وجهان لاستغلال قضايا المرأة العربية في التطبيع والغزو الثقافي


* د. إبراهيم علوش

1) ليلك: اسرلة وإثارة في قالب تجاري

نبهني صديق إلى مجلة نسائية شهرية تباع في عمان اسمها ليلك، تصدر بالعربية في مدينة الناصرة المحتلة، ويبدو أن لها طبعة موجهة بالتحديد نحو السوق الأردنية لأن سعرها مثبتٌ داخلها بالدينار الأردني فقط، وليس بالليرة مثلاً أو الجنيه أو الدرهم أو حتى الشيكل.

على مدى الغلاف الأمامي نجد صورة علوية لهيفاء وهبي، تحت "ليلك" بشكل قلب، ولكن الغلاف الخلفي عبارة عن دعاية لمراكز جراحة تجميلية "إسرائيلية" تحت عنوان: "هدوء" بالبنط العريض، ثم اسم عبري، ثم صور ليهود، ثم مجموعة أرقام هاتفية للاستفسار. وفي فن الدعاية والتسويق، يصعب هنا فصل الصورة الأمامية لهيفاء وهبي عن الدعاية الخلفية لمراكز التجميل "الإسرائيلية".

فالدعايات التجارية عامةً تقوم على الربط بين المنتج المراد بيعه من جهة، وصورة مثالية ما للرفاهية أو القوة أو الثروة أو الجمال من جهةٍ أخرى يفترض أن استهلاك المنتج الذي يروج له يؤدي لبلوغها، فيصبح المنتج معها حلماً شخصياً للمستهلك. ومن ذلك مثلاً الربط ما بين مستحضر تجميلي وممثلة معروفة، أو بين تدخين سجائر مالبورو والخيول الجامحة (رمز الرجولة)، والأخيرة دعاية منع عرضها في أمريكا بالمناسبة.

وقد بذلت جمعيات حماية المستهلك وغيرها في الغرب جهوداً كبيرة لتوعية الشعوب في شمال المعمورة كيف تربط الإعلانات في اللاوعي ما بين منتج تجاري ما وصور "مثالية" معالجة تقنياً في استديوهات التصوير لابتزاز أموالهم، وكيف تكرس بعض هذه الإعلانات نماذج تجارية للإنسان، أي تحول الصفات الإنسانية نفسها إلى سلع، والسعادة إلى استهلاك، وهو ما يخلق بالمحصلة هوة لا يمكن ردمها إلا بالمال ما بين النموذج التجاري والإنسان نفسه، خاصة تلك "الهوة" المفتعلة ما بين المرأة الواقعية والنموذج التجاري "المثالي" لها.



جليٌ أن الربط ما بين المنتج (الوسيلة) والصورة المثالية (الهدف) ليس من ابتكار مجلة ليلك سوى أنه جاء هذه المرة ما بين صورة هيفاء وهبي ومراكز التجميل "الإسرائيلية" وأنه جاء موجهاً للمرأة العربية. وهذا، فضلاً عن إشكالياته التي تعانيها عامةً المجتمعات الرأسمالية الغربية أو المقلدة، يوظف هنا في تسويق منتجات "إسرائيلية" تجميلية للنساء العربيات من خلال استغلال صورة هيفاء وهبي (وليس بالضرورة بمعرفتها)، وبالتالي لتسويق التطبيع عامةً ولتحويل الإنسان إلى سلعة في آنٍ معاً، وهو الجوهر الفعلي لمشروع "الشرق أوسطية" الأمريكي-الصهيوني!



وبالتأكيد، فإنك تجد في صفحات المجلة الداخلية، بين صور عارضات الأزياء، إعلاناً لألبان "إسرائيلية" ثم أخر لمستحضرات تنظيف "إسرائيلية". وإذا كان الإعلان لشركات عربية في فلسطين المحتلة عام 1948 لا غبار عليه مبدئياً، فإن بعض تلك الإعلانات جاء مع الملاحظة التالية: المسوّق العربي لسلعة أو منتج كذا! وهذا ما يثير بعض الاستهجان في مجلة موجهة نحو السوق الأردنية.

وغير التطبيع، فإنك تجد عندما تعود لتقلب صفحات المجلة كلماتٍ عبرية منثورة فوق تغطية صحفية تستهدف الإثارة فحسب، دون معالجة معمقة أو نقدية، مرةً في تقرير عن بطلات أفلام جنس عربيات، ومرةً في قصص لعلاقات عاطفية "ناجحة بالرغم من التقاليد" كعلاقة مع سجين جنائي وأخرى مع رجل ألماني، الخ.. وهو ما كان يمكن تناوله بطريقة أكثر جديةً والتزاماً بمصلحة الأمة والمرأة، لولا الابتذال التجاري، المترافق بالضرورة مع الاسرلة التي لا تستقيم أصلاً مع المعالجات الجادة. وهكذا، تسال ليلك أحد "أبطال" الأفلام الإباحية المذكورة، كيف امتلك وشريكته العربية "القوة" لتمثيل هذه الأفلام [التي تنتجها شركات "إسرائيلية"]، فيجيب أنه عاش طويلاً في تل أبيب فتطبع بعادات أهلها! فيا لها من "قوة"! ولكن إلا تستتبع هذه الظاهرة معالجة موسعة من هيئة تحرير ليلك للجهود الصهيونية لتفكيك المجتمع العربي والمساهمة بتحويل المرأة العربية إلى سلعة استهلاكية؟!



وحتى لا يساء الفهم، لا يجوز أن نتهرب من معالجة المسائل الحساسة، خاصة عندما تثير المشاكل الاجتماعية أو الشخصية أو السياسية في بلادنا. ولكن من البديهي أن ذلك يجب أن يتم بطريقة موضوعية ورصينة، ملتزمة بمصلحة وكرامة المرأة، ويؤدي بحثها فيها إلى تحقيق فوائد للأمة وأفرادها، لا بطريقة تجعل تلك المشاكل نفسها سلعة صحفية تربطها بسياق تطبيعي.



ولكن تبقى المسألة الأهم هنا والآن: لماذا تسوق ليلك في الأردن؟

2) واجهات التغلغل الصهيوني والغزو الثقافي

[ملاحظة: كتبت هذه السطور قبل تعيين السيدة أسمى خضر ناطقاً رسمياً باسم الحكومة الأردنية، وكانت قد عرفت قبلها أردنياً كأحد أبرز الذين يتعاطون التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، ويمكن أن تكون جودث كالب روبين قد غيرت عنوانها في تل أبيب منذ ذلك الحين أيضاً، أو أن تكون نشرة WIN قد توقفت عن الصدور، ولكن الفكرة تبقى أن أحد جوانب الجهد التطبيعي تتركز على خلق وعي نسوي منفصل عن الأمة والوطن مما يخلق أرضية وهمية مشتركة بين المرأة اليهودية والعربية ضد "الرجل"، حيث يجب أن تكون بينهن بحورٌ من الدماء كما اوضحت لنا الاستشهاديات العربيات]

قبل بضعة أشهر ، اكتشفت على الإنترنت مجلة تعنى بقضايا المرأة وتعالجها بأسلوب حيوي ولكنه رصين . اسم المجلة الإلكترونية المقصودة هو WIN، للدلالة على الأحرف الأولى للمجموعة التي تصدرها وهو بالإنجليزية : Women’s International Network ، أو "شبكة النساء العالمية". وتستخدم النشرة أساليب متنوعة من المقالات إلى القصص القصيرة لطرح القضايا النسائية من قبل النساء أنفسهن بطريقة مشوقة وجادة . وكما يوحي اسم النشرة تتطرق مواضيعها لا إلى قضايا المرأة في العالم الغربي فحسب، بل تشارك فيها نسوة من كل أنحاء المعمورة، ومنها الوطن العربي، ليكتبن عن قضاياهن من منظورهن في البلاد التي يعشن أو يأتين منها.

باختصار، بدا لي كما بدا لغيري ممن كان يقرأ هذه النشرة على الشبكات الإلكترونية التي تعنى بالمواضيع العربية أو الإسلامية، حيث كانت نشرة WIN تعرض بانتظام، أن هذه نشرة تحظى بقدر من المصداقية وتستحق القراءة، سواء اختلف المرء مع بعض ما ورد في مضامين مقالاتها أم لا.


ثم جاءت المفاجأة قبل أيام، ويا للمفاجأة، إن نشرة WIN تصدر من تل أبيب !!

فهذا إذن منتوج ثقافي " صنع في إسرائيل". والاهم، أن مصدري النشرة الإلكترونية الآنفة الذكر أخفوا الحقيقة عن القراء منذ بدءوا بإصدارها، حتى قام أحدهم بإجراء بحث إلكتروني وقام بنشر نتائج بحثه على الإنترنت، فلم يترك للشك نافذة يهرب منها. فإذا نظرنا في أمر الجهود التي بذلت لتعميم النشرة في اللوائح الإلكترونية العربية والإسلامية، بقي السؤال الأهم : لماذا يعنى " إسرائيليون " بنشر الوعي النسوي بين العرب، ولماذا يعنون بقضايا المرأة العربية، ولماذا يجهدون لإخفاء هويتهم وهم يقومون بهذه الجهود؟ هل هذه ثلاثة أسئلة؟ كلا بل هي سؤال واحد: هل هذه النشرة جزء من محاولات التطبيع واختراق العقل الجمعي العربي؟

ربما! ولكن لمن يهمه الأمر ، فإن نتائج التحقيق الإلكتروني أظهرت أن عنوان رئيسة التحرير هو : جودث كالب روبين ،16 حاييم فاليشا ، تل أبيب ، 62488، "إسرائيل"، ولدينا رقم الهاتف وعنوان البريد الإلكتروني، إذا وجدت منظمات غير حكومية ترغب بالحصول على التمويل الأجنبي لنشر الوعي النسوي بين العرب، عن طريق التعاون مع "شبكة النساء العالمية" التي تصدر نشرة WIN مثلاً…

ولكي لا يسيء القارئ فهمي، أود التأكيد أن المشكلة لا تكمن في طرح قضية المرأة، أو البيئة، أو حقوق الإنسان، أو الديمقراطية، أو عشرات القضايا الجزئية الأخرى التي تتبناها المنظمات غير الحكومية التي تتمتع بالتمويل الأجنبي. فالكثير من هذه القضايا قضايا محقة إذا أخذت بشكل معزول عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي تطرح فيه. ولكن عندما يقوم الغرب أو بعض الصهاينة بتبني قضايا تمس المجتمع العربي، وتاريخهم حافل بالعداء لهذا المجتمع وقضاياه، يجب أن نتساءل: ماذا يريد هؤلاء منا؟ هل وقعوا في حب شعبنا العربي على حين غرة؟ وهل يبذلون الجهود والمال بدوافع إنسانية محضة، للتكفير عن ذنوبهم السياسية بحق شعبنا مثلاً؟

أعتقد أن الذي يتابع نشاطات التمويل الأجنبي للأبحاث والمنظمات غير الحكومية المحلية ، فيربط الأجزاء المختلفة لهذه النشاطات في هيكل بنيوي واحد سيكتشف أن القضايا التي تطرحها هذه المنظمات تتسم بما يلي:

1. أنها تطرح في الكثير من الأحيان قضايا محقة في جزئياتها.

2. أنها تفصل هذه القضايا عن النضال العام الوطني والقومي لتحقيق التغيير السياسي الجذري في المجتمع.

3. أنها تطرح قضايا مهمة بالتأكيد ، ولكنها ليست القضايا الأهم في مجتمع يعاني الاحتلال والتجزئة أولاً.

4. أن طريقة طرح هذه القضايا تمثل امتدادا ميكانيكياً لنمط من الوعي نشأ في ظروف تختلف عن ظروف بلادنا .

5. إن الأبحاث والمنظمات التي تتبنى هذه القضايا تهيئ في علاقاتها المالية والتنظيمية لتجاوز و اختراق سيادة الدولة الوطنية على أراضيها، الأمر الذي يتماشى في المحصلة مع برنامج الشركات متعدية الحدود، وبرنامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في تهديم سيادة الدولة الوطنية .





ولكي لا يتهمنا أحد أننا نلقي الإتهامات جزافاً، أسوق كمثلٍ على النقطة الأخيرة، البيان الذي صدر من القاهرة يوم 2/7/2000 مذيلاً بتوقيع جماعة تسمي نفسها "البرنامج العربي للناشطين في حقوق الإنسان". وقد نُشر هذا البيان على الإنترنت رداً على ما قال كتاب البيان أنه هجوم غير مبرر من نقابة المحامين الأردنيين على المحامية أسمى خضر، في رسالة وجهتها النقابة الى رئيس الوزراء.

وتقول رسالة نقابة المحامين الأردنيين الى رئيس الوزراء إن نشاطات المؤسسات والمراكز المسجلة في وزارة الصناعة والتجارة تمتهن الأردن وسيادته، وتتسم بطبيعة أمنية ومخابراتيه و أخلاقية لا علاقة لها بممارسة الحريات العامة، بل بالهجمة على الأمة، وتحمل مسؤولية إجرامية ، وتعتبر من قبيل الخيانة العظمى. ويرد بيان الجماعة الآنفة الذكر على رسالة نقابة المحامين إلى رئيس الوزراء إن هذه الرسالة تهدف إلى تأليب الرأي العام ضد الناشطين في مجال حقوق الإنسان، و تمكن الحكومة من سن قانون جديد للجمعيات يضع مؤسسات المجتمع المدني تحت هيمنة الدولة، كما حدث في مصر.

والنقطة الأهم هنا هي أن بيان الجماعة يدعو الحكومة الأردنية إلى عدم التسرع في إصدار قانون جديد للجمعيات، بل إلى الاحتكام في هذا الصدد إلى الاتفاقات الدولية التي وقعها الأردن. لاحظوا إذن، المرجع في بت هذه المسألة لا يعود السيادة الوطنية، بل الاتفاقات الدولية والعلاقة بين الجمعيات المحلية والدول التي تعمل فيها تصبح مرجعيتها القانونية خارجية لا داخلية .

مهما يكن من أمر لا يجوز أن يقع المناضل أو المثقف الوطني، في مواجهة الاختراق الذي تقوم به جماعات التمويل الأجنبي، في فخ محاربة النقاط الأقوى في جدارهم، وهي القضايا التفصيلية التي يتبنونها. فلا يجوز أن نقول مثلاً: نحن ضد البيئة أو حقوق الإنسان أو نشر الديمقراطية، بل يجب أن نكشف زيف هذه الدعوات وارتباطها بالمخطط الشامل ضد الأمة العربية والعالم الثالث، كما يفعل الباحث عبد الله حمودة منذ سنوات، وكما يفعل د. يعقوب زيادين وموفق محادين وغيرهم منذ مدة.



ومن الأمثلة على كشف زيف دعاوى الديمقراطية الغربية، من خلال التركيز على إنتقائيتها، ما أورده عبد الكريم أبا زيد في مقالة له في " العرب اليوم" في 19/7/2000 عن المقابلة التي أجرتها قناة " الجزيرة " مع خبير سياسي أمريكي حول مسالة إشاعة الديمقراطية في العالم كشعار للسياسة الأمريكية، فأجاب الخبير بكل بساطة: "أقولها بصراحة، نحن نشجع الديمقراطية في البلدان التي لا نرضى عن سياستها بقصد زعزعة الاستقرار"!

وهذا تصريح هام جداً يجب أن نستخدمه في كل فرصة، خاصة ان الخبير الأمريكي قال أيضاً: أما حيث يؤدي نشر الديمقراطية الى تهديد مصالحنا، فأن هدف سياستنا يصبح الاستقرار وليس نشر الديمقراطية، " زد على ذلك إن نشر الديمقراطية قد يؤدي إلى موقف متشدد إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، وبشكل عام فإن التفاوض مع حاكم منفرد أسهل علينا من التفاوض مع برلمانات منتخبة".



من جهة أخرى، يجب أن لا يتردد المثقف والمناضل الوطني في كشف الأهداف التطبيعية وأهداف إثارة النعرات الطائفية والأقلوية التي يهدف الى تحقيقها نشاط المنظمات غير الحكومية بالتمويل الأجنبي.



وقد فعل ذلك مثلاً الدكتور عصام الطاهر في مقالة له في " المجد" في 17/7/2000 حول إعتقال الدكتور سعد الدين ابراهيم، رئيس مركز ابن خلدون في مصر، الذي كان يجّسد نموذج ما ستصير عليه مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية العاملة في خدمة المخططات الصهيونية والاستعمارية : تمويل أجنبي سخي، علاقات قوية مع السفارة الصهيونية في القاهرة، وعمل دؤوب لبلورة نزعات التفتيت الطائفية.

ويحتج البعض هنا أن تأييد إجراءات الدولة القطرية العربية ضد هذه المنظمات والمراكز يصبح أداة بيد الدولة القطرية نفسها لقمع حرية الفكر والعمل السياسي كله، وهذا المحذور قائم بالفعل، سوى أنه يطرح المشكلة من وجهة النظر الجزئية نفسها التي تتبناها المنظمات غير الحكومية. والأدق هو أن مصلحة كل الشرفاء والوطنيين تتقاطع موضوعياً في هذه المعركة مع مصلحة الدولة القطرية التي تريد أن تحافظ على وجودها في وجه مشروع العولمة و" الشرق أوسطية "،

والمطلوب في هذه الحالة أن نضغط على هذه الدولة القطرية لكي تقوم بواجبها إزاء هذه الهجمة التي تريد دراسة كل ما يتعلق بنا، وزرع نماذج محلية لتعميم الاختراق السياسي_ الثقافي للمجتمع العربي عامودياً، والتغلغل في البنية الاجتماعية والعقل الجماعي العربي لخلق رأي عام موالٍ للعولمة والصهينة ومعادٍ للخط الوطني والثقافة العربية_ الإسلامية من خلال ترسيخ وعي الجزئيات على حساب الكليات.


*كاتب واستاذ بالجامعة الاردنية