النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: حجج النبوة ( الأدلة العقلية )

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الحمد لله الذي عرفنا نفسه وعلمنا دينه وجعلنا من الدعاة إليه والمحتجين له‏.‏

    فنحن نسأله تمام النعمة والعون على أداء شكره وأن يوفقنا للحق برحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه والمرغوب إليه فيه وصلى الله على محمد وآله وسلم‏.‏

    ثم إنا قائلون في الأخبار ومخبرون عن الآثار ومفرقون بين أسباب الشبهة وأسباب الحجة ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة ومخبرون عن الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحجة من الكثير ولم شاع الخبر وأصله ضعيف ولم خفي وأصله قوي وما الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره وكثرة الطاعنين فيه وعن الحاجة إلى رواية الآثار وإلى سماع الأخبار وعن أخلاق الناس وآبائهم ومذاهب أسلافهم وعن سير الملوك قبلهم وما صنعت الأيام بهم وعن شرائع أنبيائهم وأعلام رسلهم وعن أدب حكمائهم وأقاويل أئمتهم وفقهائهم وعن حالات من غاب عن أبصارهم في دهرهم ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان ولم كان الصمت أثقل عليهم من الكلام وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه والضرب الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور واختلفت في غيرها ولم حفظت أموراً ونسيت سواها ولم كان الصدق أكثر من الكذب ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار وبالأخبار يعرف الناس النبي من المتنبي والصادق من الكاذب وبها يعرفون الشريعة من السنة والفريضة من النافلة والحظر من الإباحة والاجتماع من الفرقة والشذوذ من الاستفاضة والرد من المعارضة والنار من الجنة وعامة المفسدة من المصلحة‏.‏

    فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها ذكرت حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلائله وشرائعه وسننه ثم جنست الآثار على أقدارها ورتبتها في مراتبها وقربت ذلك واختصرته وأوضحت عنه وبينته حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه وساء حفظه ومن كثر سماعه وجاد حفظه بالوجوه الجليلة والأدلة الاضطرارية‏.‏

    ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام وتفصيلها والقول فيها لنقض مسها أولوهن كان في أصلها من ناقليها والمخبرين عنها أو لأن طعن الملحدين نهكها وفرق جماعتها ونقض قواها‏.‏

    ولكن لأمور سأذكرها وأحتج‏.‏

    وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية وتنقص عن التمام والله تعالى المتوكل بها ومسخر أصناف البرية ومهيج النفوس على إبلاغها وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم كتابه عز ذكره حين قال‏:‏ ‏"‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ‏"‏‏.‏

    وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاره وخالف عليه‏.‏

    وقال عز ذكره‏:‏ ‏"‏ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ‏"‏‏.‏

    وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود ولم يكن ليأمر الأقصى إلا كما يأمر الأدنى ويأمر الغائب على الحاضر قال الله تعالى لنبيه عليه السلام‏:‏ ‏"‏ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ‏"‏‏.‏

    فأقول‏:‏ إن كل مطيق محجوج والحجة حجتان‏:‏ عيان ظاهر وخبر قاهر‏.‏

    فإذا تكلمنا في العيان وما يفرع منه فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه‏.‏

    ولا بد من التصادق في أصله والتعارف في فرعه‏.‏

    فالعقل هو المستدل والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله ومحال كون الفرع مع عدم الأصل وكون الاستدلال مع عدم الدليل‏.‏

    والعقل مضمن بالدليل والدليل مضمن بالعقل ولا بد لكل واحد منهما من صاحبه وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر‏.‏

    والعقل نوع واحد والدليل نوعان‏:‏ أحدهما شاهد عيان يدل على غائب والآخر مجيء خبر يدل على صدق‏.‏

    ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه والاحتجاج لشواهده وبرهانه فأقول‏:‏ إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقاً في الصدور والذين جمعوا الناس على قراءة زيد بعد أن كان غيرها مطلقاً غير محظور والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان لو كانوا جمعوا علامات النبي صلى الله عليه وسلم وبرهانه ودلائله وآياته وصنوف بدائعه وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم وبحضرة العدد الكثير الذي لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل والعدو المائل لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها لا زنديق جاحد ولا دهري معاند ولا متطرف ماجن ولا ضعيف مخدوع ولا حدث مغرور ولكان مشهوراً في عوامنا كشهرته في خواصنا ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم ولما وجد الملحد موضع طمع في غني يستميله وفي حدث يموه له‏.‏

    ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا لما تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز والاحتجاج الواضح‏.‏

    إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها‏.‏

    وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا وسفهائنا وخلعائنا إلا من قبل ضعف العناية وقلة المبالاة ومن قبل الحداثة والغرارة ومن قبل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم وتتسع له صدورهم وتحمله أقدارهم فذهبوا عن الحق يميناً وشمالاً لأن من لم يلزم الجادة تخبط ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط ومن خرق بنفسه وكلفها فوق طاقتها ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه‏.‏

    فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم ولم يؤتوا من سلفهم أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه والاحتجاج لنبيه صلى الله عليه وسلم وليجري هذا الخير على أيديهم كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء ولأن يجعل فضله مقسماً بين جميع الأولياء وإن كان الأول أحق بالتقديم والآخر أحق بالتأخير للذي قدموا من الاحتمال وأعطوا من المجهود ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه والأصل أحق بالقوة من الفرع‏.‏

    وهم السابقون ونحن التابعون وهم الذين وطئوا لنا وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا فتجرعوا دوننا المرار ومنحونا روح الكفاية‏.‏

    ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ولأن القرآن نطق بفضيلتهم والله تعالى أعلم بمن بعدهم والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود والذين رأوا من قول عبد الله في المعوذتين وقول أبي في سورتي الحفد والخلع‏.‏

    ومن تعلق الناس بالاختلاف فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم المشهور فيما بينهم وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع الطمع ولم ينزجر الطير لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة لتبين له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها‏.‏

    ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها‏.‏

    وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين‏.‏

    ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم‏:‏ الحمد لله وإنا لله وعلى الله توكلنا وربنا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وهذا كله في القرآن غير أنه متفرق غير مجتمع ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان‏.‏

    ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل ويمكن أن يفتعل مثله من الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرفوا عليه كما تطرفوا على الرواية لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة ورأوا كثرة اختلافها والغرائب التي لا يعرفونها لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي عليه مدار الأمر وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره‏.‏

    فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة كما حاط السلف أولها وأن يعملوا بظاهر الحيطة إذ كان على الناس الاجتهاد وليس عليهم علم الغيوب‏.‏

    وإنما ذلك كنحو رجل أبصر نبياً يحيي الموتى فعرف صدقه فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك ولا صح عنده فعليه أن لا يكتمه وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من قبل غيره وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه‏.‏

    ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك إذ كانت آخر العرض ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العرض أكثر ممن سمع أوله فحملوا الناس على قراءة زيد دون أبي وعبد الله وإن كان الكل حقاً إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال وأجدر أن يميت الخلاف ويحسم الطمع‏.‏

    فتركوا حقاً إلى حق العمل به أحق‏.‏

    ولو أن فقيهاً رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة واستنكارهم الإفطار فيه فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة أو خاف أن يلحق الفرض على تطاول الأيام ما ليس فيه كان مصيباً ولكان قد ترك حقاً إلى أحق منه‏.‏

    وللحق درجات وللخلاف درجات وللحرام درجات‏.‏

    ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل ويصفح وأنه إن قتل قتل بحق وإن صفح صفح بحق والصفح أفضل من القتل‏.‏

    ولو أن رجلاً أخرج ساكناً بيتاً له أو اقتضى ديناً له ساعة محله أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له ولحق فعل‏.‏

    وغير ذلك الحق أولى به‏.‏

    وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن والثواب فيه أعظم وإلى سلامة الصدور أقرب‏.‏

    وقد يكون الأمران حسنين وأحدهما أحسن‏.‏

    وقد يكون الأمران قبيحين وأحدهما أقبح‏.‏

    وبعد فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به إلا فيما تبين أنه معصية‏.‏

    فأما غير ذلك فإنه وعلموا أيضاً أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم ولا يفصل الأمور تفصيلهم‏.‏

    ولو عرفوا كمعرفتهم وأرادوا ذلك كإرادتهم لما أطيعوا كطاعتهم‏.‏

    وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر وأن الفتن ستفتح وأن الفساد سيفشو فكرهوا أن يجعلوا للمتطرفين علة ولأهل الزيغ حجة‏.‏

    بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكل ما أجاز فيه فلان عن فلان لألحق قوم في آخر الزمان بهم ما ليس منهم ولا يجري مجراهم ولا يجوز مجازهم‏.‏

    في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد ولو كان زيد من آل أبي العاص أو من عرض بني أمية لوجد ابن مسعود متعلقاً‏.‏

    ولو كان بدا زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلاً‏.‏

    ولو كان ابن مسعود رجلاً من بني هاشم لوجد للطعن موضعاً‏.‏

    ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله وجميع المهاجرين والأنصار لوجد للتهمة مساغاً‏.‏

    فأما والأمر كما وصفنا ونزلنا فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق وعجل والذي يخطىء عثمان في ذلك فقد خطأ علياً وعبد الرحمن وسعداً والزبير وطلحة وعلية الصحابة‏.‏

    ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة وأهل القدم والقدوة‏.‏

    ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح بل لا نجد لما صنعوا وجهاً غير الإصابة والاحتياط والإشفاق والنظر للعواقب وحسم طعن الطاعن‏.‏

    ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضاً لما اجتمع عليه أول هذه أول الأمة وآخرها‏.‏

    وإن أمراً اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة لظاهر الصواب واضح البرهان على اختلاف أهوائهم وبغيتهم لكل ما ورد عليهم‏.‏

    فإن قال قائل‏:‏ هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره وتطعن فيه وترى تغييره‏.‏

    قلنا‏:‏ إن الروافض ليست منا بسبيل لأن من كان أذانه غير أذاننا وصلاته غير صلاتنا وطلاقه غير طلاقنا وعتقه غير عتقنا وحجته غير حجتنا وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا وقراءته غير قراءتنا وحلاله غير حلالنا وحرامه غير حرامنا فلا نحن منه ولا هو منا‏.‏

    ولأي شيء حامت عن قراءة ابن مسعود فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه ولا أشد على الشيعة منه ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله عنه أن قال‏:‏ لقد خشيت الله تعالى في حبي لعمر‏.‏

    فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم‏.‏

    فآمن الله رجلاً فارقهم ولزم الجماعة فإن فيها الأنسة والحجة وترك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة‏.‏

    والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا كما جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا‏.‏

    والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعة منظومة نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى أن لا ينشط لجمعها ولا يقدر على نظمها وجمع متفرقها وعلى اللفظ المؤثر عنها ومن كان عسى أن لا يعرف وجه مطلبها والوقوع عليها‏.‏

    ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها‏.‏

    ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها وأقرب وجوهها‏.‏

    ولعل بعضهم أن يكون قد عرف فنسي أو تهاون بها فعمي بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعة محبرة مستقصاة مفصلة أنها ستزيد في بصيرة العالم وتجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض وتذكر الناسي وتكون عدة على الطاعن‏.‏

    ولعل بعض من ألحد في دينه وعمي عن رشده وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب بنفسه والثقة بما عنده إلى أن يلتمس قراءتها ليتقدم في نقضها وإفسادها فإذا قرأها فهمها وإذا فهمها انتبه من رقدته وأفاق من سكرته لعز الحق وذل الباطل ولإشراف الحجة على الشبهة ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع صاحبه وجاثاه لأن الإنسان لا يباهي بنفسه والحق بعد قاهر له‏.‏

    ومع التلاقي يحدث التباهي وفي المحافل يقل الخضوع ويشتد النزوع‏.‏

    ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار والتفقه في تصحيح الآثار فأقول‏:‏ إن الناس لو استغنوا عن التكرير وكفوا مئونة البحث والتنقير لقل اعتبارهم‏.‏

    ومن قل اعتباره قل علمه ومن قل علمه قل فضله ومن قل فضله كثر نقصه ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه ولم يذم على شر جناه ولم يجد طعم العز ولا سرور الظفر ولا روح الرجاء ولا برد اليقين ولا راحة الأمن‏.‏

    وكيف يشكر من لا يقصد وكيف يلام من لا يتعمد وكيف يقصد من لا يعلم‏.‏

    وما عسى أن يبلغ قدر سروره من لا يحسن من السرور إلا ما سر به حواسه ومسه جلده‏.‏

    وكيف يأتي أربح الأفعال وأبعد الشرين من ركب في شراسة السباع وغباوة البهائم ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله والعلم بمصالحه ومفاسده فيقوى بها على عصيان طبائعه ومخالفة شهواته وبها يعرف عواقب الأمور وما تأتي به الدهور وفضل لذة القلب على لذة البدن‏.‏

    وإن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم وإن لذة البهائم لا تعشر لذة الحكيم العالم‏.‏

    وأي سرور كسرور العز والرياسة واتساع المعرفة وكثرة صواب الرأي والنجح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير ثم العلم بالله وحده وأنك بعرض ولايته والجاه عنده وأنه الذي يرعاك ويكفيك وأنك إذا علمت اليسير أعطاك الكثير ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي ومتى أدبرت عنه دعاك ومتى رجعت إليه اجتباك ويحمدك على حقك ويعطيك على نظرك لنفسك ولا يفنيك إلا ليبقيك ولا يميتك إلا ليحييك ولا يمنعك إلا ليعطيك‏.‏

    وأنه المبتدىء بالنعمة قبل السؤال والناظر لك في كل حال‏.‏

    وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل‏.‏

    على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها بما باشرته حواسها دون النظر والتفكر والبحث والتصفح‏.‏

    ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة وعلى طلب الحيلة‏.‏

    ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرضا وطبيعة البخل والسخاء والجزع والصبر والرياء والإخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة فجعلها عروقاً‏.‏

    ولن تفي قوة غريزة العقل بجميع قوى طبائعه وشهواته حتى يقيم ما اعوج منها ويسكن ما تحرك دون النظر الطويل الذي يشدها والبحث الشديد الذي يشحذها والتجارب التي تحنكها والفوائد التي تزيد فيها‏.‏

    ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج ولن تبعد الرؤية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة‏.‏

    ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم وعواقب أمورهم وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولد مباشرة حواسهم دون أن يسمعهم الله تعالى خواطر الأولين وأدب السلف المتقدمين وكتب رب العالمين لما أدركوا من العلم إلا اليسير ولما ميزوا من الأمور إلا القليل‏.‏

    ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته وتسويد العاقل ورفع قدره وأن يجعله حكيماً وبالعواقب عليماً لما سخر له كل شيء ولم يسخره لشيء ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم وعالم حليم‏.‏

    كما أنه عز ذكره لو أراد أن يكون الطفل عاقلاً والمجنون عالماً لطبعهم طبع العاقل ولسواهم تسوية العالم كما أراد أن يكون السبع وثاباً والحديد قاطعاً والسم قاتلاً والغذاء مقيماً فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالماً والمهيأ للحكمة حكيماً وذو الدليل مستدلاً وذو النعمة مستنفعاً بها‏.‏

    فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وكتب الأولين والأخبار عن القرون والجبابرة الماضين طبع كل قرن من الناس على أخبار من يليه ووضع القرن الثاني دليلاً يعلم به صدق خبر الأول لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مشحذة للأذهان ومادة للقلوب وسبب للتفكير وعلة للتنقير عن الأمور‏.‏

    وأكثر الناس سماعاً أكثرهم خواطر وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً وأكثرهم تفكراً أكثرهم علماً وأكثرهم علماً أرجحهم عملاً‏.‏

    كما أن أكثر البصراء رؤية للأعاجيب أكثرهم تجارب ولذلك صار البصير أكثر خواطر من الأعمى وصار السميع البصير أكثر خواطر من البصير‏.‏

    وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون كما أن الراجي والخائف دائبان والآيس والآمن وادعان‏.‏

    وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا وآدم أبي البشر صلوات الله عليهم أجمعين وخلقهم منقوصين وعن درك مصالحهم عاجزين وأراد منهم العبادة وكلفهم الطاقة وترك العنان للأمل البعيد وأرسل إليهم رسله وبعث فيهم أنبياءه وقال‏:‏ ‏"‏ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ‏"‏ ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام ولا أحضرهم عجائب أنبيائه ولا أسمعهم احتجاجهم ولا أراهم تدبيرهم لم يكن بد من أن يطلع المعاينين على أخبار الغائبين وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين وأن يخالف بين طبائع المخبرين وعلل الناقلين ليدل السامعين ومن يجيب من الناس‏.‏

    على أن العدد الكثير المختلفي العلل المتضادي الأسباب المتفاوتي الهمم لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد وكما لا يتفقون على الخبر الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق‏.‏

    فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم التلاقي عليه والتراسل فيه‏.‏

    ولو كان تلاقيهم ممكناً وتراسلهم جائزاً لظهر ذلك وفشا واستفاض وبدا‏.‏

    ولو كان ذلك أيضاً ممكناً وكان قولاً متوهماً لبطلت الحجة ولنقضت العادة ولفسدت العبرة ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة ولكان للناس على الله أكبر الحجة‏.‏

    وقد قال الله جل وعز‏:‏ ‏"‏ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ‏"‏ إذ كلفهم طاعة رسله وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه والإيمان بجنته وناره ولم يضع لهم دليلاً على صدق الأخبار وامتناع الغلط في الآثار واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم ولم يحب أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم التجارة والصناعة ولجاز أن يطلبوا بأجمعهم الملك والسياسة‏.‏

    وفي هذا ذهاب العيش وبطلان المصلحة والبوار والتواء‏.‏

    ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين والبيطرة والقصابة والدباغة‏.‏

    ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه ومسهل ذلك عليهم‏.‏

    فالحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال له‏:‏ يا حجام‏!‏ والحجام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال له‏:‏ يا حائك‏!‏ ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة والبيطرة والقصابة‏.‏

    ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبباً للاتفاق والائتلاف لما جعل واحداً قصيراً والآخر طويلاً وواحداً حسناً وآخر قبيحاً وواحداً غنياً وآخر فقيراً وواحداً عاقلاً وآخر مجنوناً وواحداً ذكياً وآخر غبياً‏.‏

    ولكن خالف بينهم ليختبرهم وبالاختبار يطيعون وبالطاعة يسعدون‏.‏

    ففرق بينهم ليجمعهم وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة‏.‏

    فسبحانه وتعالى ما أحسن ما أبلى وأولى وأحكم ما صنع وأتقن ما دبر‏!‏ لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة‏.‏

    ولو رغبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بالعراء‏.‏

    ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات ولبطل أصل المعاش‏.‏

    فسخرهم على غير إكراه ورغبهم من غير دعاء‏.‏

    ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها ومن الأمصار إلا أوسطها‏.‏

    ولو كانوا كذلك لتناجزوا على طلب الأواسط وتشاجروا على البلاد العليا ولما وسعهم بلد ولما تم بينهم صلح‏.‏

    فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة‏.‏

    وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حولت ساكني الآجام إلى الفيافي وساكني السهل إلى الجبال وساكني الجبال إلى البحار وساكني الوبر إلى المدر لأذاب قلوبهم الهم ولأتى عليهم فرط النزاع‏.‏

    وقد قيل‏:‏ ‏"‏ عمر الله البلدان بحب الأوطان ‏"‏‏.‏

    وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم ‏"‏‏.‏

    وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلاً خصباً وفرض لهم في شرف العطاء‏:‏ ‏"‏ يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم ‏"‏‏.‏

    وقال الله جل وعز‏:‏ ‏"‏ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا وليس على ظهرها إنسان إلا وهو معجب بعقله لا يسره أن له بجميع ما له ما لغيره ولولا ذلك لماتوا كمداً ولذابوا حسدا ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء فهو يرى أنه محسود في شيء‏.‏

    ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدة واحدة واسماً واحداً وكنية واحدة‏.‏

    فقد صاروا كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة والألقاب السمجة‏.‏

    والأسماء مبذولة والصناعات مباحة والمتاجر مطلقة ووجوه الطرق مخلاة ولكنها مطلقة في الظاهر مقسمة في الباطن وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبر الحكيم من ذلك ولا بالمصلحة فيه‏.‏

    فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمي ابنه محمداً وحبب إلى آخر أن يسميه شيطاناً وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله وحبب إلى آخر أن يسميه حماراً لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم في اختيار الأسماء والكنى جاز أن يجتمعوا على شيء واحد وكان في ذلك بطلان العلامات وفساد المعاملات‏.‏

    وأنت إذا رأيت ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم وسمعت لغاتهم ونغمهم علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة على حسب أمورهم الظاهرة‏.‏

    وبعض الناس وإن كان مسخراً للحياكة فليس بمسخر للفسق والخيانة وللإحكام والصدق وقد يسخر الله الملك لقوم بأسباب قديمة وأسباب حديثة فلا يزال ذلك الملك مقصوراً عليهم ما دامت تلك الأسباب قائمة إذا كانوا للملك مسخرين وكان الناس لهم مسخرين بالجبرية والنخوة والفظاظة والقسوة ولطول الاحتجاب والاستتار وسوء اللقاء والتضييع‏.‏

    وقد يكون الإنسان مسخراً لأمر ومخيراً في آخر‏.‏

    ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها وخفيها وظاهرها لأن بني الإنسان إنما سخروا له إرادة العائدة إليهم ولم يسخروا للمعصية كما لم يسخروا للمفسدة‏.‏

    وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع‏.‏

    كل ذلك ليجمع الله تعالى لهم مصالح الدنيا ومراشد الدين‏.‏

    ألا ترى أن أمة قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله وأمة قد اجتمعت على أنه ابن الله وأمة اجتمعت على أن الآلهة ثلاثة عيسى أحدها‏.‏

    ومنهم يتبدد ومنهم من يتدهر ومنهم من يتحول نسطورياً بعد أن كان يعقوبياً ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانياً‏.‏

    ولست واجداً هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها وكثرة تنقلها انتقلت مرة واختلفت مرة متعمدة أو ناسية في يوم واحد فجعلته - وهو الجمعة - يوم السبت ولم تخطب في يوم جمعة بخطبة يوم خميس ولا غلطت في كانون الأول فجعلته كانون الآخر ولا بين الصوم والإفطار لأن الباب الأول في باب الإمكان وتعديل الأسباب والامتحان والباب الثاني داخل في باب الامتناع وتسخير النفوس وطرح الامتحان‏.‏

    وقد زعم ناس من الجهال ونفر من الشكاك ممن يزعم أن الشك واجب في كل شيء إلا في العيان أن أهل المنصورة وافوا مصلاهم يوم خميس على أنه يوم الجمعة في زمن منصور بن جمهور وأن أهل البحرين جلسوا عن مصلاهم يوم الجمعة على أنه يوم خميس في زمن أبي جعفر فبعث إليهم وقومهم‏.‏

    وهذا لا يجوز ولا يمكن في أهل الأمصار ولا في العدد الكثير من أهل القرى لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أجرته ولا راحة له دون الجمعة وبين تجار قد اعتادوا الدعة في الجمع والجلوس عن الأسواق‏.‏

    ومن معلم كتاب لا يصرف غلمانه إلا في الجمع‏.‏

    وبين معني بالجمع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء‏.‏

    وبين معني بالجمع حرصاً على الصلاة ورغبة في الثواب‏.‏

    ومن رجل عليه موعد ينتظره‏.‏

    ومن صيرفي يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكتب أصحابه‏.‏

    ومن جندي فهو يعرف بذلك نوبته‏.‏

    وبعض كالسؤال والمساكين والقصاص الذين يمدون أعناقهم للجمعة انتظاراً للصدقة والفائدة في أمور كثيرة وأسباب مشهورة‏.‏

    ولو جاز ذلك في أهل البحرين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة ولو جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أجوز ولو جاز ذلك في الشهور لكان في السنين أجوز‏.‏

    وفي ذلك فساد الحج والصوم والصلاة والزكاة والأعياد‏.‏

    ولو كان ذلك جائزاً لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدة واحدة والخطباء على خطبة واحدة والكتاب على رسالة واحدة بل جميع الناس على لفظة واحدة‏.‏

    وإنما نزلت لك حالات الناس وخبرتك عن طبائعهم وفسرت لك عللهم لتعلم أن العدد الكثير لا يتفقون على تخرص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد على غير التشاعر فيكون باطلاً‏.‏

    وسأوجدك موضع اختلافهم واتفاقهم وأنه لم يخالف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصاً لمصلحتهم ولتصح أخبارهم‏.‏

    ألا ترى أن أحداً لم يبع قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خير له من سلعته‏.‏

    ولم يشتر أحد قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن تلك خير له من درهمه‏.‏

    ولو كان صاحب السلعة يرى في سلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم وكان صاحب الدرهم يرى في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهم شراء أبداً‏.‏

    وفي هذا جميع المفسدة وغاية الهلكة‏.‏

    فسبحان الذي حبب إلينا ما في أيدي غيرنا وحبب إلى غيرنا ما في أيدينا ليقع التبايع‏.‏

    وإذا وقع التبايع وقع الترابح وإذا وقع الترابح وقع التعايش‏.‏

    ويدلك أيضاً على اختلاف طبائعهم وأسبابهم‏:‏ أنك تجد الجماعة وبين أيديهم الفاكهة والرطب فلا تجد يدين تلتقيان على رطبة بعينها وكل واحد من الجميع يرى ما حواه الطبق غير أن شهوته وقعت على واحدة غير التي آثرها صاحبه‏.‏

    ولربما سبق الرجل إلى الواحدة وقد كان صاحبه يريدها في نفسه غير أن ذلك لا يكون إلا في الفرط ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدة بعينها لكان في ذلك التمانع والتجاذب والمبادرة وسوء المخالطة والمؤاكلة‏.‏

    وكذلك هو في شهوة النساء والإماء والمراكب والكسى‏.‏

    وهذا كثير والعلم به قليل‏.‏

    وبأقل مما قلنا يعرف العاقل صواب مذهبنا‏.‏

    والله تعالى نسأل التوفيق‏.‏

    وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم حتى لا يتفق على تخرص خبر واحد لأن في اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الإخبار فساد أمورهم وقلة فوائدهم واعتبارهم وفي فساد أخبارهم فساد متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم وبطلان المعرفة بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام ووعدهم ووعيدهم وأمرهم ونهيهم وزجرهم ورغبتهم وحدودهم وقصاصهم الذي هو حياتهم والذي يعدل طبائعهم ويسوي أخلاقهم ويقوي أسبابهم والذي به يتمانعون من تواثب السباع وقلة احتراس البهائم وإضاعة الأعمار‏.‏

    وبه تكثر خواطرهم وتفكيرهم وتحسن معرفتهم‏.‏

    ولم نقل أن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل كالتكذيب والتصديق ونحن قد نجد اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية وعباد البددة يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وينكرون آياته وأعلامه ويقولون‏:‏ لم يأت بشيء ولا بان بشيء‏.‏

    وإنما قلنا‏:‏ إن العدد الكثير لا يتفقون على مثل إخبارهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة ودعا إلى كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وأباح كذا وجاء بهذا الكتاب الذي نقرؤه فوجب العمل بما فيه وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه في المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة‏.‏

    فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ولا ادعى أنه قد فعل فيكون ذلك الخبر باطلاً‏.‏

    وليس قول جمعهم إنه كان كاذباً معارضة لهذا الخبر إلا أن يسموا الإنكار معارضة‏.‏

    وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وقابلونا وقد تكافينا وتدافعنا‏.‏

    فأما الإنكار فليس بحجة كما أن الإقرار ليس بحجة ولا تصديقنا النبي صلى الله عليه وسلم حجة على غيرنا ولا تكذيب غيرنا له حجة علينا وإنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله‏.‏

    فإن قلت‏:‏ وأي مجيء أثبت خبر الأنصاري عن عيسى بن مريم عليه السلام وذلك أنك لو قلنا‏:‏ قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القرن الذي كان قبلهم والذين كانوا يلونهم‏.‏

    ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن عيسى عليه السلام لو قال‏:‏ إني إله لما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى والمشي على الماء‏.‏

    على أن في عيسى عليه السلام دلالة في نفسه أنه ليس بإله وأنه عبد مدبر ومقهور ميسر وليس خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقرن الذي يليهم أن بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات‏.‏

    وكإخبار المنانية عن القرن الذي كان يليهم منه أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات‏.‏

    وكإخبار المجوس عن آبائهم الذين كانوا يلونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات‏.‏

    وقد علمنا أن هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القرن الذي كان يليهم ولا الزنادقة ولا المجوس‏.‏

    ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن الله جل وعز لا يعطي العلامات من لا يعرفه لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إله فهو لا يعرف الله تعالى بل لا يعرف الربوبية من العبودية والبشرية من الإلهية‏.‏

    وللنصارى خاصة رياء عجيب وظاهر زهد والناس أبطأ شيء عن التصفح وأسرع شيء على ذكرهم وكل قوم بنوا دينهم على حب الأشكال وشبه الرجال يشتد وجدهم به وحبهم له حتى ينقلب الحب عشقاً والوجد صبابة للمشاكلة التي بين الطبائع والمناسبة التي بين النفوس‏.‏

    وعلى قدر ذلك يكون البغض والحقد لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنساناً مثلهم بخعت نفوسهم بالهيبة له لتوهمهم الربوبية وأسمحت بالمودة لتوهمهم البشرية فلذلك قدروا من العبادة على ما لم يقدر عليه من سواهم‏.‏

    وبمثل هذا السبب صارت المشبهة منا أعبد ممن ينفي التشبيه حتى ربما رأيته يتنفس من الشوق إليه ويشهق عند ذكر الزيارة ويبكي عند ذكر الرؤية ويغشى عليه عند ذكر رفع الحجب‏.‏

    وما ظنك بشوق من طمع في مجالسة ربه عز وجل ومحادثة خالقه عز ذكره‏.‏

    ولقد غالت القوم غول ودعاهم أمر فانظر ما هو وإن سألتني عنه خبرتك‏:‏ إنما هو نتيجة أحد أمرين‏:‏ إما تقليد الرجال وإما طلب تعظيمهم‏.‏

    ولذلك السبب لم ترض اليهود من إنكار حقه بتكذيبه حتى طلبت قتله وصلبه والمثلة به ثم لم ترض بذلك حتى زعمت أنه لغير رشدة فلو كانت دون هذه المنزلة منزلة لما انتهت اليهود دون بلوغها ولو كانت فوق ما قالت وبذلك السبب صارت الرافضة أشد صبابة وتحرقاً وأفرط غضباً وأدوم حقداً‏.‏

    وأحسن تواصلاً من غيرهم أيضاً‏.‏

    ورب خبر قد كان فاشياً فدخل عليه من العلل ما منعه من الشهرة ورب خبر ضعيف الأصل واهن المخرج قد تهيأ له من الأسباب ما يوجب الشهرة‏.‏

    واعلم أن لأكثر الشعر ظعنا وحظوظاً كالبيت يحظى ويسير حتى يحظى صاحبه بحظه وغيره من الشعر أجود منه‏.‏

    وكالمثل يحظى ويسير وغيره من الأمثال أجود‏.‏

    وما ضاع من كلام الناس وضل أكثر مما حفظ وحكي‏.‏

    واعتبر ذلك من نفسك وصديقك وجليسك‏.‏

    وأمر الأسباب عجيب‏.‏

    ومن ذلك قتل علي بن أبي طالب من السادة والقادة والحماة ما عسى لو ذكرته لاستكبرته واستعظمته فأضرب الناس عن ذكرهم وجهلت العوام مواضعهم وأخذوا في ذكر عمرو بن عبد ود فرفعوه فوق كل فارس مشهور وقائد مذكور‏.‏

    وقد قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول والثاني والثالث‏.‏

    وأمر المطيبين والأحلاف ومقتل أبي أزيهر ومجيء الفيل وكل يوم جمع كان لقريش فما سمعت لعمرو هذا في شيء من ذلك فإن قلت‏:‏ إن نبل القاتل زيادة في نبل المقتول فكل من قتله على ابن أبي طالب رضوان الله عليه أنبل منه وأحق بالشهرة ولكن أشعار ابن دأب ومناقلة الصبيان في الكتاب هما اللتان أورثتاه ما ترى وتسمع‏.‏

    في أمر الأخبار وإنما ذكرت هذا لتعلم أن الخبر قد يكون أصله ضعيفاً ثم يعود قوياً ويكون أصله قوياً فيعود ضعيفاً للذي يعتريه من الأسباب ويحل به من الأعراض من لدن مخرجه وفصوله إلى أن يبلغ مدته ومنتهى أجله وغاية التدبير فيه والمصلحة عليه‏.‏

    فلما كان هذا مخوفاً وكان غير مأمون على المتقادم منه وضع الله تعالى لنا على رأس كل فترة علامة وعلى غاية كل مدة أمارة ليعيد قوة الخبر ويجدد ما قد هم بالدروس بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين‏.‏

    لأن نوحاً عليه السلام هو الذي جدد الأخبار التي كانت في الدهر الذي بينه وبين آدم عليهما السلام حتى منعها الخلل وحماها النقصان بالشواهد الصادقة والأمارات القائمة‏.‏

    وليس أن أخبارهم وحججهم قد كانت درست واختلت بل حين همت بذلك وكادت‏.‏

    بعثه الله عز وجل بآياته لئلا تخلو الأرض من حججه ولذلك سموا ثم بعث الله جل وعز إبراهيم عليه السلام على رأس الفترة الثانية التي كانت بينه وبين دهر نوح وإنما جعلها الله تعالى أطول فترة كانت في الأرض لأن نوحاً كان لبث في قومه يحتج ويخبر ويؤكد ويبين ألف سنة إلا خمسين عاماً ولأن آخر آياته كانت أعظم الآيات وهي الطوفان الذي أغرق الله تعالى به جميع أهل الأرض غيره وغير شيعته وإنما أفار الماء من جوف تنور ليكون أعجب للآية وأشهر للقصة وأثبت للحجة‏.‏

    ثم ما زالت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعضهم على إثر بعض في الدهر الذي بين إبراهيم وبين عيسى عليهما السلام‏.‏

    فلترادف حججهم وتظاهر أعلامهم وكثرة أخبارهم واستفاضة أمورهم ولشدة ما تأكد ذلك في القلوب ورسخ في النفوس وظهر على الألسنة لم يدخلها الخطل والنقص والفساد في الدهر الذي كان بين النبي عليه السلام وبين عيسى عليه السلام‏.‏

    فحين همت بالضعف وكادت تنقص عن التمام وانتهت قوتها بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فجدد أقاصيص آدم ونوح وموسى وهارون وعيسى ويحيى عليهم السلام وأموراً بين ذلك وهو الصادق بالشواهد الصادقة وأن الساعة آتية وأنه ختم الرسل عليهم السلام به فعلمنا عند ذلك أن حجته ستتم إلى مدتها وبلوغ أمر الله عز وجل فيها‏.‏

    ثم رجع الكلام إلى القول في الأخبار فأقول‏:‏ إن الناس موكلون بحكاية كل عجيب وميسرون للإخبار عن كل عظيم وليسوا للحسن أحكى منهم للقبيح ولا لما ينفع أحكى منهم لما يضر وعلى قدر كبر الشيء تكون حكايتهم له واستماعهم‏.‏

    ألا ترى أن رجلاً من الخلفاء لو ضرب عنق رجل من العظماء لما أمسى وفي عسكره وبلدته جاهل ولا عالم إلا وقد استقر ذلك عنده وثبت في قلبه لأن الناس بين حاسد فهو يحكي ذلك الذي دخل عليه من الثكل وقلة العدد وبين واجد يعجب الناس وبين واعظ معتبر وبين قوم شأنهم الأراجيف بالفاسد والصالح‏.‏

    ولو كان ضرب عنقه في يوم عيد أو حلبة أو استمطار أو موسم لكان أشد لاستفاضته وأسرع لظهوره‏.‏

    ولو جاز أن يكتم الناس هذا وشبهه على الإيثار للكتمان وعلى جهة النسيان لكنا لا ندري‏:‏ لعله قد كان في زمن صفين والجمل والنهروان حرب مثلها أو أشد منها ولكن الناس آثروا الكتمان واتفقوا على النسيان‏.‏

    فإذا كان قتل الملك الرجل من العظماء بهذه المنزلة من قلوب الأعداء ومن قلوب الحكماء والغوغاء فما ظنك بمن لو أبصروا رجلاً قد أحياه بعد أن ضرب عنقه وأبان رأسه من جسده أليس كان يكون تعجبهم من إحيائه أشد من تعجبهم من قتله وكان يكون إخبارهم من خلفوا في منازلهم ومن ورد عليهم عن القتل ليكون سبباً للإخبار عن الإحياء إذ كان الأول صغيراً في جنب الثاني‏.‏

    فهذا يدل على أن أعلام الرسل عليهم السلام وآياتهم أحق بالظهور والشهرة والقهر للقلوب والأسماع من مخارجهم وشرائعهم‏.‏

    بل قد نعلم أن موسى عليه السلام لم يذكر ولم يشهر إلا لأعاجيبه وآياته‏.‏

    وكذلك عيسى عليه السلام ولولا ذلك لما كانا إلا كغيرهما ممن لا يشعر بموته ولا مولده‏.‏

    وكيف تتقدم المعرفة بهما المعرفة بأعلامهما وأعاجيبهما وأنت لم تسمع بذكرهما قط دون ما ذكر من أعلامهما‏.‏

    فإذا كان شأن الناس الإخبار عن كل عجيب وحكاية كل عظيم والإطراف بكل طريف وإيراد كل غريب من أمور دنياهم فما لا يمتنع في طبائعهم ولا يخرج من قوى الخليقة في البطش والحيلة أحق بالإخبار والإذاعة وبالإظهار والإفاضة هذا على أن يترك الطباع وما يولد عليه والنفوس وما تنتج والعلل وما يسخر‏.‏

    فكيف إن كان الله عز وجل قد خص أعلام أنبيائه وآيات رسله عليهم السلام من تهييج الناس

    فإن قال القائل‏:‏ إن الحجة لا تكون حجة حتى تعجز الخليقة وتخرج من حد الطاقة كإحياء الموتى والمشي على الماء وكفلق البحر وكإطعام الثمار في غير أوان الثمار وكإنطاق السباع وإشباع الكثير من القليل وكل ما كان جسماً مخترعاً وجرماً مبتدعاً‏.‏

    وكالذي لا يجوز أن يتولاه إلا الخالق ولا يقدر عليه إلا الله عز ذكره‏.‏

    فأما الأخبار التي هي أفعال العباد وهم تولوها وبهم كانت وبقولهم حدثت فلا يجوز أن يكون حجة إذ كان لا حجة إلا ما لا يقدر عليه الخليقة وما لا يتوهم من جميع البرية‏.‏

    قلنا‏:‏ إنا لم نزعم أن الأخبار حجة فيحتجون علينا بها وإنما زعمنا أن مجيئها حجة والمجيء ليس هو أمر يتكلفه الناس ويختارونه على غيره ولو كان كذلك لكانوا متى أرادوه فعلوه وتهيئوا له ولفعلوه في الباطل كما يجيء لهم في الحق‏.‏

    والمجيء أيضاً ليس هو فعلاً قائماً فيستطيعوه أو يعجزوا عنه وإنما هو الإنسان يعلم أنه إذا لقي البصريين فأخبروه أنهم قد عاينوا بمكة شيئاً ثم لقي الكوفيين فأخبروه بمثل ذلك أنهم قد صدقوا‏.‏

    إذ كان مثلهم لا يتواطأ على مثل خبرهم على جهلهم بالغيب وعلى اختلاف طبائعهم وهممهم وأسبابهم‏.‏

    فليس بين هذا وبين إحياء الموتى والمشي على الماء فرق إذ كان الناس لا يقدرون عليه ولا يطمعون فيه والمجيء إنما هو معنىً معقول وشيء موهوم‏.‏

    إذ كان كيف يكون ومعلوم أن الناس لا يمكنهم أن يقدروا ولا يستطيعون فعله‏.‏

    وإنما مدار أمر الحجة على عجز الخليقة‏.‏

    فمتى وجدت أمراً ووجدت الخليقة عاجزة عنه فهي حجة‏.‏

    ثم لا عليك جوهراً كان أو عرضاً أو موجوداً أو متوهماً معقولاً‏.‏

    ألا ترى أن فلق البحر ليس هو من جنس اختراع الثمار لأن الفلق هو انفراج أجزاء والثمار أجرام حادثة‏.‏

    وكذلك لو ادعى رجل أن الله عز وجل أرسله وجعل حجته علينا الإخبار بما أكلنا وادخرنا وأضمرنا لكان قد احتج علينا‏.‏

    فإن قلتم‏:‏ إن المنجمين ربما أخبروا بالضمير وبالأمر المستور وببعض ما يكون‏.‏

    قلنا‏:‏ أما واحدة فإن خطأ المنجمين كثير وصوابهم قليل بل هو أقل من القليل‏.‏

    وأنتم لا تقدرون أن تقفونا من أخبار المرسلين عليهم السلام في كثير أخبارهم على خطاء واحد والذي سهل قليل المنجمين طرافة ذلك منهم لأنهم لو قالوا فأخطئوا أبداً لما كان عجبا لأنه ليس بعجب أن يكون الناس لا يعلمون ما يكون قبل أن يكون ومن أعجب العجب أن يوافق قولهم بعض ما يكون‏.‏

    وقد نجد المنجمين يختلفون في القضية الواحدة ويخطئون في أكثرها‏.‏

    وقد نجد الرسول يخبرهم عما يأكلون ويشربون ويدخرون ويضمرون في الأمور الكثيرة المعاني والمختلفة في الوجوه حتى لا يخطىء في شيء من ذلك‏.‏

    وليس في الأرض منجم ذكر شيئاً أو وافق ضميراً إلا وأنت واجد بعض من يزجر قد يجيء بمثله وأكثر منه‏.‏

    فإن قلت‏:‏ إن الناس يكذبون في الإخبار عن الأعراب والكهان من كل جيل قلنا‏:‏ فهم في إخبارهم عن المنجمين أكذب‏.‏

    وبعد فالناس غير مستعظمين لكثرة كذب المنجمين وخطاياهم وخدعهم والناس يستعظمون اليسير من المرسلين عليهم السلام‏.‏

    وكلما كان الرجل في عينك أعظم وكان عن الكذب أزجر كان كذبه عندك أعظم‏.‏

    وإنما المنجم عند العوام كالطبيب الذي إن قتل المريض علاجه كان عندهم أن القضاء هو الذي قتله وإن برأ كان هو أبرأه‏.‏

    على أن صوابهم أكثر ودليلهم أظهر‏.‏

    وقد صار الناس لا يقتصرون للمنجمين على قدر ما يسمعون منهم دون أن يولدوا لهم ويضعوا الأعاجيب عن ألسنتهم‏.‏

    وكل ملحد في الأرض للرسول طاعن عليه عائب له يرى أن يصدق عليه كل كذاب يريد ذمه وأن يكذب كل صادق يريد مدحه‏.‏

    وبعد فلو كان خبر المنجمين في الصواب كخبر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذي هو حجة لما كان خبر المنجمين حجة‏.‏

    فإن قلت‏:‏ ولم ذاك قلت‏:‏ لأن من كثر صوابه على غير استدلال ومقايسة وعلى غير حساب وتجربة أو على نظر ومعاينة لم يكن الأمر من قبل الوحي لأنك لو قلت قصيدة في نفسك فحدثك بها رجل وأنت تعلم أنه ليس بمنجم وأنشدكها كلها لعلمت أن ذلك لا يكون إلا بوحي‏.‏

    ومثل ذلك رجل اشتد وجع عينه فعالجه طبيب فبرأ فلو جعل الطبيب ذلك حجة على نبوته لوجب علينا تكذيبه ولو قال رجل من غير أن يمسه أو يدنو إليه‏:‏ اللهم إن كنت صادقاً عليك فاشفه الساعة فبرأ من ساعته لعلمنا أنه صادق‏.‏

    فإن قالوا‏:‏ وما علمنا أن محمداً عليه السلام لم يكن منجماً قلنا‏:‏ إن علمنا بذلك كعلمنا بأن العباس وحمزة وعلياً وأبا بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعين لم يكونوا منجمين ولا أطباء متكهنين‏.‏

    وكيف يجوز أن يصير إنسان عالماً بالنجوم من غير أن يختلف إلى المنجمين أو يختلفوا إليه أو يكون علم النجوم فاشياً في أهل بلاده أو يكون في أهله واحد معروف به‏.‏

    ولو بلغ إنسان في علم النجوم وليست معه علة من هذه العلل وكان ومتى رأينا حاذقاً بالكلام أو بالطب أو بالحساب أو بالغناء أو بالنجوم أو بالعروض خفي على الناس موضعه وسببه‏!‏ وجميع ما ذكرنا فعناية الناس به وعداوتهم وشهرته في نفسه دون محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

    وهل نصب أحد قط لأحد إلا بدون ما نصب له رهطه وأدانى أهله ومن معه في بيته وربعه‏.‏

    وما أعرف - يرحمك الله - المعاند والمسترشد والمصدق والمكذب ينكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن منجماً ولا طبيباً‏.‏

    وإذا قال الجاهل‏:‏ إنه قد كان يعلم الخط فخفي له ذلك وتعلم الأسباب والقضاء في النجوم فخفي له ذلك وتعلم البيان وقدر منه على ما يعجز أمثاله عنه وخفي ذلك أليس مع قوله ما يعلم خلافه يعلم أنه قد سلم له أعجوبة كأعجوبة إبراء الأكمه والأبرص والمشي على الماء إذ كان ذلك لا يجوز ولا يمكن في الطبائع والعقل والتجربة‏.‏

    وافهم يرحمك الله ما أنا واصفه لك‏:‏ هل يجد التارك لتصديقه أنه لا يدري بزعمه لعله كان أعلم الخلق بالنجوم ناظراً لنفسه غير معاند لحجة عقله‏.‏

    وهو لم يجد أحداً قط برع في صناعة واحدة فخفي على الناس موضعه بكل ما حكينا وفسرنا‏.‏

    وأنت كيف تعلم أنه ليس في إخوانك من ليس بمنجم وأن فيهم من ليس بطبيب إلا بمثل ما يعرف به رهط النبي صلى الله عليه وآله منه‏.‏

    وكيف لم يشتهر ذلك ولم لم يحتج به عليه ولقد بلغ من إسرافهم في شتمه وإفراطهم عليه أن نافقوا وأحالوا لأنهم كانوا يقولون له‏:‏ أنت ساحر وأنت مجنون‏!‏ وإنما يقال للرجل‏:‏ ساحر لخلابته وحسن بيانه ولطف مكايده وجودة مداراته وتحببه‏.‏

    ويقال‏:‏ مجنون لضد ذلك كله‏.‏

    وليس ينتفع الناس بالكلام في الأخبار إلا مع التصادق ولا تصادق إلا مع كثرة السماع والعلم بالأصول لأن رجلاً لو نازع في الأخبار وفي الوعد والعيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ والفريضة والنافلة والسنة والشريعة والاجتماع والفرقة ثم حسنت نيته وناضح عن نفسه لما عرف حقائق باطل دون أن يكون قد عرف الوجوه وسمع الجمل وعرف الموازنة وما كان في الطبائع وما يمتنع فيها‏.‏

    وكيف أيضاً يقول في التأويل من لم يسمع بالتنزيل وكيف يعرف صدق الخبر من لم يعرف سبب الصدق واعلم أن من عود قلبه التشكك اعتراه الضعف والنفس عروف فما عودتها من شيء جرت والمتحير إلى تقوية قلبه ورد قوته عليه وإفهامه موضع رأيه وتوقيفه على الأمر الذي أثقل صدره أحوج منه إلى المنازعة في فرق ما بين المجيء الذي يكذب مثله والمجيء الذي لا يكذب مثله‏.‏

    وسنتكلف من علاج دائه وترتيب إفهامه إن أعان على نفسه بما لا يبقي سبباً للشك ولا علة للضعف‏.‏

    والله تعالى المعين على ذلك والمحمود عليه‏.‏

    ومتى سمعنا نبي الله عليه السلام اتكل على عدالته وعلى معرفة قومه بقديم طهارته وقلة كذبه دون أن جاءهم بالعلامات والبرهانات ولعمري لو لم نجد الحافظ ينسى والصادق يكذب والمؤمن يبدل لقد كان ما ذهبوا إليه وجهاً‏.‏

    فصل منه في ذكر دلائل النبي عليه الصلاة والسلام وباب آخر يعرف به صدقه


    وهو إخباره عما يكون وإخباره عن ضمائر الناس وما يأكلون وما يدخرون ولدعائه المستجاب الذي لا تأخير فيه ولا خلف له‏.‏

    وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين لقي من قريش والعرب ما لقي من شدة أذاهم له وتكذيبهم إياه واستعانتهم عليه بالأموال والرجال دعا الله جل وعز أن يجدب بلادهم وأن يدخل الفقر بيوتهم فقال صلى الله عليه وآله‏:‏ ‏"‏ اللهم سنين كسني يوسف‏.‏

    اللهم اشدد وطأتك على مضر ‏"‏‏.‏

    فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وقلت المزارع وماتت المواشي وحتى اشتووا القد والعلهز‏.‏

    فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة على كسرى يشكو إليه الجهد والأزل ويستأذنه في رعي السواد وهو حين ضمنه عن قومه وأرهنه قوسه‏.‏

    فلما أصاب مضر خاصة الجهد ونهكهم الأزل وبلغت الحجة مبلغها وانتهت الموعظة منتهاها عاد بفضله صلى الله عليه وسلم على الذي بدأهم به فسأل ربه الخصب وإدرار الغيث فأتاهم منه ما هدم بيوتهم ومنعهم حوائجهم فكلموه في ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ الله حوالينا ولا علينا ‏"‏‏.‏

    فأمطر الله عز وجل ما حولهم وأمسك عنهم‏.‏

    وكتب إلى كسرى يدعوه إلى نجاته وتخليصه من كفره فبدأ باسمه على اسمه فأنف من ذلك كسرى لشقوته وأمر بتمزيق الكتاب فلما بلغه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ اللهم مزق ملكه كل ممزق ‏"‏‏.‏

    فمزق الله جل وعز ملكه وجد أصله وقطع دابره لأن كل ملك في الأرض وإن كان قد أخرج من معظم ملكه فهو مقيم على بقية منه وذلك أن الإسلام لم يترك ملكاً بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام إلا أزاله عنه وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها ومعاقل يأوي إليها أو طرده إلى خليج منيع لا يقطعه إلا السفن فهم من بين هارب قد دخل في وجار أو اختفى في غيضة أو مقيم على فم شعب ورأس مضيق قد سخت نفسه عن كل سهل وأسلم كل مرج أو ملك لا قرار له وليس بذي مدر فيؤتى وإنما أصحابه أكراد يطلبون النجعة أو كخوارج يطلبون الغرة‏.‏

    فأما أن يكون ملك يصحر لهم ويقيم بإزائهم ويغاديهم الحرب ويمسيهم ويساجلهم الظفر ويناهضهم كما كانت ملوك الطوائف وكالذي كان بين فارس والروم فلا وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ‏"‏ إلى قوله عز ذكره‏:‏ ‏"‏ المشركون ‏"‏‏.‏

    فلم يرض أن أظهر دينه حتى جعل أهله الغالبين بالقدرة والظاهرين بالمنعة والآخذين الإتاوة‏.‏

    وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن‏:‏ أن احمل إلى هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي واجترأ علي ودعاني إلى غير ديني‏!‏ فأتاه فيروز فقال‏:‏ إن ربي أمرني أن أحملك إليه‏.‏

    فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن ربي خبرني أنه قد قتل ربك البارحة فأمسك علي ريثما يأتيك الخبر فإن تبين لك صدقي وإلا فأنت على أمرك ‏"‏‏.‏

    فراع ذلك فيروز وهاله وكره الإقدام عليه والاستخفاف به فإذا الخبر قد أتاه‏:‏ أن شيرويه قد وثب عليه في تلك الليلة فقتله‏.‏

    فأسلم وأخلص ودعا من معه من بقية الفرس إلى الله عز ذكره فأسلموا‏.‏

    فصل منه في ذكر النبي صلى الله عليه وآله


    ثم إن الذي تقدمه صلى الله عليه وآله من البشارات في الكتب المتقادمة في الأزمان المتباعدة والبلدان الموجودة بكل مكان على شدة عداوة أهلها وتعصب حامليها ومع قوة حسدهم وشدة بغيهم‏.‏

    وما ذلك ببديع منهم ومن آبائهم على أنهم أشبه بآبائهم منهم بأزمانهم‏.‏

    وكل الناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم‏.‏

    وآباؤهم الذين قتلوا أنبياءهم عليهم السلام وتعنتوا رسلهم صلى الله عليهم حتى خلاهم الله عز وجل من يده وأفقدهم عصمته وتوفيقه‏.‏

    ولم استدل على ذكره في التوراة والإنجيل والزبور وعلى صفته والبشارة به في الكتب إلا لأنك متى وجدت النصراني واليهودي يسلم بأرض الشام وجدته يعتل بأمور ويحتج بأشياء مثل الأمور التي يحتج بها من أسلم بالعراق‏.‏

    وكذلك من أسلم بالحجاز ومن أسلم من اليمن من غير تلاق ولا تعارف ولا تشاعر‏.‏

    وكيف يتلاقون ويتراسلون وهم غير متعارفين ولا متشاعرين ولو كانوا كذلك لظهر ذلك ولم ينكتم كما حكينا قبل هذا‏.‏

    ولو قابلت بين أخبارهم واحتجاجهم مع كثرة الألفاظ واختلاف المعاني لوجدتها متساوية‏.‏

    فإن قال قائل‏:‏ لم كانت أعلام موسى عليه السلام في كثرتها مع غي بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط في وزن أعلام محمد صلى الله عليه وسلم وفي قدرها مع أحلام قريش وعقول العرب‏.‏

    ومتى أحببت أن تعرف غي بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط ورجحان عقول العرب وأحلام كنانة فأت بواديهم ورباعهم‏.‏

    وانظر إلى بنيهم وبقاياهم كما نظرت إلى بني إسرائيل من اليهود وغي بني من مضى من القبط تعتبر ذلك وتعرف ما أقول‏.‏

    ثم انظر في أشعار العرب الصحيحة والخطب المعروفة والأمثال المضروبة والألفاظ المشهورة والمعاني المذكورة مما نقلته ثم تفقد وسل أهل العلم والخبرة عن بني إسرائيل فإن وجدت لهم مثلاً سائراً كما تسمع للقبط والفرس فضلاً عن العرب فقد أبطلنا فيما قلنا‏.‏

    وقد كان الرجل من العرب يقف المواقف ويسير عدة أمثال كل واحد منها ركن يبنى عليه وأصل يتفرع منه‏.‏

    أو هل تسمع لهم بكلام شريف أو معنىً يستحسنه أهل التجربة وأصحاب التدبير والسياسة أو حكم أو حكمة أو حذق في صناعة مع ترادف الملك فيهم وتظاهر الرسالة في رجالهم‏.‏

    وكيف لا تقضي عليهم بالغي والجهل ولم تسمع لهم بكلمة فاخرة أو معنىً نبيه لا ممن كان في المبدى ولا ممن كان في المحضر ولا من قاطني السواد ولا من نازلي الشام ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم فينا وكونهم معنا هل غير ذلك من أخلاقهم وشمائلهم وعقولهم وأحلامهم وآدابهم وفطنهم فقد صلح بنا كثير من أمور النصارى وغيرهم‏.‏

    وليس النصارى كاليهود لأن اليهود كلهم من بني إسرائيل إلا القليل‏.‏

    وبعد فلم يضرب فيهم غيرهم لأن مناكحهم مقصورة فيهم ومحبوسة عليهم فصور أولهم مؤداة إلى آخرهم وعقول أسلافهم مردودة على أخلافهم ثم اعتبر بقولهم لنبيهم عليه السلام‏:‏ ‏"‏ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ‏"‏ حين مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها‏.‏

    وكقولهم‏:‏ ‏"‏ أرنا الله جهرة ‏"‏ وكعكوفهم على عجل صنع من حليهم يعبدونه من دون الله بعد أن أراهم من الآيات ما أراهم‏.‏

    وكقولهم‏:‏ ‏"‏ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ‏"‏ فكان الذي جاء به موسى عليه السلام مع نقص بني إسرائيل والقبط مثل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مع رجحان قريش والعرب‏.‏

    وكذلك وعد محمد عليه السلام بنار الأبد كوعيد موسى بني إسرائيل بإلقاء الهلاس على زروعهم والهم على أفئدتهم وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم وأن يظفر بهم عدوهم‏.‏

    فكان تعجيل العذاب الأدنى في استدعائهم واستمالتهم وردعهم عما يريد بهم وتعديل طبائعهم كتأخير العذاب الشديد على غيرهم لأن الشديد المؤخر لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب‏.‏

    فسبحان من خالف بين طبائعهم وشرائعهم ليتفقوا على مصالحهم في دنياهم ومراشدهم في دينهم مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص بعلامة لها في العقل موقع كموقع فلق البحر من العين وذلك قوله لقريش خاصة وللعرب عامة مع ما فيهما من الشعراء والخطباء والبلغاء والدهاة والحلماء وأصحاب الرأي والمكيدة والتجارب والنظر في العاقبة‏:‏ إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي وصدقتم في تكذيبي‏.‏

    ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عللهم والكلام كلامهم وهو سيد علمهم فقد فاض بيانهم وجاشت به صدورهم وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيات والعقارب والذباب والكلاب والخنافس والجعلان والحمير والحمام وكل ما دب ودرج ولاح لعين وخطر على قلب‏.‏

    ولهم بعد أصناف النظم وضروب التأليف كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس والأسجاع والمنثور‏.‏

    وبعد فقد هجوه من كل جانب وهاجى أصحابه شعراءهم ونازعوا خطباءهم وحاجوه في المواقف وخاصموه في المواسم وبادوه العداوة وناصبوه الحرب فقتل منهم وقتلوا منه وهم أثبت الناس حقداً وأبعدهم مطلباً وأذكرهم لخير أو لشر وأنفاهم له وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة ثم لا يعارضه معارض ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر‏.‏

    ومحال في التعارف ومستنكر في التصادق أن يكون الكلام أخصر عندهم وأيسر مئونة عليهم وهو أبلغ في تكذيبهم وأنقض لقوله وأجدر أن يعرف ذلك أصحابه فيجتمعوا على ترك استعماله والاستغناء به وهم يبذلون مهجهم وأموالهم ويخرجون من ديارهم في إطفاء أمره وفي توهين ما جاء به ولا يقولون بل لا يقول واحد من جماعتهم‏:‏ لم تقتلون أنفسكم وتستهلكون أموالكم وتخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرة والمأخذ في أمره قريب‏!‏ ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاماً في نظم كلامه كأقصر سورة يخذلكم بها وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها‏.‏

    بل لو نسوا ما تركهم حتى يذكرهم ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف‏.‏

    فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرين‏:‏ إما أن يكونوا عرفوا عجزهم وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم فرأوا أن الإضراب عن ذكره والتغافل عنه في هذا الباب وإن قرعهم به أمثل لهم في التدبير وأجدر أن لا يتكشف أمرهم للجاهل والضعيف وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلاً وإلى اختداع الأنبياء سبباً فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه وهو قوله عز ذكره‏:‏ ‏"‏ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ‏"‏‏.‏

    وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله عز وجل أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائلة وقد سمعوه في كل منهل وموقف‏.‏

    والناس موكلون بالخطابات مولعون بالبلاغات‏.‏

    فمن كان شاهداً فقد سمعه ومن كان غائباً فقد أتاه به من لم يزوده‏.‏

    ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحلماء مع اختلاف عللهم وبعد هممهم وشدة عداوتهم الإطباق على بذل الكثير وصون اليسير‏.‏

    وهذا من ظاهر التدبير ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجهال فكيف على العقلاء وأهل المعارف فكيف على الأعداء لأن تحبير الكلام أهون من القتال ومن إخراج المال‏.‏

    ولم يقل‏:‏ إن القوم قد تركوا مساءلته في القرآن والطعن فيه بعد أن كثرت خصومتهم في غيره‏.‏

    ويدلك على ذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ‏"‏ وقوله عز ذكره‏:‏ ‏"‏ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ‏"‏ وقوله تعالى جل ذكره‏:‏ ‏"‏ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ‏"‏‏.‏

    ويدلك كثرة هذه المراجعة وطول هذه المناقلة على أن التقريع لهم بالعجز كان فاشياً وأن عجزهم كان ظاهراً‏.‏

    ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم بالنظر والتأليف ولم يكن أيضاً أزاح علتهم حتى قال تعالى‏:‏ ‏"‏ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ‏"‏ وعارضوني بالكذب لقد كان في تفصيله له وتركيبه وتقديمه له واحتجاجه ما يدعو إلى معارضته ومغالبته وطلب مساويه‏.‏

    ولو لم يكن تحداهم من كل ما قلنا وقرعهم بالعجز عما وصفنا وهل هذا إلا بمديحه له وإكثاره فيه لكان ذلك سبباً موجباً لمعارضته ومغالبته وطلب تكذيبه إذ كان كلامهم هو سيد عملهم والمئونة فيه أخف عليهم وقد بذلوا النفوس والأموال‏.‏

    وكيف ضاع منهم وسقط على جماعتهم نيفاً وعشرين سنة مع كثرة عددهم وشدة عقولهم واجتماع كلمتهم‏!‏ وهذا أمر جليل الرأي ظاهر التدبير‏.

    فصل منه في ذكر امتناعهم من معارضة القرآن لعلمهم بعجزهم عنها

    والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء وإسحاق بن طالوت والنعمان بن المنذر وأشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعز ذلاً وبالإيمان كفراً والسعادة شقوة وبالحجة شبهة‏.‏

    بل لا شبهة في الزندقة خاصة‏.‏

    فقد كانوا يصنعون الآثار ويولدون الأخبار ويبثونها في الأمصار ويطعنون في القرآن ويسألون عن متشابهه وعن خاصه وعامه ويضعون الكتب على أهله‏.‏

    وليس شيء مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهل غبي ولا معاند ذكي‏.‏

    ولما كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر ولم يكن أصحابه قط في زمان أشد استحكاماً فيه منهم في زمانه بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه وكشف ضعفه وإظهاره ونقض أصله لردع الأغبياء من القوم ولمن نشأ على ذلك من السفلة والطغام‏.‏

    لأنه لو كان أتاهم بكل شيء ولم يأتهم بمعارضة السحر حتى يفصل بين الحجة والحيلة لكانت نفوسهم إلى ذلك متطلعة ولاعتل به أصحاب الأشغاب ولشغلوا به بال الضعيف ولكن الله تعالى جده أراد حسم الداء وقطع المادة وأن لا يجد المبطلون متعلقا ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلاً مع ما أعطى الله موسى عليه السلام من سائر البرهانات وضروب العلامات‏.‏

    وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله وعلى خاصة علمائه الطب وكانت عوامهم تعظم على ذلك خواصهم فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى إذ كانت غايتهم علاج المرضى‏.‏

    وأبرأ لهم الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد مع ما أعطاه الله عز وجل من سائر العلامات وضروب الآيات لأن الخاصة إذا بخعت بالطاعة وقهرتها الحجة وعرفت موضع العجز والقوة وفصل ما بين الآية والحيلة كان أنجع للعامة وأجدر أن لا يبقى في أنفسهم بقية‏.‏

    وكذلك دهر محمد صلى الله عليه وسلم كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به‏.‏

    فحين استحكمت لفهمهم وشاعت البلاغة فيهم وكثر شعراؤهم وفاق الناس خطباؤهم بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه‏.‏

    فلم يزل يقرعهم بعجزهم وينتقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم كما تبين لأقويائهم وخواصهم‏.‏

    وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات‏.‏

    ولكل شيء باب ومأتىً واختصار وتقريب‏.‏

    فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يفحم أعجب الأمور عندهم ويبطل أقوى الأشياء في ظنهم‏.‏

    تمت بحمد الله تعالى رسالة الجاحظ في حجج النبوة.
    التعديل الأخير تم 02-29-2008 الساعة 12:03 AM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي أدلة الفلاسفة المسلمين

    أدلة أخرى على شهادة أن محمد رسول الله

    أدلة الفلاسفة المسلمين


    الحمد لله رب العالمين، العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب للناس فيها الهداية والنور، والرشاد والفلاح، تبين للناس ما أمرهم به ربهم، حتى يعبدوه على بصيرة وعلم، فمن اتبع الهدى والنور فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عنها ضل وشقا.

    فالرسل الكرام هم مصابيح الدجى، الذي يستضيء بها الناس الطريق إلى ربهم، وهم الرحمة المهداة الذي أرسل الله- عز وجل- ليخرجوا الناس من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام، فهم المبشرين والمنذرين، الداعون إلى توحيد رب العالمين، سيدهم وإمامهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم- فشهادة أنه رسول الله هي الركن الثاني من أركان شهادة التوحيد، والأدلة الدالة على شهادة أن محمد رسول الله قد قامت عليها الدلائل الكثيرة في نواحي مختلفة حتى صارت حقاً كالعيان لا يستطيع المكابر ولا المعاند أن ينكره، وهذه الأدلة على اختلاف أنواعها قد بلغت حد التواتر الذي يفيد القطع بحصوله، وهذه الأدلة كثيرة ومتنوعة منها ما امتلأ بها القرآن الكريم ،والقرآن الكريم نفسه فهو من أعظم المعجزات التي أيده بها، وهو المعجزة الخالدة الدالة على نبوته، ومنها المعجزات التي حصلت له-صلى الله عليه وسلم-، وأيده الله-عز وجل- بها وهي كثيرة جداً، والبشارات في كتب الأولين من الأمم السابقة، ومن الأدلة التي يمكن الاستدلال بها على شهادة أن محمد رسول الله ما شهد به غير المسلمين من أهل العدل والإنصاف الذين لا يجدون إلا الإقرار والتسليم بأن محمد هو رسول من عند الله – عز وجل- عند المشاهدة والاطلاع على البينات والمعجزات التي أيده الله بها، ومنها الأدلة العقلية التي استدل بها المتكلمون والفلاسفة وغيرها كثير وكلها تدل على شهادة أن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.

    وهذه الدلائل -اعني دلائل النبوة- ، وعلى وجه الخصوص نبوة سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم- ظاهرة ومعلومة يعرفها العالم والجاهل، ويفهمها العربي والعجم، فهي عامة لكل الناس لأنه رسول للبشرية جميعاً وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم في الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

    فالله –عز وجل- يؤيد رسله الكرام بكثير من المعجزات والبينات الباهرات للدلالة على صدق هؤلاء الرسل الكرام عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وخاتم هؤلاء الرسل الكرام محمد -صلى الله عليه وسلم- فالأدلة على نبوته كثيرة.

    ومن جملة الأدلة التي يستدل بها على ذلك ما يستدل به علماء أهل الكلام على نبوة الأنبياء الكرام ، وعلى نبوة نبيا محمد -صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص، وكذلك ما يستدل به أهل الفلسفة من المسلمين على ذلك وهو موضوع بحثنا هذا.

    فأهل الفلسفة والكلام من علماء الإسلام يستدلون على صدق النبوة بأدلة عقلية نعرض لها على وجه الإيجاز في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

    وناسب قبل الخوض في الموضوع التنبيه على أمرين أثنين: وهو أتفاق الشرائع على أثبات النبوات، وشروط صحة النبوة.

    إتفاق الشرائع على النبوات:

    هذا الأمر وهو أمر النبوة من الأمور التي اتفقت عليها الشرائع التي عرفتها البشرية، فالأنبياء عليهم السلام جميعا على اختلاف أعصارهم، وعلى كثرة أعدادهم، وتباين أزمانهم، وأماكنهم، وعلى اختلاف من أرسلوا إليهم فهم محل أتفاق عند جميع الشعوب والأمم بالجملة.

    يقول الشوكاني-رحمه الله-: وبالجملة فلا شك ولا ريب أن الأنبياء متفقون على تصديق بعضهم بعضا، وأن ما جاء به كل واحد منهم هو من عند الله -عز وجل-، وقد عرفناك فيما سبق أن عددهم بلغ إلى مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا ولا خلاف بين أهل النظر أن اتفاق مثل هذا العدد يفيد العلم الضروري، إلى أن يقول: ومن أنكر في هذا الاتفاق فعليه بمطالعة التوراة فإنها قد اشتملت على حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى بعثة موسى وفيها التصريح بتصديق بعضهم بعضا ولم يقع من أحد منهم الإنكار لنبوة أحد ممن تقدمه ثم جاء من بعد موسى وهارون أنبياء بني إسرائيل وكل واحد منهم يقر بمن تقدمه وثبت نبوته كما اشتمل على ذلك كتب نبواتهم، وكذلك الإنجيل...، ثم ساق -رحمه الله- كثير من البشارات التي بشرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس هذا محل الحديث عنها(1). والشاهد أن أمر النبوة هو محل اتفاق عند جميع الشرائع والأمم.

    ولم يشذ عن هذا الاتفاق سوء ثلاثة أصناف والشاذ لا حكم له ولم يأتوا ببرهان على ذلك ولا ببينه وما استدلوا به قد بلغ من الضعف ما هو أوهى من خيط العنكبوت، وهي أقرب للخرافة والأوهام والخزعبلات القائمة على الأهواء، وهي احتمالات عقلية فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان ولسنا في هذا المقام في معرض الرد عليهم، فقولهم ظاهر البطلان، قد علم بالعقل والضرورة بطلانها.

    يقول أبو الحسن الماوردي –رحمه الله- وهو يتحدث عن أصناف المنكرين:

    أحد هذه الأصناف: هم ملاحدة دهرية يقولون بقدم العالم وتدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل أجدر.

    والصنف الثاني: براهمة موحدة يقولون بحدوث العالم ويجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات وهم المنسوبون إلى بهرمن صاحب مقالتهم، وشذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر، ويمكن القول أن بعضهم أقر ببعض النبوات، وإنكار جميع النبوات عموما.

    والصنف الثالث: فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوات في الظاهر وهم مبطلوها في تحقيق قولهم لأنهم يقولون: إن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة والهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا(2).

    شروط صحة النبوة:

    فالنبوة لا تكون إلا من عند الله-عز وجل- ولا تصح دعوى النبوة إلا بثلاثة شروط:

    الشرط الأول: أن يكون مدعي النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته وظهور فضله وكمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها وفقد أمانتها.

    والشرط الثاني: إظهار معجز يدل على صدقه ويعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ليعلم أنها منه فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه ويكون المعجز دليلا على صدقه وصدقه دليلا على صحة نبوته.

    والشرط الثالث: أن يقرن بالمعجز دعوى النبوة فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف، ولها حالتين أما أن تكون المعجزة قبل النبوة فهو تأسيس للنبوة ككلام عيسى-عليه السلام- في المهد تأسيسا لنبوته فاحتاج مع دعوى النبوة إلى إحداث معجز يقترن بها ليدل على صدقه فيها.

    و إن تقدمت دعوى النبوة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها(3).

    طرق أهل الفلاسفة والكلام في إثبات النبوات:

    الأدلة التي يستدل بها الأنبياء على صدق رسالتهم، وصدق دعوهم متنوعة، ونذكر هنا ما يذكره أهل الفلسفة والكلام من الأدلة التي تدل على صدق مدعي النبوة:

    فجملة ما يستدلون به هي أدلة عقلية مع ما فيها من كلام:

    - العلم الضروري واضطرار كافة الخلق إليها:

    وخلاصة هذا الدليل كما يذكره الغزالي أن جوهر الإنسان يمر بأطوار أولها طور الإدراك فيدرك به أجناس الموجودات كالحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، واللين، والخشونة، وغيرها، ثم حاسة البصر، فيدرك بها الألوان والأشكال، وهو أوسع عالم المحسوسات، والسمع ثم يدرك الأصوات والنغمات، ثم يخلق له الذوق، وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات، فيخلق فيه التمييز، وهو قريب من سبع سنين، وهو طور آخر من أطور وجوده، فيدرك فيه أموراً زائدة على عالم المحسوسات.

    ثم يرتقي إلى طور العقل فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات، ووراء العقل طور آخر تفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأموراً أخرى، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز، من إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز، فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي، يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات، والحواس معزولة عنها، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب، وأمور لا يدركها العقل(4).

    فالنبوة شيء ضروري وهام، ويحتاجه جميع الخلق، فهناك أمور لا يمكن إدراكها بالعقل، ولا يفهمها أو يعقلها عقل العقلاء، والوحي الذي جاء به الأنبياء هو الطريق الذي يمكن به أدراك هذه الأمور فعلم بذلك الحاجة والضرورة للنبوة.

    يقول الحوالي في شرح العقيدة الطحاوية: والمتكلمون يقولون: إن النبوة علم ضروري، فالعلم بنبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم الضروري، والخطأ الذي يقعون فيه أنهم يحصرون العلم الضروري بمصادر محدودة، وينسون أن له مصادر ومجالات أعظم مما يحدونه به، ومن ذلك مثلاً: ما يقال في علم الكلام أو في كتب العقائد: أن من أهم السبل لحصول العلم الضروري القطعي طريق التواتر، فإذا أصبحت المسألة متواترة، لم تعد تحتاج إِلَى عرضها عَلَى العقل، ولا إِلَى النظر والتفكير، ويقول: والناظر إِلَى دلائل نبوة النبي –صلى الله عليه وسلم- وإلى آياته يجد أن كل آية منها حصلت عن طريق التواتر إلا القليل(5), والشاهد أن من أدلتهم علم الضرورة الحاصل بوقع النبوات.

    المعجزات:

    وهي من أشهر طرق المتكلمين في تقرير نبوة الأنبياء، وقد أطالوا فيها الكلام(6)، وقرروا ذلك بطرق مضطربة وقد أدى ذلك إلى إنكار بعضهم خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك، وقد أطالوا الحديث في هذا ولهم تفاصيل ومناقشات كثيرة أعرضنا عنها.

    يقول ابن أبي العز-رحمه الله-: والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات وقرروا ذلك بطرق مضطربة والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك, ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لكن الدليل غير محصور في المعجزات فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرف بهما والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة فكيف بدعوة النبوة ؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه:

    لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر (7).

    ويقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- عن معجزات الأنبياء الكرام: وللنظار طرق في التمييز بينها وبين غيرها وفي وجه دلالتها ثم ذكر ما حكاه أهل الكلام في التمييز بين المعجزات وغيرها من الكرامات، وهي طريقة أكثر المعتزلة(8).

    وكلام أهل الفلسفة والكلام في النبوات قليل، ولم نجد لهم كلاماً كثيراً حول هذا الموضوع فهم على طائفتين أعني الفلاسفة فمنهم من ينكر النبوة كما سبق وذكرنا، وهؤلاء ليسوا مسلمين، والكلام ليس معهم، وطائفة يثبتونها لكن كلامهم فيها قليل منهم الفلاسفة المنتسبين للإسلام، فأهم أدلتهم العلم الضروري، والمعجزات، والأهم من هذا كله أن الأدلة التي تدل على صدق الأنبياء عليهم السلام كثيرة، من جملتها من يستدل به أهل الفلسفة والكلام من المسلمين على صدق النبوات.

    والله نسأل أن يهدينا إلى الصواب، وأن يلهمنا الرشد والرشاد، والتوفيق والسداد أنه على ما يشاء قدير، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام القائمين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



    جمع وإعداد: خالد حسن محمد البعداني

    بتاريخ:27/ جماد أول /1428هـ, الموفق: 13/ 6/ 2007م

    مراجعة: علي عمر بلعجم. 23/7/2007م.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) - باختصار من إرشاد الثقات: 1/25.

    (2) - أنظر أعلام النبوة: 1/33، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي.

    (3) - باختصار مع تصرف يسير من أعلام النبوة: 1/33.

    (4) - المنقذ من الضلال: 1/15.

    (5) - شرح الطحاوية للحوالي: 1/1592.

    (6) - أنظر ما ذكره الإمام الغزالي –رحمه الله – في نهاية الإقدام في علم الكلام: 1/145.

    (7) - شرح العقيدة الطحاوية: 1/149.

    (8) - النبوات: 1/3.
    التعديل الأخير تم 02-29-2008 الساعة 01:26 AM
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي بحث ثالث

    الأدلة العقلية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

    في البداية أقول: أن النبوة إما يدعيها أحد إثنين لا ثالث لهما، فقد يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولايلتبس هذا بهذا على من كان له أقل حظ من النظر وهو ما سيتوضح في الأدلة التي سأذكرها.

    الدليل العقلي الأول:

    قرائن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم التي عايشها الصحابة رضي الله عنهم.
    فقرائن أحواله تعرب عنه وتعرف به هل هو صادق أم كاذب؟
    وهذه القرائن عايشها الصحابة رضي الله عنهم فهم ليسوا بأغبياء ولا سفهاء حتى يصدقوا نبوته دون أن يركزوا على هذه القرائن بل هي ستفضح كذب محمد إذا كان غير صادق بدون أن يصدر منهم ذلك التركيز الدقيق.
    فلو كان كاذباً لظهر عليه الجهل والكذب والفجور والخداع والمراوغة إلى أخر أنواع الكذب والخداع لكن الذي ظهر من محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك حيث ظهر عليه العلم والصدق والبر والوضوح والصراحة والسلامة من التناقض والعدل والإنصاف وجميع الأمور التي تدل على صدقه، فالنبوة ليس ادعائها أمراً سهلاً فهي مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!
    فمن عرف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله علم علماً يقينياً أنه نبي صادق،
    كيف لا؟!
    وقد دل على صدقه ما اقترن به من القرائن منذ إدعائه النبوة إلى أن مات.

    الدليل العقلي الثاني:

    النظر في ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
    فالرسول لابد أن يخبر الناس بأمور، وأن يأمرهم بأمور وأن ينهاهم عن أمور، ولا بد أن يفعل أيضاً أموراً، فيعمل كل ذلك لكي يبين للناس أنه نبي صادق مبلغ عن الله تعالى وليؤكد أنه شرع الله سبحانه الجديد، فلو كان كاذباً لظهر في نفس ما يخبر عنه وفي نفس ما يأمر به وينهى عنه وفي نفس ما يفعله على وجه التشريع ما يتبين به كذبه من وجوه كثيرة،
    لكن من عرف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع وتفاصيلها يتبين له صدقه، وأنه نبي مرسل لا كذاب مخادع، فهي شاملة لكافة أوجه التشريع سواء ما يتعلق منها بالفرد أو المجتمع، وسواء أكان في العقيدة أو العبادة أو المبادئ والأخلاق، أو الإجتماع أو الإقتصاد أو السياسة في السلم أو الحرب، في السفر أو الحضر، في
    الليل أو النهار، وليس فيه نقص أو قصور ولا عيب أو خلل،
    ويشتمل على الهدى والرحمة والمصلحة والخير وعلى صيانة الفرد والمجتمع من الرذيلة والشر.
    فمن نظر فيها بتمعن يتأكد أن هذه الشرائع لايمكن أن تصدر من بشر بل من نبي مرسل يبلغ عن الله تعالى.

    الدليل العقلي الثالث:

    التمييز بين الصادق من الكاذب فيم دون دعوى النبوة فكيف بدعوى النبوة؟!
    لاشك أن التميز بين الصادق من الكاذب له طرق كثيرة في غير دعوى النبوة، فلو أن شخصين ادّعيا أمراً وأحدهما صادق والآخر كاذب، فلا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة، ثم إن الناس يميزون هل الإنسان صادق أم كاذب فيم يدعيه بأنواع من الأمور، فمن يدعي مثلاً أنه طبيب لابد أن ينكشف أمره بأنواع من الأمور ينجلي بها كذبه
    ويظهر بها زيف إدعائه، فإذا كان ذلك فيم هو دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟! (4)

    الدليل العقلي الرابع :

    الإعجاز في القرآن.
    جرت سنة الله تعالى أن يظهر على يد كل نبي من أنبيائه معجزة يظهر بها على قومه وتكون دليلأعلى صدقه في أنه مرسل من الله تعالى.
    والمعجزة في الإصطلاح هي: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي لايمكن معارضته يجريه الله تعالى على يد نبي من انبيائه تشهد على صدقه.
    والقرآن الكريم معجزة يعجز المخاطبين بالقرآن من وقت نزوله إلى يوم القيامة عن الإتيان بمثله، ولانهاية لوجوه إعجازه فلن يستطيع أحد حصرها، وليس المراد هنا ذكر أغلبها بل ذكر وجهين منها لعلها تفتح الباب لمن أراد التعرف على أكثرها وليتضح بها إعجاز القرآن وهما:

    أ- الإعجاز اللغوي:
    وهومن أبرز وجوه الإعجاز وأظهرها، والناظر في القرآن لايخلو من حالتين:
    الحالة الأولى: أن يكون ممن لم يؤتو قوة المعرفة للفصل بين درجات الكلام والتفريق بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح.
    الحالة الثانية: أن يكون قد أوتي حظاً من التمييز بين الأساليب ومعرفة درجات الفصاحة والبلاغة.
    فمن لا يعرف اللغة العربية لا شك أنه من الفئة الأولى فلا سبيل له لمعرفة إعجاز القرآن وبلاغته بحسه وذوقه وإنما سبيله أن يقتنع بشهادة أهل الخبرة والمعرفة وهم هنا أهل الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع من العرب.
    وإن كان من الفئة الثانية في لغته على إختلاف اللغات وأوتي شيئاً من إدراك الفصاحة والبلاغة فهذه اللغة العربية أمامه فليدرسها ويتعلمها ثم يقارن بين القرآن الكريم ونصوص البلغاء من أبيات الشعراء وكلمات الخطباء يختار منها ما يشاء من أرقى صور البلاغة ثم ينظر في آية من القرآن الكريم فسيجد البون شاسعاً والفرق كما بين الثرى والثريا.
    ومما يؤكد ما ذكر ويبين ما وصف أن يدع الإنسان القارئ المجود يقرأ القرآن حق ترتيله فيسمع جرس حروفه وحركاتها وسكناتها ومداتها وغناتها ووصلها وسكتها فسيجد إتفاقاً وائتلآفاً يسترعي السمع، فهذا الجمال في لغة القرآن لايخفى على أحد حتى الذين لا يعرفون لغة العرب، إنه النظام الصوتي البديع الذي يبرهن على ما يتجلى في
    نظم تلك الحروف ورصفها وعلاقتها مع بعضها.
    ومن مظاهر الإعجاز اللغوي في القرآن:
    أن يبهرك القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى وتصوير المعاني تصويراً دقيقاً، وأن يبهرك أيضاً الخطاب القرآني المعجز فإنه لا يعلو عن أفهام العامة ولا يقصر عن مطالب الخاصة يقرأ فيه العامي فيشعر بجلاله ويقرأ فيه العالم فيدرك فصاحته وتنجلي له علومه ومعارفه وتدهشه أخباره وأنبأئه، إنه خطاب واحد يخاطب به العلماء والعامة، والملوك والرعية، والأذكياء وقليلي الفهم، والصغير والكبير، والذكر وانثى، ويرى كل منهم فيه مطلبه ويدرك من معانيه ما يكفيه فذلك ما نجده على أتمه وأكمله إلا في القرآن الكريم وحده.
    ومما يبهرك أيضاً ما يتصف به القرآن من إقناع العقل وامتاع العاطفة، ففي كل إنسان قوتان قوة تفكير وقوة عاطفة ووجدان، فالقوة الأولى تغوص باحثة عن الحقائق المستترة والمعاني الباطنة، والقوة الثانية تطفو فتبحث عن الجمال والإطمنان، وقد جمع القرآن هاتين القوتين قوة الحقيقة البرهانية وقوة المتعة الوجدانية ففي معمعة البراهين والأحكام لا ينسى نصيب القلب والوجدان، وما ذلك إلا لكونه كلام رب العالمين الذي لا يشغله شأن عن شأن.
    والقرآن نزل مفرقأ في ثلاث وعشرين سنة تقريبأً وهذه مدة طويلة يعجز أي أديب أو كاتب أو بليغ أن يحتفظ بأسلوبه أو بيانه، وخصائصة البلاغية أو الفنية هذه السنوات الطوال، ومهما كانت درجته ومقدرته البلاغية فلا بد أن نجد في أسلوبه إختلافاً ولو للأحسن والأرقى، مما يظهر الضعف والركاكة في بداية الأمر، والجزالة وحسن السبك في نهايته، ولم يوجد ذلك في القرآن لإنه من الله ولو كان من عند غير الله لوجدنا فيه إختلافاً كثيراً.
    وهذا الإعجاز اللغوي في القرآن يدل على أنه كلام الله وأنه ليس من كلام البشر وأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول مبلغ عن الله.


    أ- الإعجاز العلمي في القرآن:

    نؤمن نحن المسلمون بأن القرآن كلام الله تعالى كما أن الكون كله خلق الله سبحانه ولا يشك مؤمن في التطابق التام بين كلام الله تعالى وحقائق هذا الكون ونظامه، ولا ريب أن الإنسان حين يقرأ إكتشافاً علمياً جديداً أثبته العلماء بالبرهان القاطع ثم يجد ذلك مذكوراً في القرآن أو ما يوافق القرآن يشعر إن كان مسلماً بزيادة الطمائنينة القلبية، وإن كان كافراً فإنه يشعر بأن هذا القرآن حق وأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي صادق. (5)
    والأمثلة على الحقائق العلمية والآيات القرانية التي توافقها كثيرة واذنوا لي بذكر شيء منها بالتفصيل نقلاً عن موقع مكنون الإعجاز العلمي في القرآن(maknoon.com) :
    المثال الأول:
    مراحل تَخَلُّق الجنين


    آيات الإعجاز:

    قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14].

    وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:

    37-39].

    وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 7-8].

    التفسير اللغوي:

    قال ابن منظور في لسان العرب:
    - نطفة: النُّطفة والنُّطافة: القليل من الماء، والجمع نُطاف.

    والنُّطفة ماء الرجل.

    - علقة: عَلِقَ بالشيء عَلَقاً وعَلِقَهُ: نشب فيه.

    والعَلَقُ: الدم، وقيل الدم الجامد الغليظ.

    وقيل: الجامد قبل أن ييبس.

    وقيل: بمعنى اشتدت حمرته.

    والقطعة منه: عَلَقَةٌ.

    وفي التنزيل: {ثم خلقنا النطفة علقة}.

    - مضغة: مضَغَ يمضُغُ ويمضَغُ مَضْغاً: لاك.

    وأمضغه الشيء ومضّغه: ألاكه إياه.

    والمضغة: القطعة من اللحم.

    وقيل تكون المضغة غير اللحم.

    وقال الإمام النووي في تهذيب أسماء اللغات: إذا صارت العلقة التي خُلِقَ منها الإنسان لحمة فهي مضغة.

    فهم المفسرين:

    ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري شرح صحيح البخاري) (11/481) قول الإمام ابن قيم

    الجوزية رحمهما الله تعالى عن تطور خلق الجنين ما نصّه: "إن داخل الرحم خشن كالإسفنج… وجعل فيه قبولاً للمني

    كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالباً مشتاقاً إليه بالطبع… فلذلك يمسكه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده

    الهواء… فيأذن الله لملك الرحم في عقده أربعين يوماً، وفي تلك الأربعين يجمع خلقه.. قالوا إن المني إذا اشتمل عليه

    الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد (مرحلة الكرة الجرثومية في اصطلاح علم الأجنة الحديث) إلى تمام ستة

    أيام، فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة

    أيام ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر يوماً، فتتميز الأعضاء الثلاثة ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر

    يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين بحيث يظهر للحس في أربعة أيام، فيكمل في أربعين يوماً…".

    وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "يعني ماء

    الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ثم ينتقل بعدُ من طور إلى طور ومن حال إلى حال ومن لون إلى لون".

    مقدمة تاريخية:

    مرّ تاريخ علم الأجنة بثلاث مراحل أساسية هي المرحلة الوصفية ومرحلة علم الأجنة التجريبي ومرحلة التقنية

    واستخدام الأجهزة.

    1- المرحلة الوصفية أو علم الأجنة الوصفي:

    - تعود إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد وتستمر حتى القرن التاسع عشر.

    وتم خلالها وصف الملاحظات الخاصة بظاهرة تطور الجنين.

    - وقد وُجدت بعض السجلات المدونة من قشرة السلالات الفرعونية الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة

    حيث كان الاعتقاد بأن للمشيمة خواص سحرية خفية.

    - أما اليونان القدماء فهم أول من ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلاتهم المنطقية، ولم تُسجَّل منذ عام 200 بعد الميلاد

    حتى القرن السادس عشر أية معلومات تذكر عن علم الأجنة.

    - وأما في القرن السادس عشر وما بعده فقد مهّدت أبحاث "فيسالبوس" و"فابريسيوس" و"هارفي" لبدء عصر الفحص

    المجهري، وتم اكتشاف الحيوان المنوي من طرق العالمين "هام" و"فان لوفينهوك" عام 1701م. إلا أن اختراع

    المجهر لم يكن كافياً لبيان تفاصيل تكوين الحيوان المنوي حيث اعتقد العلماء بأن الإنسان يكون مخلوقاً خلقاً تاماً في

    الحيوان المنوي في صورة قزم، وبينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يُخلَقٌ خلْقاً تاماً في بيضة، كان فريق

    آخر يقرر أن الإنسان يُخلق خلقاً تاماً في الحيوان المنوي. ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا حوالي عام 1775م عندما

    أثبت "سبالانزاني" أهمية كل من الحيوان المنوي والبويضة في عملية التخلق البشري.

    2- مرحلة علم الأجنة التجريبي:

    بدأت هذه المرحلة في أواخر القرن التاسع عشر حتى الأربعينات من القرن العشرين حيث قفزت أبحاث العالم "فون

    باير" بعلم الأجنة من مرحلة التجارب والمشاهدات إلى مرحلة صياغة المفاهيم الجنينية، كما طور العالم "روس

    هاريسون" تقنية زرع الحبل السري وبدأ "أوتو واربوغ" دراساته عن الآليات الكيميائية للتخلق، ودرس "فرانك

    راتزي ليلي" طريقة إخصاب الحيوان المنوي للبويضة، كما درس "هانس سبيما" آليات التفاعل النسيجي كالذي

    يحدث خلال التطور الجنيني، ودرس "يوهانس هولتفرتر" العمليات الحيوية التي تُظهِر بعض الترابط بين خلايا

    الأنسجة فيما بينها أو بينها وبين خلايا الأنسجة الأخرى.

    3- مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة:

    وتمتد هذه المرحلة من الأربعينات إلى يومنا هذا، وقد تأثرت تأثراً بالغاً بتطور الأجهزة الطبية مما كان له التأثير

    القوي على مسار البحوث العلمية.

    فلقد كان اكتشاف المجهر الإلكتروني وآلات التصوير المتطورة وأجهزة قياس الشدة النسبية لأجزاء الطيف، وكذا

    ظهور الحاسوب ومجموعة الكشف عن البروتينات والأحماض النووية، كل هذه كانت عوامل سمحت للعلماء بإجراء

    تجارب كانت تبدو قبل سنوات فقط من الأحلام الخيالية حيث تم التوصل إلى فهم ووصف دقيق لمراحل التخلق

    الجنيني بفضل كل هذه الأجهزة الحديثة.

    حقائق علمية:

    - لقد كشف علم الأجنة الحديث عن المراحل التي يتم فيها خلق الإنسان وحدّدها بالأطوار التالية:

    أ- مرحلة التخلق الأولى:

    1- النطفة
    2- العلقة
    3- المضغة
    4- كساء العظام
    5- كساء العظام باللحم

    ب- طور النشأة
    جـ- طور قابلية الحياة
    د- طور الحضانة الرحمية
    هـ- طور المخاض

    التفسير العلمي:

    لقد ذكر القرآن الكريم المراحل الأساسية للتخلق البشري من لحظة الحمل إلى الولادة، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا

    الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا

    الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14].

    وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:

    37-39].

    وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 7-8].

    وتلك المراحل على ضوء الآيات الكريمة السابقة قسمان بارزان:

    - مرحلة التخلق الأولى (مرحلة الحمل).

    - مرحلة النشأة.

    أ- مرحلة التخلق الأولى (مرحلة الحمل):

    وتشمل:

    النطفة والعلقة والمضغة، وتخلق العظام ثم كسوة العظام باللحم (العضلات) حيث قال عليه الصلاة والسلام فيما

    رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك

    علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه

    وأجله وعمله وشقي أو سعيد".

    إن هذا الحديث يدلّ على حقيقتين:

    الأولى: أن جمع خلق الإنسان يتم في الأربعين يوماً الأولى.

    والثانية: أن مراحل الخلق الأولى: النطفة، العلقة والمضغة إنما تتكون وتكتمل خلال هذه الفترة (الأربعين يوماً

    الأولى).

    الجنين في الأربعين يوماً الأولى:

    1- مرحلة النطفة:

    خلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل من المهبل ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات (قناة فالوب)

    ولا يصل من ماء الرجل إلا القليل ويخترق حيوان منوي واحد البويضة، ويحدث عقب ذلك مباشرة تغير سريع في

    غشائها يمنع دخول بقية المنويات، وبدخول المنوي في البويضة تتكون النطفة الأمشاج أي البويضة الملقحة (

    الزيجوت) Zygote وبهذا تبدأ مرحلة النطفة ومعناها اللغوي القطرة وهو الشكل الذي تتخذه البويضة الملقحة. إذن

    بداية هذا الطور مكونة من نطفة مختلطة من سائلين وتتحرك في وسط سائل، وتستغرق فترة زمنية هي الأيام الستة

    الأولى من الحمل، ويبدأ بعد ذلك التحول إلى طور العلقة في اليوم الرابع عشر.

    وفي اليوم السادس تقريباً تشق النطفة طريقها إلى تحت سطح بطانة الرحم مواصلة انقساماتها الخلوية وتطورها ثم

    يتم انغراسها فيه وتكتمل بذلك مرحلة النطفة في اليوم الرابع عشر من التلقيح تقريباً وبذلك تأخذ حصتها من

    الأربعين يوماً.

    2- طور العلقة:

    تستمر الخلايا في الانقسام والتكاثر بعد مرحلة النطفة ويتصلب الجنين بذلك، ثم يتثلم عند تكون الطبقة العصبية

    ويأخذ الجنين في اليوم الحادي والعشرين شكلاً يشبه العلقة، كما تعطي الدماء المحبوسة في الأوعية الدموية للجنين

    لون قطعة من الدم الجامد وبهذا تتكامل المعاني التي يدل عليها لفظ علقة المطلق على دودة تعيش في البرك وعلى

    شيء معلَّق وعلى قطعة من الدم الجامد، إلى حوالي اليوم الواحد والعشرين، وبهذا تأخذ العلقة حصتها من الأربعين

    يوماً وإلى هذا تشير الآية الكريمة {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14].

    3- طور المضغة:

    يبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين في أعلى اللوح الجنيني، ثم

    يتوالى ظهور هذه الكتل بالتدريج إلى مؤخرة الجنين.

    وفي اليوم الثامن والعشرين يتكون الجنين من عدة فلقات تظهر بينها انبعاجات، مما يجعل شكل الجنين شبيهاً بالعلكة

    الممضوغة.

    ويزداد اكتساب الجنين في تطوره شكل المضغة تدريجياً من حيث الحجم بحيث يكتمل هذا الطور في بقية الأيام

    الأربعين الأولى من حياته، وهذا الترتيب في خلق الأطوار الأولى يجيء فيه طور المضغة بعد طور العلقة مطابقاً

    لما ورد في الآية الكريمة: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: 14].

    وينتهي هذا الطور بنهاية الأسبوع السادس.

    الجسد الفاصل:

    وفي الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح نظراً لبداية انتشار الهيكل العظمي، فيمثل هذا الأسبوع (ما

    بين اليوم 40 و45) الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل الإنساني.

    4- طور العظام:

    مع بداية الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله، فيأخذ الجنين شكل الهيكل

    العظمي وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح

    الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين

    مظهره الآدمي.

    ومصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة

    الحُمَيل تعبيراً دقيقاً يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين

    أجزاء الجسم واستواء في مظهر الحُمَيل ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله، قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ

    عِظَامًا} [المؤمنون: 14].

    5- طور الكساء باللحم:

    يتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه. وبتمام كساء العظام

    بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال، فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً، وبعد تمام تكوين العضلات

    يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك.

    تبدأ مرحلة كساء العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن، وتأتي عقب طور العظام

    كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14].

    ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار

    نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الحُمَيل (Embryo) ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين (Foetus) التي توافق مرحلة

    النشأة، كما جاء في قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:

    14].

    ب- مرحلة النشأة خلقاً آخر:

    النشأة مصدر مشتق من الفعل نشأ، وهذا الفعل له معنيان:

    * الارتفاع بالشيء.

    * ربا وشب ونما.

    يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم، أي من الأسبوع التاسع، ويستغرق فترة زمنية يدل عليها استعمال حرف

    العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقاً آخر، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ

    أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14].

    وفي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين الذين جاءا في القرآن الكريم ويمكن بيانهما في ما يلي:

    1- النشأة:

    ويتضح بجلاء في سرعة معدل النمو من الأسبوع التاسع مقارنة بما قبله من المراحل.

    2- خلقاً آخر:

    هذا الوصف يتزامن مع الأول ويدل على أن الحُمَيل قد تحول في مرحلة النشأة إلى خلق آخر.

    * ففي الفترة ما بين الأسبوعين التاسع والثاني عشر تبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن

    والاعتدال.

    * وفي الأسبوع الثاني عشر يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية.

    * وفي نفس الأسبوع يتطور بناء الهيكل العظمي من العظام الغضروفية اللينة إلى العظام الكلية الصلبة، كما تتمايز

    الأطراف، ويمكن رؤية الأظافر على الأصابع.

    * يظهر الشعر على الجلد في هذا الطور.

    * يزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة.

    * تتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية.

    * تبدأ الحركات الإرادية في هذا الطور.

    تصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها.

    * وفي هذه المرحلة يتم نفخ الروح؛ طبقاً لما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ويمكن التعرف على

    نفخ الروح بمشاهدة ظاهرة النوم واليقظة في الجنين التي تدل نصوص قرآنية ونبوية عديدة على ارتباطها بالروح.

    تمتد هذه المرحلة، مرحلة النشأة خلقاً آخر من الأسبوع التاسع إلى أن يدخل الجنين مرحلة القابلية للحياة خارج

    الرحم.

    جـ: طور القابلية للحياة:

    تبدأ تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع الثاني والعشرين وتنتهي في الأسبوع السادس والعشرين عندما

    يصبح الجهاز التنفسي مؤهلاً للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلاً لضبط حرارة جسم الجنين.

    وتعادل الأسابيع الستة والعشرون تقريباً ستة أشهر قمرية، وقد قدّر القرآن الكريم أن مرحلة الحمل والحضانة

    تستغرق ثلاثين شهراً فقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وبين أيضاً أن مدة الحضانة

    تستغرق عامين في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].

    وبذلك تكون مدة الحمل اللازمة ليصبح الجنين قابلاً للحياة هي ستة أشهر قمرية، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين

    الذي يبدأ منه هذا الطور يخرج سقطاً في معظم الأجنة.

    د- طور الحضانة الرحمية:

    يدخل الجنين بعد الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة فكلها قد وجدت

    وأصبحت مؤهلة للعمل، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين وتستمر إلى طور المخاض

    والولادة.

    هـ: طور المخاض:

    بعد مرور تسعة أشهر قمرية يبدأ هذا الطور الذي ينتهي بالولادة، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلي عن الجنين من

    قبل الرحم ودفعه خارج الجسم، قال تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20].

    وجه الإعجاز:

    وجه الإعجاز أن المصطلحات الواردة في القرآن الكريم تعبِّر بدقة عن التطورات التي تقع في مختلف مراحل

    التخلق فهي تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني كما تصف التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق

    في كل مرحلة وصفاً دقيقاً. وما كان في وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف هذه الحقائق في القرن

    السابع الميلادي لأن معظمها لم يكتشف إلا في القرن العشرين، وهذا يشهد بأنها وحي من الله سبحانه وتعالى إلى

    رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فسبحان الله تعالى القائل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:

    93].
    المثال الثاني:

    الإنســـان فــي الارتفاعــات العاليـة بين العلـم الحديث والقرآن الكريم


    دكتور / صـــلاح الـــــدين المــغــربي

    مستشار في طب الطيران

    معهد طب الطيران ـــ فامبرا ـــ بريطانيا

    عضو جمعية طب الطيران والفضاء بالولايات المتحدة

    كلية الأطباء الملكية ـــ لندن ـــ كلية الجراحين الملكية ـــ بريطانيا

    الإنسان في الارتفاعات العالية

    ملخص البحث

    إن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يتجلى في الآية الكريمة : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن

    يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ كّذّلٌكّ يّجًعّلٍ اللَّهٍ الرٌَجًسّ عّلّى الذٌينّ لا يٍؤًمٌنٍونّ} (

    الأنعام:125).

    لقد أثبت علم طب الطيران أن تعرض الإنسان للارتفاعات العالية عندما يصعد من سطح الأرض إلى الطبقات العليا

    في السماء فإنه تحدث له أعراض (فسيولوجية) تتدرج من الشعور بالضيق الذي يتركز في منطقة الصدر- كما ذكر

    في الآية الكريمة: من أنه عندما يصعد الإنسان في السماء يشعر بضيق الصدر- ثم إذا استمر الإنسان في الارتفاع

    في السماء ، بمعنى أنه إذا استمر في التعرض للارتفاعات العالية وانخفاض الضغط الجوي ونقص الأوكسجين فإنه

    يدخل في مرحلة حرجة - كما ذكر في الآية الكريمة - أنه بعد أن يشعر الإنسان بضيق الصدر يصل إلى المرحلة

    الحرجة .

    تمهيد :

    بدأت منذ حوالي مائتي عام تقريباً ( 1786 م) أبحاث كثيرة في طبقات الجو العليا ، وتأثيرها على الإنسان .

    ومن حوالي مائة عام تقريباً ( 1878 م ) ظهرت أبحاث أكثر تقدماً في (فسيولوجيا) الجسم ، وتأثره في طبقات الجو

    العليا .

    وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم الذي نزل منذ أكثر من أربعة عشر قرناً على نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

    نجد قوله تعالى : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا

    يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ} (الأنعام:125).

    قد تضمن الحقائق التي أثبتتها هذه الأبحاث في إيجاز وإعجاز (1).

    والقرآن الكريم قد حث على العلم، فأول آية نزلت فيه تدعو للعلم ، فقد جاء فيها الأمر بالقراء ة ، ثم الدعوة للتعلم

    بالقلم ، قال تعالى : {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذٌي خّلّقّ (1) خّلّقّ الإنسّانّ مٌنً عّلّقُ (2) \قًرّأً ورّبٍَكّ الأّكًرّمٍ (3) الذٌي عّلَّمّ بٌالًقّلّمٌ

    (4) عّلَّمّ الإنسّانّ مّا لّمً يّعًلّمً (5)} [العلق].

    وفي طب الطيران والفضاء نجد بيانا واضحاً للآية الكريمة السابقة ، من خلال عرض مبسط لتكوين الغلاف الجوي

    وطبقاته وتأثيره (فسيولوجيا) على الإنسان.

    تكوين الغلاف الجوي وتقسيمه « فسيولوجياً » :

    1 ـــ منطقة كافية « فسيولوجيا » ( من سطح البحر إلى ارتفاع 10000 قدم ( :

    يستطيع الإنسان في هذه المنطقة من الغلاف الجوي أن يعيش طبيعياً، فكمية الأوكسجين الموجودة تكفي

    « فسيولوجياً » لحياة الإنسان.

    2 ـــ منطقة غير كافية « فسيولوجياً » ( من ارتفاع

    10000 قدم إلى 50000 قدم ):

    حيث لاحظ العلماء أنه يوجد نقص في كمية الأوكسجين في هذه المنطقة ، بالإضافة إلى الانخفاض في الضغط

    الجوي ، وينتج عن ذلك آثار واضحة على «فسيولوجيا» جسم الإنسان ، فتظهر أعراض نقصان الأوكسجين (

    هيبوكسيا) وأعراض انخفاض الضغط الجوي (ديسباريزم ) .

    3 ـــ منطقة الفضاء التقريبي ( من ارتفاع 50 ألف قدم إلى حوالي 633 ألف قدم ):

    حيث لايمكن للإنسان من الناحية « الفسيولوجية » أن يعيش في ارتفاع ( 50000 قدم) فأكثر ، حتى لو تنفس 100%

    أوكسجين، بل لابد له أن يرتدي ملابس الفضاء المجهزة ، لكي يتحمل الانخفاض في الضغط الجوي ، ونقص

    الأوكسجين في هذه الارتفاعات.

    ظــاهرة نقصان « الأوكسجين » ( هيبوكسيا) :

    تحدث هذه الظاهرة لراكب الطائرة بسبب نقصان الأوكسجين في الأنسجة عند فشل الأجهزة في ضبط الضغط داخل

    الطائرة حينما تكون في الارتفاعات العالية ، ويعبر عن هذا بانخفاض الضغط الجوي للأكسجين، حيث تنخفض كمية

    الأوكسجين في الهواء المستنشق ، ولا تنضبط كميته .

    ويتركب الهواء المستنشق من الآتي :

    95ر20% غاز أوكسيجين .

    09ر78% غاز نيتروجين.

    03ر00% غاز ثاني أوكسيد الكربون .

    الباقي: غازات غير هامة بالنسبة لوظائف الجسم .

    في هذا الخليط من الغازات - الهواء المستنشق - من المستحسن أن نتكلم عن الضغط الجوي للغاز ، وهو العامل

    المؤثر لأي غاز في خليط من الغازات ، والضغط الجوي للأوكسجين في الحويصلات الهوائية هو العامل المؤثر

    الأساسي في الجسم، لأنه هو العامل الذي يتحكم في كمية الأوكسجين التي تصل إلى الدم .

    ويجب أن نعلم أنه من الثابت علميا: كلما ارتفعنا في الجو كلما قل الضغط الجوي وبالتالي الضغط الجوي للأوكسجين

    ، لذلك إذا استنشق أوكسجين نقي 100% على ارتفاع (33700 قدم) فإن الضغط الجوي للأوكسجين في الحويصلات

    الهوائية يمثل نفس النسبة، كما لو استنشق الهواء على مستوى سطح البحر .

    عندما نصل إلى ارتفاعات (40000 قدم) فإن الضغط الجوي للأوكسيجين يهبط بسرعة إلى مستوى يشكل خطورة

    على الحياة، ولا يدع أجهزة الجسم المختلفة في حالتها الطبيعية.

    والارتفاع الحرج الذي يهبط فيه الضغط إلى 87مم/زئبق هو 50000 قدم، وهنا حتى لو تم استنشاق الأوكسيجين

    100% فإنه لا يفي بتاتا بحاجة الجسم من الأوكسيجين . (شكل 2).

    مراحل أعراض ظاهرة نقص الأوكسيجين :

    وتنقسم إلى أربعة مراحل تتعلق بالضغط الجوي، ومستوى الارتفاع، ونسبة تركيز الأوكسيجين في الدم.

    1 ـــ مرحلة عدم الـتـغيير(من مســتوى ســطــح الـبـحـر إلى ارتفاع 10000 قـدم ) في هذه المرحلة لاتوجد

    أعراض ظاهرة لنقص الأوكسجين ولاتتأثر الرؤية بالنهار.

    2 ـــ مرحلة التكافؤ « الفسيولوجي » ( من ارتفاع 10000 قدم إلى 16000 قدم ).

    تعمل أجهزة التكافؤ « الفسيولوجي » في هذه المرحلة على عدم ظهور أعراض نقص الأوكسجين ، إلا إذا طالت مدة

    التعرض لهذا النقص ، أو قام الفرد بمجهود جسماني في هذه الظروف فتبدأ عملية التنفس في الازدياد عدداً وعمقاً،

    ويزيد النبض وضغط الدم ، وكذلك سرعة الدورة الدموية .

    3 ـــ مرحلة الاختلال « الفسيولوجي » (من ارتفاع 16000 قدم إلى 25000 قدم ).

    في هذه المرحلة لاتفي أجهزة التكافؤ «الفسيولوجي » بالمطلوب ، ولاتستطيع توريد الكمية الكافية من «

    الأوكسجين» للأنسجة ، وهنا يبدأ ظهور الأعراض.

    وفي هذه المرحلة نجد تفسيراً واضحاً لضيق الصدر الذي يشعر به الإنسان عندما يصعد إلى هذه الارتفاعات، وهو

    بيان يتفق مع ما تشير إليه الآية الكريمة من شعور الإنسان بضيق الصدر عندما {يصّعد في السماء} أي: في طبقات

    الجو العليا .

    إن الآية الكريمة ذكرت أن ضيقا يحدث بالصدر عند الصعود في السماء ، أي : الارتفاعات العالية ، وقد وجد

    الأطباء في أبحاثهم على الطيارين أن الإنسان يشكو في هذه المرحلة من الإجهاد والصداع، والشعور بالرغبة في

    النوم، وصعوبة التنفس ، وضيق الصدر ، وهذا يتفق مع ما ورد في الآية الكريمة .

    إن قوله تعالى : {... يجعلْ صدره ضيقاً } يقدم لنا - بإشارة دقيقة ، وكلمات معجزة - شرحاً لما يحدث «فسيولوجياً»

    للإنسان في الارتفاعات العالية ، وهي إشارة تسترعي انتباه الطبيب المتخصص في طب الطيران والفضاء، وقد

    تخفى على القارئ العادي .

    والحقائق العلمية في هذه الآية الكريمة لم يصل إليها الأطباء إلا بعد بحث واجتهاد دام عشرات السنين .

    4 ـــ المرحلة الحرجة من ارتفاع (25000 قدم) فأعلى في هذه المرحلة يفقد الإنسان الوعي تماماً بسبب فشل الجهاز

    العصبي .

    وما يحدث للإنسان عندما يواصل الارتفاع في طبقات الجو العليا ويصل إلى مرحلة حرجة هو تفسير ماجاء في قوله

    تعالى : {ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء} .

    ويتحقق التوافق بين معنى الآية الكريمة ، والثابت في حقائق العلم الحديث ، من خلال الدلالة الواضحة في

    الأعراض التي تصيب الإنسان عند التعرض لنقص « الأوكسجين » في هذه المرحلة من الارتفاع ، فالتغييرات التي

    تحدث بالصدر ( أي الجهاز التنفسي ، والقلب ) تصل أقصاها .

    وبعد هذه الحالة يحدث فشل كامل في وظائفهما «الفسيولوجية » نتيجة العبء الملقى عليهما ، ويصاحبهما فشل في

    الجهاز العصبي نتيجة التعرض للنقص الشديد في ضغط «الأوكسجين » وكميته الموجودة في الارتفاعات العالية من

    الغلاف الجوي كما تقدم .

    وهنا يتأكد لنا أن القرآن الكريم أخبر عن أمور علمية لم تكن معروفة زمن نزوله على رسول الله [ ، وإنما أظهرها

    التقدم العلمي فيما بعد .

    ظاهرة انخفاض الضغط الجوي ( ديسباريزم ):

    وفيها تحدث مجموعة من الأعراض التي تنتج عن تمدد حجم الغازات وزيادتها في جسم الإنسان عند تعرضه

    لانخفاض الضغط الجوي في الارتفاعات العالية ( السماء ) . وتحدث لركاب الطائرات عندما تفشل أجهزة ضبط

    الضغط داخل الطائرة.

    أعراض ظاهرة انخفاض الضغط الجوي

    تنقسم أعراض هذه الظاهرة إلى قسمين :

    الأول : أعراض نتيجة تمدد الغازات المحبوسة في تجاويف الجسم ، وهذه يحكمها قانون « بويل للغازات » (1).

    الثاني : أعراض نتيجة تصاعد الغازات الذائبة في خلايا الجسم على هيئة فقاعات ـــ وهي أساساً غاز «النيتروجين

    » - عند تعرض الإنسان للارتفاعات العالية وانخفاض الضغط الجوي ، وهذه يحكمها قانون هنري للغازات (2) ،

    وغاز النيتروجين الذي يوجد في جسم الإنسان يصل حجمه تقريبا إلى لتر واحد يوجد منه 75 سم3 ذائبة في الدم

    والباقي في الأنسجة.

    ويلاحظ أن الدهون لها قابلية شديدة للنيتروجين (تسعة أضعاف الدم والأنسجة الأخرى ) كذلك يجب أن نلاحظ أن

    الجهاز العصبي به نسبة عالية من الدهون.

    وبهذا يستبين لنا الآثار السلبية الناتجة عن انفلات تلك الغازات على هيئة فقاعات لدى الصعود في أعالي الفضاء.

    أعراض القسم الأول ( الغازات المحبوسة ) :

    1 ـــ غازات بالجهاز الهضمي :

    المعدة : إذا زاد حجم الغازات الموجودة داخل المعدة فإنها تتمدد وتضغط على الرئتين مسببة اضطراباً شديداً في

    التنفس ، وهو تفسير واضح لضيق الصدر عندما يصعد الإنسان في السماء .

    القولون : وتسبب زيادة حجم الغازات بالقولون حدوث آلام شديدة بالبطن مما يتسبب في شعور الإنسان بالضيق.

    2 ـــ غازات داخل الرئتين :

    تتمدد الغازات في الرئتين عند الارتفاع ويزداد حجمهاوتخرج مع الزفير .

    وإذا أغلق الإنسان حلقه أثناء الارتفاع المفاجئ فإن أنسجة الرئتين تصاب بالتهتك وتتمزق بسبب ضغط تلك

    الغازات المتمددة .

    3 ـــ غازات داخل الأسنان والضروس :

    تُحدث آلاماً شديدة عند تمددها .

    4 ـــ غازات بالأذن الوسطى :

    زداد حجم الغازات في الأذن الوسطى مسببة آلاماً شديدة .

    5 ـــ غازات بالجيوب الأنفية :

    يزداد حجم الغازات في الجيوب الأنفية وتُحدث آلاماً بها.

    أعراض القسم الثاني ( الغازات المتصاعدة ) :

    وتـظـهـر هذه الأعـراض نتيجـة تصاعـد الغازات الذائــبـة في خلايا الجــــسم ـــ النيتروجين ـــ على هيئة

    فقاعات عند الارتفاعات العالية .

    1 ـــ آلام المفاصل :

    تُحدث الغازات المتصاعدة آلاماً شديدة في المفاصل .

    2 ـــ الاخـــتناق :

    تحدث آلام شديدة بالصدر ويشعر الإنسان بضيق شديد عند تعرضه للضغط الجوي المنخفض - حين صعوده في

    الارتفاعات العالية - وقد لوحظ أنه يصاحب هذا الشعور بالضيق في الصدر سعال جاف مؤلم ، وآلام في التنفس

    العميق ، وهذا نتيجة تصاعد فقاعات «النيتروجين» من أنسجة الرئتين حول الشعيرات الدموية وداخلها، وكذلك تأثر

    « العصب الحائر » كما ذكرت الآية الكريمة {ومن يرد أن يضله يجعلْ صدره ضيقاً} .

    فقد ذكرت كلمة ( الصدر ) - الذي يحتوي داخله على الجهاز التنفسي ، والقلب ، والجهاز الدوري - على أنه مكان

    الشعور ( بالضيق ) عند الصعود ( في السماء ) أي : الارتفاعات العالية .

    وقد أثبت العلم أن هذا مايحدث لراكب الطائرة عندما يتعرض للضغط الجوي المنخفض في الارتفاعات العالية.

    3 ـــ الجلـد : تُحدِث فيه الغازات المتصاعدة تحسّسا

    ( ارتكاريا ) وفقاعات تحت الجلد .

    4 ـــ الجهاز العصبي : تتأثر الرؤية ، ومجال النظر ، وقد يحدث شلل جزئي أو شامل ؛ بسبب تصاعد تلك الغازات.

    5 ـــ الهبوط الدوري العصبي :

    في هذه الحالة يحدث صداع ، وإغماء ، وصدمة عصبية ، وزرقة في الجسم ، وهذه هي نهاية المرحلة الحرجة التي

    ذكرتها الآية الكريمة { حرجاً كأنما يصّعّد في السماء} وهي تؤدي إلى الوفاة .

    وإن هذا الوجه من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من أبرز ما اهتدى إليه الإنسان في العصر الحديث ... عصر

    العلم والمعرفة .

    وكلما انتشر العلم واتسعت مجالاته ظهر من أوجه

    الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مايجعل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يسارعون إلى الدخول في دين الله

    أفواجا .

    وصدق ربنا الكريم : {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ <87> ولّتّعًلّمٍنَّ نّبّأّهٍ بّعًدّ حٌينُ <88>} [سورة ص: 87، 88].
    انتهى النقل عن موقع مكنون الإعجاز العلمي في القرآن.
    وكما ذكرت سابقاً فالأمثلة على الحقائق العلمية الموجودة في القرآن كثيرة وفي ذلك شاهدة قاطعة لا يستطيع أن ينكرها جاحد أن القرآن كلام الله تعالى وأن محمد صلى الله عليه وسلم نبي صادق. (6)

    مقتطف من هذا المصدر
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  4. #4

    افتراضي

    والله يادكتورنا العزيز فخر الدين المناظر لا أدري ماذا أقول لك ، مواضيعك من ذهب وقيمة جداً ، أسال الله تعالى أن يكون كل جهدك هذا في ميزان حسناتك، ولاتحرمنا من مشاركاتك ومواضبعك المهمة هذا والسلام عليكم.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الخليفة مشاهدة المشاركة
    والله يادكتورنا العزيز فخر الدين المناظر لا أدري ماذا أقول لك ، مواضيعك من ذهب وقيمة جداً ، أسال الله تعالى أن يكون كل جهدك هذا في ميزان حسناتك، ولاتحرمنا من مشاركاتك ومواضبعك المهمة هذا والسلام عليكم.
    آمين .. وإياكم أيها الأخ الحبيب ، وماهي إلا مقالات مختارة .
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  6. افتراضي

    بارك الله فيكم د فخر الدين

  7. #7

    افتراضي

    لقد جعلت هذا الموضوع بالمفضله عندي لأقرأه على مهل .. فعلا لاحرمك الله أجر كلماتك ..

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    سامح الله الجاحظ، كتب رسالته بلغة بليغة استعصت على فهم ملاحدة اليوم
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ((( الأدلة العقلية على وجود الخالق سبحانه وتعالى )))
    بواسطة عبدالباسط قاري في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-14-2014, 12:33 PM
  2. الأدلة العقلية على وحدانية الله
    بواسطة أبو القاسم1 في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-30-2010, 02:20 PM
  3. الأدلة العقلية والنقلية على وجود الله
    بواسطة أبومحمدالشامي00 في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 09-22-2009, 04:41 AM
  4. دلائل النبوة العقلية
    بواسطة Mahmoud Muhammad في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 12-21-2008, 03:42 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء