بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه مسألة مختصرة مهمة وهي من المسائل المشتركة بين العقيدة و أصول الفقه وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين وسوف أذكر المسألة بدون توثيقات ليسهل فهمها وأرفق المسألة موثقة في ملف في نهايتها فأقول مستعيناً بالله :

التحسين والتقبيح العقليان وفيه مسائل :

المسألة الأولى : حقيقة التحسين والتقبيح العقليين :
الحُسْن والقُبْح يطلقان باعتبارات ثلاثة :
الاعتبار الأول : أن الحُسْن هو ملاءمة الطبع ، والقُبْح هو منافرته كقولنا : إنقاذ الغريق حسن ، وإتهام البريء قبيح .
الاعتبار الثاني : أن الحُسْن هو الكمال ، والقُبْح هو النقص كقولنا : العلم حسن ، والجهل قبيح .
الاعتبار الثالث : أن الحُسْن هو استحقاق الثواب والمدح ، والقُبْح استحقاق العقاب والذم .
قال القرافي : ( والأولان عقليَّان إجماعاً ) ، وإنما وقع الخلاف في الثالث .

المسألة الثانية : الأقوال في المسألة :
والخلاف فيها بين أهل القبلة يرجع إلى ثلاثة أقوال :

القول الأول :
أن حُسْن الأشياء وقُبْحها ،والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة الشرع ، وهو قول جماهير الأشاعرة.

القول الثاني :
أن حُسْن الأشياء وقُبْحها ،والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل ،
وهو قول المعتزلة والرَّافضة.

القول الثالث :
أن حُسْن الأشياء وقُبْحها ، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل دون ترتيب ثواب أو عقاب على ذلك ، وهو قول أهل السنة والجماعة من السلف ومن تبعهم ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم واختاره الزركــشي من الشافعية ، وهو قول الماتريديَّة والكرَّاميَّة .

المسألة الثالثة : أدلة هذه الأقوال :
أولاً : أدلة نفاة الحسن والقبح العقليين :
أ – أدلتهم النقليَّة : استدلَّ الأشاعرة لنفي التحسين والتقبيح العقليين بقوله تعالى وما كنَّا مُعذِّبِيْنَ حتى نبعث رسولاً وقوله تعالى : رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجةٌ بعد الرسل وقوله تعالى : وما كان ربُّك مهلك القرى حتى يبعث في أمِّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا ونظائرها من الآيات .
ووجه الاستدلال عندهم بالآيات المذكورة :
أنَّ الله رتَّب الجزاء على بعثة الرسل لا على الادراك بالعقل ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ العقل لا مجال له في إدراك حُسْن الأفعال وقُبْحها.
وقد أجاب المثبتون من أهل السنَّة عن هذا الاستدلال : بأنَّ هذه الآيات ونحوها لا تنفي اشتمال الأفعال على الصفات الحسنة والسيئة ،والتي تقتضي المدح والذم ، ولكنها تنفي العذاب والعقوبة قبل بلوغ الشرع وبعثة الرسل ونحن نسلم بهذا ، وإثبات الحُسْن والقُبْح العقليين لا يستلزم التعذيب ، وإنَّما الذي يستلزمه مخالفة الرسل بعد بلوغ الشرع وبعثة الرسل.

ب – أدلتهم العقليَّة ، ومن أشهر مسالكهم في أدلتهم العقليَّة ما يلي :
1 – مسلك الفخر الرازي وهو :
أنَّ فعل العبد غير اختياري ، وما ليس بفعل اختياري لا يكون حسناً ولا قبيحاً عقلاً بالاتفاق ؛لأن القائلين بالحُسْن والقُبْح العقليين يعترفون بأنَّه إنَّما يكون كذلك إذا كان اختيارياً ،وقد ثبت أنَّه اضطراري فلا يوصف بحُسْن ولا قُبْح على المذهبين ، أما بيان كونه غير اختياري فلأنه إن لم يتمكن العبد من فعله وتركه فواضح ، وإن كان متمكناً من فعله وتركه كان جائزاً فإمَّا أن يفتقر ترجيح الفاعليِّة على التاركيِّة إلى مرجِّح أولا، فإن لم يفتقر كان اتفاقيِّاً، والاتفاق لا يوصف بالحسن والقبح ، وإن افتقر إلى مرجِّح فهو مع مرجِّحه إمَّا أن يكون لازماً وإمَّا جائزاً ، فإن كان لازماً فهو اضطراري وإن كان جائزاً عاد التقسيم ، فإما أن ينتهى إلى ما يكون لازماً فيكون ضرورياً أولا فينتهى إليه فيتسلسل ، وهو مُحَال أن يكون اتفاقياً فلا يوصف بحُسْن ولا قُبْح .
وقد أجاب عن هذا الدليل ابن القيم من اثني عشر وجها ً أهمُّها :
الوجه الأول : أنَّ فيه التسوية بين الحركة الضروريِّة والاختياريِّة من العبد وعدم التفريق بينهما ، وهذا باطل ؛لأنَّه مخالف لما يقضي به الواقع والحسّ والشرع فهو بمنزلة الاستدلال على الجمع بين النقيضين ، وعلى وجود المُحَال .
الثاني : لو صحَّ الدليل المذكور لزم منه أن يكون الرب تعالى غير مختار في فعله ؛لأنَّ التقسيم المذكور والترديد جارٍ فيه بعينه بأن يقال فعله تعالى إمَّا أن يكون لازماً أو جائزاً ،فإن كان لازماً كان ضروريِّاً ،وإن كان جائزاً فإن احتاج إلى مرجِّح عاد التقسيم ،وإلا فهو اتفاقيِّ ، ويكفي في بطلان الدليل المذكور أن يستلزم كون الربّ غير مختار .
الثالث : أنَّ الدليل المذكور لو صحَّ لزم بطلان الحُسْن والقُبْح الشرعيّين ؛لأنَّ فعل العبد ضروريّ أو اتفاقيّ ،وما كان كذلك فإنَّ الشرع لا يحسِّنه ولا يقبِّحه ؛ لأنَّه لا يرد بالتكليف به فضلاً عن أن يجعله متعلق الحُسْن والقُبْح .
الرابع : أنَّ هذا الدليل لو صحَّ لزم بطلان الشرائع والتكاليف جملةً ؛ لأنَّ التكليف إنَّما يكون بالأفعال الاختياريِّة ؛ إذ يستحيل أن يكلَّف المرتعش بحركة يده ، وأن يكلَّف المحموم بتسخين جلده، وإذا كانت الأفعال اضطراريَّة غير اختياريَّة لم يُتصوَّر تعلُّق التكليف والأمر والنَّهى بها .

2 – مسلك القاضي أبي بكر الباقلاني وهو:
أنَّ الحُسْن والقُبْح لو كانا صفتين ذاتيتين للفعل لما اختلفا باختلاف الأحوال والمتعلقات والأزمان ، ولاستحال ورود النَّسخ على الفعل ؛ لأنَّ ما ثبت للذَّات فهو باقٍ ببقائها لا يزول ، وهي باقية، ومعلوم أنَّ الكذب يكون حسناً إذا تضمَّن عصمة دم نبيٍ أو مسلمٍ ، ولو كان قبحه ذاتياً له لكان قبيحاً أين وجد ، وكذلك ما نُسخ من الشريعة لو كان حسناً لذاته لم يستحل قبيحاً ، ولو كان قبحه لذاته لم يستحل حسناً بالنَّسخ .

وأجيب عن هذا الدليل من أوجه:
الوجه الأول : أنَّ كون الفعل حسناً أو قبيحاً لذاته ،أو لصفةٍ لم يُعْن به أنَّ ذلك يقوم بحقيقة لا ينفك عنها بحال مثل كونه عرَضَاً ، وكونه مفتقراً إلى محلٍّ يقوم به ، وكون الحركة حركةً والسواد لوناً ، وإنَّما يراد بكونه حسناً أو قبيحاً لذاته، أو لصفته أنَّه في نفسه منشأ للمصلحة والمفسدة ،وترتيبهما عليه كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها ، وهذا كترتيب الريّ على الشرب، والشبع على الأكل ، وترتب منافع الأغذية والأدوية ومضارها عليها ، فحسن الفعل أو قبحه هو من جنس كون الدواء الفلاني حسناً نافعاً ، أو قبيحاً ضارَّاً ، وكذلك الغذاء واللباس والمسكن والجماع والاستفراغ والنوم والرياضة وغيرها .
الثاني : أنَّه يجوز اقتضاء الذَّات الواحدة لأمرين متنافيين بحسب شرطين متنافيين فيقتضى التبريد مثلاً في محلِّ معيَّن بشرطٍ معيَّن ، والتَّسخين في محلٍّ آخر بشرطٍ آخر ، والجسم في حيِّزه يقتضي السكون فإذا خرج عن حيِّزه اقتضى الحركة .
الثالث : أنَّ قولكم : يحسن الكذب إذا تضمَّن عصمة نبىٍّ أو مسلمٍ لا يسلَّم، بل لا يكون الكذب إلَّا قبيحاً ، وأمَّا الذي يحسن فهو التعريض والتورية كما وردت به السنَّة النبويِّة ، ثم لو سُلِّم ذلك فإنَّ تخلُّف القُبْح عن الكذب لفوات شرطٍ ،أو قيام مانعٍ يقتضي مصلحةً راجعةً على الصدق لا تخرجه عن كونه قبيحاً لذاته .

3 – مسلك أبي الحسن الآمدي وهو :
أنَّه لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل ، وإلَّا كان من علم حقيقة الفعل عالماً بحُسْنه وقُبْحه ، وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحُسْنه وقُبْحه على النَّظر كحُسْن الصدق الضّارّ وقُبْح الكذب النَّافع ، وإن كان مفهومه زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجوديِّة ؛ لأنَّ نقيضه وهو لا حُسْن ولا قُبْح صفة للعدم المحض فكان عدمياً ، ويلزم من ذلك كون الحُسْن والقُبْح وجودياً ،وهو قائم بالفعل لكونه صفةً له ، ويلزم من ذلك قيام العَرَض بالعَرَض وهو محال .

وأجيب عن هذا الدليل من أوجه :
الوجه الأول : أنَّه منقوضٌ بما لا يحصى من المعاني التي توصف بالمعاني كما يقال علمٌ ضروريّ، وعلمٌ كسبيّ ، وإرادةٌ جازمةٌ ، وحركةٌ سريعةٌ ، وحركةٌ بطيئةٌ ، وحركةٌ مستديرةٌ ، وحركةٌ مستقيمةٌ، ومزاجٌ معتدلٌ ، ومزاجٌ منحرفٌ .
الثاني : أنَّ قوله : يلزم منه قيام العَرَض بالعَرَض غير صحيح بل العَرَض يوصف بالعَرَض ، ويقوم به تبعاً لقيامه بالجوهر الذي هو المحلّ فيكون العرضان جميعاً قائمين بالمحلّ ،وأحدهما تابعٌ للآخر ،وكلاهما تبعٌ للمحلّ فما قام العَرَض بالعَرَض ، وإنَّما قام العَرَضان جميعاً بالجوهر، فالحركة والسرعة قائمتان بالمتحرِّك ، والصوت وشجاه وغلظه ودقته وحسنه وقبحه قائمةٌ بالحامل له، والمُحال إنَّما هو قيام العَرَض بالعَرَض من غير أن يكون لهما حامل ، فأمَّا إذا كان لهما حامل وأحدهما صفة للآخر وكلاهما قام بالمحلّ الحامل فليس بمُحَال .
الثالث : أنَّ حُسْن الفعل وقُبْحه شرعاً أمرٌ زائدٌ عليه ؛ لأنَّ المفهوم منه زائد على المفهوم من نفس الفعل ، وهما وجوديَّان لا عدميَّان ؛ لأن نقيضهما يحمل على العدم فهو عدمي، فهما إذا وجوديَّان ؛ لأن كون أحد النقيضين عدمياً يستلزم كون نقيضه وجودياً فلو صحَّ الدليل المذكور لزم أن لا يوصف بالحُسْن والقُبْح شرعاً ، ولا خلاص عن هذا إلَّا بالتزام كون الحُسْن والقُبْح الشرعيّين عدميّين ، ولا سبيل إليه ؛ لأن الثواب والعقاب والمدح والذم مرتَّب عليهما ترتب الآثر على مؤثِّره المقتضى على مقتضيه، وما كان كذلك لم يكن عدماً محضاً ؛ إذ العدم المحض لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم .

4 – مسلك القرافي وهو :
" أنَّ العالم حادث ؛ فهو إمَّا أن يكون فيه مصالح أو لا يكون، فإن كان الأول فقد أخَّر الله تعالى فعل المصالح دهوراً لا نهاية لها، فلا يقال: إنَّ الله تعالى لا يهمل المصالح، وحينئذٍ لا يجزم العقل بثبوت الأحكام قبل الشرائع ولا بمراعاة المصالح، وإن كان العالم ليس فيه مصالح، وقد فعل الله تعالى ما لا مصلحة فيه، فلا يكون العقل جازماً بأنَّ الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة، بل يجوز عليه فعل لا حكمة فيه على رأيهم، وذلك يخرم قاعدة الحكمة بتفسيرهم، فهذا برهانٌ قاطعٌ على بطلان الحُسْن والقُبْح العقليين " .
ويجاب عن هذا الدليل : بأنَّ هذا وارد في حقِّ المعتزلة كما سيأتي ؛ لأنهم يوجبون فعل الأصلح على الله تعالى ،أمَّا أهل السنَّة فيثبتون الحُسْن والقُبْح العقليّين دون الثواب والعقاب ،ووجوب فعل الصَّلاح والأصْلَح وغيرها مما يوجبه المعتزلة ، وعليه فقول القرافي _ رحمه الله _ : ( أقول في إبطال الحُسْن والقُبْح : رعاية المصالح غير واجبة على الله تعالى عقلاً ؛ فالحُسْن والقُبْح العقليَّان باطلان ) _ إنَّما يصحُّ في نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يربطون بين المسألتين .

ثانيا : أدلة مثبتي الحُسْن والقُبْح العقليين :
وهم أهل السنَّة والماتريديَّة والمعتزلة : واستدلوا بأدلة نقليَّة وعقليَّة :
أ – الأدلة النقليَّة :
1 – قوله تعالى : وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون .
وجه الاستدلال : أنَّ الله أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنَّه لا يأمر بالفحشاء فدلَّ ذلك على أنَّه منزهٌ عنه فلو كان جائزاً عليه لم يتنزَّه عنه فعُلِمَ أنَّه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء ، وذلك لا يكون إلاَّ إذا كان الفعل في نفسه سيئاً وقبيحاً .
2 – قوله تعالى : ولا تقربوا الزِّنا إنه كان فاحشةً وساءَ سبيلاً .
وجه الاستدلال : أن الله علَّل النَّهي عنه بما اشتمل عليه من أنَّه فاحشة وأنَّه ساءَ سبيلاً ، فلو كان إنَّما صار فاحشةً وساء سبيلاً بالنَّهي لما صحَّ ذلك ؛ لأنَّ العلَّة تسبق المعلول لا تتبعه.
3 – قوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يمتِّعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمَّى ويؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضله --
وجه الاستدلال : أنَّ الله أمر الناس أن يتوبوا ويستغفروا ممَّا فعلوه فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة فعلم أنَّه كان من السيئات القبيحة لكنَّ الله لا يعاقب إلاَّ بعد إقامة الحجة .
4 - أخبر الله تعالى عن قُبْح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول كقوله لموسى : اذهب إلى فرعون إنَّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكَّى وأهديك إلى ربِّك فتخشى وقال تعالى : إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبِّح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنَّه كان من المفسدين فهذا خبرٌ عن حاله قبل أن يولد موسى _ عليه السلام _ وحين كان صغيراً قبل أن يأتيه برسالة أنَّه كان طاغياً مفسداً ، وقال تعالى: ولقد مننَّا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمِّك ما يوحى أن اقذفيه في التَّابوت فاقذفيه في اليمِّ فليلقه اليمُّ بالساحل يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له وألقيت عليك محبةً منِّي ولتُصنع على عيني ، والعدو فرعون فهو إذ ذاك عدوٌ لله ولم يكن جاءته الرسالة بعد.
5 – قوله تعالى : -- ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائِث --
وجه الاستدلال : أنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ الحلال كان طيباً قبل حلِّه وأنَّ الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه ، ولم يستفد طيب هذا وخُبْث هذا من نفس الحلّ والتحريم ؛ لأنَّ هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فلو كان الطيب والخبيث إنَّما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل ؛ فإنَّه بمنزلة أن يقال : يحلُّ لهم ما يحلُّ ويحرِّم عليهم ما يحرِّم وهذا باطل ؛ فإنه لا فائدة فيه .
6 – أنَّ الله تبارك وتعالى أنكر على من نسب إلى حكمته التسوية بين المختلفين كالتسوية بين الأبرار والفجَّار فقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتَّقين كالفجَّار ، وقال تعالى : -- أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون -- فدلَّ على أنَّ هذا حكمٌ سيءٌ قبيحٌ ينزَّه الله عنه ، ولم ينكره سبحانه من جهة أنَّه أخبر بأنَّه لا يكون وإنما أنكره من جهة قُبْحه في نفسه وأنه حكمٌ سيءٌ يتعالى ويتنزَّه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله ، ووقوع أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب والحكمة فلا يليق به أن يجعل البرَّ كالفاجر ، ولا المحسن كالمسيء ، ولا المؤمن كالمفسد في الأرض فدلَّ على أنَّ هذا قبيحٌ في نفسه تعالى الله عن فعله .

ب – الأدلة العقليَّة :
1 – أنَّ من أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحْسُن إلا لتعلق الأمر به ، وأنَّ الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر ، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها ، وأنكر خاصةً الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها .
2 – أنَّ نفي الحُسْن والقُبْح العقليين مطلقاً لم يقله أحد من سلف الأمَّة ولا أئمتها ، وهذا يؤخذ من كلام الأئمَّة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره ، فنفي ذلك من البدع التي حدثت في الإسلام .
3 – أنَّ من قال : إنَّ الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحُسْن والقُبْح فهو بمنزلة قوله ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والاشباع والإرواء ، فسلبُ صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار.
4 – قال المعتزلة : إنَّ الحُسْن والقُبْح يستوي في معرفتهما الملحد والموحِّد ؛ فالملحدة يعرفون قُبْح الظلم ولا مستند لهم إلا محض العقل فالملحدة لا يعرفون النَّهي والنَّاهي .
5 – وقال المعتزلة أيضاً : لو لم يكن الحكم بالحُسْن والقُبْح إلا بالشرع لحَسُن من الله كلُّ شيء فحَسُن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع .

فهذه جملة من أدلة المثبتين للتحسين والتقبيح العقليين ، وهي مشتركة بين أهل السنَّة والماتريديَّة والمعتزلة ، ثم افترقوا في إثبات الثواب والعقاب بالعقل فأثبت ذلك المعتزلة كما سبق محتجِّين بما ذكرنا من أدلة
ونفى ذلك أهل السنَّة مستدلين بأدلة منها :
1 – النُّصوص الكثيرة في القرآن التي تدل على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة كقوله تعالى : -- وما كنَّا مُعذِّبِيْنَ حتى نبعث رسولاً ، وقوله تعالى : رسلاً مبشرين ومنذرين لئلَّا يكون للناس حجةٌ بعد الرسل ، وقوله تعالى : وما كان ربُّك مهلك القرى حتى يبعث في أمِّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وغير ذلك من الآيات التي تؤكِّد هذا المعنى .
2 - أنَّ الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنَّه لا يكلف نفساً إلا وسعها كقوله: لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها --وقوله تعالى: -- والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلِّف نفساً إلَّا وسعها -- وقوله : -- لا تكلَّف نفسٌ إلا وسعها -- وقوله: --لا يكلِّف الله نفساً إلا ما آتاها -- فهذه الآيات وأمثالها تدل على أنَّ المكلَّف لا يؤاخذ بما فعله أو تركه ممَّا لم ينه عنه الشرع ، أولم يأمر به ؛ لأنَّه خارج عن قدرته واستطاعته.
3 – أنَّ مؤاخذة وتعذيب من لم يأت إليه شرع ظلم ، والله سبحانه وتعالى نزَّه نفسه عن الظلم في مواضع كثيرة من القرآن كما في قوله تعالى : -- ذلك أن لم يكُ ربُّك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون -- .
فهذه أدلة أهل السنَّة والجماعة في إثبات التحسين والتقبيح العقليين دون ترتيب الثواب والعقاب عليهما، وهو ظاهر القوة والله أعلم


..منقول من منتدى أهل الحديث..