صادفتُ بعض الجواهر -وكتابه كله جواهر- أثناء قراءتي لكتاب "بصائر ذوي التمييز" للإمام مجد الدين الفيروز آبادي الشافعي رحمه الله، أحببتُ أن أشاركها إخواني الفضلاء :

في شروط التعلم والتعليم:

وهى اثنا عشر شرطاً:

الأَول: أَن يكون الغرض إِنما هو تحقيق ذلك العلم فى نفسه إِن كان مقصوداً لذاته، أَو التوسّلُ به إلى ما وُضع له إِن كان وسيلة إِلى غيره، دون المال والجاه والمبالغة والمكاثرة؛ بل يكون الغرض تلك الغاية وثوابَ الله عزَّ وجلَّ. فكثيرٌ مَن نظر فى علم لِغرض، فلم يحصِّل ذلك العلم ولا ذلك الغرض، ولمَّا لزم الإِمامُ أَبو حامد الغزالىُّ الخلوة أَربعين يوماً رجاء لظهور ينابيع الحكمة من قلبه عملا بما بلغه من الخبر النَّبوىِّ "مَنْ أَخلص لله أَربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" ولم ير ذلك، تعجب من حاله فرأَى فى منامه أَنه قيل (له): إِنك لم تُخلص لله إِنَّما أَخلصت لطلب الحكمة.

الثاني: أَن يقصد العلم الَّذى تقبله نفسه، ويميل إِليه طِباعه، ولا يتكلَّف غيره؛ فليس كلُّ الناس يصلحون لتعلّم العلم، (ولا كل صالح لتعلُّم العلم) يصلح لتعلُّم جميع العلوم. وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.

الثالث: أَن يعلم أَوَّلاً مَرْتبة العلم الذى أَزمع عليه، وما غايته، والمقصود منه؛ ليكون على بيِّنةٍ من أَمره.

الرابع: أَن يأْتى على ذلك مستوعِباً لمسائله من مبادئه إِلى غايته، سالكاً فيه الطَّريق الأَلْيق به، من تصور وتفهُّم واستثبات بالحُجَج.

الخامس: أَن يقصد فيه الكتب المنتقاة المختارة؛ فإِن الكتب المصنَّفة على قسمين: علوم وغير علوم.
وهذه - أَعنى الثانية - إِمَّا أَوصاف حسنة، وأَمثال سائرة، قيَّدَتْها التقفِية والوزن؛ وهى دواوين الشعراء - وهى طبقات - وإِمَّا عارية عن هذا القيد؛ وهى التواريخ وأَخبار الماضين وحوادث الحِدْثان، فيما تقدَّم من الأَزمان.
وأَمَّا كتب العلوم فإِنها لا تحصى كثرة؛ لكثرة العلوم وتفنُّنها، واختلاف أَغراض العلماء فى الوضع والتأْليف. ولكن تنحصر من جهة المقدار فى ثلاثة أَصناف:
مختصرة لفظُها أَوجزُ من معناها. وهذه تُجعل تَذكِرة لرءوس المسائل ينتِفع بها المنتهِى للاستحضار؛ وربَّما أَفادت بعض المبتدئين من الأَذكياء الشُّهماء؛ لسرعة هجومهم على المعانى من العبارات الدقيقة.
ومبسوطة تقابل المختصرة؛ وينتفع بها للمطالعة.
ومتوسِّطة لفظها بإِزاء معناها؛ ونفعها عامّ.
وسنذكر من هذه الأَقسام عند كلّ علم ما هو مشهور ومعتبَر عند أَهله من ذلك.
والمصنِّفون المعتبرة تصانيفهم فريقان:
الأَول: من له فى العلم ملكة تامَّة، ودرْبة كافية، وتجارب وثيقة، وحدْس ثاقب صائب، واستحضار قريب، وتصانيفهم عن قوَّة تبصرة، ونفاذ فِكر، وسَدَاد رأى، تَجمع الى تحرير المعانى وتهذيب الأَلفاظ. وهذه لا يستغنى عنها أَحد من العلماء؛ فإِن نتائج الأَفكار لا تقف عند حَدّ، بل لِكلّ عالم ومتعلِّم منها حظّ. وهؤلاء أَحسنوا إِلى الناس، كما أَحسن الله إِليهم، زكاة لعلومهم، وإِبقاءً للذِّكر الجميل فى الدُّنيا، والأَجر الجزيل فى الأُخرى.
الثاني: مَن له ذهن ثاقب، وعبارة طَلْقة، ووقعت إِليه كتب جيِّدة جَمة الفوائد، لكنها غير رائقة فى التأْليف، والنّظم، فاستخرج دُررها (وأَحسن) نضْدها ونظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون، والمتوسطون. وهؤلاء مشكورون على ذلك محمودون.

الشرط السادس: أَن يقرأَ على شيخ مرشِد أَمين ناصح، ولا يستبِدّ طالب بنفسه؛ اتكالا على ذهنه، والعلم فى الصّدور لا فى السطور. وهذا أَبو على بن سينا - مع ثقابة ذهنه، وما كان عليه من الذكاء المفرط والحذق البالغ - لما اتَّكل على نفسه، وثوقاً بذهنه، لم يسلم من التصحيفات.
ومن شأْن الأُستاذ أَن يرتِّب الطالب الترتيب الخاصّ بذلك العلم، ويؤدبه بآدابه، وأَن يقصد إِفهام المبتدئ تصوّر المسائل، وأَحكامها فقط، وأَن يُثبتها بالأَدلَّة إِن كان العلم مما يختجُّ إِليه عند من يستحضر المقدمات. وأَما إِيراد الشبه إِن كانت، وحَلُّها، فإِلى المتوسِّطين المحقِّقين.

الشرط السَّابع: أَن يذاكر به الأَقران والنُّظراء؛ طلباً للتحقيق والمعاونة، لا المغالبة والمكابرة، بل لغرض الاستفادة (والإِفادة).

الشرط الثامن: أَنه إِذا حَصَّل علماً ما، وصار أَمانة فى عنقه، لا يُضيعه بإِهماله وكتمانه عن مستحقِّيه؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَلِم علماً نافعاً وكتمه أَلجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" ، وأَلاَّ يُهينَه بإِدلائه إلى غير مستحقِّه؛ فقد ورد فى كلام النبوَّة الأولى "لا تعلِّقوا الدُّرر فى أَعناق الخنازير" أَى لا تؤتوا العلم غير أَهلها، وأَن يُثبت فى الكتب لمن يأتى بعده ما عَثَر عليه بفكره، واستنبطه بممارسته وتجاربه، مما لم يُسبق إليه، كما فعله مَن قبله، فمواهب الله لا تقف عند حدٍّ، وألاَّ يسئ الظَّن بالعلم وأَهله، ففعله ممَّا لا يليق بالعلماء.

الشرط التاسع: أَلاَّ يعتقد فى علم أَنَّه حَصَل منه على مقدار لا تمكن الزِّيادة عليه، فذلك جهل يوجب الحرمان - نَعوذ بالله منه - فقد قال سيِّد العلماء وخاتم الأَنبياء: "لا بورك لى فى صبيحة لا أَزداد فيها علماً".

الشرط العاشر: أن يعلم أَن لكلِّ علم حدّاً لا يتعدَّاه، فلا يتجاوز ذلك الحدّ، كما يقصد إِقامة البراهين على علم النحو، ولا يقصر بنفسه عن حدِّه، فلا يقنع بالجَدَل فى الهيئة.

الشرط الحادي عشر: أَلاَّ يُدخل علماً في علم، لا فى تعليم ولا فى مناظرة؛ فإِن ذلك مشوّش. وكثيراً ما خلَّط الأَفاضل بهذا السبب؛ كجالينوس وغيره.

الشرط الثاني عشر: أن يراعى حَقّ أُستاذ التعليم؛ فإِنَّه أَب. سئل الإِسكندر عن تعظيمه معلِّمه أكثر من تعظيمه والده، فقال: هذا أَخرجنى إِلى العناءِ والفناء، ومعلِّمى دلَّنى على دار الهناء والبقاء. والرَّفيق فى التعلُّم أَخ، والتلميذ ولد، ولكلٍّ حقٌّ يجب القيام به.
واعلم أَن على كل خير مانعا. فعلى العلم موانع، وعن الاشتغال به عوائق.
منها الوثوق بالزَّمان المتَّصل، وانفساح الأَبد فى ذلك. [أ] وَلا يعلم الإِنسان أَنه إِن انتهز الفرصة، وإِلاَّ فاتت: وليس لفواتها قضاءٌ البتَّة. فإِن أَسباب الدُّنيا تكاد تزيد على الخُطَّاب من ضروريات وغيرها، وكلّها شواغل، والأمور التى بمجموعها يتم التحصيل إِنما تقع على سبيل الحثِّ، وإِذا تولَّت فهيهات عَوْدُ مثلها.
ومنها الوثوق بالذكاء، وأَنَّه سيحصِّل الكثير من العلم فى القليل من الزمان متى شاء، فيحرمه الشواغلُ والموانع. وكثير من الأَذكياءِ فاتهم العلم بهذا السبب.
ومنها الانتقال من علم إلى علم آخر قبل أَن يحصّل منه قدرا يُعتَدّ به، أَو من كتاب إلى كتاب قبل خَتمه. فذلك هدم لما بنى (ويعزّ مثلُه).
(ومنها) طلب المال والجاه، أَو الركون إلى اللذَّات البهيمية والعلم أَعزُّ أن يُنال مع غيره، أَو على سبيل التبعيَّة. بل إِذا أَعْطَيت العلم كلّك أَعطاك العلمُ بعضه.
ومنها ضيق الحال، وعدك المعونة على الاشتغال.
ومنها إِقبال الدُّنيا، وتقلُّد الأَعمال، وولاية المناصب، وهذا من أَعظم الموانع.
ثم اعلم أَنَّ للعلم عَرْفاً ينُمُّ على صاحبه، ونوراً يُرشد إِليه، وضياء يشرق عليه؛ فحامل المسك لا تخفى روائحه: معظَّم عند النفوس الخيِّرة، محبّب إلى العقلاء، وجيه عند ذوى الوجوه، تتلقَّى القلوبُ أَقواله وأَفعاله بالقبول. ومن لم يظهر أَمارات علمه فهو ذو بطانة، لا صاحب إِخلاص.

القول في حصر العلوم

كل علم فإِمّا أَن يكون مقصوداً لذاته أَو لا.
والأَوَّل العلوم الحِكْميّة الإِلٰهيّة. والمراد بالحكمة ههنا استكمال النَّفش الناطقة قوَّتيْها: النظريّة، والعلميّة بحسب الطَّاقة الإِنسانيّة. والأَوَّل يكون بحصول الاعتقادات اليقينيّة فى معرفة الموجودات وأَحوالها. والثانى يكون بتزكية النفس باقتنائها الفضائل، واجتنابها الرَّذائل.
وأَمَّا الثاني - وَهو ما لا يكون مقصوداً لذاته، بل يكون آلة لغيره فإِمَّا للمعانى - وَهو علم المنطق - وإِمَّا لما يتوصَّل به إِلى المعانى، وهو اللفظ والخَطّ: وهو علم الأَدب.
والعلوم الحِكْميّة النظريَّة تنقسم إلى أَعلى - وهو علم الإِلٰهىّ - وأَدنى - وَهو علم الطَّبيعىِّ - وأَوسط وهو العلم الرياضىّ.
ومن المعلوم أَن إِرسال الرُّسل عليهم السلام إِنما هو لُطْف من الله تعالى بخَلْقه، ورحمة لهم، ليتمّ لهم معاشُهم، ويتبيَّن لهم حالُ مَعادهم. فتشتمل الشريعة ضرورةً على المعتقَدات الصَّحيحة الَّتى يَجب التصديق بها، والعباداتِ المقرِّبة إلى الله - عزَّ شأْنه (ممَّا يجب القيام به، والمواظبة عليه. والأَمر بالفضائل والنهى - عن الرذائل - مما يجب) قبوله، فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعيَّة: علم تفسير الكتاب المنزل على النبى المرسل، علم القرآن، علم رواية الحديث، علم دراية الحديث؛ علم أَصول الدِّين، علم أَصول الفقه، علم الجَدَل، علم الفقه.

فى ذكر إِعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام.

اعلم أَن الإِعجاز إِفعال من العَجْز الَّذى هو زوال القدرة عن الإِتيان بالشىء من عمل أَو رأْى أَو تدبير. والَّذى يظهر على الخلق من هذا المعنى ثلاث درجات: مَخْرقة وكرامة (ومعجزة).
وبين المَخْرقة والمعجزة فروق كثيرة.
منها أَنَّ المَخْرقة لا بقاءَ لها، كعِصِىّ سَحَرة فرعون، والمعجزة باقية، كعصا موسى. ومنها أَنَّ المَخْرقة لا حقيقة لها، ولا معنى؛ لأَنَّ بناءَها على الآلات، والحِيل؛ والمعجزة لا آلة لها، ولا حيلة. ومنها أَنَّ العوامَّ يعجزون عن المَخْرقة، وأَمَّا الحُذَّاق والأَذكياءُ فلا يعجِزون عنها. وأَمَّا المعجزة فالخواصّ والعوامّ على درجة واحدة فى العجز عنها.
ومنها أَنَّ المَخْرقة متداولة بين النَّاس فى جميع الأَزمان غير مختصَّة بوقت دون وقت، وأَمَّا المعجزة فمختصَّة بزمان النبوّة، خارجة عن العُرْفِ، خارقة للعادة.
ومنها أَنَّ المَخْرقة يمكن نقضها بأَضدادها، ولا سبيل للنَّقض إِلى المعجزة.
وأَمَّا الفرق بين المعجزة والكرامة فهو أَنَّ المعجزة مختصَّة بالنبىّ دائما، [و] وقت إِظهارها مردَّد بين الجواز والوجوب، ويُقرن بالتحدِّى، وتحصل بالدُّعاءِ، ولا تكون ثمرةَ المعاملات المَرْضِيَّةِ، ولا يمكن تحصيلها بالكسب والجهد، ويجوز أَن يحيل النبىّ المعجزة إِلى نائبه، لينقلها من مكان إِلى مكان كما فى شمعون الصَّفا الَّذى كان نائباً عن عيسى فى إِحياءٍ الموتى، وأَرسله إِلى الرُّوم، فأَحيا الموتى هناك. وأَيضاً يكون أَثر المعجزة باقيا بحسب إِرادة النبىّ، وأَمَّا الكرامة فموقوفة على الولىِّ، ويكون كتمانها واجباً عليه، وإِن أَراد إِظهارها وإِشاعتها زالت وبطلت. وربما تكون موقوفة على الدعاءِ والتضرع. وفى بعض الأَوقات يعجز عن إِظهارها.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المعجزة والكرامة والمَخْرقة.
وجملة المعجزات راجعة إِلى ثلاثة معان: إِيجاد معدوم، أَو إِعدام موجود، أَو تحويل حال موجود.
إِيجاد معدوم كخروج الناقة من الجبل بدعاءِ صالح عليه السلام.
وإِعدام الموجود كإِبراءِ الأَكمه والأَبرص بدعاءِ عيسى عليه السلام.
وتحويلُ حال الموجود كقلب عصا موسى ثعباناً.
وكلُّ معجزة كانت لنبىٍّ من الأَنبياءِ فكان مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إِظهارها له ميسَّراً مسلماً.
وأَفضل معجزاته وأَكملها وأَجلُّها وأَعظمها القرآن الذى نزل عليه بأَفصح اللُّغات، وأَصحِّها، وأَبلغها، وأَوضحها، وأَثبتها، وأَمتنها، بعد أَن لم يكن كاتباً ولا شاعراً ولا قارئاً، ولا عارفاً بطريق الكتابة، واستدعاءٍ من خطباءِ العرب العرباءِ وبلغائهم وفصحائهم أَن يأْتوا بسورة من مثله، فأَعرضوا عن معارضته، عجزاً عن الإِتيان بمثله، فتبيَّن بذلك أَن هذه المعجزة أعجزت العالَمِين عن آخرهم.
ثم اختلف الناس فى كيفيَّة الإِعجاز.
فقيل: لم يكونوا عاجزين عن ذلك طبعاً، إِلاَّ أَنَّ الله صَرَف همَّتهم، وحبس لسانهم، وسلبهم قدرتهم، لُطْفاً بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وفضلاً منه عليه. وذلك قوله {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . وهو قول مردود غير مرضىٍّ.
وقال آخرون: لم يكن عجزهم عن الإِتيان بمثل لفظه، وإِنما كان عن الإِتيان بمثل معناه.
وقيل: لم يعجزوا عنهما، وإِنَّما عجزوا عن نظم مثل نظمه؛ فإِن أَنواع كلامهم كانت منحصرة فى الأَسجاع، والأَشعار، والأَراجيز، فجاءَ نظم التنزيل على أُسلوب بديع لا يشبه شيئاً من تلك الأَنواع، فقصُرت أَيدى بلاغاتِهم عن بلوع أَدنى رُتْبَةٍ من مراتب نظمه.
ومذهب أَهل السُّنة أَنَّ القرآن معجز من جميع الوجوه: نظماً، ومعنى، ولفظا، لا يشبهه شىء من كلام المخلوقين أَصلاً، مميَّز عن خُطَب الخطباءِ، وشعر الشعراء، باثنى عشر معنى، لو لم يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعانى لكان معجِزاً، فكيف إِذا اجتمعت فيه جميعاً.
ومجملها إِيجاز اللفظ، وتشبيه الشىءِ بالشىءِ، واستعارة المعانى البديعة؛ وتلاؤم الحروف، والكلمات، والفواصل، والمقاطع فى الآيات، وتجانس الصِّيغ، والأَلفاظ، وتعريف القِصَص، والأَحوال، وتضمين الحِكَم، والأَسرار، والمبالغةُ فى الأَمر، والنهى، وحسن بيان المقاصد، والأَغراض، وتمهيد المصالح، والأَسباب، والإِخبار عما كان، وعما يكون.
أَمّا إِيجاز اللفظ مع تمام المعنى فهو أَبلغ أَقسام الإِيجاز. ولهذا قيل: الإِعجِاز فى الإِيجاز نهاية إِعجاز. وهذا المعنى موجود فى القرآن إِمّا على سبيل الحذف، وإِما على سبيل الاختصار.
فالحذف مثل قوله تعالى {وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ} أَى أَهلها {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ} أَى برّ من آمن. والاختصار {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هذه أَربع كلمات وستة عشرة حرفاً يتضَّمَّن ما ينيِّف على أَلف أَلف مسأَلة، قد تصدَّى لبيانها علماءُ الشريعة، وفقهاءُ الإِسلام فى مصنَّفاتهم؛ حتَّى بلغوا أُلوفاً من المجلَّدات، ولم يبلغوا بعدُ كنهَها وغايَتَها.
وأَمَّا تشبيه الشىءِ بالشىءِ فنحو قوله تعالى {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وكلُّ مَثَل من هذه الأَمثال دُرْج جواهر، وبُرْج زواهر، وكنز شرف، وعالَم عِلم، وحُقُّ حقائق، وبحار دُرَر دِراية، ومصابيح سالكى مسالك السنَّة. ولهذا يقال: الأَمثال سُرج القرآن.
وأَمَّا استعارة المعنى فكالتعبير عن المضىِّ والقيام بالصَّدع {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أَى قُم بالأَمر، وكالتعبير عن الهلاك، والعقوبة بالإِقبال والقدوم {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} ، وكالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسَّلخ {وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ} ولا يخفى ما فى أَمثال هذه الاستعارات من كمال البلاغة، ونهاية الفصاحة. يحكى أَنَّ أَعرابيّاً سمع {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فلم يتمالك أَن وقع على الأَرض وسجد، فسئل عن سبب سجدته فقال، سجدت فى هذا المقام، لفصاحة هذا الكلام.
وأَما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام؛ نحو قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ} {يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} {فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} {وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} ونظائرها.
وأَمَّا فواصل الآيات ومقاطعُها فعلى نوعين: إِمَّا على حرف كطه؛ فإِنَّ فواصل آياتها على الأَلف، وكاقتربت؛ فإِنَّ مقاطع آياتها على الراء، وإِمَّا على حرفين كالفاتحة؛ فإِنَّها بالميم والنُّون: {ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ} ونحو {قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ} فإِنَّها بالباءِ والدَّال.
وأَمَّا تجانس الأَلفاظ فنوعان أَيضاً: إِمَّا من قبيل المزاوجة؛ كقوله {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ} {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} {يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وأَكِيدُ كَيْداً} {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ} {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} {هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ} وإما من قبيل المناسبة كقوله {ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم} {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ}.
وأَمَّا تصريف القِصَص والأَحوال فهو أَنَّ الله تعالى ذكر بحِكَمهِ البالغة أَحوال القرون الماضية، ووقائع الأَنبياءِ، وقصصهم، بأَلفاظ مختلفة، وعبارات متنوِّعة، بحيث لو تأَمّل غوّاصو بحار المعانى، وخوَّاضو لُجَج الحُجَج، وتفكّروا فى حقائقها، وتدبَّروا فى دقائقها، لعلموا وتيقَّنوا (وتحققوا) وتبيَّنوا أَنَّ ما فيها من الأَلفاظ المكرَّرة المعادات، إِنَّما هى لأَسرار، ولطائف لا يرفع بُرْقع حجابها من الخاصَّة إِلاَّ أَوحدُهم وأَخصُّهم، ولا يكشف سِتر سرائرها من النحارير إِلاَّ واسِطتهم وقصهم.
وأَمَّا تضمين الحِكَم والأَسرار فكقولنا فى الفاتحة: إِن فى {بِسْمِ} التجاءَ الخَلْق إِلى ظلِّ عنايته، وكلمة الجلالة تضمَّنت آثار القدرة والعظمة، وكلمة الرَّحمٰن إِشارة إِلى أَنَّ مصالح الخَلْق فى هذه الدَّار منوط بكفايته. وكلمة الرَّحيم بيان لاحتياج العالَمين إِلى فيض من خزائن رحمته. والنِّصف الأَوَّل من الفاتحة يتضمَّن أَحكام الرُّبوبيَّة. والنصف الثَّانى يقتضى أَسباب العبوديَّة. وخُذْ على هذا القياس. فإِنَّ كلَّ كلمة من كلمات القرآن كنزُ معانٍ، وبحر حقائق.
ومن جوامع آيات القرآن قوله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ} فإِنها جامعة لجميع مكارم الأَخلاق، وقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ} مستجمعة لجميع أَسباب السِّياسة والإِيالة. وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} محتوية على حاجات الحيوانات كافَّة. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إِلى آخر الثلاث الآيات جامعة لجميع الأَوامر والنَّواهى، ومصالح الدُّنيا والآخرة، وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ} يشتمل على أَمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين.
وأَمَّا المبالغة فى الأَسماءِ والأَفعال فالأَسماءُ {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ}، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}، {ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ}، {وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ}، {ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ}، {يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ} . والأَفعال {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً}، {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ}، {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً}، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}، {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}.
وَأَمَّا حُسْن البيان فلتمام العبارة: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، ولبيان فصل الخصومة والحكومة {إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} ، وللحجّة للقيامة {يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وللنَّصيحة والموعظة {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ، ولثبات الإِيمان والمعرفة: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ} ، ولبيان النعت والصِّفة {بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم}، {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِير} ، ودليلاً لثبوت الرِّسالة {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} ، وإِظهاراً للعمل والحكمة {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، وللرَّحمة السَّابقة واللاحقة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وبرهاناً على الوَحْدانيَّة والفَرْدانيَّة {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، وتحقيقا للجنَّة والنَّار {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينْ} ، وتحقيقاً للرُّؤية واللِّقاءِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وتمهيداً لمصالح الطَّهارات {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} ، وللصَّلاة {وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ} ولِلزكاة والصيام والحجّ {وَءَاتُوْا الزَّكَاةَ}، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ} ، وللمعاملات {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} ، وللصِّيانة والعِفَّة {وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ} ، وللطلاق والفراق بشرط العِدَّة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، ولرعاية مصلحة النفوس {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ولكفَّارة النُّذور والأَيمان {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}.
وعلى هذا القياس جميع أَحكام الشريعة تأيَّدت بالآيات القرآنية وأَمَّا الإِخبار عمَّا كان وعمَّا يكون: أَمَّا المتقدِّم فكتخليق العرْش، والكُرْسىّ، وحال الحَملة والخَزنَة، وكيفيَّة اللَّوح والقلم، ووصف السِّدْرة، وطوبى، وسَيْر الكواكب، ودَوْر الأَفلاك، وحكم النيِّرين، والسَّعدين، والنحسين، وقران العُلويَّين والسُّفليين، ورفع السَّماءِ، وتمهيد الأَرض، وتركيب الطَّبائع، والعناصر، وترتيب الأجسام والأَجرام، وحكم المشرق، والمغرب، من الأُفُق الأَعلى إِلى ما تحت الثَرى ممَّا كان، ومما هو كائن، وممَّا سيكون: من أَحوال آدم، وعالَمَىِ الجنِّ، والإِنس، والملائكة، والشياطين. ففى القرآن من كلِّ شىءٍ إِشارة وعبارة تليق به.
وأَمَّا المتأَخر فكأَخبار الموت، والقبر، والبعث، والنَشْر، والقيامة، والحساب، والعقاب، والعَرْض، والحوض، والسؤال، ووزن الأَعمال، والميزان، والصراط والجَنَّة، والنَّار، وأَحوال المتنعمين، والمعذَّبين فى الدَركات، وأَحوال المقرَّبين فى الدَّرجات، ما بين مُجْمَل ومفصَّل، لا إِجمالا يعتريه شَكّ، ولا تفصيلاً يورث كلالة وملالة.
كلُّ ذلك على هذا الوجه مذكور فى القرآن، فلا غَرْو أَن يترقَّى هذا الكلام عن إِدراك الأَفهام، وتناول الأوهام، ويُعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته، ومقابلته.
وبلغنى عن الأَئمة الرَّاسخين، والعلماء المحققين أَنَّ الَّذى اشتمل عليه القرآن من الدَّقائق، والحقائق، والمبانى، والمعانى، سبعون قسماً.
وهى المحكم، والمتشابه، والنّاسخ، والمنسوخ، والحقيقة، والمجاز، والمنع، والجواز، والحذف، والزّيادة، والبيان، والكناية، والمقلوب، والمستعار، والإِظهار، والإِضمار، والإِيجاز، والاختصار، والإِخبار، والاستخبار، والخاصّ، والعامّ، والحدود، والأحكام، والتحليل، والتَّحريم، والسَبْر، والتقسيم، والأَمر، والنَّهى، والجحد، والنَّفى، والقَصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والزّجر، والتأْديب، والترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، والعطف، والتوكيد، والتحكُّم، والتهديد، والوصف، والتّشبيه، والكشف، والتنبيه، والتقديم، والتأْخير، والتأْويل، والتفسير، والتكرار، والتقرير، والتعريض، والتصريح، والإِشارة، والتلويح، والتجنيس، والتقريب، والتعجيب، والسؤال، والجواب، والدّعاء، والطَّلب، والبِشارة، والنِّذارة، والفاتحة والخاتمة. ولكُّل قسم من ذلك نظائر وشواهد فى القرآن لا نطوِّل بذكرها.
والغرض من ذكر هذا المجمل التَّنبيه على أَنَّ الكلمات القرآنية كُّل كلمة منها بحر لا قعر له، ولا ساحل، فأَنَّى للمعارض الماحل.
يحكى أَنَّ جماعة من أَهل اليمامة قدِموا على الصِّديق الأَكبر رضى الله عنه، فسأَلهم عن مُسيلمة، وعَمَّا يدَّعيه أَنه من الوحى النازل عليه، فقرءُوا عليه منه هذه السُّورة (يا ضفدع نِقِّى نِقِّى إِلى كم تَنِقِّين، لا الماءَ تكدِّرين، ولا الطِّين تفارقين ولا العُذُوبةَ تمنعين) فقال الصِّدِّيق رضى الله عنه: والله إِنَّ هذا الكلام لم يخرج من إِلّ. ويحكى عن بعض الأَشقياءِ أنه سمع قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} فقال مستهزئاً: انظر إِلى (هذا الدَّعوى المُعرَّى) عن المعنى. الَّذى يدَّعيه محمَّد يأَتينا به المِعْوَل والفئوس. فانشقت فى الْحال حَدَقتاه، وتضمخَت بدم عينيه خَدَّاه، ونودى من أَعلاه، قل للمِعْول والفئوس، يأتيان بماءِ عينيك.
وذكر أَنَّ بعض البلغاء قصد معارضة القرآن، وكان ينظر فى سورة هود، إِلى أَن وصل إِلى قوله تعالى {يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي} الآية فانشقَّت مرارته من هيبة هذا الخطاب، ومات من حينه. ودخل الوليد بن عُقْبة على النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم وقال يا محمد اقرأْ علىَّ شيئاً ممَّا أُنزِل عليك فقرأَ قوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ} الآية فقال الوليد: إِنَّ لهذا الكلام لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنَّ أَسفله لمغدِق، وإِنَّ أَعلاه لمثمر، وإِنَّ لى فيه نظرا، ولا يقول مثل هذا بشر. و فى الآثار أَنه ما نزلت من السَّماءِ آية إِلاَّ سُمع من السَّماءِ صَلصَلة كسِلسِلة جُرَّت فى زجاجة، ولم يبق فى السَّماءِ مَلَك مُقَرَّب إِلاَّ خرُّوا لله ساجدين. وأُغمى على النبىَّ صلَّى الله عليه وسلم من ثقل بُرَحاءٍ الوَحْى. وكان إِذا سُرِّى عنه ارتعدت مفاصله فَرَقاً، وتَصَبَّب وجهه عَرَقاً.
فهذا طَرَف ممَّا ذكر فى إِعجاز لفظ القرآن.

في شرح كلمات لابد من معرفتها قبل الخوض في شرح وجوه التفسير

اعلم أَنَّ الكلمات الَّتى يُحتاج إِلى معرفتها فى مقدَّمة هذا النَّوع من العلم خمسة عشر كلمة. وهى التأويل، والتفسير، والمعنى، والتَّنزيل، والوحي، والكلام، والقول، والكتاب، والفرقان، والقرآن، والسُّورة، والآية، والكلمة، والمصحف، والحرف.
أَمَّا التفسير فمن طريق اللغة: الإِيضاح والتَّبيين. يقال: فسَّرت الحديث أَي بيَّنته وأَوضحته. واختلف فى اشتقاقه.
فقيل: من لفظ التَفْسِرة، وهو نظر الطبيب فى البول لكشف العلَّة والدواءِ، واستخراج ذلك. فَكذلك المفسِّر ينظر فى الآية لاستخراج حكمها ومعناها.
وقيل: اشتقاقه من قول العرب: فسَرت الفرس وفسَّرته أَى أَجريته وأَعديته إِذا كان به حُصْر، ليستطلِق بطنُه. وكأَن المفسِّر يجرى فرس فكره فى ميادين المعانى ليستخرج شرح الآية، وَيُحلَّ عقْد إِشكالها.
وقيل: هو مأْخوذ من مقلوبه. تقول العرب: سفَرت المرأَةُ إِذا كشفت قِناعها عن وجهها، وسفرتُ إِذ كَنَسته ويقال للسَّفَر سفَر لأَنه يَسِفر ويكشف عن أَخلاق الرجال. ويقال للسُّفرة سُفْرة لأَنها تُسفَر فيظهر ما فيها؛ قال تعالى: {وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} أَى أَضاءَ. فعلى هذا يكون أَصل التفسير التسفير على قياس صعق وصقع، وجذب وجبذ، وما أَطيبه وأَيطبه، ونظائِره؛ ونقلوه من الثلاثىّ إلى باب التفعيل للمبالغة. وكأَنَّ المفسِّر يتتبع سورة سورة، وآية آية، وكلمة كلمة، لاستخراج المعنى. وحقيقته كشف المتغلق من المراد بلفظه، وإِطلاق المحتبس عن الفهم به.
وأَمَّا التأْويل فصرف معنى الآية بوجه تحتمله الآية، ويكون موافقا لما قبله، ملائماً لما بعده. واشتقاقه من الأوْل وهو الرُّجوع. فيكون التأْويل بيان الشىء الَّذى يرجع إِليه معنى الآية ومقصودها.
وقيل التأويل إِبداءُ عاقبة الشىءِ. واشتقاقه من المآل بمعنى المرجِع والعاقِبة. فتأْويل الآية ما تئول إِليه من معنى وعاقبة. وقيل: اشتقاقه من لفظ الأَوّل. وهو صرف الكلام إِلى أَوَّله. وهذانِ القولانِ متقاربان. ولهذا قيل: أَوَّل غرض الحكيم آخر فعله.
وقيل اشتقاقه من الإِيالة بمعنى السياسة. تقول العرب: (أُلْنا وإِيل علينا) أَى سُسْنا وسِيس علينا، أَى ساسنا غيرنا. وعلى هذا يكون معنى التأويل أَن يسلِّط المؤوِّل ذهنه وفكره على تتبّع سِرِّ الكلام إِلى أَن يظهر مقصودُ الكلام، ويتَّضح مراد المتكلِّم.
والفرق بين التفسير والتأويل أَن التفسير هو البحث عن سبب نزول الآية، والخوض فى بيان موضع الكلمة، من حيث اللغة. والتأويل هو التفحُّص عن أَسرار الآيات، والكلمات، وتعيين أَحد احتمالات الآية. وهذا إِنَّما يكون فى الآيات المحتملة لوجوه مختلفة، نحو {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وكقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} ، وكقوله: {وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ} ، وكقوله: {وشَاهِدٍ وَمَشْهُود} فإِن هذه الآيات ونظائرها تحتمل معانى مختلفة، فإِذا تعيَّن عند المؤوّل أَحدها، وترجَّح، فيقال حينئذ: إِنَّه أَوَّل الآية.
وأَمَّا المعنى فمن طريق اللغة: المقصد. يقال: عَنَاه يعنيه أَى أَراده وقصده. فيكون معنى الآية: ما به يظهر حكمةُ الحكيم فى نزول الآية. ويكون قصد من يروم سرّ الآية إِلى خمسة.
وقيل اشتقاق المعنى من العناية، وهى الاهتمام بالأَمر، يقال: فلان مَعْنّى بكذا أَى مهتمٌّ به. فيكون المعنى أَنَّ الباحث عن الآية يصرف عنايته واهتامه إِلى أَن ينكشف له المراد من الآية.
وقيل اشتقاقه من الْعَنَاءِ، وهو التَّعب والمشقَّة. والمعنى لا يمكن الوصول إِليه إِلاَّ بكدّ الخاطر ومشقَّة الفكر؛ لما فيه من الدقَّة والغموض.
وأَمَّا التنزيل فتفعيل من النزول، وقد يكون بمعنى التكليم: قال فلان في تنزيله: في تكليمه، لأَنَّ المتكلّم يأتى به نَزْلة بعد نزلة. والنزلة هى المرَّة، قال تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ} أَي مَرَّة أُخرى. وقد يكون بمعنى الإِنزال {وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً} أَي وأَنزلْنا، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} فقرىءَ بالتشديد والتخفيف.
وقيل للقرآن: تنزيل من ربّ العالمين لأَنه تكليم من الله الجليل، وإِنزال على لسان جبريل.
وأَمَّا الوحى فلغةً: الرِّسالة والإِلهام، والإِشارة بالحواجب، والكتابة بالقلم. وَحَى يَحى وَحْياً، فهو واح. وجمع الوحى وُحِىّ كحَلْى وحُلِىّ. ويقال: إِنَّ الوحى مختصّ برسالة مقترِنة بخفَّة وسرعة. فسمّى التنزيل وَحْياً لسرعة جبريل فى أَدائه، وخِفَّة قبوله على الرَّسول. وإِن جعلته من معنى الإِشارة فكأَنَّ الرَّسول اطَّلع على المراد بإِشارة جبريل. وإِن جعلته من معنى الكتابة فكأَنَّ جبريل أَثبت آيات القرآن فى قلب النبىّ، كما يثبت المكتوب في اللّوح بالكتابة. قال تعالى {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ}.
وأَمَّا الكلامُ فإِنَّه اسم لما يصحّ به التكلّم، وضدّه الْخَرَس. والكلام والتكليم مصدران على قياس السلام والتسليم. وقد يطلق الكلام على التكلّم والتكليم. وقيل للقرآن: كلام فى نحو قوله تعالى {حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ} وقولِه {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ} لأَنَّه تكليم وتكلُّم. وأَيضاً هو ما يصحّ به التكلّم. وقيل: الكلام ما اشتمل على أَمر ونهى وإِخبار واستخبار. وقيل: هو معنى قائم بالنَّفس، والعبارات تدلُّ عليه، والإِشارات تجرّ إِليه. وقيل: هو ما ينافى السُّكوت والبهيمية.
وأَمَّا الكلمة فمشتقة من الكَلْم بمعنى الجرح. وجمعها كَلِم وكَلْم وكلمات. يقال: كَلَمت الصّيد أَى جرحته. فالكلام (والكلمة على قول: ما يؤثِّر في قلب المستمِع بواسطة سماع الآذان كتأثير الكَلْم) فى الصَّيد. وقد يكون الكَلْم بمعنى القطع، فيكون الكلمة اسماً لجمع من الحروف متَّصل بعضها ببعض منقطع عن غيرها من الكلمات. وسيأْتي شرح الكلام والكلمة فى باب الكاف بأَتمَّ من هذا إِن شاءَ الله تعالى.
وأَمَّا القول ففي أَصل اللغة: النُّطق. وحقيقته من حيث المعنى: كلام مهذَّب مرتَّب على مسموع مفهوم، مؤدًّى بمعنى صحيح. وعلى هذا يصحّ إِطلاق القول على القرآن، فإِنه يتضمَّن التَّهذيب والترتيب، لفظه مسموع، ومعناه مفهوم.
وأَمَّا الكِتَاب فيكون اسماً - وجمعه كُتُب -، ويكون مصدراً بمعنى الكتابة، فسُمِّى به الْقرآن، لأَنه يُكتب، كما سمِّى الإِمام إِمامَا لأَنَّه يؤتمّ به. ويقال: إِن مادَّة كتب موضوعة بمعنى الْجمع: كتبتُ الْبلغةَ إِذا جمعت بين شُفريها بحلْقة. ويقال للعسكر: الْكتيبة لاجتماع الأَبطال. فسُمِّى الْقرآن كتاباً لأَنه مجتمع الْحروف والْكلمات والسُّوَرِ والآيات. فسيأْتى شرحه فى باب الْكاف.
وأَمَّا الْفُرقان فاسم على زنة فُعْلان مشتقٌّ من الْفَرْق، وهو الْفصل. والفُرق بالضمّ لغة فيه، قال الراجز: ومُشْرِكيٍّ كافر بالْفُرْق والْفِرق بالكسر: قَطيع من الغنم يتفرَّق من سائرها، وسمِّى الْقرآن فرقاناً لأَنه نزل من السماءِ نجوماً متفرِّقة، ولأَنَّه يَفرق بين الْحقّ والْباطل. وقد يكون الفرقان بمعنى النُّصْرة، قال تعالى: {يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ} أَى يوم النُصرة. فقيل للقرآن: فرقان لما فيه من نُصرة الدِّين وأَهله. وقد يكون الفرقان بمعنى الخروج من الشكِّ والشُّبهة، قال تعالى: {إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فالقرآن فرقان بمعنى أَنَّه تقوية وهداية، يحصل به الخروج من ظلمات الضَّلالات، والشكوك، والشبهات.
وأَمَّا القرآن فاسم لما يُقْرَأُ؛ كالْقرْبان: اسم لما يُتقرَّب به إِلى الله. ويقال أَيضاً: إِنه مصدر قرأَ يقرأ (قَرْأ وقِراءَة) وقرآناً. وفي الشرع اسم للكتاب المفتَتح بفاتحة الكتاب، المختَتم بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} وفيه لغتان: الهمز وتركه. المهموز من القُرْء - بالفتح والضَّم - بمعنى الحيض، والطُّهر. سُمى به لاجتماع الدَّم فيه. والقرآن سمِّى به لاجتماع الحروف، والكلمات، ولأَنه مجتمع الأَحكام، والحقائق، والمعانى، والحكم. وقيل اشتقاقه من القِرَى بمعنى الضيافة؛ لأَن القرآن مَأْدُبة الله للمؤمنين، وقيل القران - بغير همز - مشتقّ من القِرْن بمعنى القرين لأَنه لَفظ فصيح قرِين بالمعنى البديع. وقيل: القرآن اسم مرتجل موضوع، غير مشتقٍّ عن أَصل؛ وإِنَّما هو عَلَم لهذا الكتاب المجيد؛ على قياس الجلالة فى الأَسماء الحسنى.
وأَمَّا سُورة - بالهمز وبتركه - فبغير الهمز من سَوْرة الأَسد، وسَورة الشراب، بمعنى القُوة؛ لأَنَّ قوَّة السُّورة أَكثر من قوّة الآية؛ أَو من السُّور بمعنى الجماعة: يقال. لفلان سُور من الإِبل أَى جماعة؛ لأَنَّ السُّورة مشتمِلة على جماعة الآيات، أَو من السُّور المحيط بالأَبنية؛ لأَن السُّورة محيطة بالآيات، والكلمات، والحروف، مشتملة على المعانى: من الأَمر والنَّهى، والأَحكام. وإذا قلت بالهمز فيكون من سُؤر الكأْس - وهو ما يبقى فيه من الشراب - لأَن كلَّ سُورة من القرآن بقيَّة منه. ويقال: إِنَّ السُور (بلا همز) بمعنى الرَّفعة والمنزلة، وسُوَر القرآن هكذا: متفاوتة: بعضها فوق بعض من جهة الطُّول، والقصر، وفى الفضل، والشرف، والرُّتبة، قال النَّابغة:
أَلم تر أَنَّ الله أَعطاك سُورة
أَى شرفاً ورفعة.
وأَمَّا آية ففى أَصل اللغة: بمعنى العَجَب، وبمعنى العلامة، وبمعنى الجماعة. سمِّيت آيةُ القرآن آية لأَنها علامة دالَّة على ما تضمَّنته من الأَحكام، وعلامة دالَّة على انقطاعه عمَّا بعده وعمَّا قبله، أَو لأَن فيها عجائب من القِصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والتميُّز عن كلام المخلوقين، ولأن كلَّ آية جماعةٌ من الحروف، وكلامٌ متَّصل المعنى إِلى أَن ينقطع، وينفرد بإِفادة المعنى. والعرب تقول: خرج القوم بآياتهم أَى بجماعتهم. وقال شاعرهم:
خرجنا من النقبين لا حَىَّ مثلُنا *** بآيتنا نُزْجى اللقاح المَطافلا
وقال فى معنى العلامة:
إِذا طلعت شمس النهار فسلِّمي *** فآية تسليمي عليكِ طلوعُها
وأَصلها أَيَيَة على وزان فَعَلة عند سيبويه، وآيِيَة على مثال فاعلة عند الكسائى، وأَيِيَه على فِعلَة عند بعض، وأَيَّة عند الفرَّاء، وأَأْية بهمزتين عند بعض.
وأَمَّا الحرف فقد جاءَ لمعان: منها طَرَف الشيىء، وحَدّ السَّيف، وذُروة الجبل، وواحد حروف الهجاء، والنَّاقةُ السَّمينة القويّة، والناقة الضعيفة، وقَسِيم الاسم والفعل. فقيل للحرف: حرف لوقوعه فى طَرَف الكلمة، أَو لضعفه فى نفسه، أَو لحصول قوَّة الكلمة به، أَو لانحرافه؛ فإِن كلَّ حرف من حروف المعجم مختصّ بنوع انحراف يتميَّز به عن سائر الحروف.
وأَمَّا المصحف فمثَّلثه الميم. فبالضمّ: اسم مفعول من أَصحفه إِذا جمعه، وبالفتح: موضع الصُّحُف أَى مجمع الصَّحائف، وبالكسر: آلة تجمع الصحف.
والصَّحائف جمع صحيفة، كسفينة وسفائن. والصُّحف (جمع صحيف) كسفين وسُفُن.
وقيل للقرآن مصحف لأَنَّه جُمع من الصَّحائِف المتفرِّقة فى أيدى الصِّحابة، وقيل: لأَنَّه جَمَع وحوَى - بطريق الإِجمال - جميع ما كان فى كتب الأَنبياء، وصُحُفهم، (لا) بطريق التفصيل.
هذا بيان الكلمات الَّتى لا بدَّ من معرفتها قبل الخوص فى التفسير. والله ولى التَّيسير.

في أصناف الخطابات والجوابات التي يشتمل عليها القرآن

ولهذا الفصل طرفان: الأَوَّل فى فنون المخاطبات. والثانى فى الابتداءَات والجوابات.
أَمَّا المخاطَبات فإِنها تَرد فى القرآن على خمسة عشر وجهاً: عامّ، وخاصّ، وجنس، ونوع، وعَين، ومدح، وذمّ، وخطاب الجمع بلفظ الواحد، والواحدِ بلفظ الجمع، وخطاب الجمع بلفظ الاثنين، (وخطاب الاثنين) بلفظ الواحد، وخطاب كَرَامة، وخطاب هوان، وخطاب عَيْن والمراد به غيره، وخطاب تلوّن.
أَمَّا خطاب العام {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} . وأَما الخِطاب الخاصّ كقوله: {هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}، {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} ، وخطاب الجنس: يا أَيها الناس، وخطاب النوع: يا بنى آدم. وخطاب العين: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم: (وخطاب المدح: يأَيها الذين آمنوا. وخطاب الذم: يأَيها الذين كفروا) وخطاب الكرامة: يأَيها الرسول، يأَيها النبىّ. وخطاب الهوانِ لإِبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} ولأَهل النار. {اخْسَئُوْا فِيْهَا} ، ولأَبى جهل {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيْزُ الكُرِيمُ} . وخطاب الجمع بلفظ الواحد {يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ}، {يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ} . وخطاب الواحد بلفظ الجمع {رَبِّ ارْجِعُون} أَى ارجعنى {يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ} وهو خطاب نبيّنا صلى الله عليه وسلَّم. وخطاب الواحد والجمع بلفظ التثنية {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ} . وخطاب الاثنين بلفظ الواحد {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوْسَى}.
وأَمّا الخطاب العينى الذى يراد به الغير: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي}، {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ}.
وأَمّا التلوّن فعلى وجوه:
أَمّا الأَول فقوله: {هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ} ، ثم قال {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} ، وكقوله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} ، ثم قال {فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ} ، وكقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ} ثم قال {أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ}.
الثانى أَن ينتقل من الخَبَر إِلى الخطاب، كقوله: {الْحَمْدُ للهِ} ثم قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وقوله {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً} ثم قال {وَإِنَّ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ثم قال: {إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} ، وقوله: {فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} ثم قال: {هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}.
الثالث أَن يكون الخطاب لمعين، ثم يُعدَل إِلى غيره، كقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} ثم قال: {لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
الطرف الثانى من هذا الفصل فى الابتداءَات والجوابات. ويسمى تراجُعَ الخطاب.
والجواب يكون انتهاء، والسؤال يكون ابتداءً. والسؤال يكون ذَكَراً، والجواب يكون أُنثى، فإِذا اجتمع الذَّكَر والأُنثى يكون منه نتائج وتولُّدات.
وترد أَنواع الجوابات في نصّ القرآن على أَربعة عشر وجهاً: جواب موصول بابتداءٍ، جواب مفصول عنه، (جواب) مضمر فيه، (جواب) مجرد عن ذكر ابتداءٍ، جوابان لابتداءٍ واحد، جواب واحد لابتداءَين، جواب محذوف، جواب إِلى فصل غير متصل به، جواب في ضمن كلام، (جواب في نهاية كلام)، جواب مُدَاخَل في كلام؛ جواب موقوف على وقت، جواب بفاء، جواب الأَمر والنهي وغيرهما، جواب شرط، جواب قَسَم.
أَما الجواب الموصول بابتداءٍ فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}.
وأَما الجواب المفصول عن الابتداءٍ فنوعان:
أَحدهما أَن يكون الابتداءُ والجواب فى سورة واحدة، كقوله في الفرقان {وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ} جوابه فيها: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ} ، وكقوله فى البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ} جوابه فيها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
والثانى أَن يكون الابتداء فى سورة، والجواب فى سورة أُخرى، كقوله فى الفرقان: {قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ} جوابه {ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ القُرْءَان} ، وفى الأَنفال، {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا} جوابه فى بنى إِسرائيل {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ} الآية، وفى سورة القَمَرَ {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِر} جوابه فى الصَّافات {مَالَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونْ}.
وأَما الجواب المضمر ففى سورة الرَّعد {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ} جوابه مضمر فيه أَى (لكان هذا القرآن).
وأَما الجواب المجرَّد عن ذكر الابتداءِ فكما فى سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} فإِنه فى جواب الصحابة: فكيف من شرب الخمر قبل تحريمها ومات. وفى سورة البقرة {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فى جواب أُناس قالوا كيف: بمن صلَّى إِلى بيت المَقْدِس قبل تحويل القبلة.
وأَمَّا جوابان لسؤال واحد كقوله فى الزخرف {لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فله جوابان: أَحدهما {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} والثانى فى سورة القصص: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، ونحو قوله {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أَحد جوابيْه {يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} وثانيهما {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} وفى سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} ، وكقوله: {وَقَالُوْا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ} جوابه فى السورة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجنُونٌ} وجواب ثان فى سورة ن {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ} وجواب ثالث فى سورة الأَعراف: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ}.
وأَما جواب واحد لابتداءَين فكقوله فى سورة النور {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وابتداءُ هذين الجوابين حديث الإِفك. ونظير هذا فى سورة الفتح "لولا رجال مؤمنون" إلى قوله "لو تَزيَّلُوا" وابتداؤُه صَدُّ الكفار المسلمين عن المسجد الحرام.
وأَما الجواب المحذوف فكقوله في سورة البقرة {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} جوابه {كَفَرُوْا بِهِ} وهو محذوف ومثل قوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} جوابه محذوف أَى حال هذا الرَّجل كحال مَن يريد زينة الحياة الدُّنيا.
وأَمَّا الجواب الَّذى يكون راجعاً إِلى فصل غير متَّصل بالجواب فكقوله فى سورة العنكبوت {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} جوابه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} وهذا فى يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} جوابه {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وعلى هذا القياس مناظرة موسى وفرعون فى سورة الشعراءِ فى قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ}.
وأَمّا الجواب الَّذى يكون فى ضمن كلام فكما فى سورة لمَّا زعم الكفار أَنّ محّمداً غير رسول بالحق نزلت الآية مؤكَّدة بالقسم لتأْكيد رسالته {صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ} إِلى قوله {وعَجِبُوْا} وكذا قال {قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ} الى قوله {إِنَّ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وهكذا فى سورة المُلْك {أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ} جوابه في ضمن هذه الآية {قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ} وأَما الجواب الذى يكون فى نهاية الكلام فكقوله {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ} جوابه فى منتهى الفصل {أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وفي سورة الحج {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} جوابه {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} وفى سورة الكهف {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} جوابه {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} وفى سورة الأَنعام {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إِلى قوله {مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ} جوابه {قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}.
وأَمَّا الجواب المُداخَل ففي سورة يوسف {مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ} وفى قصة إِبراهيم {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}.
وأَما الجواب على وقف الوقت فكقوله {ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فقالت الصحابة: متى وقت إِجابة الدعاءِ؟ فنزلت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وأَيضاً لمَّا نزلت {ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} قالوا: متى وقت الاستغفار؟ فنزلت: {وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ}.
وأَما جواب الشرط والجزاءُ بغير فاءٍ فمجزوم كقوله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، من يَغْزُ يغنم، من يكظم غيظاً يأْجره الله.
وأَما جواب الشرط بالفاءِ فمرفوع {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} {فَمَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً}.
وأَما جواب الأَمر والنهى والدعاءِ والتمنِّى والاستفهام والعرْض بغير فاءٍ فمجزوم، وبالفاءِ منصوب. والأَمر كقوله {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} لا تضربي أَشتِمْك، اللَّهمَّ أَعطني أَشكرْك وكذا في غيره.
وأَمَّا بفاءٍ فكقولك زرني فأَكرمَك، {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، {يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} وكذا فى غيرها لا جواب النفى، فإِنه إذا كان بلا فاءٍ فمرفوع كقوله {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ}.
وأَمَّا جواب القسم فأَقسام القرآن ثلاثة (أَنواع: إِما قَسم بأَسماءِ) الله تعالى، كقوله: {فَوَرَبِّكَ} وإِمَّا بمفعولاته كقوله: {وَالْفَجْرِ}، {وَ الشَّمْسِ}، {وَالعَصْرِ} . وإِما بأَفعاله كقوله: {وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}.
ولا بد للقسم من جواب إِما بإِثبات أَو بنفى. وتأْكيد الإِثبات يكون بإِنّ وباللاَّم أَو بهما. أَمَّا بإِنَّ فكقوله {وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} وقوله: {وَالفَجْرِ} إِلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} . وأَمَّا بهما فكقوله {فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
هذه فنون الجوابات، وأَنواع الخطابات التى نطق بها القرآن.