النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: الفيزياء ووجود الخالق: الفصل الخامس/ رد اعتراضات وتبديد شبهات

  1. افتراضي الفيزياء ووجود الخالق: الفصل الخامس/ رد اعتراضات وتبديد شبهات

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    إليكم الفصل الخامس من كتاب الفيزياء ووجود الخالق تأليف الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله، في المشاركة التالية


    وهذه روابط الفصول التي تم وضعها سابقا في المنتدى
    الفصل الأول
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=13844
    الفصل الثاني
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14041
    الفصل السادس
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14233
    الفصل السابع
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14055
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  2. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:


    رد اعتراضات وتبديد شبهات
    رد الاعتراضات:
    زعم بعض الفيزيائيين أن هذا الدليل الكوني:
    1- دليل فاسد من حيث المبدأ لأنه متناقض, لكن مسألة صحة دليل ما أو فساده مسألة منطقية, لا تعلق لها بالفيزياء. لهذا فعندما يزعم فيزيائي مثل (ديفز) أن الدليل الكوني ليس صحيحاً, فإنه لا يفعل هذا بوصفه فيزيائياً, بل هو متأثر فيما يقول بعض مشاهير الفلاسفة الغربيين, بل هو ناقل عنهم ومقلد لهم كما سنرى.
    يقول (ديفز): ((إن الدليل الكوني مبني على افتراض أن كل شيء لا بد له من سبب, لكنه ينتهي إلى القول بأن هنالك شيئاً واحداً على الأقل (الله) ليس له سبب. فالدليل يبدو متناقضاً))(1).
    لكن (ديفز) نفسه يعترف بأن هنالك صيًغا مختلفة للدليل الكوني؛ وهو بالطبع لا يشير هنا إلى صيغته القرآنية التي لا يصدُق عليها ما يقول.
    لكن كثيراً من اعتراضاته لا تصدُق حتى على صيغته التي اختارها للمناقشة, هذه الصيغة تقول: ((كل حادثة ... لا بد لها من سبب. ولا يمكن أن تكون هنالك سلسلة غير متناهية من الأسباب؛ وإذن فليزم أن يكون هنالك سبب أول لكل الأشياء, وهذا السبب هو الله))(2).
    ـــــــــــ
    (1) الخالق، ص37.
    ''But the cosmological argument is found on the assumption that everything re-quires a cause, yet ends in the conclusion that at least one thing (God) does not re-quire a cause. The argument seems to be self-contradictory". God, p.37.
    (2) الخالق، ص33.
    "Every event …. Requires a cause. There cannot be an infinite chain of causes, so there must be a first cause of everything. This cause is God". God,p.33.
    ـــــــــــ


    هذه الصيغة تقول: ((كل حادثة لا بد لها من سبب)), لكنه جعلها تقول: ((كل شيء لا بد له من سبب)). والفرق بين الكلمتين كبير؛ فالحادثة لها بالضرورة بداية, لكن ما كل شيء حادث, وما كل شيء يلزم أن تكون له بداية؛ فالله - تعالى- شيء, ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ﴾ [الأنعام:19]. ومع ذلك فهو أزلي؛ وعليه فليس هنالك من تناقض في قول القائل كل شيء حادث فلا بد له من سبب, وأما الأشياء التي ليس لوجودها بداية فلا يمكن أن يكون لها سبب. إن هذه الحجة كانت تصبح عديمة الجدوى لو أنها بدأت بالقول بأن كل شيء حادث فيلزم أن يكون له سبب فاعل, وانتهت إلى القول بأنه حتى الأشياء التي لا بداية لها فلا بد لها كذلك من سبب فاعل. نعم, إن الحجة بحسب ما ساقها هو تبدأ بتقرير أن لكل حادثة سبباً, وتنتهي إلى القول بأن كل الأشياء يلزم أن يكون لها سبب. لكن لعل هذا ذهول منه في تقرير الحجة فلعله تأثر في هذا بما قال
    الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو) لأن اعتراضه هذا هو عين اعتراضه.
    2- وقال بعضهم إنه إذا كان الكون بحاجة إلى سبب؛ فالله كذلك بحاجة إلى سبب, يقول (ديفز): ((حتى لو سلمنا للدليل الكوني إلى حد القول بأن للكون سبباً, فهنالك مشكلة منطقية في عزو ذلك السبب إلى الله؛ لأنه يمكن حينئذ أن يقال: ما الذي سبَّب الله؟ إن الإِجابة المعهودة هي أن الله لا يحتاج إلى سبب, إنه واجب الوجود, لا سبب له إلا نفسه. ثم إنه إذا كان المرء مستعداً للتسليم بأن شيئاً ما - هو الله - يمكن أن يكون موجوداً من غير سبب خارجي؟ فلماذا المضي إلى ذلك الحد في السلسلة؟ لماذا لا يكون الكون موجودا من غير سبب خارجي؟ هل يقتضي القول بأن الكون خلق نفسه تعليقاً أعظم لعدم الإيمان من القول بأن الله خلق نفسه؟))(1).
    ـــــــــــ
    (1) الخالق، ص37-38.
    "Every granted the consmogical argument so far-that the universe must have a cause there is a longical difficulty in attributing that cause to God, for it could then be asked 'What caused God?' The response is usually 'God does not need a cause. He is a necessary being, whose cause is to be round within himself, Moreover if one is =
    ـــــــــــ

    اعتراض (ديفز) هذا على الدليل الكوني هو بعينه اعتراض (هيوم) عليه؛ لذلك فهو ينقل عنه - موافقاً له - قوله: ((إذا كنا نقف ولا نمشي أبعد (عن الله)، فلماذا نمضي إلى ذلك الحد؟ لماذا لا نقف عند حدود العالم المادي؟ ... بافتراضنا أنه يتضمن في نفسه مبادئ نظامه نكون قد أكدنا القول بأنه هو الله))(1).
    يتبع إن شاء الله...
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  3. #3

    افتراضي

    جزاكِ الله خيراً ونفع بكِ
    ............................

  4. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قرآن الفجر مشاهدة المشاركة
    جزاكِ الله خيراً ونفع بكِ
    وإياكم ، وبارك الله فيك
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  5. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

    بقية...

    وحجة (هيوم) هذه - بل كل حججه في تأييد الإلحاد - هي حجج في غاية التهافت، لكنها وجدت طريقها إلى قلوب أعداد كبيرة من المفكرين الغربيين المعاصرين، فهم يقلدونه فيها من غير نظر ولا تفكير؛ فها هو الفيزيائي (بارو) يأتي من بعد (ديفز) ليقول: ((لأنه يزعم أن كل شيء يجب أن يكون له سبب، وعليه فيجب أن يكون للكون سبب مختلف في جوهره عن الكون؛ بيد أن منطق هذه الحجة بالذات ليس قوي الإلزام. إن كل من يستطيع أن يقنع بمفهوم للخالق على أنه سبب غريب مسبب، يستطيع بكل تأكيد أن يقنع بالكون نفسه على أنه سبب من غير مسبب))(2).
    ـــــــــــ
    = prepared to concede that something -God- can exist without an external cause, why go that far along the chain? Why can't the universe exist without am external cause? Does it require any greater suspension of disbelief to suppose that the Uni-
    verse exists without a cause than to suppose that God cause Himself?" God. P.37-38.
    (1) الخالق، ص38.
    "If we stop and go no farther (than God), why go so far? Why not stop at the materi-al world? … By supposing it to contain the principle of its order within itself, we really assert it to be God". God, p.48.
    (2) العالم، ص227.
    "For, it is claimed, everything must have a cause, and so there must be a cause of the Universe that is in essence 'other' than the Universe. However, the logic of this argu-ment is not very compelling. Anyone who can live with the Deity as an uncaused
    Cause can surely live with the Universe itself as the uncaused cause". World, p.227.
    ـــــــــــ


    وأقول:
    أ- إن الدليل الكوني لا ينتهي إلى القول بأن الله خالق نفسه، بل بأن الله أزلي، والأزلي لا يكون له خالق.
    ب- إنني ما كنت أظن أن إنساناً مفكراً - مؤمناً كان أو غير مؤمن - يمكن أن يتساءل جاداً: من خلق الله؟ وهو يعرف المعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة. لكن يبدو أن بعض كبار الفيزيائيين الغربيين يأخذون هذا السؤال مأخذ الجد, بل ويعدُّونه من المآخذ الكبيرة على القول بوجود الخالق سبحانه, فها هو ذا الأستاذ (هوكنج) أيضاً يقول عن الله- تعالى: ((ومن الذي خلقه؟))(1).
    إن الإجابة عن هذا السؤال - الذي يظنه هؤلاء الفلاسفة والعلماء وكثيرون غيرهم سؤالاً عويصاً هي في غاية السهولة. إذا سلَّم الخصم بأن الكون الحادث لا بد له من سبب غير حادث ثم سلَّم بأن هذا السبب غير الحادث - أي الأزلي - هو المسمَّى بالله؛ فإن سؤاله عن خالق أو سبب لله لا يكون له معنى إطلاقاً, إنه سؤال من لا يتصور ما يقول, إنه سؤال ينطوي على تناقض عجيب؛ ذلك لأن
    السبب – ضرورة - سابق للمسبَّب, والأزلي – ضرورة - غير مسبوق بشيء؛ فكيف يكون له سبب؟
    إن قول القائل: من خلق الله؟ يساوي قوله ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله؟ أو ما بعد الشيء الذي لا شيء بعده؟ فهل تجد لمثل هذا السؤال من معنى؟ إذا أخبرت إنساناً بأن فلاناً كان أول العدَّائين؛ فهل يصح أن يقول لك: نعم, لكن من الذي سبقه؟ كذلك هنا - ولله المثل الأعلى - قد قام الدليل على أن الله - تعالى - هو الأول الذي لا شيء قبله؛ فكيف يقال ما سببه أو من خالقه؟
    من العجب العجاب أن (ديفز) الذي قلَّد (هيوم) في هذا الاعتراض على وجود الخالق, قال بنقيضه تماما في سياق آخر أتى به أيضاً للاعتراض على وجود الخالق سبحانه. اسمعه يقول: ((انظر في هذا القول الجازم السابق (( كل شيء يجيء إلى الوجود يكون قد أوجده شيء)). ماذا لو أن الشيء لم يجيء إلى الوجود أبداً بل كان دائماً موجوداً؟ هل من معنى للسؤال عما إذا كان هنالك سبب لشيء هو موجود أزلاً, لشيء لم يكن غير موجود في أي وقت من الأوقات؟))(1).
    ـــــــــــ
    (1) تاريخ الزمان، ص174.
    ـــــــــــ


    ونقول: أجل, إذا كان الكون أو شيء فيه موجوداً أزلاً فإنه لا معنى للسؤال عن موجِد له, ولكن إذا ثبت أنه لا الكون ولا شيء منه موجود أزلاً, فلا بد له من موجِد أزلي؛ فلا معنى للسؤال بعد ذلك عن موجد أو خالق هذا الخالق الأزلي, لكنك تسلم بهذه الحجة حين تفترض الأزلي شيئاً في هذا الكون وتنكرها حين يكون هو الخالق الذي تتحدث عنه الأديان.
    ج-تبين الآن سهولة الرد على سؤال (ديفز) ومن قبله (هيوم) القائل: إذا كان الله - تعالى- موجوداً من غير سبب موجد؛ فلماذا لا يكون العالم أيضاً موجوداً من غير سبب موجد؟
    الإجابة: لأن الله - تعالى- أزلي بينما الكون حادث.

    يتبع إن شاء الله....
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  6. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

    تابع..

    إن (ديفز) و(بارو), ومن نحا نحوهم في تقليد (هيوم) يعطون انطباعاً بأن المستدلين على وجود الخالق بالدليل الكوني قرَّروا بمحض الهوى أن الكون يحتاج إلى سبب موجد، ثم قرَّروا اعتباطاً أن الله لا يحتاج إلى مثل هذا السبب, ولذلك زعموا أنه لا يمكن الوقوف عند حدود العالم, لكنهم عندما وصلوا إلى الله وقفوا عنده فلم يتعدوه, ولا فرق – بزعمهم - بين الوقوف هنا والوقوف هنالك. وهذا منهما ومن غيرهما تخليط غفل أصحابه عن الفرق الكبير بين طبيعة الكون الحادث والخالق الأزلي.
    ـــــــــــ
    (1) الخالق، ص33-34.
    "Consider the above assertion 'every object that comes into existence has been pro-
    Duced by something; What if the object has never come into existence, but has al-
    Ways existed? … Does it mean anything to ask whether an eternally existing object-
    One which at no time did not exist-has a cause?" God, p.33-34.


    ـــــــــــ


    وقد أخبرنا رسولنا أن السؤال عمن خلق الله هو من إيحاء الشيطان, فقد
    روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَنْ خَلَق كذا؟ حتى يقول : مَنْ خَلَق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَه ))(1).
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - معلقا على هذا الحديث -: ((والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها, وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلاً كما في البدن الذي فسد أو المرض, فإنه يجد الحلو مراً, ويرى الواحد اثنين, فهذا يعالج بما يزيل مرضه, والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض. والنبي علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس, وأنه معلوم الفساد بالضرورة, فأمر عند وروده بالاستعاذة منه والانتهاء عنه))(2).
    ففي الحديث إشارة لطيفة إلى أن إنكار بدائه العقل ودلالاته القطعية يعدُّ مخالفة للدين الحق واتباعاً للشيطان, ويلزم عن هذا أن يكون في مخالفة ما جاء به الدين الحق مخالفة لمقتضيات العقل؛ فأنى يكون من يثير الشبهات حول بعض الحقائق الشرعية عقلانياً؟ فليت الإسلاميين المعاصرين يسمُّون أمثال هؤلاء بأهل الأهواء كما كان يسميهم أهل السَّنة قديماً؛ لأن هذا هو الوصف الناسب لحالهم, ولأن وصفهم بالعقلانيين يزيدهم غروراً وشراً لأنه يزين لهم أن العقل معهم, وأن المتمسكين بالنصوص عاطفيون.
    3- وشبيه بما سبق قولٌ يُردِّده كثير من الفلاسفة الملحدين, ويأخذه عنهم ويُردِّده على الطلاب في الجامعات بعض الأساتذة, كما حدثني بذلك بعض
    الطلاب المسلمين الذين درسوا في الولايات المتحدة. فحوى هذا القول أن فكرة
    الإِله القادر على كل شيء فكرة متناقضة. يستحيل - يزعمون - أن يكون أحد قادراً
    على كل شيء. لماذا؟
    ـــــــــــ
    (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، رقم 3276.
    (2) درء العقل والنقل، ابن تيمية، ج3: ص306
    .

    ـــــــــــ


    يجيبون بأنه إذا كان قادراً على فعل كل شيء فليقدر على فعل كذا وكذا, ثم يأتون ببعض المحالات العقلية, هل يستطيع أن يُربِّع الدائرة؟ هل يستطيع أن يفعل ما لا يمكنه فعله؟ هل يستطيع أن يخلق حجراً لا يمكن تحريكه؟ وسخف كثير مثل هذا. ما علموا أن علماءنا قد قالوا منذ زمان بعيد إن قدرة الله - تعالى- لا تتعلق بالمستحيلات؛ ولم يقولوا إنه لا يقدر على فعل المستحيلات؛ لأن الله
    - تعالى - قادر على فعل كل شيء, والمستحيل ليس بشيء.
    هَبْ أن زيداً من الناس اتُهم بحادث سرقة, فجيء بعمرو أمام القاضي ليشهد, فجرى بينه وبين القاضي الحوار الآتي:
    - ما اسمك؟
    - ليس لي من اسم لكن اسمي بطرس.
    - هل رأيت هذا الرجل من قبل؟
    - نعم رأيته.
    - منذ متى؟
    - منذ الغد.
    - هل رأيته يسرق؟
    - رأيته لكني لم أره ألبتة.
    ماذا يفهم القاضي من هذه الأجوبة البطرسية؟ لا شيء. هل عدم فهمه راجع إلى نقص في عقله بحيث إذا جئنا بقاض آخر أذكى منه يستطيع أن يفهم ما لم يفهم هو؟ كلا؛ لماذا؟ لأن عمراً لم يقل شيئاً. والفهم إنما يكون لمعنى يدرك, فإذا كان الكلام لا معنى له لا يدرك فلا يفهم منه شيء. ولذلك كان من الإنصاف لمن لا يفهم من الكلام المتناقض شيئاً ألا نقول إنه لم يفهم؛ لأن هذا قد يوحي بأن
    هنالك شيئا يمكن أن يفهم لكنه عجز عن فهمه، لكن الواقع أنه ليس هنالك ما يفهم. لذلك - والله أعلم - اختار علماؤنا ذلك التعبير الدقيق فقالوا إن قدرة الله لا تتعلق بالمحالات العقلية، ولم يقولوا إنه لا يقدر عليها.
    والآن انظر في كل الأمثلة التي يُستدل بها على أن مفهوم القدرة على كل شيء مفهوم متناقض. إذا كان المقصود بتربيع الدائرة هو أن تجعل الخطوط الذي تكونت منا الدائرة في شكل مربع، فهذا أمر يقدر عليه البشر العاديون. وأما إذا كان المقصود به هو أن تجعل الشيء دائرياً ومربعاً في الوقت نفسه فهذا كلام متناقض؛ لأن الشيء إذا كان مربعاً فيلزم ألا يكون دائرياً، وإذا كان دائرياً فيلزم ألا
    يكون مربعاً. فقول القائل هل يستطيع تربيع الدائرة هو كقوله هل يستطيع أن يوجد مربعاً ولا يوجده؟ وهو كما ترى كلام متناقض. قد لا يكون الأمر جلياً هذا الجلاء بالنسبة لمثال الحجر، لكنك إذا تأملته وجدته هو الآخر كلاماً متناقضاً.
    نقول إن الله - تعالى- قادر على كل شيء، فيقول لنا هذا المنكر لوجوده - تعالى -: هل يستطيع ربكم أن يخلق حجراً لا يستطيع تحريكه؟ وهو يظن أن سؤاله هذا يضطرنا إلى القول بأن الله ليس قادرا على كل شيء؛ لأنه يظن أننا مضطرون أن نجيب إما بنعم أو بلا، وفي كلا الحالين يتحقق له ما يريد. فإن قلنا نعم يستطيع، قال إذن هنالك شيء لا يستطيعه وهو تحريك هذا الحجر الذي خلقه. وإن قلنا لا، قال إذن هنالك شيء لا يستطيعه، فهو ليس قادراً على كل شيء. لكننا لن نجيب بهذا ولا بذاك، بل نقول له إن سؤالك ينطوي على تناقض، فهو أمر مستحيل عقلا، وقدرة الله – تعالى - لا تتعلق بالمستحيلات، وإنما بالممكنات العقلية، لأن المستحيل عقلاً ليس هو في الحقيقة الأمر بشيء حتى يقال إنه يقدر عليه؛ لماذا؟ لأن السؤال معناه هل يستطيع القادر على كل شيء أن لا يقدر على بعض الأشياء؟ أو هل يستطيع القادر على كل شيء أن يقدر على أن يحد من قدرته على كل شيء؟ وكل هذا كما ترى كلام متناقض. ثم إن حجراً لا يستطيع الخالق سبحانه تحريكه هو أمر غير متصور عقلاً؛ لماذا؟ لأن الخالق ما دام قادراً على كل شيء فمعنى ذلك أنه ليس لقدرته حد، فافتراض حجر
    لا يستطيع الخالق تحريكه هو افتراض لمستحيل عقلاً؛ لأنه افتراض لوجود شيء يحتاج تحريكه إلى قدرة هي أكبر من القدرة التي لا نهاية لها.
    هل يستطيع الإنسان أن يصنع شيئا - أن يبني بناء مثلاً - لا يستطيع تحريكه؟ نعم، ولا استحالة عقلية في هذا. ولكن الذي جعل هذا ممكناً عقلاً في حال الإنسان، هو أن الإنسان لا يخلق المواد التي يركب منها ما صنع، فهو مثلاً ينقل حجراً يستطيع حمله، ثم يضيف إليه حجراً آخر مثله.. وهكذا، فإذا تجمعت هذه الحجارة في بناء لم يقدر على تحريكه؛ لأن تحريكه يحتاج إلى قوة فوق قوته.
    لكن الخالق هو خالق كل شيء؛ فلا يمكن أن يعجزه شيء.
    4- قال بعض الفلاسفة إن أهم مقدمة يقوم عليها هذا الدليل هي أنه لا بد لكل حادث من سبب. ولكن ما الدليل على هذا؟ لماذا لا تحدث بعض الأشياء بغير سبب؟ لقد أوضحنا من قبل أنه إذا لم يكن للحادث سبب فلا مناص من القول إما بأنه جاء من العدم المحض, أو أنه خلق نفسه، أو أنه أحدثه حادث مثله, وبيَّنا فساد القول بكل هذا؛ لم يبق إلا القول بأنه لا بد للحوادث من أسباب. ثم إنك تجد بعض القائلين بإنكار السببية هؤلاء حين يكون الأمر متعلقا بوجود الخالق, هم من أكثر المستمسكين بها حين يكون الأمر دفاعاً عن الأسباب العلمية التي يحسبون أنها تغني عن فاعلية الخالق. إنهم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك.
    5- وقال آخرون منهم: حتى على افتراض أن الدليل يؤدي إلى وجود خالق؛ فلماذا يكون هذا الخالق هو الله؟ الفصل السادس كله إجابة عن هذا السؤال.

    يتبع إن شاء الله....
    التعديل الأخير تم 09-10-2008 الساعة 11:48 PM
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  7. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

    تابع..

    تبديد الشبهات:
    هل يلزم أن تكون للمخلوقات بداية؟
    يظن كثير من الناس من المؤمنين بوجود الخالق من المسلمين والنصارى واليهود وغيرهم, ومن الذين لا يؤمنون بوجوده من الملحدين, أن المؤمن بالخالق يلزمه القول بأن المخلوقات كلها لها بداية, وأنه لم يكن قبلها شيء إلا الله سبحانه وتعالى. وقد أثار بعض الملحدين منذ القدم شبهاً حول هذا الاعتقاد
    الذي حسبوه لازماً للدين، فقالوا: أي خالق هذا الذي يظل منذ الأزل معطلاً لا يخلق شيئاً حتى بداية خلقه لهذا الكون؟!
    فنقول: الأقوال في خلق الكون ثلاثة:
    - قول بأن الكون أزلي ليس له بداية؛ فلا يحتاج إذن لخالق. وقد كان هذا قولاً لبعض الملحدين من فلاسفة اليونان, وكان إلى زمن قريب عمدة الملحدين في عصرنا.
    - وقول بأن الكون كله - بمعنى مجموعة المخلوقات - له بداية, إي إنه كان الله - تعالى - وحده ولم يكن معه شيء من المخلوقات. وهذا هو القول الشائع بين كل المؤمنين بوجود الخالق من اليهود والنصارى والمسلمين. هذان هما القولان المشهوران.
    - وأما القول الثالث - وهو القول الصحيح - فليس مع الأسف الشديد بمشهور, بل إن هنالك من ينكره حتى من بعض العلماء الفضلاء, وهنالك من يسيء فهمه سواء من الذين ينكرونه أو من الذين يقبلونه. لذلك يحسن أن نوليه مزيد عناية معتمدين في ذلك على كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان له الفضل في نشر هذا القول والدفاع عنه والرد على منكريه.
    هذا القول هو أن المخلوقات سلسلة من حوادث لا أول لها, أي إن كل مخلوق قبله مخلوق .. وهكذا إلى ما لا نهاية. فكل مخلوق له بداية وله نهاية, لكن كل مخلوق مسبوق بمخلوقات أخرى, فليس هنالك مخلوق هو أول المخلوقات بمعنى أنه ليس مسبوقاً إلا بوجود الخالق سبحانه(*).
    ما الدليل على هذا؟ الدليل أنه هو الذي يلزم عن عدة نصوص من القرآن والسنة, وأنه لا معارض عقلي له كما ظن بعض من أنكروه. فهنالك آيات وأحاديث كثيرة تدل بظاهرها على أن الكون سلسلة من حوادث لا أول لها, ولا تدل على الاعتقاد الشائع - أن الكون كله له بداية مسبوقة
    بالعدم المحض - إلا بشيء من التأويل والتأويل المستكره أحياناً.
    فالله - سبحانه وتعالى - موصوف في الكتاب والسنة بأنه خالق بل خلاَّق، وأنه يتكلم, وأنه يسمع ويرى, وأنه يدبر ويحفظ ويحيي ويميت إلى غير ذلك من الصفات التي يسميها العلماء بالصفات الفعلية تمييزاً لها عن الصفات الذاتية للمولى - سبحانه وتعالى - كصفات الحياة، والقوة، والقدوة.
    والمتفق عليه بين العلماء جميعا أن صفات الله – تعالى - كلها - الذاتي منها والفعلي- صفات أزلية. فالله - سبحانه وتعالى - أول ليس قبله شيء فهم أزلي بذاته وصفاته, أي أنه سبحانه لا يكتسب صفة جديدة لم تكن له ولا يفقد صفة كانت له.
    لكن الصفات الفعلية تستلزم - كما يدل على ذلك اسمها - أفعالاً؛ فكونه - سبحانه وتعالى - خالقاً يدل على وصفه بالخلق, وأن له مخلوقات, وكونه متكلماً يدل على وصفه بالكلام، وأن هنالك من يكلمه الله تعالى، وكونه يحفظ
    ويدبر يدل على اتصافه بذلك، وأن هنالك ما يحفظ ويدبر. فإذا كانت صفات
    الخلق والكلام والتدبير والحفظ صفات أزلية - وكانت تستلزم وجود ما يُخلق وما
    يُخاطب، وما يُدبّر ويُحفظ - كان من اللازم أن يوجد - أزلاً - ما يُخلق ويُخاطب
    ويُدبَّّر ويُحفظ.
    ـــــــــــ
    (*) يرى بعض المحققين أن ابن تيمية - رحمه الله - قرر جواز حوادث لا أول لها، وهو مقتضى أن الله - تعالى - فعَّال لما يريد، وهذا حتى يميز بين ما قرره وبين ما قاله الفلاسفة بالوجوب الذاتي للمخلوقات، وقد شرح المؤلف - حفظه الله - ذلك شرحاً وافياً في الفصل السادس.
    ـــــــــــ


    على الرغم من وضوح هذه الحجة؛ فإن كثيراً من المتكلمين، بل وبعض فضلاء العلماء من أهل السنَّة استنكروا القول بحوادث لا أول لها، ودافعوا عن القول الشائع بأن المخلوقات كلها لها بداية مطلقة، لم يكن قبلها إلا الله سبحانه وتعالى. ومن الحجج التي اعتمدوا عليها في هذا الدفاع:

    يتبع إن شاء الله....
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  8. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

    تابع..

    أولاً: ظن بعضهم أن العقل يحيل وجود حوادث لا أول لها. وهم قد خلطوا في ذلك بين نوعي التسلسل اللذين بينَّاهما آنفاً.
    وقال بعضهم إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وما دام الله – تعالى - أزلياً غير حادث؛ فلا بد أن يكون وجوده سابقاً لوجود مجموع الحوادث التي هي هذه المخلوقات.
    لكن القائلين بهذا يخلطون بين الحوادث المحصورة والحوادث التي لا نهاية لها. فما لا يسبق العدد المحصول من الحوادث - مهما كان عددها - فهو فعلاً حادث؛ لأنه إذا كان لا يسبقها فلا بد أن يكون لوجوده ابتداء، إما مع بداية أول هذه الحوادث أو بعدها فهو إذن في كلا الحالين حادث.
    وأما إذا كانت الحوادث لا نهائية؛ فلا مجال للحديث عن شيء يسبقها؛ لأنه ليس لها أول قبله عدم. وإذن فإن ما لا يسبقها يمكن أن يكون أزلياً، يحدث كل من تلك الحوادث ويذهب منذ الأزل ويبقى هو هو موجوداً من الأزل إلى الأبد.
    ثم إن القول باستحالة حوادث لا أول لها يوقع قائله في إشكال عقلي خطير؛ لأنه إذا كان من المستحيل أن تكون سلسلة المخلوقات أزلية، وكان من اللازم عقلاً أن تكون لها بداية، فإنه يلزم من ذلك القول بأن الله - تعالى - لم يكن قادراً على أن يخلق إلا في الوقت الذي بدأ فيه الخلق؛ لأن المتفق عليه بين العقلاء أن قدرة الله - تعالى - لا تتعلق بالمستحيلات. لكن هذه النتيجة لا يقبلها مسلم، لأنه يلزم عنها أن الله - تعالى - لم يكن قادراً على الخلق منذ الأزل، أي لم يكن متصفاً بصفة الخالقية منذ الأزل، وإنما صار خالقاً بعد أن صار الخلق ممكناً.
    ولذلك فلا مناص للمؤمنين القائلين باستحالة حوادث لا أول لها من الوقوع في التناقض؛ لأنه يلزمهم أن يقولوا إن الخلق كان مستحيلاً وأن الله - سبحانه وتعالى - كان قادراً عليه بل كان خلاقاً!
    ثانيا: وظن بعضهم أنه يلزم عن القول بحوادث لا أول لها القول بأزلية العالم أو شيء منه. وربما لم يستطع بعضهم التمييز بين القول بحوادث لا أول لها والقول بأن الكون قديم أزلي مساو في وجوده لوجود الخالق. لكن الحقيقة أن هذين التصورين مختلفان تماماً، بل هما نقيضان لا يجتمعان فكيف يلزم عن القول بأحدهما القول بالآخر؟ أحد هذين التصورين يقول إن في هذا الكون شيئاً معيناً - سواء كان هو الكون كله أو شيء منه كالمادة مثلاً - أزلي. وثانيهما يقول إنه ليس في هذا الكون شيء أزلي، بل إن كل ما فيه إنما هو حوادث لكل منها بداية ونهاية، وإن كانت سلسلة هذه الحوادث ممتدة في الماضي إلى ما لا نهاية له. إن مثل الاختلاف بين هذين التصورين كمثل الاختلاف بين أحد يدعي أن عمر إنسان معين هو أكثر من عشرين قرناً، وآخر يقول إن عمر الجنس البشري أكثر من عشرين قرناً، وإن كان عمر الواحد من البشر لا يصل إلى قرن واحد. وهنا أيضاً يقول واحد أن الكون أزلي. ويقول آخر إن كل مخلوق ذو عمر محدود لكن جنس المخلوقات أزلي.
    يقول ابن تيمية - رحمه الله -: ((فالذي يفهمه الناس من هذا الكلام أن كل ما سوى الله - تعالى - مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والألوهية والربوبية. وكل ما سواه مخلوق مربوب عبدٌ له. وهذا المعنى هو المعروف عن الأنبياء وأتباع الأنبياء
    من المسلمين واليهود والنصارى، وهو مذهب أكثر الناس غير أهل الملل من الفلاسفة وغيرهم))(1).
    ثالثا: لما اعتقد بعضهم استحالة القول بحوادث لا أول لها، أو خلط بينها وبين القول بأزلية العالم راح يؤوِّل تلك النصوص التي يلزم عنها القول بأزلية جنس المخلوقات. فهم يقولون مثلاً إن كون الله - تعالى - خالقاً أو مدبراً لا يلزم عنه أن يكون هنالك ما يخلقه أو يدبره، بل هو خالق بمعنى أنه قادر على الخلق، ومُدَبِّر بمعنى أنه قادر على التدبير، وهو سبحانه بقدرته هذه خلق الخلق في الوقت
    الذي اختار أن يخلقه فيه، فهو سبحانه قبل خلقه الخلق خالق وبعده خالق، وكذلك يقولون في سائر الصفات الفعلية.
    ونقول أولاً: ما الداعي لهذا التأويل؟ إن ما تدل عليه هذه النصوص دلالة مباشرة من أن الله - تعالى - لم يزل يخلق ليس فيه إشكال ألبتة، لا إشكال ديني ولا إشكال عقلي.
    ليس فيه إشكال ديني لأنه لا يتعارض مع شيء من النصوص، وليس فيه إشكال عقلي لأنه لا ينطوي على أي نوع من أنواع التناقض ولا يقود إلى نتائج باطلة كما بينَّا؛ فلماذا المحيد عنه والمصير إلى قول يستلزم هذا التأويل؟
    ونقول إن الإنسان لا يوصف بأنه كاتب إلا إذا كتب؛ فهل يعقل أن يوصف بأنه كتَّاب - بصيغة المبالغة - وهو لم يكتب شيئا؟ والله - سبحانه وتعالى - موصوف في كتابه العزيز بأنه خلّاق؛ فكيف يقال إنه - تعالى - كان منذ الأزل خلاَّقاً لكنه لم يخلق شيئاً إلا بعد مضي ما لا يتناهى من الزمان؟
    ـــــــــــ
    (1) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج1: ص125-126.
    ـــــــــــ


    ثم إذا كان الخلق صفة مدح فإن المدح يكون أكمل حين تظهر لوازم هذه الصفة، وكلما كانت لوازمها أكثر وأعظم كان المدح أبلغ. ومما لا شك فيه أن الخلق منذ الأزل أكثر وأعظم من خلق لم يبدأ إلا بعد مضي ما لا يتناهى من الزمان.

    يتبع إن شاء الله....
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  9. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    رابعا: استدلوا على أن للمخلوقات بداية بحديث رواه البخاري وغيره عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي قال: ((اقبلوا البشرى يا بني تيمم. قالوا بشرتنا فأعطنا. فأقبل على أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا بني تيمم. قالوا: بشرتنا فأعطنا. فأقبل على أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم. قالوا: قبلنا. جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: كان الله ولم يكن شيء قبله [وفي لفظ ((معه))، وفي لفظ ((غيره))]، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء)). ثم أتاني رجل فقال: يا عمران، أدرك ناقتك، فقد ذهبت؛ فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها، وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم(1).
    فهل في هذا الحديث الصحيح من دلالة على أن للمخلوقات كلها بداية؟
    1- إن الذين قالوا بذلك اعتمدوا على رواية ((معه)) و ((غيره)). ولا شك في أن الروايات كلها صحيحة من حيث السند، لكن بما أن المجلس الذي حدثت فيه هذه القصة كان واحداً، والصحابي الذي رواها واحد، فلا يمكن أن يكون الرسول قد ذكر هذه الألفاظ الثلاثة في ذلك المجلس. وإذن فلا بد أن بعض الرواة قد روى هذا الحديث بالمعنى لا باللفظ الذي ذكره الرسول لا بد إذن من المصير إلى الترجيح، ومما يرجح رواية ((قبله))، كون هذه اللفظة مذكورة في حديث آخر صحيح، فقد كان يقول في دعاء الليل: ((أنت الأول فليس قبلك شيء ))(1)، وكونها - على عكس روايتي ((معه)) و ((غيره)). - تتناسب مع ظاهر سياق الحديث ولا تحتاج إلى تأويل؛ لأن ظاهر الحديث، ولا سيما برواية ((ثم)) يدل على أن الله - تعالى - حين خلق السماوات والأرض كان عرشه على الماء، وإذن فقد كان هنالك مخلوق هو العرش قبل أن تخلق السماوات والأرض؛ فكيف يقال إنه لم يكن معه أو غيره شيء ثم يقال إن العرش كان معه؟ لا يسوغ هذا إلا بشيء من التأويل للحديث.
    ـــــــــــ
    (1) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ [هود : 7]، رقم7418.
    ــــــــــ


    وهذا هو الذي لجأ إليه الذين فضلوا روايات ((غيره)) أو ((معه)). فالعلاَّمة الحافظ ابن حجر مثلاً يحاول إزالة التناقض الذي يبدو من رواية: ((غيره)) بقوله: ((ومحصل الحديث أن قوله: ((وكان عرشه على الماء)) مقيد بقوله: ((ولم يكن شيء غيره))، والمراد بـ ((كان)) في الأول الأزلية، وفي الثاني الحدوث بعد العدم))(2).
    فأنت ترى أن الشيخ الفاضل لم يستدل بالحديث على أن للخلق كله بداية مطلقة ليست مسبوقة بشيء إلا الخالق سبحانه، وإنما افترض أن هذه حقيقة لا شك فيها، ثم أوَّل الحديث ليناسب هذا الذي افترضه.
    2- الحديث لا تعلق له بما ذكر أصحاب هذا الرأي؛ لأن سؤال أهل اليمن لم يكن عن أول المخلوقات على الإِطلاق وإنما كان عن أول هذا الكون المشهود لهم. يقول ابن تيمية راداً على هؤلاء: ((والقول الثاني في معنى الحديث أنه ليس مراد الرسول هذا، بل إن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى العرش، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ{7}﴾ [هود:7]))
    ـــــــــــ
    (1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، رقم 2713.
    (2) فتح الباري، ابن حجر، حديث رقم 3194.

    ــــــــــ


    خامسا: واستدلوا بحديث خلق القلم الذي يبدو من ظاهره أنه يدل حقاً على أن للكون بداية وأن هنالك مخلوقاً هو أول المخلوقات، ففي سنن أبي داود عن أبي حفص قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: ((يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب. قال رب وماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. يا بني! إني سمعت رسول الله يقول: من مات على غير هذا فليس مني))(1).
    يقول ابن تيمية: ((وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره. أحدهما: أنه هو العرش، والثاني أنه هو القلم. ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنَّة أن الله - تعالى - لما قدَّر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء، فكان العرش مخلوقاً قبل القلم. قالوا
    والآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم، وقد أخبر الله أنه خلقه في ستة أيام، فكان حين خلقه زمن يقدِّر به خلقه، ينفصل إلى أيام، فعلم أن الزمان كان موجوداً قبل أن يخلق الله الشمس والقمر، ويخلق في هذا العالم الليل والنهار. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال في خطبته عام حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ...))(2).
    لكن الشيخ العلامة الألباني يقول: ((غير أنني متوقف في صحة الحرف الذي استدل به المؤلف وهو ((فقال))، فقد جاء في بعض الروايات بلفظ ((ثم قال)) )).
    ثم بيَّن هذه الروايات ثم قال: ((وبالجملة فالرويات في هذا الحرف مختلفة, ولذلك فإنه لا يتم للمصنف الاستدلال بالرواية الأولى على تقدم خلق العرش ولأنها تتضمن زيادة في المعنى, وعليه فلا تعارض بين الحديث على هذه الرواية وبين حديث عبد الله بن عمرو؛ لأن حديثه صريح في أن الكتابة تأخرت عن خلق العرش, والحديث على الرواية الراجحة
    صريح في أن القلم أول مخلوق, ثم أمر بأن يكتب كل شيء يكون, ومنه العرش, فالأرجح عندي أن القلم متقدم على العرش. والله أعلم.
    ـــــــــــ
    (1) أخرجه أبو داود، كتاب السنَّة، باب: القدر، رقم 4700.
    (2) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ج1: ص261-262.

    ــــــــــ


    على القلم, حتى يثبت أرجحيتها على الأخرى ثم قال ... وإذا كان لا بد من الترجيح بينهما, فالأخرى أرجح من الأولى لاتفاق أكثر الرواة عليها, ولأن لها شاهداً عن أبي هريرة كما تقدم, وفي الحديث أشارة لطيفة في الرد على من يقول من العلماء بحوادث لا أول لها, وأنه ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بمخلوق وهكذا إلى ما لا أول له! فتأمل))(1).
    فكأن الشيخ الفاضل يقول: ((إن الله - تعالى - خلق القلم أولاً ثم خلق العرش, ثم أمر القلم ((أن يكتب كل شيء يكون بما في ذلك العرش)).وإذا كان هذا التلخيص لكلام الشيخ صحيحاً؛ فإنه يبدو لي أن في كلامه تناقضاً؛ إذ كيف يكون العرش سابقاً للكتابة ثم يأمر القلم بكتابة كل شيء يكون, بما في ذلك العرش, والعرش قد كان وانتهى قبل الكتابة؟!(2).
    ثم إذا كان الشيخ الفاضل قد اعتمد في قوله بترجيح خلق القلم على العرش, على روايات هذا الحديث التي رجحها للحجج العلمية التي ذكرتها؛ فإن الذين قالوا بتقدم العرش قد اعتمدوا على حجج أقوى من ذلك بكثير كما يتبين من نقلنا السابق عن ابن تيمية.
    ـــــــــــ
    (1) شرح الطحاوية، ص138-139.
    (2) يبدو أن الألباني قصد: أن بين خلق القلم وبين كتابته زمناً طويلاً تخلله خلق العرش، فعنده خلق القلم أولاً، ثم خلق العرش، ثم أمر القلم بالكتابة لكل شيء، ومنها خلق العرش، فكتابة العرش لا تستلزم عنده تأخر خلقه، إذ قد يكتب عنه في اللوح المحفوظ مع تقدم خلقه. على أن عبارة الألباني لا تساعد على هذا؛ فهي إن حملت على ظاهرها متناقضة. والله أعلم.
    ــــــــــ

    يتبع إن شاء الله....
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  10. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    هل يتنافى القول بفعالية الأسباب مع الإيمان بالخلق؟
    تلك الحوادث المتسلسلة - سواء قلنا إنها غير متناهية, أم قلنا بتناهيها - يمكن أن يكون بعضها أسباباً وعللاً لبعض. لا بمعنى العلة التامة, بل بمعنى العلة الناقصة المحدودة. فالله خالق كل شيء, وهو جاعل بعض الأشياء عللاً وأسباباً لبعض؛ فليس منها ما هو علة تامة مستقلة, وإن كانت علة بمعنى المحدود,
    فالمؤمن البصير لا يشتط شطط الذين يثبتون وجود الأسباب لينفوا وجود خالقها, ولا يغلوا غلة المثبتين للخالق لينفوا فاعلية الأسباب. المؤمن البصير لا يجد في نفسه حرجاً في الجمع بين إيمانه بالله الخالق لكل شيء, وإقراره بفاعلية الأسباب الطبيعية. فالله الخالق للأشياء جعلها بحيث يكون بعضا أسبابا لبعض.
    الاعتقاد بتنافي الخالقية مع الفعالية السببية جعل كثيراً من الملحدين الغربيين يستطيلون على زملائهم المؤمنين كلما نجح العلم الطبيعي في تفسير ظاهرة من ظواهر الطبيعة بعزوها إلى سبب طبيعي, وجعل أولئك المؤمنين يُحرَجون من التقدم العلمي ويبحثون عن الأمور التي عجز العلم عن تفسيرها ليشيروا إليها قائلين لأصاحبهم الملحدين: ألم نقل لكم إن في الوجود مالا يمكن تفسيره إلا بإدارة الخالق؟ وقد سخر بعض الفلاسفة من هؤلاء المؤمنين وسمَّى إلههم بإله الفجوات! أي إنهم لا يجدون له مكاناً إلا في الأماكن التي لم يستطع العلم ولوجها بعد. ومما زاد من إحراج هؤلاء المؤمنين أن العلماء الطبيعيين ما كانوا يلبثون إلا قليلاً حتى يجدوا لتلك الظواهر تفسيرا طبيعياً, فيسدوا بذلك بعض تلك الثغرات.
    فالملحدون من العلماء الطبيعيين يزعمون أنه لكي يكون الشيء مخلوقاً لله فلا ينبغي لحدوث أسباب طبيعية, فإذا اكتشفنا أسباب حدوثه الطبيعية كان هذا دليلاً على أنه لم يحدث بقدرة الخالق. هذه فكرة غالطة رغم شهرتها وانتشارها بين الناس, مؤمنهم وكافرهم, في الشرق والغرب, وعلى مدى تاريخ طويل.
    إن الغفلة عن هذه الحقيقة هي التي جعلت الملحدين يستطيلون على بعض المؤمنين ويتحدونهم كما اكتشفوا لبعض الأحداث أسباباً لم تكن معروفة من قبل. من ذلك ما يقوله (واينبيرج) في الفصل الذي خصصه للعلاقة بين العلم ووجود الخالق: ((بل إنه حتى القرن التاسع عشر كان تصميم النباتات والحيوانات يعد دليلاً بيِّناً على وجود الخالق. ما تزال في الطبيعة أشياء لا حصر لها لا نستطيع تفسيرها, لكننا نرى أننا نعرف المبادئ التي تحكم الطريق التي تعمل بها. إن على من يريد السر الغامض الحقيقي اليوم أن يبحث عنه في مجال علم الفلك أو علم الجزئيات الصغيرة))(1).
    يريد (واينبيرج) أن يقول لنا كما قال مئات الفلاسفة والعلماء الغربيين قبله, إن السر الذي يعتمد عليه الإيمان يكشف - ويزول فتزول بزواله الحاجة إلى وجود الخالق حين نستطيع تفسير حدوث الأشياء تفسيراً طبيعياً. وأنه لم يبق هنالك اليوم من سر- أي شيء ما زال العلم عاجز عن تفسيره - إلا في المجالين الذين ذكرهما, فهما وحدهما اليوم ملاذ من يبحث عن سر يرسي عليه إيمانه.
    إنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقاً لله وكون لحدوثه تفسيراً طبيعياً كما قدمنا.
    قيل للنبي : ((يا سول الله, أرأيت أدوية نتداوى بها, ورقى نسترقي بها, وتقاة نتقيها, هل تردُّ من قدر الله شيئاً؟ قال:هي من قدر الله))(2).
    لكن غاية ما يبلغ العلم هو أن يفسر لنا الحدوث بأسباب ثانوية, أي أسباب هي نفسها بحاجة إلى أسباب. ونحن محتاجون - بلا شك- إلى معرفة مثل هذه الأسباب في حياتنا اليومية, لكنها ليست بالأسباب التي تفسر لنا وجود الأشياء تفسيراً نهائياً. وهذا هو الموضوع الذي سنُشبع الحديث فيه في بحثنا هذا بإذن الله تعالى.
    ـــــــــــ
    (1) ص200.
    (2) أخرجه الترمذي، كتاب الطب، باب: ما جاء في الرقى والأدوية، رقم 2065، وابن ماجة، كتاب الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم 3437، واللفظ له.


    يتبع إن شاء الله...
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  11. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
    إليكم الجزء الأخير من الفصل الخامس، الذي اسأل الله تعالى أن يجزي خيرا كل من ساهم بتاليفه ونشره وأن يفيد به


    وقد وجدت فكرة (التنافي بين الخالقية والسببية) شائعة حتى عند بعض المسلمين. سمعت بعضهم يستدل بقوله - تعالى -: ﴿ فَالِقُ الإِصْبَاحِ ﴾ [الأنعام:96] على أن الله - تعالى - هو الذي يجعل الصبح صبحاً، لا كروية الأرض أو دورانها. وسمعت بعضهم يستدل بمثل قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ [الشورى:28]. على أن الله - تعالى - ينزل المطر أحياناً من غير تبخير ولا سحاب. هذا مع أن أئمة أهل السنة ظلوا يلحُّون على أن من سنَّة الله- تعالى- أن يفعل ويخلق بالأسباب؛ فعزو الحوادث إلى فعله لا ينافي كونها حصلت بأسباب جعلها الله أسباباً لها. ثم إنه من الخطأ في تفسير القرآن الكريم أن تأخذ بعض الآيات بمعزل عن الآيات الأخرى ولا سيما تلك التي تتحدث في المسألة نفسها، فالقرآن كتاب متسق يصدق بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً.
    فإذا قال - تعالى- في موضع: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ﴾ فقد قال في موضع آخر: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [الروم:48].
    نعم إن الله - تعالى- قادر على أن يخلق الأشياء بغير هذه الأسباب، وأن يخلقها مرة بأسباب وأخرى بغير أسباب، وأن يخلق دائماً بغير أسباب.
    لكن قدرته -تعالى - شيء وكون هذه سنَّته فعلا شيء آخر، فالذي نعرفه من كلامه تعالى، ومن مشاهدتنا لمخلوقاته أن من سنَّته أن يخلق الأشياء بأسباب، وأن هذه الأسباب تكون في بعض الأمور مطردة لا تتغير ألبتة.
    ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ [فاطر:43].
    بل حتى المعجزات الكونية، لم يقل أهل السنَّة إنها خرق لقاعدة السببية، وإنما وصفوها وصفا دقيقا فقالوا إنها خرق للعادة،أي للسنَّة المعتادة التي يعرفها الناس. وهذا يعني أن المعجزة نفسها يحدثها الله - تعالى- بأسباب لكنها غير الأسباب التي عرفها الناس.
    كررت قولي أهل السنَّة؛ لأنه وجد من غلا من الفرق الإسلامية الأخرى في إثبات القدر حتى ضاق بالأسباب فلم يجعل لها فاعلية، بل زعم أن الله يفعل عندها لا بها. وقد عبَّر الغزالي عن هذا الرأي المخطئ في فصله الشهير في كتاب تهافت الفلاسفة، فكان مما قال عن احتراق القطن عند ملاقاة النار: ((ما الدليل على أنها [أي النار] الفاعل؟ وليس لهم [أي الفلاسفة] دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها، وأنه لا علة له سواها))(1).
    لكن بعد تأمل طويل لكلام الغزالي تبين لي:
    أولا:ً أنه لا ينكر مبدأ السببية من حيث هو، وإنما ينكر بعض الأسباب التي يسميها بالأسباب الطبيعية، فهو في هذا يختلف عن (هيوم) البريطاني الذي أنكر المبدأ نفسه.
    ثانياً: ينكر الغزالي أن تكون هنالك صلة ضرورية بين السبب والمسبب, بحيث أنه إذا حدث الأول فيلزم أن يحدث الثاني. وهذا كلام صحيح إذا كان المقصود به الأسباب الطبيعية, وإذا كان المقصود به أن الأسباب المخلوقة تستقل بأفعالها ولا تحتاج لقدرة الخالق.
    ثالثاً: لكن الغزالي خلط فيما يبدو بين هذا وبين أن تكون للأسباب - طبيعية كانت أو غير طبيعية - فاعلية حقيقية. إنه لا يلزم من وجود الفاعلية أن تكون الصلة ضرورية، ولا أن تكون الأسباب مستقلة عن الخالق(*).
    ـــــــــــ
    (1) تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي.
    (2) إن قصد المؤلف أنه تأمل مذهب الغزالي في كتبه حول السببية؛ فلا شك أن الغزالي في بعضها يثبت السببية بل ربما يرى لزومها – بناءً على عقيدته الفلسفية -، وفي بعضها – كما هنا – ينفيها بإطلاق بناءً على عقيدته الأشعرية.

    ـــــــــــ


    وهذا ما قاله مخالفو الأشاعرة من أهل السنَّة. قالوا - ما قلت سابقاً - من أن الله - تعالى - هو الذي خلق هذه الأسباب وجعلها أسباباً، فهي لا تؤثر إلا بقدرته، لكن لا تنافي بين هذا وبين أن تكون تأثيراتها حقيقية كما تدل على ذلك لغة القرآن الكريم. فنحن نجد في كثير من آيات الكتاب العزيز عزواً لبعض الأفعال إلى الأسباب المخلوقة، من ذلك قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام:97]
    ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:99]
    ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه:18].
    فاستعمال باء السببية في هذه الآيات يدل على أن النجوم سبب حقيقي للرؤية، وأن الماء سبب حقيقي لإخراج النبات، وأن العصا سبب حقيقي للهش.
    لكن الخالق للنجوم وللماء وجاعلها أسباباً هو الله تعالى، ولذلك قال - سبحانه -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ﴾ ، ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ﴾ .
    لكن التعبير عن السببية ليس محصوراً في اللغة العربية في باء السببية؛ بل هنالك طرق كثيرة للتعبير عنها نجدها في القرآن الكريم، من ذلك إسناد الآثار والأفعال إلى بعض الأشياء كما في قوله - تعالى -: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل:5-7].
    ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [النحل:15].
    ـــــــــــ
    = أما إن قصد المؤلف أنه تأمل كلامه الذي نقله؛ فلا يدل على ما ذكره من وجوه، بل هو أشعري
    ناف للأسباب.

    ـــــــــــ


    هذه كلها أسباب حقيقية تحدث الآثار بها لا عندها كما قال الأشاعرة ومن قلدهم - بعد ذلك - من الفلاسفة الأوروبيين الذين سُمّوا بالعنديين(1). وأعظم من هذا كله نسبة الأفعال إلى البشر؛ ففي عشرات من الآيات القرآنية نجد الأفعال منسوبة إلى إرادة البشر وقدرتهم، ولا تنافي بين هذا وبين نسبتها أيضاً إلى قضاء الله وقدره وقدرته.
    ـــــــــــ
    (1) Occasionalists.
    ـــــــــــ



    تم الفصل الخامس بحمد الله تعالى
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  12. #12

    افتراضي

    جزاك الله خيرا، وزادك من علمه وفضله وواسع جوده وكرمه

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محبة الاسلام مشاهدة المشاركة

    وهذه روابط الفصول التي تم وضعها سابقا في المنتدى
    الفصل الأول
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=13844
    الفصل الثاني
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14041
    الفصل السادس
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14233
    الفصل السابع
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14055
    يضاف له الفصل الرابع:
    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?p=100374&
    وتكملة الفصل الأول:
    http://eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14031

    ويبقى الفصل الثالث فمن له فإنه من أهم فصول الكتاب في ما يتعلق بمناقشة أزلية الكون وفناء المادة واستحداثها؟
    التعديل الأخير تم 12-16-2008 الساعة 09:19 PM

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاكم الله خيراً.

    سأضع الفصل الثالث بأذن الله إن لم يكن عندكم مانع .. فقط أمهلوني بعض الوقت وسأبدأ في وضعه.

    جزاكم الله خيراً.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  14. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه:
    بارك الله فيكم
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الفيزياء ووجود الخالق (2) : أدله وجود الخالق
    بواسطة صادق في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 09-29-2011, 12:19 AM
  2. كتاب الفيزياء ووجود الخالق
    بواسطة انا المسلم في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-24-2010, 05:29 PM
  3. الفيزياء ووجود الخالق
    بواسطة مسلم مصري في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 02-17-2010, 08:44 PM
  4. الفيزياء ووجود الخالق - الفصل السادس -
    بواسطة amro في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 09-11-2008, 10:39 PM
  5. الفيزياء ووجود الخالق:الفصل السابع/ماذا بعد الايمان بوجود الخالق؟
    بواسطة محبة الاسلام في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 08-29-2008, 11:31 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء