السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ان من يجعل من بلوغ مدارك الحقيقة و التنسم بعطرها و الانتعاش بعبقها و أريجها غايته و ديدنه لابد أن يضع نصب عينيه ما يسميه فيلسوف قرطبة أبو الوليد ابن رشد "الفضيلة العلمية"،انها ايثار الحق و اتباع الدليل المثالي بالمعنى الأفلاطوني للمثالية في شموليتها و كليتها،و مطاردته حيثما سارت ركائبه و التخلص من غوائل الفكر و شوائبه،بلغة أخرى لزوم الموضوعية التي لا تقوم لها قائمة الا بنكران الذات و لجم ميولاتها و رغباتها و سجن "الأنا" و الحرص على عدم حشرها في الموضوع.
لقد بات من البديهي و المسلم به أن كل الرؤى و القراءات التي تتمخض عن العقل العربي تصب في صميم ما هو "سلفي" كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "نحن و التراث"،و لا ينبغي أن نسئ فهم مقصود الدكتور فهو لا يدندن حول التيار الديني المسمى "السلفية"،بل يقصد بالسلفية مفهومها اللغوي التي تعني الماضوية و العودة الى الماضي بعيدا عن ما هو ايديولوجي،فمن خلال قراءاته لألوان الفكر الحاضرة في الساحة وجد أنها تبلغ مرتبة التتيم في حب الماضي بمن فيهم أصحاب القومية العربية و أصحاب الفكر الليبرالي و الماركسي و السلفي الديني و غيرهم،فالحلول المقدمة لما يتفجر من المشاكل العويصة الشائكة لا تخرج عن نطاق ما هو ماضوي،و جل التيارات الفكرية و التوجهات الايديولوجية باختلافها تشترك في سلفيتها و تستند الى "سلف" تجعل منه المثل الأعلى و لسان حالها معه : اذا قالت حذام فصدقوها**فان القول ما قالت حذام.
ان الجابري يرى أن الفكر العربي الحديث و المعاصر سلفي الميول و النزعة و انما الفرق بين هذه الألوان كامن في نوع "السلف" الذي تتحصن وراءه،لذلك فهو يميز لنا في كتابه "نحن و التراث" بين "السلفية الاستشراقية" و "السلفية الماركسية" و "السلفية الدينية" و قد أعرض صفحا عن اقحام "السلفية القومية" في كتابه خشية أن يمنع من دخول بعض الدول التي اتخذت حينئذ من العروبة الدين المرتضى،حيث يقول شاعرهم:
بلادك قدمها على كل ملة ** ومن أجلها أفطر ومن أجلها أصم
هوني ديناً يجعل العرب وحدة **وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا** وأهــلاً وســهلاً بعده بجهنم
و الخطأ المنهجي الآخر الذي تقع فيه هذه الايديولوجيات هو اللاتاريخية،فالعقل العربي مبني على قاعدة علمية في حد ذاتها ما روعيت شروطها-لكن هذا ما لم يكن- و هي "القياس" أي قياس الغائب على الشاهد،حتى صارت هذه القاعدة جزءا من كياننا الفكري نمارسها كعملية ذهنية بشكل تلقائي ميكانيكي.
فالسلفية الدينية لا تميز بين الماضي و الحاضر بل ان" جشطلت" الزمان عبارة عن بساط ممتد أحادي اللون،انها تعتقد في "ركود الزمان"،على العكس هناك أقوام ادعوا الحداثة و التقدم أعرضوا عن التاريخ جملة واحدة و رموه في سلة المهملات و هذه آفة العلمانية اللادينية و هي العقبة الأولى التي تصادف العلماني في طريقه،فلا تاريخيته و عدم أخذه للأحداث في سياقها التاريخي و جهله أو تجاهله التام للتموجات التاريخية و تحولاته جعلته يتقوقع في زنزانة "اللاوعي"،أعني عدم وعيه لحاضره و عجزه عن استشراف المستقبل،و حيث انهم "الأنتلجونتسيا" و أصحاب القرار فقد تقهقرنا بفعل تخبطاتهم و صرنا في مؤخرة الركب و ذيل الأمم.
يقول المؤرخ "بوسيه" كلمة تستحق أن تكتب بماء من ذهب :"من شاء الحكم على المستقبل فليبدأ باستشارة الماضي"،ان قولته هذه التي لا غبار عليها صالحة لأن نضرب بها عصفورين بحجر،فتضرب بها السلفي و ترش عليه من مائها حتى يتسنى له الاستفاقة من سباته العميق و تشخص عيناه ليرى حقيقة العالم الذي يعيش فيه.
ان السلفي ماضوي الرؤية مشروعه مختزل في احياء الماضي بكل مقوماته و معالمه،يعيش في الوهم و يقتات على الأوهام،و هذا الوهم الذي يؤطره و يثقله هو الماضي بكل أمجاده و آهاته و آلامه،ناهيك عن "دنكشوتيته" التي نلمسها عند علماء السلفية،فاتخاذهم لخصوم من سراب لا حقيقة لهم مما يندى له الجبين،فهم لا يزالون يصبون جم غضبهم على خصوم "السلف" كالمعتزلة و الجهمية و القدرية و المرجئة،فتراهم يستعيدون الصراع الأيديولوجي الذي كان في الماضي و ينخرطون فيه،و أين هي هذه الفرق؟لا وجود لها الا في مزبلة التاريخ،أما الخصم الحقيقي فيسالمونه و يشعلون له الضوء الأخضر ليمضي قدما و يفرشون له الأرض وردا،هذا هو حال السلفية ماداموا يمدون جسورهم لاعتناق الماضي،و يمكن أن نلخص مشكلة السلفية و نختزل "برادوكسيتها" في قراءتها الغير الواعية للتاريخ حيث انها الا تستعيد الماضي مع ذاتها من أجل فهم الحاضر و الحكم على المستقبل،بل لتعيشه بوجدانها و جوارحها و تسقطه كما هو على واقعنا المعاصر،فكانت النتيجة الغاء الزمان و التطور فالحاضر يقاس على الماضي(تبعا دائما لقاعدة القياس) و كأن الماضي و الحاضر و المستقبل عبارة عن بساط ممتد لا يتحرك و لا يتموج و من هنا لا تاريخيتها.
و كلمة بوسيه سلاح فتاك نشهره ضد كل علماني لبيان غوائل فكره و ما في اختياراته من خرق و خبال و لن يكلفنا ذلك مشقة البحث و عناءها،و لن نبخع أنفسنا في سبيل البرهنة على ذلك،فكما يقول المثل المغربي "أش كتبيع العطار كلشي باين"،اذ ان المناداة بالعلمانية في العالم العربي و الاسلامي دعوة سافرة لالغاء القانون العلمي المسمى ب"السببية" الذي يرى أن لكل شئ سبب و "اشراط" السلوكية التي تعتقد في كون أي سلوك ما هو الا استجابة لمنبه أو مهيج،و تنم عن نظرة لاتاريخية و ضيق أفق و سطحية فكر،و وفاءا منا دائما للموضوعية فاننا لن نسأل صالح المنجد-صاحب فتوى قتل الميكي ماوس كما روجت بعض وسائل الاعلام- أو المغراوي عن ما حملنا على اطلاق هذا الوابل من "الشتائم" و رشق أصحاب الفكر العلماني بها وتسفيههم،بل سنحاول قراءة الواقع بعيون مفكر سوسيولوجي فرنسي يدعى برتراند بادي،الذي سيحيلنا على سبب انتقال الغرب من امبراطورية "الأمير" الى الدولة العلمانية دولة المؤسسات و الديموقراطية و"الحداثة السياسية"،ففعلا أقوى تعبير لاشكالية سبب حدوث "الطفرة السياسية" في الغرب و عدمها في بلاد الاسلام نجده في كتاب برتراند بادي "الدولتان السلطة و المجتمع في الغرب و في بلاد الاسلام"،و على الرغم من أن الباحث السوسيولوجي يزعم أنه لا ينطلق من وهم عالمية النموذج الغربي،الا أن ما يقال شئ و ما يقرأ بين السطور شئ آخر،اذ الظاهر أن الباحث مؤطر بنظرية" نهاية التاريخ" لصاحبها فوكوياما،و الذي بالمناسبة نعزيه على بداية نهاية "نهاية التاريخ"،و ادعى كذلك أنه لا يروم من بحثه الا معرفة مميزات النموذج الغربي من خلال مرآة الدولة الاسلامية على مر العصور،و هذا ما لا نتفق معه فيه،فهذه كغيرها من القراءات الغربية وليدة النظرة العدائية و العلاقة بين "الأنا" و "الغير" بمفهومها الفلسفي العميق المختزل في قول سارتير : "معرفة الغير جحيم" بل و تطبيق حرفي لقول سارتر نفسه" أنا في حاجة الى توسط الاخر لأكون ما أنا عليه".
بعد هذه المحاكمة "البريئة" لنوايا برتراند،لا بد أن نعترف له أنه كان صادقا و الجواب الذي قدمه للاشكالية المطروحة كان فيه من المصداقية و العمق،ذلك أنه وضع أصبعه على مكمن الجرح و بين بما هو ملموس الفوارق الجذرية بين الحضارتين الاسلامية و الغربية،فبرتراند بادي استشف من خلال قراءة هادئة و معمقة للتاريخ أن انتقال الغرب من امبراطورية الأمير الى دولة المؤسسات و الحداثة السياسية و الدولة العلمانية المادية(1) التي تستمد شرعيتها من كونها تمثل ارادة الشعب بوساطة انتخابات حرة كان نتيجة تحول تاريخي أفضى الى ظهور طرف ثالث أثقلته الممارسات التعسفية لكل من الأمير و الكنيسة،طرف نافسهما في "الكعكة السياسية" و نازعهما فيها ألا و هو "الشعب"،فكانت النتيجة اصدار نظرية العقد أو التعاقد الاجتماعي -قبل روسو- التي تنص على أن سلطة الكنيسة من الله فهي أعلى،بينما سلطة الأمير من الشعب فهي أدنى،فقاد هذا التوزيع للسلطة الى القول بأن الأمير اذا لم يعمل لخدمة شعبه و للمصلحة العليا فسيؤول أمره الى العزل،و هكذا جاءت دولة العلمانية من أجل الحد من تدخل الكنيسة في السياسة و حصر مهمتها فيما هو روحي عقدي(و حتى ما هو عقدي انتقد فيما سمي ب"عصر الأنوار" على نطاق واسع) ،و تم بناء شرعية السلطة على التعاقد بين الأمير و الشعب،اذن فالتربة كانت مواتية لاستنبات دولة علمانية،فالكنيسة كمؤسسة دينية مستقلة كانت تشارك في اتخاذ القرار السياسي،لذا "زحزحت" هذه الأخيرة عن السياسة و أدخلت تعديلات على المؤسسة المدنية ومن هنا عرفت العلمانية بفصل الدين(الكنيسة) عن السياسة.
و جدير بالذكر أن الغربيين لم يحدثوا قطيعة بين الدين و السياسة لأسباب تمخضت بمحض الصدفة أو أن تلك القطيعة كانت وليدة ساعتها،بل عوامل عدة متراكمة ساهمت في ثورة الشعب على الكنيسة،و جعلت الانسان الغربي يفقد الثقة بالدين النصراني،و نحن هنا لسنا بصدد الكشف عن عواري النصارى لكن لابأس أن ندعم قولنا ببعض الانحرافات الموجودة في دينهم فنذكر على سبيل المثال :عقيدة التثليث،عقيدة الخلاص و الفداء،تحريف الأناجيل و تناقضها،تناقض الأقوال في عيسى فهو الاله تارة و ابن الاله تارة أخرى،صكوك الغفران،الرهبانية،سيادة الفكر الأسطوري الميثولوجي : العشاء المقدس أنموذجا،عبادة الصور و التماثيل..و هذا غيض من فيض.
هذا ما حصل في بلاد الغرب،أما في بلاد الاسلام فيرى برتراند بادي أن عدم حدوث تحول تاريخي و قطيعة بين الأمير و الدولة راجع بالأساس الى خلو هذه البلاد من مؤسسة دينية مستقلة تضاهي الكنيسة و بالتالي خلو هذا التاريخ الاسلامي من صراع بين المؤسستين الدينية و المدنية،ان الدولة الغربية اذن نشأت نتيجة ظروف خاصة بها تختلف على طول الخط عن معطيات التجربة الحضارية الاسلامية،اذ أن غياب الكنيسة في الاسلام معناه في هذا الاطار غياب مؤسسة ملموسة مجسمة تمتد بأجهزتها الى الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية،ان غياب مثل هذه المؤسسة تجعل من الصعب ان لم يكن من المستحيل اقناع الناس بأن العلمانية هي "الحل"،لأن الجواب عن مثل هذا السؤال في وضع لا كنيسة فيه ممتنع اذ لا يمكن القول أن المطلوب هو تحرير الناس من سلطة الكنيسة لأن الدين الاسلامي نفسه ثورة على الكنيسة كما أن الدين الذي يستغني عن الكنيسة هو ما كانت تهدف اليه الحركات النهضوية الاصلاحية في أوربا.
ختاما فان جواب الاشكالية التي طرحناها في عنوان المقال يجيبنا عنها الجابري بقوله : " ان اللاتاريخية و الافتقاد الى الموضوعية ظاهرتان متداخلتان تلازمان كل فكر يئن تحت ثقل أحد أطراف المعادلة التي يحاول تركيبها،الفكر الذي لا يستطيع الاستقلال بنفسه،فيلجأ الى تعويض هذا النقص بجعل موضوعاته تنوب عنه في الحكم على بعضها.هنا تذوب الذات في الموضوع و ينوب الموضوع عن الذات التي يتوارى ما تبقى منها،بعيدا الى الوراء بحثا عن سلف تتكئ عليه لترد الاعتبار الى نفسها من خلاله و بواسطته". ان الارتباط يكمن في غياب الموضوعية أو "الفضيلة العلمية" بالتعبير الرشدي و حضور اللاتاريخية في الفكرين،ان الترابط ليس في الايديولوجيا اذ شتان بين السلفية و العلمانية بل في "الفعل العقلي" و طريقة التفكير التي تنتج لنا هذه الايديولوجيا،فما أحوجنا الي منهج علمي صارم من أجل النقد البناء لمنظومتنا الفكرية،منهج يمكننا من الغوص في أعماق "الفعل العقلي"،و هذا ما لا نتفيأ بظله الا في الابستمولوجيا. .
-------------------------------------------------------------------------
(1) ربطنا بين العلمانية و المادية لم يكن اعتباطيا بل من التعاريف التي قدمت للعلمانية : "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض"-جون هوليوك-
Bookmarks