طلب أحد الإخوة عند طرح الموضوع السابق المتعلق بالعذاب أن أنقل الموضوع المتعلق بالهلاك وها أنا أنقله بناء على طلبه, وأعتقد أن الموضوع لا يحتوي أي مخالفات عقيدية! وهو بقلم الشيخ عمرو الشاعر
وإليكم الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلاة وسلاما على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله ومن اقتدى بهديه إلى يوم الدين, ثم أما بعد:
نستكمل اليوم بإذن الله وعونه الموضوع الذي بدأناه بالرد على الاعتراض حول منطقية العذاب الأخروي, والذي بينا فيه كيف أن العذاب أمر منطقي لن يتنازل عنه الإنسان نفسه!
وبعد أن فصلنا بموضوع لطيف, نواصل اليوم بالحديث عن العنصر الثاني وهو الإهلاك الدنيوي, ونبدأ باسم الله
يعترض الملاحدة على مسألة الإهلاك الدنيوي بقولهم:
كيف يهلك الله الرحيم الأمم, ألا تتدخل رحمته فترفع هذا العذاب والإهلاك عن هؤلاء البشر الضعاف؟
وإذا كان بعض هؤلاء قد فعل ما يستحق به الهلاك فعلا, فما ذنب الأبرياء الآخرين, وما ذنب الأطفال والشيوخ, الذين لم يرتكبوا جرما حتى يهلكوا مع الظالمين؟!
ولقد حاول بعض علماء العقيدة (الإيمانيات) الإجابة على هذه الأسئلة, فقدموا بعض الإجابات عن الحكمة من الإهلاك وعن تحقق العدل فيه, ولأن هذه القضية لم تكن مطروحة بشكل كبير, وكذلك لم تكن الإجابات بالتفصيل الكافي, لذا نبدأ بعون الله في تقديم تصورنا حول مسألة الإهلاك العقابي, والذي نرى فيه بإذن الله إجابة هذه الأسئلة.
وقبل أن نبدأ نوضح أننا لن نتحدث في هذا الموضوع عن الهلاك البسيط, الذي ينزل ببعض المنازل أو بعض الأراضي الزراعية, لأن هذا يُعد من مقويات الإنسان, التي يُفترض أن تزيده صلابة وتؤهله لأن يتجاوز ما هو أصعب, والأحمق هو من توقفه هذه الصغائر!
وبعد هذا التمهيد, نبدأ فنقول:
على من يقع الإهلاك؟
هل يهلك الله اعتباطا, فيقع الهلاك على أي جماعة, أم أن الله ينزله على جماعات بعينها في وقته؟!
إذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن هذه المسألة جد واضحة, فالله تعالى لا يهلك هكذا اعتباطا, وإنما ينزل الهلاك بمن يستحقه عندما لا يكون له حجة في فعله, فلا إهلاك قبل الإنذار والتعريف:
وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ [الشعراء : 208]
فتأتي النذر –رسلا وغير رسل- فتنذر فيعرض الناس, ولكن المهم أن الغفلة رُفعت, فلم يعد هؤلاء الأقوام في غفلة من نزول الهلاك, (وإنما في حالة استعماء, ومن أعمى نفسه يستحق الهلاك!):
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام : 131]
كما أن الهلاك لا ينزل بالمصلحين (ثمت فارق كبير بين الصالح والمصلح, فالصالح لنفسه, والمصلح متعد لغيره), لأن الإصلاح يغطي الظلم:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود : 117]
كما أن الهلاك لا ينزل إلا بمستحقيه, فالإنسان هو الذي يهلك نفسه, لا أن الله تعالى ينشأ الهلاك له:
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام : 6]
فكما يقال: من كلامك أدينك.
فكذلك: بذنوبك أهلكك!!
لذلك نجد أن الهلاك ينزل بالظالمين:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس : 13]
فكما نرى, فهؤلاء ظلمة مرفوعوا الحجة, بمجيء الرسل بالبينات, لذا فهم يستحقون الهلاك.
ونفس هذا المعنى –من زاوية أخرى- نجده في قوله تعالى:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص : 58-59]
فكما نرى, حجة مرفوعة, بطر وظلم مؤد إلى العذاب.
وكذلك ينزل بالمجرمين (وهم ظالمون حتما):
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان : 37]
وكذلك ينزل بالطغاة المفسدين الظالمين:
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [النجم : 50-52]
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر : 11-13]
كما أن الإهلاك لا ينزل هكذا في أي وقت, وإنما يأتي بعد أن يُمنح المجتمع أكثر من فرصة (كما يُمنح الفرد) وبعد أن يصل إلى درجة من الفساد, فهنا يحين الأجل وينزل الهلاك:
وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر : 4-5]
Bookmarks