بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلاة وسلاما على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه, ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين, ثم أما بعد:
حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن مسألة جالت في أذهان بعضنا, وقد تجول في أذهان آخرين, نقطة يطرحها غير المسلمين عند طرح القضية الدينية عليهم, وهي العذاب! فيقولون:
إذا كان الله تعالى رحيما كريما, فلم يعذب عباده في الآخرة, لم لا يرحمهم؟ وحتى إذا كانوا يستحقون العذاب, فهل ما قدموا من الأعمال, يستحق هذا العذاب الهائل, الذي سينالونه في الآخرة؟ إن الجزاء أكبر من الجرم, وهذا لا يتفق مع عدل الله عزوجل, وهو العدل!
وإذا غضضنا الطرف عن عذاب الآخرة, لماذا يهلك الله تعالى عباده في الدنيا بالزلازل والبراكين وما شابه من الكوارث الطبيعية؟! أليس الله رحيما بعباده, فلم هذا الإهلاك, والذي سيقع لا محالة على كثير من البرءاء, الذين لم يقترفوا ما يستحقون به هذا الإهلاك, فإذا كان آخرون قد أذنبوا فليعاقبوا بمفردهم!
وهذه المسألة من رؤوس المسائل التي يعترض بها الملاحدة على القضية الدينية برمتها, بل وبسببها ألحد كثير منهم, فالمسألة لم تكن شكا في منطقية وجود الله, وإنما تساؤل عن فعل الله وإهماله للإنسان مخلوقه, فلما استعصت المسألة على عقولهم, رفضوا وجود إله وقالوا أن الكون يسير نفسه بنفسه!
ونبدأ بإذن الله وعونه في الرد على السؤال الأول المتعلق بعذاب الآخرة, النابع عن نظرة غير صحيحة, إما مجزوءة أو مقلوبة, موضحين الخلل في هذا المنظور, وكيف أنه لا بد أن تكون بهذا الشكل, وأن الإنسان نفسه لن يقبل به إلا بهذا الحال! ونؤجل الإجابة على السؤال الآخر المتعلق بالإهلاك في الدنيا إلى موضوع قادم.
ولكن قبل أن نجيب على هذا السؤال نقدم للقارئ مبحثا لغويا صغيرا دقيقا حول كلمة العذاب, فإذا أراد تجاوزه وبدأ قراءة الموضوع نفسه فلن يؤثر معه إلا في معرفته, من أين أتينا بتعريفنا للعذاب, وإن كانت قراءته ستساعده كثيرا في ملاحظة العلائق والعوامل المشتركة بين الأشياء.
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو العذاب؟
كثيرة هي الكلمات التي نستعملها بدون أن نعرف لها مدلولا معينا,–إن لم يكن هذا هو الأعم الغالب-, ومن هذه الكلمات كلمة: العذاب.
فإذا سألت إنسانا: ما هو العذاب؟ لقال لك: الألم الشديد.
ولكن هل العذاب هو الألم؟
حاول بعض الأخوة اللغويين إظهار تمايز بينهما فقالوا:
العذاب أخص من الألم, فالعذاب هو الألم المستمر, أما الألم فقد يكون مستمرا أو غير مستمر, فلو صفعتك فهذا ألم, فإذا استمررت في صفعك تحول إلى عذاب, فكل عذاب ألم, وليس كل ألم عذاب.
وهذه محاولة جيدة, إلا أنها لم تعرفنا ما هو الأصل الذي اشتقت منه الكلمة, حتى نأخذ تصورا عنها. والحق أن هذه الكلمة من الكلمات المشكلة, التي استصعت على ابن فارس, حتى أنه لم يجد لها أصلا يرده إليه في معجمه مقاييس اللغة, -والقائم على الاشتقاق الكبير-, فقال:
"العين والذال والباء أصلٌ صحيح، لكنّ كلماتِه لا تكاد تنقاس، ولا يمكن جمعُها إلى شيء واحد. فهو كالذي ذكرناه آنفاً في باب العين والذال والرّاء. وهذا يدلُّ على أنّ اللُّغة كلَّها ليست قياساً، لكنْ جُلُّها ومعظمُها." اهـ
ونحن نخالف ابن فارس رحمه الله, ونقول أنه لم يعمل فكره بما فيه الكفاية ليستخرج الأصل الذي ترد إليه, ولقد نظرت في الأمثلة التي ذكرها ابن فارس تحت هذه المفردة, فاستخرجت منها, وبالنظر في آيتي الفرقان وفاطر, الأصل الذي تنطوي تحته, فلما نظرت في معجم لسان العرب, والذي يذكر أمثلة واستعمالات أكثر للمفردة, تأكد عندي الأصل الذي استخرجته له.
والآيتان اللتان كان لهما الفضل بأمر الله في استخراج المعنى هما قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً [الفرقان : 53]
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر : 12]
فقلنا أن العذب أصل صحيح يدل على النزع والاستظهار والفصل,
وننظر في لسان العرب فنجد ابن منظور يقول:
"العَذْبُ من الشَّرابِ والطَّعَامِ: كُلُّ مُسْتَسَاغٍ. والعَذْبُ الماءُ الطَّيِّبُ. ماءةٌ عَذْبَةٌ ورَكِـيَّة عَذْبَةٌ. وفي القرآن: هذا عَذْبٌ فُراتٌ. والجمع: عِذَابٌ وعُذُوبٌ؛ قال أَبو حَيَّةَ النُّميري: فَبَيَّتْنَ ماءً صافِـياً ذا شَريعةٍ، له غَلَلٌ، بَيْنَ الإِجامِ، عُذُوبُ أَراد بغَلَلٍ الجنْسَ، ولذلك جَمَع الصِّفَةَ. والعَذْبُ الماء الطَّيِّبُ. وعَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ طَيِّبٌ. وأَعْذَبَه اللّه: جَعَلَه عَذْباً؛ عن كُراع. وأَعْذَبَ القومُ: عَذُبَ ماؤُهم. واستَعْذَبُوا استَقَوا وشَرِبوا ماءً عَذْباً. واستعْذَبَ لأَهلِه: طَلب له ماءً عَذْباً. واستَعذَب القومُ ماءَهم إِذا استَقَوهُ عَذْباً. (.....) والعَذِبَة والعَذْبَةُ: القَذاةُ، وقيل: هي القَذاةُ تَعْلُو الماءَ.
وقال ابن الأَعرابي: العَذَبَةُ، بالفتح: الكُدْرةُ من الطُّحْلُب والعَرْمَضِ ونحوهما؛ وقيل: العَذَبة، والعَذِبة، والعَذْبةُ: الطُّحْلُب نفسُه، والدِّمْنُ يَعْلُو الماءَ. وماءٌ عَذِبٌ وذو عَذَبٍ: كثير القَذى والطُّحْلُب؛ قال ابن سيده: أَراه على النسب، لأَني لم أَجد له فعلاً. وأَعْذَبَ الـحَوْضَ: نَزَع ما فيه من القَذَى والطُّحْلُبِ، وكَشَفَه عنه؛ والأَمرُ منه: أَعْذِبْ حوضَك. ويقال: اضْرِبْ عَذَبَة الـحَوْضِ حتى يَظْهَر الماء أَي اضْرِبْ عَرْمَضَه. (......) قال الأَزهري: القول في العَذُوب والعاذِب انه الذي لا يأْكل ولا يشرب، أَصْوَبُ من القول في العَذُوب انه الذي يمتنع عن الأَكل لعَطَشِه.
وأَعْذَبَ عن الشيء: امتنع. وأَعْذَبَ غيرَه: منعه؛ فيكون لازماً وواقعاً، مثل أَمْلَقَ إِذا افتقر، وأَمْلَقَ غيرَه. (....) وعَذَبَه عنه عَذْباً، وأَعْذَبَه إِعْذاباً، وعَذَّبَه تَعْذيباً: مَنَعه وفَطَمه عن الأَمر. وكل من منعته شيئاً، فقد أَعْذَبْتَه وعَذَّبْته. (.....) وعَذَبةُ اللسان: طَرَفُه الدقيق. وعَذَبَةُ السَّوْطِ: طَرَفُه، والجمع عَذَبٌ. والعَذَبةُ أَحَدُ عَذَبَتَي السَّوْط. وأَطْرافُ السُّيوفِ: عَذَبُها وعَذَباتُها. وعَذَّبْتُ السَّوْطَ، فهو مُعَذَّبٌ إِذا جَعَلتَ له عِلاقَـةً؛ قال: وعَذَبَة السَّوْطِ عِلاقَتُه" اهـ
Bookmarks