الصورة النمطية لعلماء الدين.. الدوافع والغايات
2008-03-14
http://www.alarab.com.qa/details.php...No=73&secId=23

أحمد خيري العمري *
يقدم الإعلام صوراً نمطية لفئات مختلفة، فيها تعميم واختزال، بعضها يكون تنميطا سلبيا والبعض الآخر يكون تنميطا إيجابيا، يسهم هذا التنميط في تلقين المتلقي صورة ذهنية عن هذه الفئة أو تلك، ويجد هذا المتلقي نفسه محكوماً (إلى حد كبير) بهذه الصورة لاحقاً في تعامله «الواقعي» مع هذه الفئة، أي أن هذه الصورة تتحول إلى حكم مسبق (سلبي أو إيجابي) يطال هذه الفئة بشكل مباشر.
وعلماء الدين هم مثل أي فئة أخرى معرضون لهذا التنميط السلبي والإيجابي، فالإعلام الديني يقدم صورة نمطية مبالِغة في إيجابيتها لهذه الفئة، ولكن هذا الإعلام يظل محصوراً بفئة تظل أقل حجما من فئة المتابعين للإعلام الرئيسي العام، الذي دأب على تقديم نمط سلبي جدا للفقهاء، وإن كان بطريقة غير مباشرة أحيانا.
مثال على هذا التنميط هو «الشيخ متلوف» الشخصية الكاريكاتيرية في الصحف المصرية، التي كان يقدمها «عبد السميع» في «أخبار اليوم» وسواها، والمستوحاة أصلاً من تعريب لمسرحية موليير الشهيرة «تارتوف» والتي عبرت بصورة كوميدية عن رجل دين منافق، يدعي القيم والمثل العليا ويطبق نقيضها.. كذلك كان الشيخ متلوف، بعمامته البيضاء وطقمه الأزهري، بالصورة التي ألفناه فيها في السينما المصرية.
وإذا كان موليير قد قدم مسرحيته الأشهر، في أواسط القرن السابع عشر، كتعبير أدبي عن تلك المرحلة بالغة التوتر التي شهدت عصر التنوير فإن الشيخ «متلوف» - على الأقل بنسخته الكاريكاتيرية - لم يكن أكثر من مجرد سخرية مسطحة هدفها الإضحاك، وظفتها الحكومة المصرية - التي كانت (آنذاك؟!) في حالة مواجهة مفتوحة مع الإخوان المسلمين ووجدت في شخصية رجل الدين وسيلة للهجوم على كل من يتحدث عن الدين- لإلصاق صفة النفاق والرياء به.
لا مشكلة حقاً في الإقرار بوجود نماذج مقاربة للشيخ متلوف، أو ترتوف، أو حتى راسبوتين، على أرض الواقع، لكن ضمن سياق الطبيعة البشرية، المعرضة للخطأ والصواب، والميالة للخير كما للشر، وخريجو المدارس الشرعية، مثلهم مثل خريجي الطب والهندسة والقانون وإدارة الأعمال، هم مجرد بشر عاديين، وبعضهم وضعته علاماته الدراسية في سلك الدراسة هذا، دون أن يكون له اهتمام مسبق، لذلك فمن الظلم أن نطالب أيّاً منهم بأن يكون مثالاً للنزاهة والاستقامة بأكثر مما نطالب الطبيب أو المهندس والمحامي.. إنهم في النهاية بشر، وهناك هامش يمد ويجزر، يتقلص ويتوسع، للهوة الموجودة بين الفكر والسلوك، وهي هوة ملازمة لأي إنسان، ما دام إنساناً.
ليس هذا دفاعاً عن الفقهاء، فهذا آخر ما يحتاجون إليه، كما أنه آخر همومي شخصياً، لكني أود توضيح أن سياق الهجوم الإعلامي عليهم كان مرتبطاً بما هو أكثر من مجرد الهجوم «عليهم»، أي أن الوسائل الإعلامية - المملوكة للحكومة تماماً كما في مثال الشيخ متلوف- كانت تتخذ من الشيخ «متلوف» رمزاً لتيار أكبر منه، تيار إسلامي سياسي كان في حالة صراع مع السلطة، وقد استخدمت السلطة كل أسلحتها في الهجوم عليه، ومن ضمن أسلحتها كان «الشيخ متلوف» – الذي نجح، عبر تكراره الشكلي، وإن ليس بالاسم، في السينما والتلفزيون، في تكريس صورة نمطية «سلبية» لرجل دين لا أحد ينكر وجوده – لكن لا يجب أن ينكر أيضاً وجود صور أخرى بعضها بسلبيات أقل، وبعضها بإيجابيات أكثر.
من منكم لا يذكر صورته النمطية التي كرست عبر وسائل الإعلام، والتي ساهم في تكريسها البعض من الفقهاء أنفسهم للأسف عبر تقمصهم لشخصية الشيخ متلوف.
هذا التناول السيئ لصورة الفقهاء والانطباع السلبي الذي يكرسه، هو أفضل بكثير من التناول (الحالي) لبعض وسائل الإعلام، خاصة مواقع النت، التي دأبت مؤخراً على إثارة قضايا معينة، متعلقة ببعض الفتاوى الشاذة الغريبة، وترويج الموضوع بشكل فضائحي وتهريجي، مفسحة المجال لتفاعل (مفترض) مع الجمهور الذي يتمكن كل واحد منه أن يدلي بدلوه عبر كبسة زر (ويستطيع واحدٌ منهم فقط أن يكبس الزر مائة مرة ليبدو كما لو أنه مئة شخص يتفاعل مع الخبر، لأن هذه المواقع لا تمنع تكرار مشاركات من نفس الحاسوب).
لم يكن هناك حين من الدهر ليس فيه فتاوى كهذه، فقهاء لا يملكون علماً حقيقياً بالمعنى الشمولي وإنما يمتلكون مظهر الفقيه فحسب، وربما «شهادة» تثبت أنهم أتموا متطلبات التخرج، وكانوا يفتون بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، لا تملك صلة بالواقع، وقلما يلتفت إليهم وإلى فتاواهم أحد، حتى من المحيطين بهم، لأنهم على الأغلب لا يمتلكون المصداقية الشخصية التي ميزت كبار المفتين والعلماء في العالم الإسلامي.
لكن مع التطور الأخطبوطي في وسائل الإعلام، صار بإمكان فتاوى من هذا النوع أن تتصدر الصفحات والعناوين الرئيسية، وأن تصطنع اهتماماً جماهيرياً مستدعية ردود أفعال من هيئات دينية وفقهاء، سيضطرون إلى أخذ موقف (دفاعي غالباً).. النتيجة النهائية لهذا كله، أسوأ بكثير حتى من الصورة النمطية «للشيخ متلوف».. فتلك الصورة، على سوئها، هي صورة شخصية، ويمكن ببساطة القول إن هذا الشيخ أو ذاك لا يمثلان أكثر من نفسيهما.. وإنهما لا يعبران عن الدين أو عن القيم الدينية، ما دام الأمر مرتبطاً في النهاية بالسلوك الشخصي.
أما مع ما يروج حالياً، عن فتاوى فضائحية، بأسلوب بعيد عن الموضوعية، يضخم أحياناً، ويقوّل أحياناً، ويخرج الفتوى عن سياقها الكامل في أحيان أخرى، ويسوق الأمر كله في إطار تهريجي، فإن النتيجة النهائية لا تمس شخصَ «من تجرأ على الفتيا» بل تمس الدين نفسه في النهاية.. ذلك أن تكرار الموضوعات وتقاربها – وبعضها مستلٌّ من فتاوى أقدم عهداً – والتركيز على الموضوع الذي تناولته الفتوى وليسَ الشخص خلفها هذا كله يحولنا من الضحك على « الشيخ متلوف» الذي هو في النهاية مجرد شخص، إلى التجرؤ على النص الديني المقدس وعلى الدين نفسه.. أي أن الصورة النمطية المقدمة حاليا لم تعد صورة نمطية للفقيه، بل إنها تكاد تكون للدين نفسه بكل ما يمثل من قيم وإمكانات كامنة للنهوض والبناء. والملاحظ أن معظم الفقهاء المتورطين في هذه الفتاوى هم غير مهمين أصلاً، حتى وإن تقلدوا مناصب في هذه المؤسسة أو تلك، فهذه مجرد وظائف، وتتم بالتعيين المباشر عبر الحكومة، أو بالتدرج الروتيني الذي لا يتطلب كبير ألمعية أو جهد.
وملاحظة تعليقات زوار المواقع، ستكشف عن مدى سوء هذه التغطية التي استفزت تعليقات كهذه: هناك أولاً تعليقات مذهبية (موجهة من مذهب إلى المذهب الذي ينتمي إليه من أفتى، كما لو أن كنوز المذهب الأول التراثية والمعاصرة لا تحوي فضائح مماثلة وأكثر) أو تعليقات إقليمية (من مواطنين من جهة معينة، تهاجم الدولة والشعب الذي انتهى إليه الشيخ المفتي، كما لو أن شاذ الفتاوى وغريبها لا يصدر إلا من هنا) أو تعليقات ضد الدين عموماً (من أشخاص علمانيين - أو يدعون ذلك- أو من أديان أخرى، أو من أشخاص متهتكين يجدون في الهجوم على الدين مبرراً لتفلتهم).
وهكذا فإن النتيجة تتجاوز بكثير الضحك السابق على شخصية وهمية هي الشيخ متلوف، تفعل غير ما تقول، وتنتقدها النصوص الدينية أصلاً، إلى السخرية من الدين نفسه ومن أصوله ومصادره.
لا ريب أن لدينا مشاكل في الفكر الديني وفي تطبيقاته الفقهية، ولدينا حاجة ملحة إلى تجديد حقيقي وعميق، لكن افتعال مشاكل سطحية، وعرضها بطريقة تهريجية، هو أبعد الطرق عن التجديد الحقيقي، وهو بالتأكيد أقصر الطرق إلى تأزيم ما هو متأزم أصلاً من مشاكل مذهبية وقطرية ومشاكل متعلقة بالأقليات.
وبالمناسبة: قد لا نؤمن بنظرية المؤامرة لكن هذا لن يلغي وجود «مؤامرة»!