رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية (وقد طبعت هذه الرسالة ضمن [ مجموعة الرسائل والمسائل ] لشيخ الإسلام التي طبعت الرسالة العرشية في أولها .)
فقد وردت جوابا لسؤال نصه :
ما يقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ، وأعانهم على إظهار الحق المبين ، وإخماد الكفار والمنافقين في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها ، التي أغلقت بأمر ولاة الأمور إذا ادعى أهل الذمة أنها أغلقت ظلما وأنهم يستحقون فتحها وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره ، فهل تقبل دعواهم ؟ وهل تجب إجابتهم أم لا ؟ وإذا قالوا : إن هذه الكنائس كانت قديمة من زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من خلفاء المسلمين ، وأن إغلاقها مخالف لحكم الخلفاء الراشدين ، فهل هذا القول مقبول منهم أم مردود ؟ .
وإذا ذهب أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد العرب من رسول أو غيره فسألوه أن يسال ولي الأمر في فتحها أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين ، فهل لأهل الذمة ذلك ، وهل ينتقض عهدهم بهذا أم لا ؟ وإذ قال قائل : إنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضرر إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى والمساجد ، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام ، وإما بترك معاونتهم لولي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين ونحو ذلك . فهل هذا القول صواب أو خطأ ؟ بينوا ذلك مبسوطا مشروحا . وإذا كان في فتحها تغيير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وتغيير قلوب أهل الصلاح والدين وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور لأجل إظهار شعائر الكفر وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك . وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم ، حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك وأعان عليه ، فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك ؟ ومن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحا لولي أمر المسلمين أم غاشا ؟ وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر أيده الله تعالى ولأوليائه : قمع أعدائه
وإذلالهم أو مطاوعتهم ؟ .
بينوا لنا ذلك وأبسطوه بسط شافيا مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ورضي الله عن الصحابة المكرمين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
هذا نص السؤال ، فأجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بما نصه :
الحمد لله رب العالمين .
أما دعواهم : أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها ، فهذا كذب مخالف لأهل العلم فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة : مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين - متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك ، مجتهدا في ذلك ومتبعا في ذلك لمن يرى ذلك ، لم يكن ذلك ظلما منه بل تجب طاعته في ذلك ، وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين العهد وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم .
وأما قولهم : إن هذه الكنائس من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وإن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها فهذا أيضا من الكذب ، فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاثمائة سنة ، بنيت بعد بغداد وبعد البصرة والكوفة وواسط ، وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيه كنيسة ، مثل ما فتحه المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح فكيف في بلاد المسلمين ؟!
بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر ونحو ذلك ، فبنى المسلمون مدينة عليها ، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسة بعد عهد ، فإن في سنن أبي داود بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم » . والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم . فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها لكان للمسلمين أخذها ؛ لأن الأرض عنوة ، فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى ؟ ! فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام وكانوا يظهرون أنهم رافضة .
ومر شيخ الإسلام ... إلى أن قال :
وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين ، ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديا ومرة نصرانيا أرمينيا ، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة والمنافقين ، وكانوا ينادون بين القصرين : من لعن وسب فله دينار وإردب .
وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين ، وفي أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج ، فإنهم منافقون وأعانهم النصارى ، والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى ، فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين ، فلما جاءت الغز إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغز المجاهدين المسلمين ، وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور . ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة ، وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبخاري ومسلم ونحو ذلك ، ويذكر فيها مذاهب الأئمة الرابعة ، ويرتضى فيها عن الخلفاء الراشدين وإلا كانوا قبل ذلك من شر الخلق ، فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها ، وفيهم قوم زنادقة دهرية لا يؤمنون بالآخرة ولا جنة ولا نار ولا يعتقدون وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وخير من كان فيها الرافضة ، والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة .
فلهذا السبب وأمثاله كان إحداث الكنائس في القاهرة وغيرها ، وقد كان في بر مصر كنائس قديمة لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد ؛ لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى ولم يكونوا مسلمين ، وإنما كان المسلمون الجند خاصة وأقروهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر لما فتحها ؛ لأن اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد .
ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب » حتى لم يبق في خيبر يهودي ، وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين ، فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها جاز ذلك كما فعله المسلمون . وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تصلح قبلتان بأرض » ، وفي أثر آخر : « لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب » . والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية وعمرت في هذه الأوقات حتى صال أهلها بقدر ما كانوا في زمان صلاح الدين مرات متعددة ، وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يولون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا في أمر من أمور المسلمين أصلا ، وكانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد . وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين ، حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين ، وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى
يقول : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما مؤيدين منصورين ، وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين .
وإنما كثرت الفتن بين المسلمين وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمور بالديار المصرية في دولة المعز ووزارة الفائز وتفرق البحرية وغير ذلك ، والله تعالى يقول في كتابه الكريم : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ }{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
وقال تعالى في كتابه : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة » وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة طاعة وحرمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذا الزمان ، وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء ، وليس في المسلمين من أنكر ذلك ، فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين ، فإعراض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب ، كما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب ولا يخبروهم بشيء من أخبار المسلمين ، ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين ، ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين وفي أحد القولين يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله .
ومن قال : إن المسلمين يحصل لهم ضرر إن لم يجابوا إلى ذلك ، لم يكن عارفا بحقيقة الحال ، فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام وكان ذلك أعظم المصائب عليهم أخذ أموالهم وهدم كنائسهم وكان نوروز (1) - رحمه الله تعالى - قد شرط عليهم الشروط ووضع الجزية ، وكان ذلك أعظم المصائب عليهم ، ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير ، فإن المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم .
_________
(1) كذا في الأصل .
فأما الأندلس فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم إلا لحاجتهم إليهم وخوفهم من التتار ، فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم ، ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى ، والنصارى الذين في ذمة المسلمين فيهم من البطارقة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون ، ولله الحمد ، مع أن فكاك الأسرى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات ، وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين ، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة ، فإنهم أرغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف مختلفون ، وكل طائفة تضاد الأخرى ، ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن ، أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبة أو رهبة أو رجل جاهل في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين ،
وإلا فمن كان عارفا ناصحا له أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه وفتحهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض مغاربها ، وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى .
وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل ، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به . وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته ، وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد ، فقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به ، فكتب إليه : لا تستعمله ، فكتب : إنه لا غنى بنا عنه ، فكتب إليه عمر : لا تستعمله ، فكتب إليه : إذا لم نوله ضاع المال ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : مات النصراني ، والسلام .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له : « إني لا أستعين بمشرك » ، وكما أن الجند المجاهدين إنما يصلحون إذا كانوا مسلمين مؤمنين ، وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم ولله لحمد .
ودخل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعرض عليه حساب العراق فأعجبه ذلك فقال : ادع كاتبك يقرؤه علي ، فقال : إنه لا يدخل المسجد ، قال : ولم ، قال : لأنه نصراني ، فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة ، فلو أصابته لأوجعته ثم قال : لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله ، ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله ، ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله .
والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ورسوله ولعباده المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء الدين ، وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هن العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل ، فإنهم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }{ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }{ إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } . وهذه الآيات العزيزة فيها عبرة لأولي الألباب ، فإن الله تعالى أنزلها بسبب أنه كان بالمدينة النبوية من أهل الذمة من كان له عز وسعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أقوام من المسلمين عندهم ضعف يقين وإيمان وفيهم منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، مثل عبد الله بن أبي رأس المنافقين وأمثاله ، وكانوا يخافون أن تكون للكفار دولة فكانوا يوالونهم ويباطنونهم ، قال الله تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : نفاق وضعف إيمان { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي : في معاونتهم { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } فقال الله تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا } أي : هؤلاء المنافقون الذين يوالون أهل الذمة { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } فقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك من أسرارهم حتى أخذ جماعة من المسلمين في بلاد التتر وسبي وغير ذلك بمطالعة أهل الذمة لأهل دينهم .
ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم :

كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين

.
ولهذا وغيره منعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين أو على مصلحة من يقويهم أو يفضل عليهم في الخبرة والأمانة من المسلمين ، بل استعمال من هو دونهم في الكفاية أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم ، والقليل من الحلال يبارك فيه ، والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى ، والله أعلم . ثم ذكر شيخ الإسلام الشروط العمرية لأهل الذمة التي من ضمنها : " أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة لراهب ولا يجددوا ما خرب منها " ، وقال : " فمن خرج عن شرط من هذه الشروط فقد حل للمسلمين منهم ما حل من أهل المعاندة والشقاق ، وليتقدم حاكم المسلمين بطلب من يكون من أكابر النصارى ويلزمهم بهذه الشروط العمرية أعز الله أنصارنا آمين " اهـ .
والله ولي التوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ...