي يوازن بها الملحد في صفقاته حين يعقدها.


المشهد الثاني من عالم الأوحال :

هذا التاجر أمامه منهجان :
( الإيمان : إن صح فاز و ربح و إن أخطأ ما خسر )
( الإلحاد و ما شابهه : إن صح فلا بأس و إن أخطأ خسر و اشتد عليه البأس )
و الله لو كانت المقارنة هكذا مجردة لأمكن للعاقل أن يجزم باختيار الإيمان ، فكيف و الإلحاد عورة فكرية ؟! فكيف و الإيمان نور و برهان ؟!! فكيف و الإيمان خير كله و الإلحاد لا خير فيه ؟!!
و لكن هذا التاجر اختار الإلحاد .

و لا تعقيب !!!


المثال الرابع : الملحد يكتب مقالًا عن الإسلام !!

أكثر ما يمكن اعتباره مرآة حقيقية عن أوهام الملحدة – في رأيي – هو مقالاتهم عن الإسلام .

فتجده يعيش في عالم من نسج خياله .. و يرمي لك بشباك علك تنخدع فتدخل معه عالمه ..
- فتجده يقول " و مما قرأت في ذلك " فتظن أنه قرأ الكثير الكثير و هو يقتطع لك أقل القليل لأن عقلك المسكين لا يتحمل و هو يرأف بمثلك فطعام الكبار سم الصغار ، و هو مناور لا أكثر و قد يكون أقل!!
- و تجده يقول " و لن أطيل في الرد علي ذلك " و كأنه يستطيع أن يطيل و لكنه لن يطيل !!
- و تجده يقول " و لهذا موضع آخر نناقشه فيه " و كأن الملحد سيستر شيئًا عن الإسلام يطعن فيه و يؤخره إلي موضعه !! و كأنه كثير السِّجالات له في كل موضع خواطر و مناظرات !!
- تجده يقول " و قد صحح بعض العلماء هذا الحديث " و كأنه عرف هؤلاء العلماء و وصل إلي هذه الجملة بالاستقراء الكلي لأقوال العلماء !! و هو ناقل دعي لو علم اسمَ عالمٍ منهم لذكر اسمه و لكنه متشبعٌ بما لم يعط !!
- و تجده يقول " و قد كنت مثلك قبل ترك الإسلام عالمًا بالفقه و أحب التفسير ..... " و أدني طويلب علم يعلم أن من رأي في نفسه عالمًا و هو بعد لم يتحصرم فقد نادي علي نفسه بالجهل !! فضلًا عن استنباط كونه لم يكن عالمًا بمجرد القراءة في مقالاتهم و التي تجعلك تتساءل " ألو كانت الجمادات تكتب أكانت تتمكن من الإتيان بأحمق من ذلك ؟!!! "

فتنبه أخي حين تقرأ مقال ملحد ، فهو يذكر كلماتٍ كهذه – عن قصد سوء - موهمًا لك مراهنًا علي غفلتك ، و لكن العهد بك الفطنة و أنك لا تنطلي عليك الألاعيب لسان حالك " لست بالخب و ليس الخبُّ يخدعني " !
أخي !!

فلتكن كما قالوا :
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا

أخي ..

أخي !! فيم شردت !! ..

أجاب بصوت مهموم : نعم .. نعم ..

قلت : أرضيت بهذه الأمثلة ... ؟
هناك الكثير و لكني أخشي عليك الملل ، فتراني أقتضب الحديث في وجل ..
أفأنتقل إلي الحيلة التالية أم أزيد الأمثلة ؟!!

قال : رضيت بالأمثلة .. فهات التالية !

قلت : التالية أؤخرها لمرة تالية إن شاء الله.. و لكن قبل الفراق حق علي إذ افتتحت الكلام بقوله تعالي
( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )

أن أبين العاقبة بقوله تعالي :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّن الْخَاسِرِينَ )

كذبوا علي ذواتهم في الدنيا و لكن أبعاضهم شهدت عليهم في الآخرة ..

سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك .