الكتابة فى هذه الأيام أصبحت فناً استعراضياً من فنون السيرك ..
ملئ بالألوان والمفرقعات ، وعواميد ذات أنوار .. فيل يرقص .. وانسان لا يشبهه شئ !
مفعم بالبهلوانيات اللفظية الخطرة ذات العمق القادم من بؤرة الشعور أو شعرة البؤور .. أو كليهما ساعة تجلى !
ثم إن ما يميز السيرك : أن المكياج رخيص .. لأنه مبتذل يتكرر كل ليلة على نحو ثابت
وينتهى أثره مع آخر بيضة تسقط على رأس الكاتب من جمهور المشجعين ومغاوير الهتاف !
فالأصباغ مرحلة ضرورية لتحديد الهوية والتعبير عن الذات ..
لتمنح السِحن المتربة اكسير الحياة .. وتحولها لفاترينة مشعة بالفوسفور النووى !!
أما الشفافية فهى عنوان جذاب تدخل تحته كل ماركات الملابس الداخلية المعروفة .. والتى تحترم بكل جرأة حرية الجندر !
السيرك فى الموالد يختلف عن السيرك القومى فى أن الأخير له توجهات قومية ذات دلالة أمنية !
أما الموالد فهى هيصة العوام .. والمكان الذى تشكل فيه الغوازى هوية الأمة بـ "شمعدان" ينير الطريق و"صاجات" محلية الصنع !
والصنعة ليست شرطاً فى الكتابة .. إذ أن الكتابة فى حد ذاتها ليس حرفة ..
بل هى تعبير عن الذات ومكنون النفس بالوسيلة التى تتوافق مع فكر الكاتب وقدرته على ايصال المضمون !
فمنهم من يقدم فقرته بهز وسطه وارتداء الريش الملون حول خصره .. والذى يبدو أنيقاً مع الصيحات الطرزانية والحنجريات العنترية !
ومنهم من يعرض قلمه كـ "بونص" إضافى على كل كيس فيشار يطلبه الزبون !
ومنهم من يشترى قلمه من "ماكدونالدز" لمجرد أنه علجٌ أشقر .. بيفهم كويس فى صناعة الهامبرجر الثقافى !
ومنهم من يؤمن بثقافة الصمت والتعبير الإيحائى ، فيشنق ذاته على بوابة القهر ورفض الواقع !

تعددُ القضايا صاحبه بمقدار مماثل تعددٌ فى نوعية الأقلام ولون المادة التى يصنع منها الجمهور شعبية الكاتب
حتى استلزم الأمر تعريفاً لطوائف شتى تقاطرت على عقول الناس كمطرٍ أصاب مجتمعاً أقرع !
فهناك الكاتب الشجاع : وهو الرجل الذى يملك رغيفاً .. ويعض على قلمه بالنواجذ !
الكاتب الأمنى : وهو صاحب المخبز .. المكلف بأرزاق المثقفين .. والمسؤول عن كسر نواجذ الكاتب السابق !
والكاتب المستنير : وهو الذى يقسم بشرف أمه أن "الكرواسون" من المخبوزات الثقافية لهذه الأمة !
كما أنه الوحيد الذى لا يملك قلماً .. وإنما ورث عن خالته تواليت بيضاوى يشبه المحبرة ..
يغمس فيه قدمه .. ثم يسطر بها خطة الخروج من محنة التاريخ .. وكيفية العبور لأزمة الهوية !!
والكاتب الشريف : وهو الذى لا يملك قلماً ولا رغيفاً .. بل يكتب بأظفاره على جدران السجون !
الكاتب المثقف : وهو الذى يفترض فى القارئ أنه كائن حمارى يبحث عن ذيله بين فخذيه !
أما الكاتب الصحفى : فيظل على مدار السنين بدون تصنيف ..
ضميره هو مقاس جزمة رئيس التحرير .. ومرجعيته حب "فخامة الرئيس" ورسوله !
وأخيراً الكاتب المعارض : وهو الذى كان فى حياة أخرى مساعد رقاصة ثم تمنى أن يرزقه الله حب المساكين فأحب نفسه حباً شديداً !

بكل تأكيد .. ساقية القراء لم تعد تتسع لمزيد من الثيران .. إذ أن الفهم صار أمنية غير قابلة للتحقيق !
ولم يعد بمقدور القارئ من حملة الدبلومات المتوسطة وساقطى الثانوية أن يفهم لماذا تحول ثقب الأوزون إلى مشكلة ثقافية !!
أما ما يسمى بالشعب .. فتم توظيفه فى ساقية أخرى مخصصة لحلبهم اقتصادياً وذهنياً كى لا يبقى من درنهم أى شئ !
والمحصلة أن القارئ لم يعد يفهم ما هى قضيته التى ينبغى أن يشغل بها نفسه ويتخذها مضجعاً ومتكئاً ..
وهى القضية التى يتنازعها كل الكتاب السابقين تحت مسمى الرأى .. والرأى الآخر !
ومع زيادة الأقلام وتنوع البرايات وفتح باب الإستيراد للأقلام الرصاص من دول المشرق والمغرب
أصابنا الإفراط فى مفهوم التخصص فى كل شأن من شؤون الكون ..
التخصص .. حوَّل كل ذى قلم إلى خبير ومفكر ومتخصص فى شؤون البزرميط الذى يتناوله بـ "النقد والتحليل" ..
أو فى أحايين كثيرة بـ "الردح والتهليل" .. بـ "الكسر والترقيع" .. وغيرها من أدوات التخصص الثقافى !
حتى اختلطت الأمور وضاعت معالم الدهليز ولازال القارئ حائراً مُستحمراً بانتظار العلامة :
هل هى قضية فوازير رمضان الثقافية وهل يجوز الصيام فى شهر الفوازير بدون محرم !؟
أم أن القضية فى أولمبياد بكين .. وكيف فاز العرب بميدالية صفيح فى سباحة النسوان والقفز بالزانة
وفازت الصين بالميدالية الذهبية فى صناعة دكة سراويل العرب إلى يوم القيامة !؟

ولأن الكاتب كائن تشغلُه السبوبة .. ولا يهتم بالتفاصيل
بل محور اهتمامه الفعلى يدور حول مقاس الكف الذى وهبه الله للمخبر المكلف بمتابعة ما يكتب ..
فإنه -ولكل الأسباب المنطقية السابقة عن كف المخبر- بحاجة لأن يكتب بقلم كاوتش يمحو أكثر مما يثبت !
يحتاج لأن يكون مفهوماً لمن يعنيهم الأمر .. وغامضاً لبقية الكائنات !
فالمرونة فى الكتابة مجرد مفهوم حنجرى لا يعنى إلا شيئاً واحداً فى ظل النهضة الثقافية التى يشهدها سوق الكتابة :
أن تكتب نفسك بحذافيرها فى كل مرة ينتهك فيها قلمك عذرية الصفحات .. !
اكتب نفسك بعنف .. بكل ما فيها من مستنقعات وخرابات وبلاعات لم يكلف أحدهم نفسه بتغطيتها !
اكتب عن عيوبك النفسية التى تراها فى الآخرين ..
اكتب عن عدد الخفافيش التى تسكنك .. وهواجس نفسك التى تؤرقك .. وعفاريتك الشخصية
اكتب عن تجربتك الذاتية واجعلها ذائقة الكون .. طالما أنك كاتب يملك قلماً ويسأل الناس رغيفه !
اكتب عن الشعر .. والمقاومة .. والحب .. وكل شئ آخر ورد فى برنامج الإتجاه المعاكس ليلة أمس !
اكتب عن قناعاتك التى لا تؤمن بها .. وقناعات الآخرين التى لا تؤمن بها أيضاً .. فأنت كاتب "غير مقتنع" !!

فإن كانت نفسك "اليوم" تبشيرية ماركسية تأكل بيسارها وتلبس عباءة الإنتاج فأنت كاتب يسارى !
فإن شفاك الله "غداً" ورزقك بدولارين فاشتريت بهم حقداً لونه أحمر وسببت الله والدين فأنت يسارى مستنير !!
أما إن تحولت بعد "أسبوع" إلى ضفدع أمريكى رأسمالى يعيش بين البساطير فأنت كاتب متخصص فى شؤون الإصلاح !

وإن أردت أن تكتب عن قصة تحولك المبهر من قهوجى إلى مفكر ..
فعليك بقناة الجزيرة !



مفروس .. كاتب غير مصنف