اختراقات العلمانية في مجال العقيدة!!






بقلم: أد : يحيى هاشم حسن فرغل

مفهوم الإلحاد في العقيدة - باختصار - هو : إنكار المعلوم من الدين بالضرورة 0

وإذا أردنا شرحا لهذه العبارة قلنا : إن المعلوم بالضرورة بوجه عام في الدين أو في غيره ، هو المعلوم الذي لا يحتاج في إثباته إلى دليل 0 ومثاله في الرياضيات : قولك : إن الواحد نصف الاثنين ، فإذا قلت ذلك لصاحبك لم يقل لك : هات الدليل ، ومثاله في التربية الوطنية قولك: القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية ، ومثاله في السياسة الدولية : قولك : إن الاتحاد السوفيتي عضو في مجلس الآمن 0

وإذن فالمعلوم من الدين بالضرورة هو كل أمر لا نحتاج في إثبات وجوده في الدين إلى دليل ، كقولك : إن الإسلام يدعو إلى الإيمان بالقرآن كتابا منزلا ، وإلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، أو كقولك : إن كلمة " قل " هي أول كلمة في سورة الإخلاص . وأن الوقوف بعرفة ركن في أعمال الحج 0

وإذن فالإلحاد هو إنكار أمر موجود في الدين لا نحتاج في إثبات وجوده فيه إلى دليل ، كبر هذا الأمر كالقول بوحدانية الله ، أو صغر كالقول بغسل الوجه في الوضوء ، وذلك لأن إنكار أمر من هذه الأمور يصعد إلى مرتبه الكفر لأنه يعنى تكذيب الله أو تكذيب رسوله ، وهذا أقصى درجات الكفر

0ومن هنا كانت العلمانية متورطة في الإلحاد - بالمفهوم الإسلامي - من حيث إن أقصى ما تتجمل به في هذا المجال هو الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ( أفتؤمنون ببعض الكتاب دون بعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا .ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون . أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) 85-86 البقرة . ) إلخ

ومن هنا اخترقت العلمانية ديارنا وصالت وجالت – باسم التنوير - في تمرير الإلحاد وتغطيته والتمهيد له :

في الفلسفات الحديثة والمعاصرة من جدلية مادية وبراجماتية ووضعية ووجودية 0

وحول المنهج العلمي باسم إنكار كل ما لا يخضع للتجربة ، وباسم التطور الذاتي ، وحتمية قوانين الطبيعة ، وعدم قابلية المادة للفناء 00 الخ

وفى التنظيم الاجتماعي : حيث تقوم بعض الدعاوى في هذا المجال على إنكار الدين واعتباره طورا متخلفا من أطوار التقدم الاجتماعي أو إنكار دوره - عل الأقل - في عملية التنظيم الاجتماعي ، وقطع علاقته بالسياسة أو علاقته بالأخلاق 0

وفى قضايا التشريع : حيث يجري تسفيه الدين في نظرته إلى الرق وإلى تعدد الزوجات وإلى "قوامة الرجل على المرأة " وزيادة نصيبه على نصيبها في الميراث وفى عقوباته التي يقررها في جرائم السرقة والزنا والقتل .

وفى تدوين التاريخ : حيث يقدم الدين على أنه نتيجة لصراع الطبقات ومظهر من مظاهر التطور الاقتصادي : يصنف فيه الصحابة إلى يمين ويسار ، ويقدم فيه رسول الله على أنه رسول لقيمة من قيم التطور الاجتماعي كالحرية أو غيرها من القيم الإنسانية ، وتقدم الأديان بعامة على أنها السبب الأصيل فيما حدث من الحروب على مر التاريخ 0

وفى أساليب التربية ، حيث تخضع الفرائض الدينية للحرية الفردية ، والحرية قيمة تستغل ضد الدين ، ، والتجربة أسلوب لتكوين الشخصية يمارس حتى بالنسبة للمحرمات 0 والترفيه عن النفس وتفريغ الكبت الجنسي بالاختلاط الخليع أصل من أصول التوجيه التربوي 0

وفى فنون الأدب: حيث توجه الاحتجاجات الصارخة ضد القدر وتصور بعض الشخصيات الروائية وهى تبحث عن الله بحثا مضنيا فاشلاً ، وحيث تقدم شخصيات رجال الدين والشخصيات العادية المتدينة في صورة ممجوجة تثير التهكم والسخرية ، وتقدم الأديان بعامة على أنها فشلت في حل مشاكل الإنسان 0

وفى بعض البحوث الإسلامية ذاتها دست تطلعات إلى الإلحاد ، إذ يوصف النص القرآني بالبشرية وينكر إمكانية التوصل إلى ما فيه من ألوهية النص طالما - ودائما - يتم تقديمه من خلال الفهم البشري ، وينكر دور السنة في التشريع ، ويقدم القصص القرآني على أنه نوع من الفن الروائي لا يعبر عن الواقع التاريخي ، وتدرس القراءات على أنها نوع من الاجتهاد البشرى ، وحيث تقوم الدعوة إلى إغفال النصوص المتعلقة بالجزيئات والاكتفاء بالمبادئ العامة التي يرضى عنها العقل ولا تختص بدين من الأديان 0

وفى تكييف العلاقة بين الإسلام والأديان الكتابية تورطت في الإلحاد حيث يسوى بينهما جميعا في الأيمان بالله 0 ويسوى بين الولي هنا والقديس هناك 0

وفى ميدان العادات والأخلاق يحاول البعض في وسائل الاتصال الثقافي والجماهيري أن يلفتوا النظر إلى مصدر للأخلاق الحميدة - كالصدق والوفاء والإتقان في غير الإسلام كالديانات المصرية القديمة ، متناسين ما في تلك الديانات من وثنية ممقوته 0

وفي تكييف العلاقة بين السياسة والدين بقولهم : لاسياسة في الدين ولا دين في السياسة إلى الحد الذي يقع بهم في بديل لا يقل عن الوقوع في : تسييس الكفر و تكفير السياسة

وفي الطريق إلى الوحدة الإسلامية تثار النزعات القومية والوطنية والعنصرية

كما تثار المواجع الطائفية حيث بدأها في " حقبة التنوير " طه حسين في " الفتنة الكبرى " وعبد الرحمن الشرقاوي في " إمام المتقين "

هذه وتلك تيارات فكرية : تبادر العلمانية إلى مساندتها أو تغطيتها أواختراق المجالات الثقافية بها : باسم التنوير و ادعاء الاستناد إلى العلم أو إلى المنهج العلمي 0 وما إلى ذلك من المصطلحات المشبوهة أما عن الأشخاص الذين تتمثل فيهم تلك التيارات فكثيراً ما نجد الذين تتمثل فيهم خالصه بحيث يأخذون حكمها خالصا 0

لكن الصعوبة تكون في كثيرين نجد فيهم خليطا متناقضا من الإيمان والإلحاد الذي تمثله واحدة من تلك التيارات 0

وتقل الصعوبة فيمن يكون من هؤلاء عاميا أو شبه عامي أو نصف مثقف ، حيث ينبغي أن نرجح في شأنه جانب الإسلام ، ونعذره في جهله ببعض ما في هذه التيارات من تناقض مع الإسلام ، وذلك إلى أن يتبين له هذا التناقض 0

ولكن المدهش حقا أن نجد في بعض المستويات العليا من المثقفين جمعا بين ظاهرة من ظواهر الإيمان وبين فكرة من التيارات الإلحادية تلك أو غيرها 0

وعلى سبيل المثال : قد نجد من هؤلاء من يصلى ويقرأ القرآن في غير موقف من مواقف الرياء أو المداهنة ، لكنه في مناقشة جادة يصرح بأن حديث القرآن عن الجنة ما هو إلا تعبير عما رآه محمد صلى الله عليه وسلم فى صباه من روضات الشام .

وآخر يصلى كذلك ويصرح بان كثرة حديث القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام ما هو إلا تعبيرا عن حالة نفسية سيطرت على محمد صلى الله عليه وسلم إزاء موسى !

وآخر يصلى أيضا ويصرح بأن الحضارة الإسلامية محكوم عليها بالفشل في العصر الراهن لأنها حبيسة الكلمة " وبعبارة أخرى لأنها مقيدة بالقرآن ".....

وآخر يقرا الفاتحة على روح صديقه لكنه حين يسأل عن الصلاة يصرح بقوله " أنا ماليش في الشعائر دي .. ) !!

وآخر يعلن التصريح بإيمانه بالله لكنه لا يؤمن بالدين

وآخر يعلن عن مسحة صوفية وما تراه يجهل أن التصوف لا يعني بالضرورة الإسلام

&&&

إننا إذ نتعرض لبيان ضوابط الإلحاد التي تحدد لنا بعض الصور العملية أو التطبيقية لمفهومه الذي ذكرناه نود أن نحذر بادئ ذي بدء من التوسع في الاتهام بالكفر 0

لقد كان من أشد الأمور إثارة للأسى والأسف ما وجدناه في تاريخ الفكر الديني في الحضارة الإسلامية من نزعة ملحة عارمة نحو تبادل الاتهام بالكفر ([1])

يقول الخياط من المعتزلة: ما علمنا فرقه من أهل الملة سلمت من الاتهام بالكفر : هذه الخوارج يكفر بعضها بعضا ، وهذه الروافض يكفر بعضها بعضا ، وهذه المرجئة يكفر بعضها بعضا ، وهذه أصناف المشبهة يكفر بعضها بعضا ، وهذه المجبرة فرق مختلفة وبعضها يكفر بعضها .... وهذه النوابت فرق مختلفة فى القرآن وبعضها يكفر بعضا 0

والإمام الرازي يحكى قولا للعلماء يقضى بكفر المجسمة : " لما أنهم بإنكارهم وجود موجود لا يشار إليه قد أنكروا ذات الله " 0

وينقل البغدادي أن الشافعي أشار إلى بطلان صلاة من صلى خلف من يقول بخلق القرآن ونفى الرؤية .

وأن مالكا قال فى المعتزلة : زنادقة لا يستتابون بل يقتلون .

واذا كان أبو حنيفة قد قرر أنه لا يكفر أحدا بذنب ولا يتهم بالكفر من يرميه به ، وإنما يتهمه بالكذب ، إلا انه يضعنا أمام مبدأ دقيق حيث يقرر أن " من قال لا أعرف الكافر كافرا فهو مثله " 0 ولكن التدقيق فى معنى عبارته يبعدنا عن مجال التنابز بالكفر إذا فهمنا المقصود من قوله " ... الكافر ..." أنه من يظهر كفره ظهورا بينا قاطعا 0



وترجع هذه الموجات المتلاحقة المتراكبة من التنابز بالكفر إلى أسباب لم تأت في منهج الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما جاءت من تغلب النزعة الدنيوية أو الشخصية على هذه الموجات 0

وقد نجد فى النزعة الدنيوية : أسبابا اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ([2]) 0

وقد نجد فى النزعة الشخصية : اتخاذ منهج يجعل "النظرية " مقياسا للدين . فيحشره فيها وهو يتأبى عليها ، بدلا من أن يجعل الدين مقاسيا للنظرية إن كان هناك حاجة للنظرية 0 وقد كان على هؤلاء وأولئك أن يحاربوا نزعاتهم وأن يعتصموا منها بتحذير الفكر الديني تحذيرا صارما من تبادل الاتهام بالكفر ، إذ يجعل الخطر ماثلا فوق رأس المدعى والمتهم جميعا ، ففي الصحيحين قوله صلى الله علية وسلم :

"إذا كفر الرجل أخاه - أو قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما "

وقوله " لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك " 0

وقوله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا اله ألا الله ، لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل 0 والإيمان بالأقدار 0"0 أخرجه أبو داود باب "الغزو فى أئمة الجور " من كتاب الجهاد 0

يقول الدكتور دراز :

"إذا كان عدم تكفير المسلم معدودا من أصل الأيمان لزم أن يكون تكفيره كفرا 0 وبهذا نطقت أحاديث الصحيحين "([3]) 0

ولست تجد واحة وسط هذا الهجير المهلك إلا في ظل شجرة الكتاب والسنة النبوية الصحيحة 0

إذ تجعل المسلم يحاسب نفسه حسابا قاسيا عسيرا قبل أن يوجه اتهاما بالكفر ، إلا أن تقوم أمامه الأدلة على ذلك - لا من النظرية ، ولكن من الكتاب والسنة - دلالة قطعية 0

ويحصر الإمام البياضي مواضع الإكفار كما يبينها الإمام أبو حنيفة في ثلاثة مواضع :

نسبة النقص الصريح إلى الله تعالى

وإنكار ما علم من الدين بالضرورة

وتأويل ما علم قطعا كونه على ظاهره 0

وهذه الأمور الثلاثة لا تخرج عن أوسطها

يقول الأمام الرازي :

"الكفر عبارة عن إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، فعلى هذا لا نكفر أحدا من أهل القبلة ، لأن كونهم منكرين لما جاء به الرسول غير معلوم ضرورة ، بل نظرا 0" ([4])

وأهل القبلة هم الذين أسلموا على النحو الذي قبله رسول الله صلى الله علية وسلم في إعلان الشهادتين ، وأصله ما روى عن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا " ([5]) 0

ومن التفصيل لهذا الأجمال 000 والذي نراه لا يخرج عنه ، ما جاء في العقائد العضدية بشروحها على النحو التالي :

لا نكفر أحدا من آهل القبلة إلا إذا ارتكب واحدا من الأمور الآتية :

1- نفى الصانع القادر المختار العليم 0

علما بأن الاختيار الذي أثبته الفلاسفة ليس اختيارا عندنا ، والاختيار عندنا ما يصح معه الفعل والترك فلا يغنى وصف القادر عنه ، إذ القادر قد يضطر إلى الفعل فيفعله بقدرته وليس مختارا ، كذلك علم الله الذي تقول به الفلاسفة ، لا يتعلق بالجزئيات وهذا غير ما جاء في العقيدة الإسلامية

2- الشرك 00

(أ) إما في وجوب الوجود كالقائلين بالنور والظلمة 0

(ب) وإما فى الخالقية كالقائلين بأن فاعل الخير النور ، وفاعل الشر الظلمة 0

لكن لا يصح تكفير المعتزلة لقولهم بخلق العبد أفعال نفسه الاختيارية ، لأن العبد ووسائله مخلوق لله ... وقد سئل أبو القاسم الأنصاري وهو من أفاضل تلامذة إمام الحرمين عن تكفيرهم فقال :

لا يجوز تكفيرهم لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبح وما لا يليق بالحكمة ، وسئل عن أهل الجبر فقال : لا يجوز تكفيرهم لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثر وإيجاد 0

(جـ) وإما فى المعبودية كعبدة الأصنام والكواكب والنار والطبيعة والبشر 0

3- وإنكار النبوة : كالبراهمة وأشباههم

4- وإنكار ما علم بالضرورة مجئ محمد صلى الله عليه وسلم به : كمن ينكر ركنا من الأركان الخمسة للإسلام ، آو ينكر البعث الجسمانى 0

5- أو إنكار أمر مجمع عليه قطعا 0 كمن ينكر كون الصلوات المفروضة خمسا ، آو ينكر عدد ركعات كل صلاة منها ، أو ينكر كون كل صلاة منها تؤدى بقيام وركوع وسجود وجلوس ، على النحو المعروف

6- أو استحلال المحرمات بشروط ثلاثة :

(أ) أن يحصل الإجماع على تحريمها 0

(ب) أن تكون حرمتها من ضروريات الدين : بحيث يستند الإجماع فيها على دليل قطعى 0 ويشتهر ذلك 0

(جـ) أن يكون الشخص على علم بما تقدم 0

وإنه لمن علامات الكفر البين الدالة على شئ مما تقدم :

السجود للصنم ، أو للشمس من غير إكراه

واحتقار المصحف ، وأهانه الكعبة من غير إكراه أيضا

وإكبار زعماء الكفر بما يرفعهم فوق منصب النبوة ... من غير إكراه كذلك

وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر وان لم يكن في نفسه كفرا..

فمن فعل شيئا من ذلك ولم يضامه عقد القلب على الكفر أجرينا عليه حكم أهل الكفر ، وان لم نعلم كفره باطنا 0

وعلى هذا الأساس فهناك جماعات نحكم عليها بالابتداع فى الدين ولا نحكم عليها بالكفر

1- كالقائلين بخلق القرآن بتأول 0

2- والقادحين في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يكفرهم ، وأما بما يوجب تكفيرهم فهم يكفرون

3- والقائلين بأن الله سبحانه وتعالى جسم بلا كيف ، وأما المصرحون بالجسمية المثبتون للوازمها من غير تستر( بالبلكفة ) فهم يكفرون 0

4- ومن قال إني أرى الله تعالى في الدنيا وأكلمه شفاها ، فللعلماء فيه آراء : والأصح أن يناقش : فإذا صرح بأنه يراه جسما تثبت له لوازم الأجسام من غير تستر بـ " بلا كيف "... وانه يراه رؤية حقيقية فهو كافر 0

وإذا صرح بأنه .. بناء على دعوى المكالمة .. ينزل منصب النبوة فهو كافر .

وإذا تستر بـ " بلا كيف " وأنها رؤية غير حقيقية ، وانه لا منصب نبوة في هذه المكالمة ، فلا نحكم بكفره ، ويدخل في حكم الابتداع في الدين . " وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار " ....



والأصل فيه أن في تكفير المسلم خطرا عظميا 0

قال الشيخ تقى الدين رحمه الله :

وهى ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى أهل السنة وأهل الحديث . ثم قال : والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة على صاحبها أفضل الصلاة . فانه حينئذ يكون مكذبا للشرع 0

وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه : من أنكر طريق إثبات الشرع : كمن أنكر ورود مسألة ما في الكتاب ، أو في السنة أو فى الإجماع ، لم يكفر حتى يعرف ، أما من أنكرها بعد الاعتراف بورودها في طريق الشرع ، فقد كفر ([6]) 0

درجات من الكفر لا تحرج من الملة :

يقول صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " متفق عليه

وقال صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " متفق عليه . وقال صلى الله صلى عليه وسلم " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب واذا وعد أخلف ، واذا عاهد غدر ، واذا خاصم فجر " متفق عليه .

وقال صلى الله علية وسلم " لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "

وقال صلى الله عليه وسلم " بين المسلم والكافر ترك الصلاة " رواه مسلم .

وقال " من أتى كاهنا فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد " 0

وقال " من حلف بغير الله فقد كفر " رواه الحاكم ، وقال " ثنتان فى أمتى هما بهم كفر ، الطعن فى الانساب والنياحة على الميت "0



وفى تفسير ذلك كله ذهب أهل السنة باتفاق إلى أن مرتكب الكبيرة من هذه الذنوب لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية ، إذ لو كان يكفر في مثل هذه الذنوب كفرا ينقل عن الملة لكان حكمه القتل مرتدا فلا يقبل في القاتل عفو ولي : ولا في الزاني حد بالجلد ، ولا في السارق قطع ليد ، وهلم جرا .. وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام ، وهم أمام هذه الأحاديث وما يماثلها طائفتان :

طائفة تقول بأن الإيمان تصديق وإقراروعمل ، يزيد وينقص ، فهؤلاء يقولون فيمن فيهم هذه الأحاديث وأمثالها : إن كفرهم عملي لا اعتقادي فلا يخرج من الملة 0

وطائفة تقول بأن الإيمان تصديق لا يزيد ولا ينقص فهؤلاء يقولون فيمن جاءت فيهم هذه الأحاديث وأمثالها : إن كفرهم مجازي غير حقيقي([7])0



يقول ابن أبي العز شارح الطحاوية : " تجتمع في المؤمن ولاية الله من وجه وعداوة من وجه ، كما قد يكون فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد ، وتقوى وفجور ، ونفاق وإيمان .

وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " فالطاعات من شعب الإيمان ، والمعاصي من شعب الكفر ، وإن كان رأس الكفر الجحود ، ورأس شعب الإيمان التصديق "

وإذن فهي كما قلنا درجات من الكفر لا تخرج من الملة

والأجدر أن يقال :

مرتكب هذه الأمور إما أن يرتكبها مستحلا لها فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة فيكون ما فعله كفرا صراحا 0

وإما أن يرتكبها مقرا بحرمتها ، فكفره باعتباره المآل ، إن أصر على ارتكاب هذه الكبائر ، وداوم عليها ، فان الآثام تتكاثر على قلب العبد مثل الحصير : عودا عودا ، حتى يسود ، فيختم عليه ، والرسول باعتبار منصبه في الدعوة والتربية يعالج نفوس البشر ويلفت أنظارهم إلى ما يؤولون إليه .

ترويج العلمانية لبواعث الإلحاد :

هناك بواعث كثيرة للإلحاد 0

ربما تقول إن الباعث إليه يتصل برغبة الإنسان في الانكباب على شهواته حيث يجد في الدين رادعا له عن ذلك 0

وربما نقول إن الباعث إليه يتصل بالرغبة في الوصول إلى موضع السلطة في شعب يمثل فيه الدين عنصرا قويا من عناصر المقاومة لهذه الرغبة 0

وربما نقول إن الباعث إليه يتصل بالرغبة في التخلص من بعض المؤسسات الدينية كالكنيسة أو ما يشابهها 0

وربما نقول إن الباعث إليه يتصل بالرغبة في زعامة فكرية جديدة يحول الدين الصحيح دون ظهورها 0

هذه البواعث كلها قائمة ، وقد يبدو لبعض الباحثين بواعث أخرى أكثر تنوعا وأدق تفصيلا .. ولكن الباعث الأساسي في رأيي الذي ينبغي إظهاره في هذا المقام يتضح لنا من النظر في جوهر الدين 0

وليس من المبالغة في شئ أن نقول إن جوهر الدين هو التسليم لله ، وبعبارة أخرى " الاتباع " لله .

وبعبارة أكثر وضوحا نقول : إن منشأ الدين يأتي كجواب على شعور الإنسان بجهله إزاء طبيعة الوجود وبدايته وغايته ، وموقع الإنسان في هذا الوجود ، وكجواب على تطلع الإنسان لإزاحة هذا الجهل

وهنا يأتي الدين : يتلقى فيه الإنسان الجواب على تساؤله وتطلعه ، ويتبع الإنسان فيه ما يتلقاه عن الوحي .

إن الإنسان بقصوره العقلي يجهل أصول المشكلات التي يواجهها :

مشكلة الوجود بدايته ونهايته وغايته

مشكلة المعرفة : إمكانها ، وطبيعتها وأدواتها

مشكلة القيم : الحق والباطل والخير والشر ، والنفع والضر والشقاء والسعادة

وهو مع هذا الجهل يتطلع في شوق عارم إلى معرفة الحقيقة التي يجهلها 0



وعند هذه النقطة يفترق الحال بين المؤمن المتدين بدين الله ، وبين الملحد = ( المتدين - رغم أنفه - بدين وضعي )

فالمتدين بدين الله يتلقى المعرفة والتوجيه من الله مسلما به ، متبعا له .

والملحد لا يرضى بهذا التلقي ، والاتباع ، وإنما يبتدع المعرفة والتوجيه ، ويحاول أن يصل إليها بنفسه - مع قصوره - أو أن يصل إليها من غير طريق الله 0



وخلاصة القول فى بواعث الإيمان بالله : إنها شعور بالجهل إزاء المشاكل الكبرى ، وتطلع إلى حلها ، واتباع الحل الذي يأتي من الوحي الصحيح 0

وفى المقابل فإن خلاصة القول في بواعث الإلحاد : أنها شعور بالجهل إزاء المشاكل الكبرى ، وتطلع إلى حلها ، وابتداع الحل من مصدر غير الوحي الصحيح .

وإذن فمركز الدائرة في التفرقة بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإلحاد هو عنصر الاتباع لله ورسوله نجده في جانب الإيمان ، وعنصر الابتداع والغرور والاستقلال الكاذب نجده في جانب الإلحاد 0



إن أهداف الإلحاد : من الناحية السلبية تتلخص في أمرين :

1- إنكار الإيمان بالله سبحانه وتعالى 0

2- إنكار الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم 0



أما من الناحية الأخرى فتتلخص أهدافه في :

نصب أديان وضعية مستمدة من الإنسان لا من الوحي 0 وهذا ما كشف عنه القرآن الكريم في قوله تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون . وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) 23-24 الجاثية )

وقوله تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ، لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) 73-74 يس 0

وتتوافر لهذه الأديان الوضعية ( الإلحادية ) الخصائص الرئيسية التي للدين بصفة عامة ، والتي أنكر الإلحاد الدين من أجلها ، وهذا يعنى أن الإلحاد المعاصر - وهو يهاجم الدين لم يفعل إلا أن استبدل دينا بدين .

استبدل بالدين الصادر من الوحي ( من الله الحق ) دينا صادرا من الإنسان .

وهذا في حد ذاته كاف في نقض الإلحاد المعاصر ، لأن فيه فضحا للكذب والدجل الذي ينطوي عليه موقفه من إنكار الدين

ومنهجنا لمقاومة العلمانية في ترويجها للإلحاد المعاصر تتمثل : في نظرة استقرائية أكثر شمولا وجدنا الإلحاد المعاصر يقوم في مجموعه على ادعاء الاستناد إلى العلم التجريبي والفلسفة العلمية ، وينطلق من أربع قواعد :

إنكار الغيبيات

الزعم بكفاية القوانين الطبيعية بديلا عن القول بوجود الله

الزعم بكفاية العلم في مجال المعرفة

الزعم بكفاية العلم في مجال القيم

وقد تعرضنا لإسقاط هذه القواعد وما تقوم عليه في كتابنا بعنوان " الفكر المعاصر في ضوء العقيدة الإسلامية " الذي خصصناه لسد ثغرة " علم الكلام المعاصر في جانبه الدفاعي "

والله أعلم
yehia_hashem@ hotmail .com
http://www.yehia-hashem.netfirms.com
---------------------------------------------------

([1]) - الكفر لغة الستر ، وانما سمى جاحد ربه والمشرك به كافرين لاتهما سترا على أنفسهما نعم الله تعالى ، وسترا طرق معرفته على الاغمار ،و العرب تقول : كفرت المتاع فى الوعاء أى سترته فيه ، وسمى الليل كافرا لأنه يستر كل شئ بظلمته ، قال الشاعر : (فى ليلة كفر النجوم غمامها ) وسميت الكفارة كذلك لانها تغطى الاثم وتستره وسمى الحارث كافرا لأنه يستر البذور فى الأرض.

([2]) - انظر كتابنا " عوامل وأهداف نشاة علم الكلام فى الاسلام "0

([3] ) المختار من السنة ص 323.

([4]) محصل ص 175 0

([5]) انظر شرح الطحلوية لاين أبى العزص 219 0

([6]) -انظر لذلك شرح الجلال الداونى على العقائد العضدية ، وحواشيها وأصول الدين للبغدادى . ج2ص 28 وما بعدها 0 بتصرف.

([7]) - انظر شرح الطحاوية ص 225- 227 .