بسم الله الرحمـن الرحيم
سبق وأن أشرت في هذا الموضوع تحديث الصفحة مصادر المعرفة -هام لكل مسلم وملحد- إلى وسائل المعرفة (السمع البصر الفؤاد) وهذه الوسائل خاصة بعالم الشهادة
أما عالم الغيب فلا يدرك إلا جملة عن طريق العقل «ضمن أحكامه الذاتية» [1] مثل وجود الله سبحانه ، والبعث ، وغيره . أما العلم بالتفصيل في أمور الغيب فلا تدرك إلا بطريق الخبر المعصوم من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، « فلا مطمع عن طريق شيء من التجربة و المشاهدة في الوصول إليها. وليس السبيل إلى اليقين بها إلا خبر الله جل جلاله أو السنة المتواترة» [2].
والعقل كغيره من الصفات له حدود لا يتجاوزها و أقدارا لا يتخطاها ،فلم يجعل الله له الإدراك في كل مطلب،يقول الشاطبي :« الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهى إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب » [3] ولو كان كذلك لتساوى مع العليم سبحانه و تعالى، فالعقل و إن أدرك بعض الأمور فإدراكه يعتريه القصور و الضعف و الغفلة و النسيان و الجهل و عدم الإحاطة [4].
يقول عبد الله حسن الميداني :«وللعقل .. حدود ينتهي إليها ،متى وصل إليها أعلن عجزه . و إنه محدود بين شيئين هما الزمان و المكان، لذلك يسأل دائما متى ؟ و أين ؟ مع أن الحقائق الكبرى لا مكان لها و لا زمان، ولكن العقل عاجز عن تصور ذلك »[5].
فالعقل يستمد إدراكه عن طريق معطيات الحس التي تأتيه عبر رسله كالسمع و البصر وغيرهما من الحواس ثم يقوم العقل بعملية التحليل و التركيب و الاستنتاج و الاستنباط واستخراج النتائج «وهو في كل هذا العمل إنما يعتمد على معطيات حسية، لها وجود مشهود، ولو تعدى هذا المجال لنطق بغير علم، وحكم بغير هدى»[6]. يقول ابن خلدون : « وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والأخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طورة فإن ذلك في محال ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدي طوره »[7]
أما الذين زعموا أن العقل بمقدوره إدراك جميع الموجودات فيُغني بطلان ادعائهم على إبطالهم، بل ولم يستطيع إدراك ماهية العقل وعجزوا عن إدراك ألصق الأشياء بأجسامهم «الروح» فلا يزالون يتنازعون فيها ، ولو صح ما زعموا لما احتجنا للوحي وإرسال الرسل .
وقد نهى الشارع سبحانه و تعالى عن إعمال العقل في غير مجاله فقد ثبت عن رسول الله صلى اله عليه و سلم أنه قال :« تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله عز وجل » [8]
وعن الروح قال الله تعالى : « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » [9].
ومما سبق ذكره نستطيع أن نقرر أن العلوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام [10] :
أ –علم ضروري لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده وعلمه بأن الأثنين أكثر من الواحد وأن الضدين يجتمعان .
ب – علم نظرى يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به وهي النظريات وذلك الممكنات التي تعلم بواسطة .
ج – علم غيبي لا سبيل للإنسان من إدراكه البتة إلا عن طريق الوحي.
ويقول ابن تيمية مقررا لهذه الأقسام الثلاث :
«العلم ثلاثة أنواع :أحدها : هو الذي يُعرف بالعقل و الثاني : المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع . والثالث : ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل و لا بسمع »[11].
وأختم هذا المبحث بكلام نفيس لابن القيم ، يقول فيه :« إن عقل رسول الله صلى الله عليه و سلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب
فقال تعالى :« وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا »[12]
وقال تعالى :« ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى »[13]
وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى :« قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي »[14]فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام وفراش الألباب الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء »[15].[16]
------------------------------------------------
[1] المرجع السابق ص 131
[3] الاعتصام – الشاطبي – ج 2 ص 318
[4] انظر مصادر الاستدلال على مسائل الإعتقاد لعثمان علي حسن ص 78-79
[5] ضوابط المعرفة ـ عبد الرحمـن حسن حبنكة الميداني ـ ص 130
[6] مصادر الاستدلال على مسائل الإعتقاد لعثمان علي حسن ص 81
[7] المقدمة لابن خلدون ص 460
[9] سورة الإسراء 85 .
[10] الاعتصام – الشاطبي – ج 2 ص 318-319
[11] درء تعارض العقل و النقل – ابن تيمية – ج 9 ص 8
[12] سورة الشورى 52
[13] سورة الضحى 7-6
[14] سورة سبأ 50
[15] الصواعق المرسلة – ابن قيم الجوزية – ج 2 ص 734 -735
[16] مقتطفات من هذا البحث مؤخوذة من مقال في موقع مشكاة
Bookmarks