صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 345
النتائج 61 إلى 63 من 63

الموضوع: كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري "لابن حجر") مفرغ

  1. #61

    افتراضي

    حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ "
    قوله: "باب فضل الغسل يوم الجمعة" قال الزين بن المنير: لم يذكر الحكم لما وقع فيه من الخلاف، واقتصر على الفضل لأن معناه الترغيب فيه وهو القدر الذي تتفق الأدلة على ثبوته. قوله: "وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء" اعترض أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين على هذا الشق الثاني من الترجمة فقال: ترجم هل على الصبي أو النساء جمعة؟ وأورد " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وليس فيه ذكر وجوب شهود ولا غيره، وأجاب ابن التين بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال: "على كل محتلم " فدل على أنها غير واجبة على الصبيان، قال: وقال الداودي فيه دليل على سقوطها عن النساء لأن الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام، وتعقب بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام، وليس الاحتلام مختصا بالرجال وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلا ويبلغ بالإنزال أو السن وحكمه حكم المحتلم. وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أن غسل الجمعة شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار، فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه فيطلب غسله، واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله : "أحدكم " لكن تقيده بالمحتلم في الحديث الآخر يخرجه، وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في " أحدكم " بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد، لكن تقيده بالليل يخرج الجمعة ا هـ. ولعل البخاري أشار بذكر النساء إلى ما سيأتي قريبا في بعض طرق حديث نافع، وإلى الحديث المصرح بأن لا جمعة على امرأة ولا صبي لكونه ليس على شرطه وإن كان الإسناد صحيحا وهو عند أبي داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات، لكن قال أبو داود: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه رآه ا هـ. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق طارق عن أبي موسى الأشعري، قال الزين بن المنير: ونقل عن مالك أن من يحضر الجمعة من غير الرجال أن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة، وإن حضرها لأمر اتفاقي فلا. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث نافع عن ابن عمر أخرجه من حديث مالك عنه بلفظ: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وقد رواه ابن وهب عن مالك أن نافعا حدثهم فذكره، أخرجه البيهقي، والفاء للتعقيب، وظاهره أن الغسل يعقب المجيء، وليس ذلك المراد وإنما التقدير إذا أراد أحدكم، وقد جاء مصرحا به في رواية الليث عن نافع عند مسلم ولفظه: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " ونظير ذلك قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} فإن المعنى إذا أردتم المناجاة بلا خلاف.ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريبا بلفظ: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " فهو صريح في تأخير الرواح عن الغسل، وعرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره واحتج به على أن الغسل لليوم لا للصلاة، لأن الحديث واحد ومخرجه واحد، وقد بين الليث في روايته المراد، وقواه حديث أبي هريرة، ورواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدا فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفسا رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا، فما يستفاد منه هنا ذكر سبب
    (2/357)

    الحديث، ففي رواية إسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ " كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل " ومنها ذكر محل القول، ففي رواية الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول: "أخرجه يعقوب الجصاص في فوائده من رواية اليسع بن قيس عن الحكم، وطريق الحكم عند النسائي وغيره من رواية شعبة عنه بدون هذا السياق بلفظ حديث الباب إلا قوله: "جاء " فعنده " راح " وكذا رواه النسائي من رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب ومنصور ومالك ثلاثتهم عن نافع، ومنها ما يدل على تكرار ذلك ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أبي مسلم الكجي بلفظ: "كان إذا خطب يوم الجمعة قال: "الحديث. ومنها زيادة في المتن، ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل " ورجاله ثقات، لكن قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضا، أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن مفضل بن فضالة عن عياش بن عباس الكثباني عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة واجبة على كل محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل " قال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير، ولا عنه إلا عياش تفرد به مفضل. قلت: رواته ثقات، فإن كان محفوظا فهو حديث آخر ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره من الصحابة، فسيأتي في ثاني أحاديث الباب من رواية ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما مع اختلاف المتون، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالك في أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر، ويشهد لهم حديث ابن عباس الآتي قريبا. وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزي، يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه وله صحبة " أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل " ومقتضى النظر أن يقال: إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتنظيف رعاية الحاضرين من التأذي بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، ولعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظيف والله أعلم. قال ابن دقيق العيد: ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم، يعني كما سيأتي في حديث الباب الثالث، وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة يعني كما سيأتي من حديث عائشة بعد أبواب، قال: وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة، وكذلك أقول لو قدمه بحيث لا يتحصل هذا المقصود لم يعتد به. والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقارنا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ. قلت: وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به. وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع، والرد يفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته،
    (2/358)

    ولم يورد عن أحد ممن ذكر التصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة الجمعة، وإنما أورد عنهم ما يدل على أنه لا يشترط اتصال الغسل بالذهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال أو بعده والفرق بينهما ظاهر كالشمس، والله أعلم. واستدل من مفهوم الحديث على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة، وقد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وبه قال الجمهور خلافا لأكثر الحنفية، وقوله فيه: "الجمعة " المراد به الصلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورا للجامع أو مقيما به، واستدل به على أن الأمر لا يحمل على الوجوب إلا بقرينه لقوله كان يأمرنا مع أن الجمهور حملوه على الندب كما سيأتي في الكلام على الحديث الثالث، وهذا بخلاف صيغة أفعل فإنها على الوجوب حتى تظهر قرينة على الندب. حديث مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة " الحديث أورده من رواية جويرية ابن أسماء عن مالك وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر، فحكى الإسماعيلي عن البغوي بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عن عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية ا هـ. وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي، أخرجه أحمد ابن حنبل عنه بذكر ابن عمر. وقال الدار قطني في الموطأ رواه جماعة من أصحاب مالك الثقات عنه خارج الموطأ موصولا عنهم فذكر هؤلاء الثلاثة ثم قال: وأبو عاصم النبيل وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم وعبد الوهاب بن عطاء، وذكر جماعة غيرهم في بعضهم مقال، ثم ساق أسانيدهم إليهم بذلك، وزاد ابن عبد البر فيمن وصله عن مالك القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه، ورواه عن الزهري موصولا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ، ولجويرية بن أسماء فيه إسناد آخر أعلى من روايته عن مالك أخرجه الطحاوي وغيره من رواية أبي غسان عنه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله: "بينما" أصله " بين " وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما " وهي رواية يونس، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. قوله: "إذ جاء رجل" في رواية المستملي والأصيلي وكريمة: "إذ دخل". قوله: "من المهاجرين الأولين" قيل في تعريفهم من صلى إلى القبلتين، وقيل من شهد بدرا، وقيل من شهد بيعة الرضوان. ولا شك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى من هاجر قبل التحويل، وقد سمي ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في الموطأ الرجل المذكور عثمان بن عفان، وكذا سماه معمر في روايته عن الزهري عند الشافعي وغيره، وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في ذلك، وقد سماه أيضا أبو هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم كما سيأتي بعد بابين. قوله: "فناداه" أي قال له يا فلان. قوله: "أية ساعة هذه" أية بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها، والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا، وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار، وكأنه يقول لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة. وفي رواية مسلم: "فعرض عنه عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء " والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما سيأتي قريبا،
    (2/359)

    وهذا من أحسن التعويضات وأرشق الكنايات، وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر. قوله: "إني شغلت" بضم أوله، وقد بين جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: "انقلبت من السوق فسمعت النداء " والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما سيأتي بعد أبواب. قوله: "فلم أزد على أن توضأت" لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة. قوله: "والوضوء أيضا؟" فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثان مضاف إلى الأول، وقوله: "والوضوء " في روايتنا بالنصب، وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم، أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل؟ والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء؟ وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه، وأغرب السهيلي فقال: اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار، يعني والوضوء لا ينكر، وجوابه ما تقدم. والظاهر أن الواو عاطفة. وقال القرطبي: هي عوض عن همزة استفهام كقراءة ابن كثير " قال فرعون وآمنتم به " وقوله: "أيضا: "أي ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه؟ ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره، والله أعلم. قوله: "كان يأمر بالغسل" كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور، إلا أن في رواية جويرية عن نافع بلفظ: "كنا نؤمر " وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة " أن عمر قال له: لقد علم أنا أمرنا بالغسل. قلت: أنتم المهاجرون الأولون أم الناس جميعا؟ قال: لا أدري " رواته ثقات، إلا أنه معلول. وقد وقع في رواية أبي هريرة في هذه القصة " أن عمر قال: ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " كذا هو في الصحيحين وغيرهما، وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين. وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر، وتفقد الإمام رعيته، وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على من أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل، ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها، وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك. وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر، وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة، لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة. واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان. وفيه شهود الفضلاء السوق، ومعاناة المتجر فيها. وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين. وقال عياض: فيه حجة لأن السعي إنما يجب بسماع الأذان، وأن شهود الخطبة لا يجب، وهو مقتضى قول أكثر المالكية. وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة، بل تقدم ما يدل على أنه لم يفت عثمان من الخطبة شيء. وعلى تقدير أن يكون فاته منها بشيء فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة. واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه، وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكورة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك، وعلى أن الغسل ليس
    (2/360)

    شرطا لصحة الجمعة. وسيأتي البحث فيه في الحديث بعده. حديث مالك أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، لم تختلف رواة الموطأ على مالك في إسناده، ورجاله مدنيون كالأول، وفيه رواية تابعي عن تابعي صفوان عن عطاء، وقد تابع مالكا على روايته الدراوردي عن صفوان عند ابن حبان، وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق فرواه عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أخرجه أبو بكر المروذي في كتاب الجمعة له. قوله: "غسل يوم الجمعة" استدل به لمن قال الغسل لليوم للإضافة إليه، وقد تقدم ما فيه، واستنبط منه أيضا أن ليوم الجمعة غسلا مخصوصا حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية، وقد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلا آخر للجمعة " أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما. ووقع في رواية مسلم في حديث الباب الغسل يوم الجمعة وكذا هو في الباب الذي بعد هذا، وظاهره أن الغسل حيث وجد فيه كفى لكون اليوم جعل ظرفا للغسل، ويحتمل أن يكون اللام للعهد فتتفق الروايتان. قوله: "واجب على كل محتلم" أي بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب، واستدل به على دخول النساء في ذلك كما سيأتي بعد ثمانية أبواب، واستدل بقوله واجب على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وغيرهما، وهو قول أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع جم من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرا، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد " ما كنت أظن مسلما يدع غسل يوم الجمعة"، وحكاه ابن المنذر والخطابي عن مالك.
    وقال القاضي عياض وغيره ليس ذلك بمعروف في مذهبه، قال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره وأبى ذلك أصحابه ا هـ.
    والرواية عن مالك بذلك في التمهيد.
    وفيه أيضا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه فقال: حسن وليس بواجب.
    وحكاه بعض المتأخرين عن ابن خزيمة من أصحابنا، وهو غلط عليه فقد صرح في صحيحه بأنه على الاختيار، واحتج لكونه مندوبا بعدة أحاديث في عدة تراجم.
    وحكاه شارح الغنية لابن سريح قولا للشافعي واستغرب، وقد قال الشافعي في الرسالة بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد: احتمل قوله واجب معنيين، الظاهر منهما أنه واجب فلا نجزي الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة.
    ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار ا هـ.
    وعلى هذا الجواب عول أكثر المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة والطبري والطحاوي وابن حبان وابن عبد البر وهلم جرا، وزاد بعضهم فيه أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعا منهم على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة وهو استدلال قوي، وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه ولم يقولوا إنه شرط بل هو واجب مستقل تصح الصلاة بدونه كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول من قال: يحرم أكل الثوم على من قصد الصلاة في الجماعة، ويرد عليهم أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان، والجواب أنه كان معذورا لأنه إنما تركه ذاهلا عن الوقت، مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر
    (2/361)

    لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة كما هو الأفضل، وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة وغيره، فيجب على الثاني دون الأول نظرا إلى العلة، حكاه صاحب الهدى، وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رءوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحا لما فعل عمر ذلك، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت إذ لو فعل لفاتته الجمعة أو لكونه كان اغتسل كما تقدم. قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال: إكرامك على واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا على هذا الظاهر. وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربما تأولوه تأويلا مستكرها كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط.انتهى. فأما الحديث فعول على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله: "فالغسل أفضل " فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء. ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر وكلها ضعيفة. وعارضوا أيضا بأحاديث، منها الحديث الآتي في الباب الذي بعده فإن فيه: "وأن يستن، وأن يمس طيبا " قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. انتهى. وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر. ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له " أخرجه مسلم. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف. وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغسل. وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ: "من اغتسل " فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. ومنها حديث ابن عباس أنه " سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ فقال: لا، ولكنه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيقا، فلما آذى بعضهم بعضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا " قال ابن عباس " ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع المسجد". أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه كما سيأتي قريبا. وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف
    (2/362)

    لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب كما في الرمل والجمار، على تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به. ومنها حديث طاوس " قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رءوسكم إلا أن تكونوا جنبا " الحديث. قال ابن حبان بعد أن أخرجه: فيه أن غسل الجمعة يجزئ عنه غسل الجنابة، وأن غسل الجمعة ليس بفرض، إذ لو كان فرضا لم يجز عنه غيره. انتهى. وهذه الزيادة " إلا أن تكونوا جنبا " تفرد بها ابن إسحاق عن الزهري، وقد رواه شعيب عن الزهري بلفظ: "وأن تكونوا جنبا " وهذا هو المحفوظ عن الزهري كما سيأتي بعد بابين. ومنها حديث عائشة الآتي بعد أبواب بلفظ: "لو اغتسلتم " ففيه عرض وتنبيه لا حتم ووجوب، وأجيب بأنه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنه سابق عل الأمر به والإعلام بوجوبه. ونقل الزين بن المنير بعد قول الطحاوي لما ذكر حديث عائشة: فدل على أن الأمر بالغسل لم يكن للوجوب، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلا فلا يعد فرضا ولا مندوبا لقوله زالت العلة الخ، فيكون مذهبا ثالثا في المسألة. انتهى. ولا يلزم من زوال العلة سقوط الندب تعبدا، ولا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وأما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوله بتأويل مستكره فقد نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية وأنه قال: قوله واجب أي ساقط، وقوله على بمعنى عن، فيكون المعنى أنه غير لازم، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبا كأنه سقط عليه، وهو أعم من كونه فرضا أو ندبا. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعا لا وضعا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن " وجب " في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم، لا سيما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كل محتلم " وهو بمعنى اللزوم قطعا ويؤيده أن في بعض طرق حديث الباب: "واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبان من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم، وظاهره اللزوم، وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون لفظة " الوجوب " مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة ونسخ الوجوب، ورد بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذي لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم، فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل والحث عليه والترغيب فيه فكيف يدعي النسخ بعد ذلك؟. "فائدة": حكى ابن العربي وغيره أن بعض أصحابهم قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب لأن المقصود النظافة. وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد ونحوه، وقد عاب ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين، والجمع بين التعبد والمعنى أولى. انتهى.
    ـــــــ
    (1) كذا في الأصلين . ولعله " لاعلى نفي الوجوب المجرد"
    (2/363)

    وعكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم، فإنه تعبد دون نظر إلى المعنى، أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ولو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك، والله أعلم.
    (2/364)

    3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
    حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكرِ بْنِ الْمُنكَدِرِ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ قَالَ عَمْرٌو أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلاَلٍ وَعِدَّةٌ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
    قوله: "باب الطيب للجمعة" لم يذكر حكمه أيضا لوقوع الاحتمال فيه كما سبق. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر" كذا في رواية ابن عساكر، وهو ابن المديني، واقتصر الباقون على " حدثنا على". قوله: "قال أشهد على أبي سعيد" ظاهر في أنه سمعه منه، قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية. انتهى. وقد أدخل بعضهم بين عمرو بن سليم القائل " أشهد " وبين أبي سعيد رجلا كما سيأتي. قوله: "وأن يستن" أي يدلك أسنانه بالسواك. قوله: "وأن يمس" بفتح الميم في الأفصح. قوله: "إن وجد" متعلق بالطيب، أي إن وجد الطيب مسه، ويحتمل تعلقه بما قبله أيضا. وفي رواية مسلم: "ويمس من الطيب ما يقدر عليه " وفي رواية: "ولو من طيب المرأة " قال عياض: يحتمل قوله: "ما يقدر عليه " إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه، ويحتمل إرادة الكثرة، والأول أظهر. ويؤيده قوله: "ولو من طيب المرأة " لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك. ويؤخذ من اقتصاره على المس الأخذ بالتخفيف في ذلك. قال الزين ابن المنير: فيه تنبيه على الرفق، وعلى تيسير الأمر في التطيب بأن يكون بأقل ما يمكن حتى إنه يجزئ مسه من غير تناول قدر ينقصه تحريضا على امتثال الأمر فيه. قوله: "قال عمرو" أي ابن سليم راوي الخبر، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: "وأما الاستنان والطيب فالله أعلم" هذا يؤيد ما تقدم من أن العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، وكأن القدر المشترك تأكيد الطلب للثلاثة، وكأنه جزم بوجوب الغسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه. قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون قوله: "وأن يستن " معطوفا على الجملة المصرحة بوجوب الغسل فيكون واجبا أيضا، ويحتمل أن يكون مستأنفا فيكون التقدير وأن يستن ويتطيب استحبابا، ويؤيد الأول ما سيأتي في آخر الباب من رواية الليث عن خالد بن يزيد حيث قال فيها " إن الغسل واجب " ثم قال: "والسواك وأن يمس من الطيب " ويأتي في شرح " باب الدهن يوم الجمعة " حديث ابن عباس " وأصيبوا من الطيب " وفيه تردد ابن عباس في وجوب الطيب. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون قوله: "وأن يستن الخ " من كلام أبي سعيد خلطه الراوي بكلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وإنما قال ذلك لأنه ساقه بلفظ: "قال
    (2/364)

    أبو سعيد وأن يستن " وهذا لم أره في شيء من نسخ الجمع بين الصحيحين الذي تكلم ابن الجوزي عليه. ولا في واحد من الصحيحين ولا في شيء من المسانيد والمستخرجات، بل ليس في جميع طرق هذا الحديث: "قال أبو سعيد " فدعوى الإدراج قيه لا حقيقة لها، ويلتحق بالاستنان والتطيب التزين باللباس، وسيأتي استعمال الخمس التي عدت من الفطرة، وقد صرح ابن حبيب من المالكية به فقال: يلزم الآتي الجمعة جميع ذلك، وسيأتي في " باب الدهن للجمعة " " ويدهن من دهنه وبمس من طيبه " والله أعلم. قوله: "قال أبو عبد الله" أي البخاري، ومراده بما ذكر أن محمد بن المنكدر وإن كان يكنى أيضا أبا بكر لكنه ممن كان مشهورا باسمه دون كنيته، بخلاف أخيه أبي بكر راوي هذا الخبر فإنه لا اسم له إلا كنيته، وهو مدني تابعي كشيخه. قوله: "روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "رواه عنه " وكأن المراد أن شعبة لم ينفرد برواية هذا الحديث عنه لكن بين رواية بكير وسعيد مخالفة في موضع من الإسناد، فرواية بكير موافقة لرواية شعبة ورواية سعيد أدخل فيها بين عمرو بن سليم وأبي سعيد واسطة كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه فذكر الحديث وقال في آخره: "إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن " وكذلك أخرج أحمد من طريق ابن لهيعة عن بكير ليس فيه عبد الرحمن، وغفل الدار قطني في " العلل " عن هذا الكلام الأخير فجزم بأن بكيرا وسعيدا خالفا شعبة فزادا في الإسناد عبد الرحمن وقال: إنهما ضبطا إسناده وجوداه وهو الصحيح، وليس كما قال، بل المنفرد بزيادة عبد الرحمن هو سعيد بن أبي هلال، وقد وافق شعبة وبكيرا على إسقاطه محمد بن المنكدر أخو أبي بكر أخرجه ابن خزيمة من طريقه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد. والذي يظهر أن عمرو ابن سليم سمعه من عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ثم لقي أبا سعيد فحدثه، وسماعه منه ليس بمنكر لأنه قديم ولد في خلافة عمر بن الخطاب ولم يوصف بالتدليس. وحكى الدار قطني في " العلل " فيه اختلافا آخر على علي بن المديني شيخ البخاري فيه، فذكر أن الباغندي حدث به عنه بزيادة عبد الرحمن أيضا، وخالفه تمام عنه فلم يذكر عبد الرحمن، وفيما قال نظر، فقد أخرجه الإسماعيلي عن الباغندي بإسقاط عبد الرحمن، وكذا أخرجه أبو نعيم في المستخرج عن أبي إسحاق بن حمزة وأبي أحمد الغطريفي كلاهما عن الباغندي، فهؤلاء ثلاثة من الحفاظ حدثوا به عن الباغندي فلم يذكروا عبد الرحمن في الإسناد، فلعل الوهم فيه ممن حدث به الدار قطني عن الباغندي، وقد وافق البخاري على ترك ذكره محمد بن يحيى الذهلي عند الجوزقي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة عند ابن خزيمة وعبد العزيز بن سلام عند الإسماعيلي وإسماعيل القاضي عند ابن منده في " غرائب شعبة " كلهم عن علي بن المديني، ووافق علي بن المديني على ترك ذكره أيضا إبراهيم ابن محمد وإسماعيل بن عرعرة عن حرمي بن عمارة عند أبي بكر المروذي في " كتاب الجمعة " له ولم أقف عليه من حديث شعبة إلا من طريق حرمي وأشار ابن منده إلى أنه تفرد به عنه. "تنبيه" ذكر المزي في " الأطراف " أن البخاري قال عقب رواية شعبة هذه: وقال الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ولم أقف على هذا التعليق في شيء من النسخ التي وقعت لنا من الصحيح، ولا ذكره أبو مسعود ولا خلف، وقد وصله من طريق الليث كذلك أحمد والنسائي وابن خزيمة بلفظ: "أن الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه" .
    (2/365)

    4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
    881- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ "
    قوله: "باب فضل الجمعة" أورد فيه حديث مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة " من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الحديث. وإسناده مدنيون، ومناسبته للترجمة من جهة ما اقتضاه الحديث من مساواة المبادر إلى الجمعة للمتقرب بالمال فكأنه جمع بين عبادتين بدنية ومالية، وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من الصلوات. قوله: "من اغتسل" يدخل فيه كل من يصح التقرب منه من ذكر أو أنثى حر أو عبد. قوله: "غسل الجنابة" بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى: {وهي تمر مر السحاب} وفي رواية ابن جريج عن سمي عند عبد الرزاق " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر، وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضا على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث: "من غسل واغتسل " المخرج في السنن على رواية من روى غسل بالتشديد، قال النووي: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل، والصواب الأول. انتهى. وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد، وثبت أيضا عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي: إنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح صلى الله عليه وسلم ولعله عنى أنه باطل في المذهب. قوله: "ثم راح" زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى". قوله: "فكأنما قرب بدنة" أي تصدق بها متقربا إلى الله، وقيل المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان، لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة. وفي رواية ابن جريج المذكورة " فله من الأجر مثل الجزور " وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور صلى الله عليه وسلم. وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " ووقع في رواية الزهري الآتية في " باب الاستماع إلى الخطبة " بلفظ: "كمثل الذي يهدي بدنة " فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي: في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي،
    ـــــــ
    (1) في مخطوطةالرياض " راجحا"
    (2) ليس هذا بشيء , والصواب أن معنى رواية ابن جريج موافق لمعنى بقية الروايات , وأن المراد بذلك بيان فضل المبادر إلى الجمعة , وأنه بمنزلة من قرب بدنة إلخ . والله أعلم
    (2/366)

    والمراد بالبدنة البعير ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذكر. وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى. وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه. وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه خطأ نشأ عن سقط. وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها. انتهى. والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، واستدل به على أن البدنة تختص بالإبل لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعا من الغنم. وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله علي بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة أو سبع من الغنم. وقيل: تتعين الإبل مطلقا، وقيل يتخير مطلقا. قوله: "دجاجة" بالفتح، ويجوز الكسر، وحكى الليث الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان وبالكسر من الناس. واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في رواية الزهري " كالذي يهدى " لأن الهدي لا يكون منهما، وأجاب القاضي عياض تبعا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الاتباع كقوله: "متقلدا سيفا ورمحا". وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن شرط الاتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال متقلدا سيفا ومتقلدا رمحا. والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من تسمية الشيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله: "قرب بيضة " وفي الرواية الأخرى " كالذي يهدي " يدل على أن المراد بالتقريب الهدي، وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديا هل يكفيه ذلك أو لا؟ انتهى. والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس، ويقوي الصحيح أيضا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما دل عليه لفظ التقرب، والله أعلم. قوله: "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام، قال: ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت، أو يحمل على من ليس له مكان معد. وزاد في رواية الزهري الآتية " طووا صحفهم " ولمسلم من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر " وكأن ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاءه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. وأول حديث الزهري " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول " ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي. وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن خزيمة: "على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول " فكأن المراد بقوله في رواية الزهري " على باب المسجد " حنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبو نعيم في الحليلة مرفوعا بلفظ: "إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور " الحديث، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة
    (2/367)

    والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه: "فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة " وفي رواية ابن جريج عن سمي من الزيادة في آخره: "ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام" . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة: "فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول: اللهم إن كان ضالا فاهده، وإن كان فقيرا فأغنه، وإن كان مريضا فعافه" . وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم، وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع، وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو بالاتفاق في الهدي، واختلف في الضحايا، والجمهور على أنها كذلك. وقال الزين بن المنير: فرق مالك بين التقربين باختلاف المقصودين، لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقصة الذبيح، وهو قد فدى بالغنم. والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين فناسب البدن. واستدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه بعد أبواب، ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس. ثم عقب بخروج الإمام، وخروجه عند أول وقت الجمعة، فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال. والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية فهي أولى بالنسبة للمجيء ثانية بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان اختلف فيهما الترجيح، فقيل: أول التبكير طلوع الشمس، وقيل طلوع الفجر، ورجحه جمع، وفيه نظر إذ يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشافعي: يجزئ الغسل إذا كان يعد الفجر فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك. ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم يذكره الراوي، وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعة صفوان بن عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ: "فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى علية الطير إلى العصفور " الحديث، ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، ووقع عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق، وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة، وهذا كله مبني على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه من العرف فيها، وفيه نظر إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة، وهذا الإشكال للقفال، وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك التعديلية، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد
    (2/368)

    بالساعات، وقيل المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس، وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال: الأولى من طلوع. الفجر إلى طلوع الشمس، والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها، والرابعة إلى أن ترمض الأقدام، والخامسة إلى الزوال. واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى لأن المراتب متفاوتة جدا، وأولى الأجوبة الأول إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة، وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكية إلا قليلا منهم وبعض الشافعية عن الإشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود، تقول جئت ساعة كذا، وبأن قوله في الحديث: "ثم راح " يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال، لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره. انتهى. وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول " راح " في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في " الغريبين " نحوه. قلت: وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي، وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ: "غدا " ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " الحديث وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة " ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجمعة في التبكير كناحر صلى الله عليه وسلم البدنة " الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث علي مرفوعا: "إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين " الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمي القاصد إلى مكة حاجا. وقد اشتد إنكار أحمد وابن حبيب من المالكية ما نقل عن مالك من كراهية التبكير إلى الجمعة وقال أحمد: هذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتج بعض المالكية أيضا بقوله في رواية ا لزهري " مثل المهجر " لأنه مشتق من التهجر وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقا من الهجير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في الانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب تهجرون تهجير الفجر واحتجوا أيضا بأن الساعة لو لم تطل لزم تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق،
    ـــــــ
    (1) في مخطوطة الرياض " كأجر "
    (2) في المخطوطة "تهجيرالعرب "
    (2/369)

    بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة. والجواب ما قاله النووي في شرح المهذب تبعا لغيره. أن التساوي وقع في مسمى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال: "كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بدنة " الحديث ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج صلى الله عليه وسلم: "وأول الساعة وآخرها سواء " لأن هذه التسوبة بالنسبة إلى البدنة كما تقرر. واحتج من كره التبكير أيضا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة لأنه قاصد للوصول لحقه. وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
    (2/370)

    باب حدثنا أتو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحي عن أبي هريرة
    ...
    5 – باب
    288 -حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنْ الصَّلاَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ "
    قوله: "باب" كذا في الأصل بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ووجه تعلقه به أن فيه إشارة إلى الرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير إلى الجمعة لأن عمر أنكر عدم التبكير بمحضر من الصحابة وكبار التابعين من أهل المدينة. ووجه دخوله في فضل الجمعة ما يلزم من إنكار عمر على الداخل احتباسه مع عظم شأنه، فإنه لولا عظم الفضل في ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة ثبت الفضل لها. قوله: "إذ دخل رجل" سماه عبيد الله بن موسى في روايته عن شيبان " عثمان بن عفان " أخرجه الإسماعيلي ومحمد بن سابق عن شيبان عند قاسم بن أصبغ، وكذا سماه الأوزاعي عند مسلم وحرب بن شداد عند الطحاوي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، وصرح مسلم في روايته بالتحديث في جميع الإسناد. وقد تقدمت بقية مباحثه في " باب فضل الغسل يوم الجمعة".
    (2/370)

    6 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
    883- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى
    [الحديث883- طرفه في: 910]
    884- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ طَاوُسٌ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا وَأَصِيبُوا مِنْ الطِّيبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
    ـــــــ
    (1) في المخطوطة"ابن عجلان"
    (2/370)

    7 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
    886- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء ثم باب المسجد فقال ثم يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال عمر يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة
    (2/373)

    8 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنُّ
    887- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لاَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ "
    [الحديث887- طرفه في: 7240]
    888- حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا شعيب بن الحبحاب حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثرت عليكم في السواك "
    (2/374)

    889- حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور وحصين عن أبي وائل عن حذيفة قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يشوص فاه "
    قوله: "باب السواك يوم الجمعة" أورد فيه حديثا معلقا وثلاثة موصولة، والمعلق طرف من حديث أبي سعيد المذكور في " باب الطيب للجمعة " فإن فيه: "وأن يستن " أي يدلك أسنانه بالسواك." وأما الموصولة فأولها حديث أبي هريرة " لولا أن أشق " ومطابقته للترجمة من جهة اندراج الجمعة في عموم قوله: "كل صلاة " وقال الزين بن المنير: لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب ناسب ذلك تطيب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم. ثاني الموصولة حديث أنس " أكثرت عليكم في السواك " قال ابن رشيد مناسبته للذي قبله من جهة أن سبب منعه من إيجاب السواك واحتياجه إلى الاعتذار عن إكثاره عليهم فيه وجود المشقة، ولا مشقة في فعل ذلك في يوم واحد وهو يوم الجمعة. ثالث الموصولة حديث حذيفة " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه " ووجه. مناسبته أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى لأنه شرع لها التجمل في الباطن والظاهر، وقد تقدم الكلام على حديث حذيفة في آخر كتاب الوضوء وأما حديث أبي هريرة فلم يختلف على مالك في إسناده وإن كان له في أصل الحديث إسناد آخر بلفظ آخر سيأتي الكلام عليه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. قوله: "أو لولا أن أشق على الناس" هو شك من الراوي، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في شيء من الروايات عن مالك ولا عن غيره، وقد أخرجه الدار قطني في الموطآت من طريق الموطأ لعبد الله بن يوسف شيخ البخاري فيه بهذا الإسناد بلفظ: "أو على الناس " لم يعد قوله: "لولا أن أشق " وكذا رواه كثير من رواة الموطأ ورواه أكثرهم بلفظ: "المؤمنين " بدل " أمتي " ورواه يحيى بن يحيى الليثي بلفظ: "على أمتي " دون الشك. قوله: "لأمرتهم بالسواك" أي باستعمال السواك، لأن السواك هو الآلة، وقد قيل إنه يطلق على الفعل أيضا. فعلى هذا لا تقدير. والسواك مذكر على الصحيح، وحكى في الحكم تأنيثه، وأنكر ذلك الأزهري. قوله: "مع كل صلاة" لم أرها أيضا في شيء من روايات الموطأ إلا عن معن بن عيسى لكن بلفظ: "عند كل صلاة " وكذا النسائي عن قتيبة عن مالك، وكذا رواه مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وخالفه سعيد بن أبي هلال عن الأعرج فقال: "مع الوضوء " بدل الصلاة أخرجه أحمد من طريقه، قال القاضي البيضاوي: "لولا " كلمة تدل على انتقاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من " لو " الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره و " لا " النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة لأن انتفاء النفي ثبوت فيكون الأمر منفيا لثبوت المشقة، وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما أنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب لما جاز النفي، ثانيهما أنه جعل الأمر مشقة عليهم وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب، إذ الندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك. وقال الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " في هذا الحديث دليل على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقة لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به ا هـ. ويؤكده قوله في رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة عند النسائي بلفظ: "لفرضت عليهم " بدل لأمرتهم. وقال الشافعي: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب لأنه لو كان واجبا لأمرهم شق عليهم به أو لم يشق ا هـ. وإلى القول بعدم وجوبه صار أكثر أهل العلم، بل ادعى بعضهم فيه الإجماع، لكن حكى الشيخ
    (2/375)

    أبو حامد وتبعه الماوردي عن إسحاق بن راهويه قال: هو واجب لكل صلاة، فمن تركه عامدا بطلت صلاته. وعن داود أنه قال: وهو واجب لكن ليس شرطا. واحتج من قال بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا: "تسوكوا " ولأحمد نحوه من حديث العباس، وفي الموطأ في أثناء حديث: "عليكم بالسواك " ولا يثبت شيء منها، وعلى تقدير الصحة فالمنفي في مفهوم حديث الباب الأمر به مقيدا بكل صلاة لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق ولا من ثبوت المطلق التكرار كما سيأتي. واستدل بقوله: "كل صلاة " على استحبابه للفرائض والنوافل، ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعا لغيرها كصلاة العيد، وهذا اختاره أبو شامة، ويتأيد بقوله في حديث أم حبيبة عند أحمد بلفظ: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون " وله من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك " فسوى بينهما. وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة إلا إن طال الفصل مثلا، فكذلك السواك. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الوضوء أشق من السواك، ويتأيد بما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين، ثم ينصرف فيستاك " وإسناده صحيح، لكنه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود، وبين فيه أنه تخلل بين الانصراف والسواك نوم. وأصل الحديث في مسلم مبينا أيضا. واستدل به على أن الأمر يقتضي التكرار، لأن الحديث دل على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك، ولا مشقة في وجوبه مرة، وإنما المشقة في وجوب التكرار. وفي هذا البحث نظر، لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر، وإنما أخذ من تقييده بكل صلاة. وقال المهلب: فيه أن المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج. وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته. وفيه جواز الاجتهاد منه فيما لم ينزل عليه فيه نص، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة. قال ابن دقيق العيد: وفيه بحث، وهو كما قال، ووجهه أنه يجوز أن يكون إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معنى قوله: "لأمرتهم " أي عن الله بأنه واجب. واستدل به النسائي على استحباب السواك للصائم بعد الزوال، لعموم قوله: "كل صلاة"، وسيأتي البحث فيه في كتاب الصيام. "فائدة": قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالا رب إلى الله، فاقتضى أن تكون حال كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة، وقد ورد من حديث علي عند البزار ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلا يزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه، لكنه لا ينافي ما تقدم. وأما حديث أنس فرجال إسناده بصريون، وقوله: "أكثرت " وقع في رواية الإسماعيلي: "لقد أكثرت الخ " أي بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله أي بولغت من عند الله بطلبه منكم. ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة. "تنبيه" ذكره ابن المنير بلفظ: "عليكم بالسواك " ولم يقع ذلك في شيء من الروايات في صحيح البخاري، وقد تعقبه ابن رشيد. واللفظ المذكور وقع في الموطأ عن الزهري عن عبيد بن السباق مرسلا، وهو في أثناء حديث وصله ابن ماجه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري يذكر ابن عباس فيه، وسبق الكلام عليه في آخر " باب الدهن للجمعة " ورواه معمر عن الزهري قال: "أخبرني من لا
    (2/376)

    أتهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم سمعوه يقول ذلك".
    (2/377)

    9 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
    890- حدثنا إسماعيل قال حدثني سليمان بن بلال قال قال هشام بن عروة أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن فأعطانيه فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستسند إلى صدري "
    [الحديث 890- أطرافه في :
    [6510.5217.4451.4450.4449.4446.4438.3774.3100.1389]
    قوله: "باب من تسوك بسواك غيره" أورد فيه حديث عائشة في قصة دخول عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سواك، وأنها أخذته منه فاستاك به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مضغته. وهو مطابق لما ترجم له، والكلام عليه يذكر مستوفى إن شاء الله تعالى في أواخر المغازي عند ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن القصة كانت في مرض موته. وقولها فيه: "فقصمته " بقاف وصاد مهملة للأكثر، أي كسرته، وفي رواية كريمة وابن السكن بضاد معجمة، والقضم بالمعجمة الأكل بأطراف الأسنان، قال ابن الجوزي: وهو أصح. قلت: ويحمل الكسر على كسر موضع الاستياك، فلا ينافي الثاني، والله أعلم. وقد أورد الزين بن المنير على مطابقة الترجمة بأن تعيين عائشة موضع الاستياك بالقطع، وأجاب أن استعماله بعد أن مضغته واف بالمقصود. وتعقب بأنه إطلاق في موضع التقييد، فينبغي تقييد الغير بأن يكون ممن لا يعاف أثر فمه، إذ لولا ذلك ما غيرته عائشة. ولا يقال لم يتقدم فيه استعمال، لأن في نفس الخبر يستن به، وفيه دلالة على تأكد أمر السواك لكونه صلى الله عليه وسلم لم يخل به مع ما هو فيه من شاغل المرض. "فائدة": رجال الإسناد مدنيون، وإسماعيل شيخ البخاري هو ابن أبي أويس، ولم أره في شيء من الروايات من غير طريق البخاري عنه بهذا الإسناد، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فاستخرجه من طريق البخاري نفسه عن إسماعيل، وكأن إسماعيل تفرد به أيضا فإنني لم أره من رواية غيره عن سليمان ابن بلال، إلا أن أبا نعيم أورده في المستخرج من طريق محمد بن الحسن المدني عن سليمان، ومحمد ضعيف جدا. فكان ما صنعه الإسماعيلي أولى. وقد سمع إسماعيل من سليمان ويروى عنه أيضا بواسطة كثيرا.
    (2/377)

    3 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    891- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ {الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ } وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}
    [الحديث 891 – طرفه في 1068]
    قوله: "باب ما يقرأ" بضم الياء - ويجوز فتحها أي الرجل - ولم يقع قوله: "يوم الجمعة" في أكثر الروايات
    (2/377)

    11 - باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
    892- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ "
    [الحديث 893- طرفه في: 4317
    (2/379)

    893- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَنَا أَسْمَعُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "
    [الحديث 893- أطرافه في: 7138.5200.5188.2751.2558.2554]
    قوله: "باب الجمعة في القرى والمدن" في هذه الترجمة إشارة إلى خلاف من خص الجمعة بالمدن دون القرى، وهو مروي عن الحنفية. وأسنده ابن أبي شيبة عن حذيفة وعلى وغيرهما وعن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. وهذا يشمل المدن والقرى. أخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق أبي رافع عن أبي هريرة عن عمر، وصححه ابن خزيمة. وروى البيهقي من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث ابن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم، فلما اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع صلى الله عليه وسلم. قوله: "عن ابن عباس" كذا رواه الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان عنه، وخالفهم المعافى ابن عمران فقال: عن ابن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، أخرجه النسائي، وهو خطأ من المعافى، ومن ثم تكلم محمد بن عبد الله بن عمار في إبراهيم بن طهمان ولا ذنب له فيه كما قاله صالح جزرة، وإنما الخطأ في إسناده من المعافى. ويحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان. قوله: "إن أول جمعة جمعت" زاد وكيع عن ابن طهمان " في الإسلام " أخرجه أبو داود. قوله: "بعد جمعة" زاد المصنف في أواخر المغازي " جمعت". قوله: "في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية وكيع " بالمدينة " ووقع في رواية المعافى المذكورة " بمكة " وهو خطأ بلا مرية. قوله: "بجواثى" بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة. قوله: "من البحرين" في رواية وكيع " قرية من قرى البحرين " وفي أخرى عنه " من قرى عبد القيس " وكذا للإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة عن ابن طهمان، وبه يتم مراد الترجمة. ووجه الدلالة منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنهم فعلوه والقرآن ينزل فلم
    ـــــــ
    (1) وهو فصل الجمعة كما فعل أهل جواثي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم , وذلك يدل على مشروعية إقامة الجمعة بالقرى . والله أعلم
    (2/380)

    ينهوا عنه. وحكى الجوهري والزمخشري وابن الأثير أن جوائي اسم حصن بالبحرين، وهذا لا ينافي كونها قرية. وحكى ابن التين صلى الله عليه وسلم عن أبي الحسن اللخمي أنها مدينة، وما ثبت في نفس الحديث من كونها قرية أصح مع احتمال أن تكون في الأول قرية ثم صارت مدينة، وفيه إشعار بتقدم إسلام عبد القيس على غيرهم من أهل القرى، وهو كذلك كما قررته في أواخر كتاب الإيمان. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "كلكم راع وزاد الليث الخ" فيه إشارة إلى أن رواية الليث متفقة مع ابن المبارك إلا في القصة فإنها مختصة برواية الليث، ورواية الليث معلقة، وقد وصلها الذهلي عن أبي صالح كاتب الليث عنه، وقد ساق المصنف رواية ابن المبارك بهذا الإسناد في كتاب الوصايا فلم يخالف رواية الليث إلا في إعادة قوله في آخره: "وكلكم راع الخ". قوله: "وكتب رزيق بن حكيم" هو بتقديم الراء على الزاي، والتصغير في اسمه واسم أبيه في روايتنا، وهذا هو المشهور في غيرها، وقيل بتقديم الزاي وبالتصغير فيه دون أبيه. قوله: "أجمع" أي أصلي بمن معي الجمعة. قوله: "على أرض يعملها" أي يزرع فيها. قوله: "ورزيق يومئذ على أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام بلدة معروفة في طريق الشام بين المدينة ومصر على ساحل القلزم، وكان رزيق أميرا عليها من قبل عمر بن عبد العزيز، والذي يظهر أن الأرض التي كان يزرعها من أعمال أيلة، ولم يسأل عن أيلة نفسها لأنها كانت مدينة كبيرة ذات قلعة وهي الآن خراب ينزل بها الحاج المصري والغزي صلى الله عليه وسلم وبعض آثارها ظاهر. قوله: "وأنا أسمع" هو قول يونس، والجملة حالية، وقوله: "يأمره " حالة أخرى، وقوله: "يخبره " حال من فاعل يأمره، والمكتوب هو الحديث، والمسموع المأمور به قاله الكرماني. والذي يظهر أن المكتوب هو عين المسموع، وهو الأمر والحديث معا. وفي قوله: "كتب " تجوز كأن ابن شهاب أملاه على كاتبه فسمعه يونس منه، ويحتمل أن يكون الزهري كتبه بخطه وقرأه بلفظه فيكون فيه حذف تقديره فكتب ابن شهاب وقرأه وأنا أسمع، ووجه ما احتج به على التجميع من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع " أن على من كان أميرا إقامة الأحكام الشرعية - والجمعة منها - وكان رزيق عاملا على الطائفة التي ذكرها، وكان عليه أن يراعي حقوقهم ومن جملتها إقامة الجمعة. قال الزين بن المنير: في هذه القصة إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم. وفيه إقامة الجمعة في القرى خلافا لمن شرط لها المدن، فإن قيل؛ قوله: "كلكم راع " يعم جميع الناس فيدخل فيه المرعي أيضا، فالجواب أنه مرعي باعتبار، راع باعتبار، حتى ولو لم يكن له أحد كان راعيا لجوارحه وحواسه، لأنه يجب عليه أن يقوم بحق الله وحق عباده، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله فيه "قال وحسبت أن قد قال" جزم الكرماني بأن فاعل " قال: "هنا هو يونس، وفيه نظر، والذي يظهر أنه سالم، ثم ظهر لي أنه ابن عمر. وسيأتي في كتاب الاستقراض بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقد رواه الليث أيضا عن نافع عن ابن عمر بدون هذه الزيادة، أخرجه مسلم.
    (2/381)

    12 - باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ
    وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ
    (2/381)

    894- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من جاء منكم الجمعة فليغتسل "
    895- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم "
    896- حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا وهيب قال حدثنا بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغدا لليهود وبعد غد للنصارى فسكت
    897- ثم قال حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده "
    [الحديث897 – طرفاه في :3487.898]
    898- رواه أبان بن صالح عن مجاهد عن طاوس عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما.
    (2/382)

    باب حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا شبابة
    ...
    13- باب 899 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا شبابة حدثنا ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد "
    900- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ قَالَتْ وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي قَالَ يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ "
    قوله: "باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم" تقدم التنبيه على ما تضمنته هذه الترجمة في " باب فضل الغسل " ويدخل في قوله: "وغيرهم " العبد والمسافر والمعذور، وكأنه استعمل الاستفهام في الترجمة للاحتمال الواقع في حديث أبي هريرة " حق على كل مسلم أن يغتسل " فإنه شامل للجميع، والتقييد في حديث ابن عمر بمن حاء منكم يخرج من لم يجيء، والتقييد في حديث أبي سعيد بالمحتلم يخرج الصبيان، والتقييد في النهي عن منع النساء المساجد بالليل يخرج الجمعة. وعرف بهذا وجه إيراد هذه الأحاديث في هذه الترجمة، وقد تقدم الكلام على أكثرها. قوله: "وقال ابن عمر إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة" وصله البيهقي بإسناد صحيح عنه وزاد: "والجمعة على من يأتي أهله " ومعنى هذه الزيادة أن الجمعة تجب عنده على من يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل، فمن كان فوق هذه المسافة لا تجب عليه عنده. وسيأتي البحث فيه بعد باب. وقد تقرر أن الآثار التي يوردها البخاري في
    (2/382)

    التراجم تدل على اختيار ما تضمنته عنده، فهذا مصير منه إلى أن الغسل للجمعة لا يشرع إلا لمن وجبت عليه. قوله في حديث أبي هريرة "فسكت ثم قال: حق على كل مسلم الخ" فاعل " سكت " هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أورده المصنف في ذكر بني إسرائيل من وجه آخر عن وهيب بهذا الإسناد دون قوله: "فسكت ثم قال: "ويؤكد كونه مرفوعا رواية مجاهد عن طاوس المقتصرة على الحديث الثاني، ولهذه النكتة أورده بعده فقال: "رواه أبان بن صالح الخ " وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن وهيب مقتصرا، وهذا التعليق عن مجاهد قد وصله البيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عن أبان المذكور، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن طاوس وصرح فيه بسماعه له من أبي هريرة، أخرجه من طريق عمرو بن دينار عن طاوس وزاد فيه: "ويمس طيبا إن كان لأهله " واستدل بقوله: "لله على كل مسلم حق " للقائل بالوجوب، وقد تقدم البحث فيه. قوله: "في كل سبعة أيام يوما" هكذا أبهم في هذه الطريق، وقد عينه جابر في حديثه عند النسائي بلفظ: "الغسل واجب على كل مسلم في أسبوع يوما وهو يوم الجمعة " وصححه ابن خزيمة. ولسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا نحوه ولفظه: "إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة " الحديث، ونحوه للطحاوي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من الصحابة أنصاري مرفوعا. قوله في رواية نافع عن ابن عمر "قال كانت امرأة لعمر" هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد أحد العشرة مما سماها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال: "كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا. قالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني. قال: فلقد طعن عمرو وإنها لفي المسجد " كذا ذكره مرسلا، ووصله عبد الأعلى عن معمر بذكر سالم بن عبد الله عن أبيه، لكن أبهم المرأة. أخرجه أحمد عنه، وسماها أحمد من وجه آخر عن سالم قال: "كان عمر رجلا غيورا وكان إذا خرج إلى الصلاة اتبعته عاتكة بنت زيد " الحديث، وهو مرسل أيضا، وعرف من هذا أن قوله في حديث الباب: "فقيل لها لم تخرجين الخ " أن قائل ذلك كله هو عمر بن الخطاب، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقوله: "إن عمر الخ " فيكون من باب التجريد أو الالتفات، وعلى هذا فالحديث من مسند عمر كما صرح به في رواية سالم
    (2/383)

    المرسلة، ويحتمل أن تكون المخاطبة دارت بينها وبين ابن عمر أيضا لأن الحديث مشهور من روايته، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقيل لها الخ، وهذا مقتضى ما صنع الحميدي وأصحاب الأطراف، فإنهم أخرجوا هذا الحديث من هذا الوجه في مسند ابن عمر، وقد تقدم الكلام على فوائده مستوفى قبيل كتاب الجمعة. "تنبيه": قال الإسماعيلي: أورد البخاري حديث مجاهد عن ابن عمر بلفظ: "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " وأراد بذلك أن الإذن إنما وقع لهن بالليل فلا تدخل فيه الجمعة. قال: ورواية أبي أسامة التي أوردها بعد ذلك تدل على خلاف ذلك، يعني قوله فيها " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " انتهى. والذي يظهر أنه جنح إلى أن هذا المطلق يحمل على ذلك المقيد. والله أعلم.
    (2/384)

    14 - باب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ
    901- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا قَالَ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ "
    قوله: "باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر" ضبط في روايتنا بكسر إن وهي الشرطية، ويحضر بفتح أوله أي الرجل. وضبطه الكرماني بفتح أن ويحضر بلفظ المبني للمفعول، وهو متجه أيضا. وأورد المصنف هنا حديث ابن عباس من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية، وهو مناسب لما ترجم له، وبه قال الجمهور ومنهم من فرق بين قليل المطر وكثيره. وعن مالك: لا يرخص في تركها بالمطر. وحديث ابن عباس هذا حجة في الجواز. وقال الزين بن المنير: الظاهر أن ابن عباس لا يرخص في ترك الجمعة، وأما قوله: "صلوا في بيوتكم " فإشارة منه إلى العصر، فرخص لهم في ترك الجماعة فيها، وأما الجمعة فقد جمعهم لها فالظاهر أنه جمع بهم فيها. قال: ويحتمل أن يكون جمعهم للجمعة ليعلمهم بالرخصة في تركها في مثل ذلك ليعملوا به في المستقبل. انتهى. والذي يظهر أنه لم يجمعهم، وإنما أراد بقوله صلوا في بيوتكم مخاطبة من لم يحضر وتعليم من حضر. قوله: "إن الجمعة عزمة" استشكله الإسماعيلي فقال: لا أخا له صحيحا، فإن أكثر الروايات بلفظ: "إنما عزمة " أي كلمة المؤذن وهي " حي على الصلاة " لأنها دعاء إلى الصلاة تقتضي لسامعه الإجابة، ولو كان معنى الجمعة عزمة لكانت العزيمة لا تزول بترك بقية الأذان. انتهى. والذي يظهر أنه لم يترك بقية الأذان، وإنما أبدل قوله: "حي على الصلاة " بقوله: "صلوا في بيوتكم " والمراد بقوله: "إن الجمعة عزمة " أي فلو تركت المؤذن يقول حي على الصلاة لبادر من سمعه إلى المجيء في المطر فيشق عليهم فأمرته أن يقول صلوا في بيوتكم لتعلموا أن المطر من الأعذار التي تصير العزيمة رخصة. قوله: "والدحض" بفتح الدال المهملة وسكون الحاء المهملة - ويجوز فتحها - وآخره ضاد معجمة هو الزلق، وحكى ابن التين أن في رواية القابسي بالراء بدل الدال وهو الغسل، قال: ولا معنى له هنا إلا إن حمل على أن الأرض حين أصابها المطر كالمغتسل والجامع بينهما الزلق. وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في أبواب الأذان. "تنبيه": وقع في السياق عن عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيربن، وأنكره الدمياطي فقال: كان زوج
    (2/384)

    بنت سيرين فهو صهر ابن سيربن لا ابن عمه. قلت: ما المانع أن يكون بين سيرين والحارث أخوة من رضاع ونحوه، فلا ينبغي تغليط الرواية الصحيحة مع وجود الاحتمال المقبول.
    (2/385)

    15 - باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ
    لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: من الآية9)
    وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ وَكَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ .
    حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الْعَرَقُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي
    فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا "
    قوله: "باب من أين تؤتي الجمعة، وعلى من تجب؟ لقول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} يعني أن الآية ليست صريحة في وجوب بيان الحكم المذكور، فلذلك أتى في الترجعة بصيغة الاستفهام.والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء أو كان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه، ومحله كما صرح به الشافعي ما إذا كان المنادي صيتا والأصوات هادئة والرجل سميعا.وفي السنن لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إنما الجمعة على من سمع النداء " وقال: إنه اختلف في رفعه ووقفه.وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم " أتسمع النداء؟ قال: نعم.قال: فأجب " وقد تقدم في صلاة الجماعة ذكر من احتج به على وجوبها، فيكون في الجمعة أولى لثبوت الأمر بالسعي إليها.وأما حديث: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله " فأخرجه الترمذي، ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئا.وقال لمن ذكره: "استغفر ربك".وقد تقدم قبل بباب من قول ابن عمر نحوه، والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار وهو بخلاف الآية. قوله: "وقال عطاء الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، وقوله: "سمعت النداء أو لم تسمعه، يعني إذا كنت داخل البلد، وبهذا صرح أحمد، ونقل النووي أنه لا خلاف فيه، وزاد عبد الرزاق في هذا الأثر عن ابن جريح أيضا قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض مثل جدة. قوله: "وكان أنس - إلى قوله - لا يجمع" وصله مسدد في مسنده الكبير عن أبي عوانة عن حميد بهذا. وقوله: "يجمع " أي يصلي بمن معه الجمعة، أو يشهد الجمعة بجامع البصرة. قوله: "وهو" أي القصر، والزاوية موضع ظاهر البصرة معروف كانت فيه وقعة كبيرة بين الحجاج وابن الأشعث. قال أبو عبيد البكري: هو بكسر الواو موضع دان من البصرة. وقوله: "على فرسخين " أي من البصرة. وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن
    (2/385)
    أعظَم مَن عُرِف عنه إنكار الصانع هو " فِرعون " ، ومع ذلك فإن ذلك الإنكار ليس حقيقيا ، فإن الله عزّ وَجَلّ قال عن آل فرعون :(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)
    وبُرهان ذلك أن فِرعون لَمّا أحسّ بالغَرَق أظْهَر مكنون نفسه ومخبوء فؤاده على لسانه ، فقال الله عزّ وَجَلّ عن فرعون : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

  2. #62

    افتراضي

    أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي على فرسخين من البصرة، وهذا يرد على من زعم أن الزاوية موضع بالمدينة النبوية كان فيه قصر لأنس على فرسخين منها ويرجح الاحتمال الثاني، وعرف بهذا أن التعليق المذكور ملفق من أثرين، ولا يعارض ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن ثابت قال: "كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة " لكون الثلاثة أميال فرسخا واحدا لأنه يجمع بأن الأرض المذكورة غير القصر، وبأن أنسا كان يرى التجميع حتما إن كان على فرسخ ولا يراه حتما إذا كان أكثر من ذلك، ولهذا لم يقع في رواية ثابت التخيير في رواية حميد.قوله."حدثنا أحمد بن صالح" كذا في رواية أبي ذر، ووافقه ابن السكن، وعن غيرهما: "حدثنا أحمد " غير منسوب، وجزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن عيسى، والأول أصوب وفي هذا الإسناد لطيفة، وهو أن فيه ثلاثة دون عبيد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وثلاثة فوقه من أهل المدينة. قوله: "ينتابون الجمعة" أي يحضرونها نوبا، والانتياب افتعال من النوبة. وفي رواية: "يتناوبون". قوله: "والعوالي" تقدم تفسيرها في المواقيت وأنها على أربعة أميال فصاعدا من المدينة. قوله: "فيأتون في الغبار فيصيبهم الغبار" كذا وقع للأكثر، وعند القابسي " فيأتون في العباء " بفتح المهملة والمد وهو أصوب، وكذا هو عند مسلم والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب. قوله: "إنسان منهم" لم أقف على اسمه، وللإسماعيلي: "ناس منهم". قوله: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أو للشرط والجواب محذوف تقديره لكان حسنا. وقد وقع في حديث ابن عباس عند أبي داود أن هذا كان مبدأ الأمر بالغسل للجمعة، ولأبي عوانة من حديث ابن عمر نحوه، وصرح في آخره بأنه صلى الله عليه وسلم قال حينئذ " من جاء منكم الجمعة فليغتسل " وقد استدلت به عمرة على أن غسل الجمعة شرع للتنظيف لأجل الصلاة كما سيأتي في الباب الذي بعده، فعلى هذا فمعنى قوله: "ليومكم هذا " أي في يومكم هذا. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا رفق العالم بالمتعلم، واستحباب التنظيف لمجالسة أهل الخير، واجتناب أذى المسلم بكل طريق، وحرص الصحابة على امتثال الأمر ولو شق عليهم. وقال القرطبي: فيه رد على الكوفيين حيث لم يوجبوا الجمعة على من كان خارج المصر، كذا قال. وفيه نظر لأنه لو كان واجبا على أهل العوالي ما تناوبوا ولكانوا يحضرون جميعا، والله أعلم.
    (2/386)

    16 - باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ
    وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
    903- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اغْتَسَلْتُمْ "
    [الحديث 903 – طرفه في 2071]
    904- حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ "
    (2/386)

    905- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ "
    [الحديث905- طرفه في:940]
    قوله: "باب وقت الجمعة" أي أوله "إذا زالت الشمس" جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده. قوله: "وكذا يذكر عن عمر وعلي والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث" قيل إنما اقتصر على هؤلاء من الصحابة دون غيرهم لأنه نقل عنهم خلاف ذلك، وهذا فيه نظر لأنه لا خلاف عن علي ومن بعده في ذلك، وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها لا تجب حتى تزول الشمس، إلا ما نقل عن أحمد أنه إن صلاها قبل الزوال أجزأ ا هـ. وقد نقله ابن قدامة وغيره عن جماعة من السلف كما سيأتي، فأما الأثر عن عمر فروى أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار " رجاله ثقات إلا عبد الله بن سيدان وهو بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة، قال ابن عدي شبه المجهول. وقال البخاري لا يتابع على حديثه، بل عارضه ما هو أقوى منه فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس إسناده قوي، وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال: "كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشيها ظل الجدار خرج عمر " إسناده صحيح، وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال الشمس، وفهم منه بعضهم عكس ذلك، ولا يتجه إلا إن حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد وهو بعيد، والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى هذا فكان عمر يتأخر بعد الزوال قليلا، وفي حديث السقيفة عن ابن عباس قال: "فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر؛ وأما علي فروى ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق أنه " صلى خلف علي الجمعة بعد ما زالت الشمس " إسناده صحيح، وروى أيضا من طريق أبي رزين قال: "كنا نصلي مع علي الجمعة فأحيانا نجد فيئا وأحيانا لا نجد " وهذا محمول على المبادرة عند الزوال أو التأخير قليلا، وأما النعمان بن بشير فروى ابن أبي شيبه بإسناد صحيح عن سماك بن حرب قال: "كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعد ما تزول الشمس". قلت: وكان النعمان أميرا على الكوفة في أول خلافة يزيد بن معاوية، وأما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق الوليد بن العيزار قال: "ما رأيت إماما كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، فكان يصليها إذا زالت الشمس " إسناده صحيح أيضا، وكان عمرو ينوب عن زياد وعن ولده في الكوفة أيضا. وأما ما يعارض ذلك عن الصحابة فروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلمة وهو بكسر اللام قال: "صلى بنا عبد الله - يعني ابن مسعود - الجمعة ضحى وقال: خشيت عليكم الحر " وعبد الله صدوق إلا أنه ممن تغير لما كبر قاله شعبة وغيره، ومن طريق سعيد بن سويد قال: "صلى بنا معاوية الجمعة ضحى " وسعيد ذكره ابن عدي في الضعفاء واحتج بعض الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيد للمسلمين " قال فلما سماه عيدا جازت الصلاة فيه وقت العيد كالفطر والأضحى، وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدا أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقا سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو
    (2/387)

    ابن المبارك، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "كان الناس مهنة" بنون وفتحات جمع ما هن ككتبة وكاتب أي خدم أنفسهم، وحكى ابن التين أنه روى بكسر أوله وسكون الهاء ومعناه بإسقاط محذوف أي ذوي مهنة. ولمسلم من طريق الليث عن يحيى بن سعيد " كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفأة " أي لم يكن لهم من يكفيهم العمل من الخدم. قوله: "وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم" استدل البخاري بقوله: "راحوا " على أن ذلك كان بعد الزوال لأنه حقيقة الرواح كما تقدم عن أكثر أهل اللغة، ولا يعارض هذا ما تقدم عن الأزهري أن المراد بالرواح في قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الذهاب مطلقا لأنه إما أن يكون مجازا أو مشتركا، وعلى كل من التقديرين فالقرينة مخصصه وهي في قوله: "من راح في الساعة الأولى " قائمة في إرادة مطلق الذهاب، وفي هذا قائمة في الذهاب بعد الزوال لما جاء في حديث عائشة المذكور في الطريق التي في آخر الباب الذي قبل هذا حيث قالت: "يصيبهم الغبار والعرق " لأن ذلك غالبا إنما يكون بعد ما يشتد الحر، وهذا في حال مجيئهم من العوالي، فالظاهر أنهم لا يصلون إلى المسجد إلا حين الزوال أو قريبا من ذلك، وعرف بهذا توجيه إيراد حديث عائشة في هذا الباب. "تنبيه": أورد أبو نعيم في المستخرج طريق عمرة هذه في الباب الذي قبله وعلى هذا فلا إشكال فيه أصلا. قوله: "عن أنس" صرح في رواية الإسماعيلي من طريق زيد بن الحباب عن فليح بسماع عثمان له من أنس. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس. أما رواية حميد التي بعد هذا عن أنس " كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة " فظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإيراد، ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه، وسيأتي في الترجمة التي بعد هذه التعبير بالتبكير والمراد به الصلاة في أول الوقت وهو يؤيد ما قلناه. قال الزين بن المنير في الحاشية: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديث أنس الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما. "تنبيهان" الأول: حكى ابن التين عن أبي عبد الملك أنه قال: إنما أورد البخاري الآثار عن الصحابة لأنه لم يجد حديثا مرفوعا في ذلك، وتعقبه بحديث أنس هذا وهو كما قال الثاني: لم يقع التصريح عند المصنف برفع حديث أنس الثاني، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق فضيل بن عياض عن حميد فزاد فيه: "مع النبي صلى الله عليه وسلم: "وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن إسحاق حدثني حميد الطويل، وله شاهد من حديث سهل بن سعد يأتي في آخر كتاب الجمعة، وفيه رد على من زعم أن الساعات المطلوبة في الذهاب إلى الجمعة من عند الزوال لأنهم يتبادرون إلى الجمعة قبل القائلة.
    (2/388)

    17 - باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    906- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلاَةِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ "
    (2/388)

    قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ فَقَالَ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمُعَةَ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ
    قوله: "باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة" لما اختلف ظاهر النقل عن أنس وتقرر أن طريق الجمع أن يحمل الأمر على اختلاف الحال بين الظهر والجمعة كما قدمناه، جاء عن أنس حديث آخر يوهم خلاف ذلك فترجم المصنف هذه الترجمة لأجله. قوله: "حدثنا أبو خلدة" بفتح المعجمة وسكون اللام، والإسناد كله بصريون. قوله: "بكر بالصلاة" أي صلاها في أول وقتها. قوله: "وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة" لم يجزم المصنف بحكم الترجمة للاحتمال الواقع في قوله: "يعني الجمعه " لاحتمال أن يكون من كلام التابعي أو من دونه، وهو ظن ممن قاله، والتصريح عن أنس في رواية حميد الماضية أنه كان يبكر بها مطلقا من غير تفصيل، ويؤيده الرواية المعلقة الثانية فإن فيها البيان بأن قوله: "يعني الجمعة " إنما أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الجمعة والظهر عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله: "كان يصلي الظهر"، وأوضح من ذلك رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن حرمي ولفظه: "سمعت أنسا - وناداه يزيد الضبي يوم جمعة: يا أبا حمزة قد شهدت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف كان يصلي الجمعة؟ - " فذكره ولم يقل بعده يعني الجمعة. قوله: "وقال يونس بن بكير" وصله المصنف في " الأدب المفرد " ولفظه: "سمعت أنس بن مالك وهو مع الحكم أمير البصرة على السرير يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة " وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن يونس وزاد: "يعني الظهر". والحكم المذكور هو ابن أبي عقيل الثقفي كان نائبا عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج. وقد أورد أبو يعلى قصة يزيد الضبي المذكور وإنكاره على الحكم هذا الصنيع واستشهاده بأنس واعتذار أنس عن الحكم بأنه أخر للإبراد، فساقها مطولة في نحو ورقة. وعرف بهذا أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا بالنص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة بينهما. قوله: "وقال بشر بن ثابت" وصله الإسماعيلي والبيهقي بلفظ: "كان إذا كان الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها " وعرف من طريق " الأدب المفرد " تسمية الأمير المبهم في هذه الرواية المعلقة، ومن رواية الإسماعيلي وغيره سبب تحديث أنس بن مالك بذلك حتى سمعه أبو خلدة. وقال الزين بن المنير: نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة ولم يبت الحكم بذلك، لأن قوله: "يعني الجمعة " يحتمل أن يكون قول التابعي مما فهمه، ويحتمل أن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظهر، لأنها إما ظهر وزيادة أو بدل عن الظهر، وأيد ذلك قول أمير البصرة لأنس يوم الجمعة " كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر " وجواب أنس من غير إنكار ذلك. وقال أيضا: إذا تقرر أن الإبراد يشرع في الجمعة أحذ منه أنها لا تشرع قبل الزوال، لأنه لو شرع لما كان اشتداد الحر سببا لتأخيرها، بل كان يستغني عنه بتعجيلها قبل الزوال. واستدل به ابن بطال على أن وقت الجمعة وقت الظهر لأن أنسا سوى بينهما في جوابه، خلافا لمن أجاز الجمعة قبل الزوال، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله. وفيه إزالة التشويش عن المصلي بكل طريق محافظة على الخشوع لأن ذلك هو السبب في مراعاة الإبراد في الحر دون البرد.
    (2/389)

    18 - باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
    وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
    وَمَنْ قَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}
    وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَقَالَ عَطَاءٌ تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ
    907-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ "
    [الحديث907- طرفه في : 2811]
    908- حدثنا آدم قال حدثنا بن أبي ذئب قال الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا
    990- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ
    قوله: "باب المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره فاسعوا إلى ذكر الله" ومن قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى وسعى لها سعيها".قال ابن المنير في الحاشية: لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع دل أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا كالبيع والصناعة، والحاصل أن المأمور به سعي الآخرة، والمنهي عنه سعي الدنيا.وفي الموطأ عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن هذه الآية فقال: كان عمر يقرؤها " إذا نودي للصلاة فامضوا " وكأنه فسر السعي بالذهاب، قال مالك: وإنما السعي العمل لقول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} وقال: {وأما من جاءك يسعى} قال مالك: وليس السعي الاشتداد ا هـ. وقراءة عمر المذكورة سيأتي الكلام عليها في التفسير. وقد أورد المصنف في الباب حديث: "لا تأتوها وأنتم تسعون " إشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث، والحجة فيه أن السعي في الآية فسر بالمضي، والسعي في الحديث فسر بالعدو. لمقابلته بالمشي حيث قال: لا تأتوها تسعون وأتوها تمشون. قوله: "وقال ابن عباس يحرم البيع حينئذ" أي إذا نودي بالصلاة، وهذا الأثر ذكره ابن حزم من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادي للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع " ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا، وإلى القول بالتحريم ذهب الجمهور، وابتداؤه عندهم من حين الأذان بين يدي
    (2/390)

    الإمام لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبا. وروى عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق مكحول أن النداء كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع، وهو مرسل يعتضد بشواهد تأتي قريبا. وأما الأذان الذي عند الزوال فيجوز عندهم البيع فيه مع الكراهة، وعن الحنفية يكره مطلقا ولا يحرم، وهل يصح البيع مع القول بالتحريم؟ قولان مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقا أو لا؟ قوله: "وقال عطاء تحرم الصناعات كلها" وصله عبد بن حميد في تفسيره بلفظ: "إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا " وبهذا قال الجمهور أيضا. قوله: "وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري الخ" لم أره من رواية إبراهيم، وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري وقال: إنه اختلف عليه فيه فقيل عنه هكذا، وقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على مسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري، قال ابن المنذر: وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك، لأن الزهري اختلف عليه فيه ا هـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالين، فحيث قال: "لا جمعة على مسافر " أراد على طريق الوجوب، وحيث قال: "فعليه أن يشهد " أراد على طريق الاستحباب. ويمكن أن تحمل رواية إبراهيم بن سعد هذه على صورة مخصوصة، وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء لها، لا أنها تلزم المسافر مطلقا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازا مثلا، وكأن ذلك رجح عند البخاري، ويتأيد عنده بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فلم يخص مقيما من مسافر، وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعا بعرفة وكان يوم جمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على مسافر فهو عمل صحيح، إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. وقال الزين بن المنير: قرر البخاري في هذه الترجمة إثبات المشي إلى الجمعة مع معرفته بقول من فسرها بالذهاب الذي يتناول المشي والركوب، وكأنه حمل الأمر بالسكينة والوقار على عمومه في الصلوات كلها فتدخل الجمعة كما هو مقتضى حديث أبي هريرة، وأما حديث أبي قتادة فيؤخذ من قوله: "وعليكم السكينة " فإنه يقتضي عدم الإسراع في حال السعي إلى الصلاة أيضا. قوله: "حدثني علي بن عبد الله" هو ابن المديني. قوله: "يزيد" بالتحتانية والزاي، و "عباية" بفتح المهملة بعدها موحدة وهو ابن رفاعة بن رافع ابن خديج. قوله: "أدركني أبو عبس" بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة واسمه عبد الرحمن على الصحيح، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "وأنا أذهب" كذا وقع عند البخاري أن القصة وقعت لعباية مع أبي عبس، وعند الإسماعيلي من رواية علي بن بحر وغيره عن الوليد بن مسلم أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وكذا أخرجه النسائي عن الحسين بن حريث عن الوليد ولفظه: "حدثني يزيد قال: لحقني عباية بن رفاعة وأنا ماش إلى الجمعة " زاد الإسماعيلي في روايته: "وهو راكب، فقال: احتسب خطاك هذه " وفي رواية النسائي: "فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، فإني سمعت أبا عبس بن جبر " فذكر الحديث، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون القصة وقعت لكل منهما، وسيأتي الكلام على المتن في كتاب الجهاد، وأورده هنا لعموم قوله: "في سبيل الله " فدخلت فيه الجمعة، ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: وجه دخول حديث أبي عبس في الترجمة من قوله: "أدركني أبو عبس " لأنه لو كان يعدو لما احتمل وقت المحادثة لتعذرها مع الجري، ولأن أبا عبس
    (2/391)

    جعل حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد. وليس العدو من مطالب الجهاد فكذلك الجمعة، انتهى. وحديث أبي هريرة تقدم الكلام عليه في أواخر أبواب الأذان، وقد سبق في أول هذا الباب توجيه إيراده هنا. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة قال أبو عبد الله: لا أعلمه إلا عن أبيه" انتهى. أبو عبد الله هذا هو المصنف. وقع قوله: "قال أبو عبد الله " في رواية المستملي وحده، وكأنه وقع عنده توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، وهو في الأصل موصول لا ريب فيه، فقد أخرجه الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أبي حفص - وهو عمرو بن علي شيخ البخاري فيه - فقال: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه " ولم يشك، وأغرب الكرماني فقال: إن هذا الإسناد منقطع وإن حكم البخاري بكونه موصولا لأن شيخه لم يروه إلا منقطعا، انتهى. وقد تقدم في أواخر الأذان أن البخاري علق هذه الطريق من جهة على ابن المبارك ولم يتعرض للشك الذي هنا، وتقدم الكلام على المتن أيضا، وموضع الحاجة منه هنا قوله: "وعليكم السكينة " قال ابن رشيد: والنكتة في النهي عن ذلك لئلا يكون مقامهم سببا لإسراعه في الدخول إلى الصلاة فينافي مقصوده من هيئة الوقار، قال: وكأن البخاري استشعر إيراد الفرق بين الساعي إلى الجمعة وغيرها بأن السعي إلى الصلاة غير الجمعة منهي لأجل ما يلحق الساعي من التعب وضيق النفس فيدخل في الصلاة وهو منبهر فينافي ذلك خشوعه، وهذا بخلاف الساعي إلى الجمعة فإنه في العادة يحضر قبل إقامة الصلاة فلا تقام حتى يستريح مما يلحقه من الانبهار وغيره، وكأنه استشعر هذا الفرق فأخذ يستدل على أن كل ما آل إلى إذهاب الوقار منع منه، فاشتركت الجمعة مع غيرها في ذلك، والله أعلم.
    (2/392)

    19 - باب لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    910- حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن بن وديعة عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى "
    قوله: "باب لا يفرق" أي الداخل "بين اثنين" كذا ترجم ولم يثبت الحكم، وقد نقل الكراهة عن الجمهور ابن المنذر واختار التحريم، وبه جزم النووي في " زوائد الروضة " والأكثر على أنها كراهة تنزيه، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص، والمشهور عند الشافعية الكراهة كما جزم به الرافعي، والأحاديث الواردة في الزجر عن التخطي مخرجة في المسند والسنن وفي غالبها ضعف، وأقوى ما ورد فيه ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزاهرية قال: "كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن رجلا جاء يتخطى والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: اجلس فقد آذيت " ولأبي داود من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "ومن تخطى رقاب الناس كانت له ظهرا " وقيد مالك والأوزاعي الكراهة بما إذا كان الخطيب على المنبر، قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين يتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه، وقد استثنى من كراهة التخطي ما إذا كان في الصفوف الأول
    (2/392)

    فرجة فأراد الداخل سدها فيغتفر له لتقصيرهم. أورد فيه حديث سلمان، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب الدهن للجمعة".
    (2/393)

    20 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
    911- حدثنا محمد قال أخبرنا مخلد بن يزيد قال أخبرنا بن جريج قال سمعت نافعا يقول سمعت بن عمر رضي الله عنهما يقول ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه قلت لنافع الجمعة قال الجمعة وغيرها
    [الحديث911- طرفاه في: 6370.6369]
    قوله باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه هذه الترجمة المقيدة بيوم الجمعة ورد فيها حديث صحيح لكنه ليس على شرط البخاري أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول تفسحوا ويؤخذ منه أن الذي يتخطى بعد الاستئذان خارج عن حكم الكراهة وقوله في الحديث لا يقيم الرجل أخاه لا مفهوم له بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا وأن فعله من جهة الأثره كان أقبح وكأن البخاري اغتنى عنه بعموم حديث بن عمر المذكور فى الباب وبالعموم المذكور احتج نافع حين سأله بن جريج عن الجمعة وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى وقد تقدم بيان دخول هذه الصورة في التفرقة التي قبلها وشيخ البخاري فيه هو محمد بن سلام كما وقع منسوبا في رواية أبي ذر
    (2/393)

    21 - باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ "
    [الحديث912- أطرافه في :916.915.913]
    قوله: "باب الأذان يوم الجمعة" أي متى يشرع. قوله: "عن السائب بن يزيد" في رواية عقيل عن ابن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره. وفي رواية يونس عن الزهري سمعت السائب، وسيأتيان بعد هذا. قوله: "كان النداء يوم الجمعة" في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة، وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب " كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة " قال ابن خزيمة: قوله أذانين يريد الأذان والإقامة، يعني تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام كما تقدم في أبواب الأذان. قوله: "إذا جلس الإمام على المنبر" في رواية أبي عامر المذكورة " إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة " وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري ولفظه: "وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر " وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون قوله:
    (2/393)

    باب الؤذن الواحد يوم الجمعة
    ...
    22 - باب الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    913- حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن الزهري عن السائب بن يزيد " أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم , واحد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام ,يعني على المنبر
    قوله: "باب المؤذن الواحد يوم الجمعة" أورد فيه حديث السائب بن يزيد المذكور في الباب قبله وزاد فيه: "ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد " ومثله للنسائي وأبي داود من رواية صالح ابن كيسان، ولأبى داود وابن خزيمة من رواية ابن إسحاق كلاهما عن الزهري، وفي مرسل مكحول المتقدم نحوه، وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا، والمراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم. قال الإسماعيلي لعل قوله: "مؤذن " يريد به التأذين فعبر عنه بلفظ المؤذن لدلالته عليه. انتهى. وما أدرى ما الحامل له على هذا التأويل؟ فإن المؤذن الراتب هو بلال، وأما أبو محذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه، وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح كما تقدم في الأذان، فلعل الإسماعيلي استشعر إيراد أحد هؤلاء فقال ما قال، ويمكن أن يكون المراد بقوله: "مؤذن واحد " أي في الجمعة
    (2/395)

    فلا ترد الصبح مثلا، وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها. ثم وجدته في مختصر البويطي صلى الله عليه وسلم عن الشافعي.
    ـــــــ
    (1) في المخطوطة الرياض " المزني"
    (2/396)

    23 - باب يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
    914- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ مُعَاوِيَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنَا فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي "
    قوله: "باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء" في رواية كريمة: "يؤذن " بدل يجيب، فكأنه سماه أذانا لكونه بلفظه. قوله: "عن أبي أمامة" في رواية الإسماعيلي من طريق حبان وعبدان عن عبد الله - وهو ابن المبارك - سمعت أبا أمامة. قوله: "وأنا" أي أشهد، أو أنا أقول مثله. قوله: "فلما أن قضى" أي فرغ " وأن " زائده، وسقطت في رواية الأصيلي، وللكشميهني: "فلما أن انقضى " أي انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد تعلم العلم وتعليمه من الإمام وهو على المنبر، وأن الخطيب يجيب المؤذن وهو على المنبر، وأن قول المجيب " وأنا كذلك " ونحوه يكفي في إجابة المؤذن، وفيه إباحة الكلام قبل الشروع في الخطبة، وأن التكبير في أول الأذان غير مرجع وفيهما نظر، وفيه الجلوس قبل الخطبة. وبقية مباحثه تقدمت في أبواب الأذان.
    (2/396)

    24 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
    915- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب أن السائب بن يزيد أخبره أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام"
    قوله: "باب الجلوس على المنبر عند التأذين" تقدمت مباحث حديث السائب قريبا، ومناسبته للذي قبله ظاهرة جدا، وأشار الزين بن المنير إلى أن مناسبة هذه الترجمة الإشارة إلى خلاف من قال الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع وهو عن بعض الكوفيين. وقال مالك والشافعي والجمهور: هو سنة. قال الزين: والحكمة فيه سكون اللفظ، والتهيؤ للإنصات، والاستنصات لسماع الخطبة، وإحضار الذهن للذكر.
    (2/396)

    25 - باب التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ
    916- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ
    (2/396)

    26 - باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
    وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ
    917- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَقَدْ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لاَعْرِفُ مِمَّا هُوَ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فُلاَنَةَ امْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي "
    918- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ "
    قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
    919- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ "
    قوله: "باب الخطبة على المنبر" أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها. قوله: "وقال أنس خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر" هذا طرف من حديث أورده المصنف في الاعتصام وفي الفتن مطولا وفيه قصة عبد الله بن حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الذي قال: "هلك المال " وسيأتي ثم. قوله: "أن رجالا أتوا سهل بن سعد" لم أقف على أسمائهم. قوله: "امتروا" من المماراة وهي المجادلة. وقال الكرماني: من الامتراء وهو
    (2/397)

    الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عند مسلم: "أن تماروا " فإن معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه "فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا". وقال أيضا: المرية التردد في الشيء، ومنه "فلا تكن في مرية من لقائه". قوله: "والله إني لأعرف مما هو" فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع. وفي قوله: "ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه " زيادة على السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوه معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب الصلاة على المنبر أن سهلا قال: "ما بقي أحد أعلم به مني". قوله: "أرسل الخ" هو شرح الجواب. قوله: "إلى فلانة امرأة من الأنصار" في رواية أبي غسان عن أبي حازم " امرأة من المهاجرين " كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبي غسان لإطباق أصحاب أبي حازم على قولهم " من الأنصار"، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في " باب الصلاة على المنبر " في أوائل الصلاة. قوله: "مري غلامك النجار" سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في " شرف المصطفي " جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة بن غزية عنه ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرا. قال وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون " فذكر الحديث، وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبي عبد الله الغفاري " سمعت سهل بن سعد يقول: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى الغابة، وآتني من خشبها، فاعمل لي منبرا " الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى: أحدها اسمه إبراهيم، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي نضرة عن جابر. وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرواس وهو متروك، ثانيها باقول بموحدة وقاف مضمومة، رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيم في المعرفة لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا. ثالثها صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن بشكوال بإسناد شديد الانقطاع. رابعها قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم، ذكره عمر بن شبة في " الصحابة " بإسناد مرسل. خامسها كلاب مولى العباس كما سيأتي. سادسها تميم الداري رواه أبو داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبي عاصم عن عبد العزيز ابن أبي رواد " عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرا يحمل عظامك؟ قال: بلى، فاتخذ له منبرا " الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة، فإن البخاري أشار إليه ثم، وروى ابن سعد في " الطبقات " من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال: إن القيام قد شق على . فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل " الحديث رجاله ثقات إلا المواقدي. سابعها ميناء ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار " حدثني إسماعيل - هو ابن أبي أويس - عن أبيه قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة - أو من بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم - يقال له ميناء " انتهى. وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه في " باب الصلاة على المنبر والسطوح " عن ابن التين أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد. وليس في جميع هذه الروايات التي سمي فيها النجار شيء قوي السند إلا حديث ابن عمر، وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداري، بل قد تبين من رواية ابن
    (2/398)

    سعد أن تميما لم يعمله. وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة " لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد " إلا إن كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته والبقية أعوانه فيمكن والله أعلم. ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك منبرا " الحديث، ولم يسمه يحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداري لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم. وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع. وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: "فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا " فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى. وحكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد ابن عبد الرحمن بن عوف قال: "بعث معاوية إلى مروان - وهو عامله على المدينة - أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هي عليها اليوم"، ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: "فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس " قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين صلى الله عليه وسلم منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر الله له صالح عمله آمين. قوله: "فعملها من طرفاء الغابة" في رواية سفيان عن أبي حازم " من أثلة الغابة " كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجر ملتف. قوله: "فأرسلت" أي المرأة تعلم بأنه فرغ. قوله: "فأمر بها فوصعت" أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز ابن أبي حازم " فعمل له هذا الدرجات الثلاث". قوله: "ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها" أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. قوله: "وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقري" لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم ولفظه: "كبر فقرأ وركع
    ـــــــ
    (1) في هامش طبعة بولاق"في نسخة أخرى : بعد عشرين سنة"
    (2/399)

    ثم رفع رأسه ثم رجع القهقري " القهقرى بالقصر المشي إلى خلف. والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة. وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني " فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر " فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة. قوله: "في أصل المنبر" أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه. قوله: "ثم عاد" زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته قوله: "ولتعلموا" بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفي عليه رؤيته إذا صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه. وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في " باب الصلاة في السطوح " وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد صلى الله عليه وسلم إما شكرا وإما تبركا. وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض. وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة. قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين. ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لمن ولى الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين، والله الموفق. قوله: "أخبرني يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وابن أنس هو حفص بن عبيد الله بن أنس كما سيأتي في الرواية المعلقة، ونسب في هذه إلى جده، قال أبو مسعود الدمشقي في " الأطراف ": إنما أبهم البخاري حفصا لأن محمد بن جعفر بن أبي كثير يقول: "عبيد الله بن حفص " فيقلبه. قلت: كذا رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق محمد بن مسكين عن ابن أبي مريم شيخ البخاري فيه، ولكن أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأحوص محمد بن الهيثم عن ابن أبي مريم فقال: "عن حفص بن عبيد الله " على الصواب، وقلبه أيضا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن يحيى بن سعيد أخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال: الصواب فيه حفص بن عبيد الله. روفي تاريخ البخاري " حفص بن عبيد الله بن أنس. وقال بعضهم: عبيد الله بن حفص، ولا يصح عبيد الله". قوله: "أصوات العشار" بكسر المهملة بعدها معجمة قال الجوهري: العشار جمع عشراء بالضم ثم الفتح وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر ولا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد. وقال الخطابي: العشار الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة. ويقال: اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر، يقال ناقة عشراء ونوق عشار على غير قياس. وسيأتي الكلام علي حديث الجذع في علامات النبوة إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال سليمان عن يحيى أخبرني حفص بن عبيد الله" أما سليمان فهو ابن بلال، وأما يحي فهو ابن سعيد، وقد وصله المصنف في علامات النبوة بهذا الإسناد، وزعم بعضهم أنه سليمان بن كثير لأنه رواه عن يحيى بن سعيد، لكن فيه نظر لأن سليمان بن كثير قال فيه عن يحيى عن سعيد بن المسيب عن جابر كذلك
    ـــــــ
    (1) في هذا الإستنباط نظر , لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث أنه صلى على المنبر ليأتم به الناس ويتعلموا منه ولو كان صلى عليه للذي استنبطه الشارح لبينه . والله أعلم
    (2/400)

    أخرجه الدارمي عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان، فإن كان محفوظا فليحيى بن سعيد فيه شيخان والله أعلم. قوله: "يخطب على المنبر" هذا القدر هو المقصود إيراده في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على المتن في " باب فضل الغسل يوم الجمعة " ويستفاد منه أن للخطيب تعليم الأحكام على المنبر.
    (2/401)

    27 - باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
    وَقَالَ أَنَسٌ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا
    920- حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما يباع يقوم كما تفعلون الآن "
    [الحديث920 - طرفه في 928]
    قوله: "باب الخطبة قائما" قال ابن المنذر الذي حمل عليه جل أهل العلم من علماء الأمصار ذلك، ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب، وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة، وعند الباقين أن القيام في الخطبة يشترط للقادر كالصلاة، واستدل للأول بحديث أبي سعيد الآتي في المناقب " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله " وبحديث سهل الماضي قبل " مري غلامك يعمل لي أعوادا أجلس عليها " والله الموفق. وأجيب عن الأول أنه كان في غير خطبة الجمعة، وعن الثاني باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد وبين الخطبتين، واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة المذكور وبحديث كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا "وتركوك قائما" وفي رواية ابن خزيمة ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين " وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية " وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نقل عنه القعود كان معذورا. فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه، وأما من احتج بأنه لو كان شرطا ما صلى من أنكر ذلك مع القاعد فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود ثم إنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر. قوله: "وقال أنس الخ" هو طرف من حديث الاستسقاء أيضا وسيأتي في بابه. ثم أورد في الباب حديث ابن عمر، وقد ترجم له بعد بابين " القعدة بين الخطبتين " وسيأتي الكلام عليه ثم. وفي الباب حديث جابر بن سمره " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب " أخرجه مسلم، وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر إلا أن إسناده ليس على شرط البخاري. وروى ابن أبي شيبه من طريق طاوس قال: "أول من خطب قاعدا معاوية حين كثر شحم بطنه " وهذا مرسل، يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال: "أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعي جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية " وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة، حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما " ولا حجة في ذلك
    (2/401)

    لمن أجاز الخطبة قاعدا لأنه تبين أن ذلك للضرورة.
    (2/402)

    28 - باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ الْقَوْمَ وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ
    وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الإِمَامَ
    921- حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري قال إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله "
    [الحديث921- أطرافه في : 6427.2842.1465]
    قوله: "باب استقبال الناس الإمام إذا خطب" زاد في رواية كريمة في أول الترجمة " يستقبل الإمام القوم " ولم يبت الحكم وهو مستحب عند الجمهور، وفي وجه يجب، جزم به أبو الطيب الطبري من الشافعية فإن فعل أجزأ، وقيل لا، ذكره الشاشي، ونقل في شرح المهذب أن الالتفات يمينا وشمالا مكروه اتفاقا إلا ما حكى عن بعض الحنفية فقال أكثرهم: لا يصح، ومن لازم الاستقبال استدبار الإمام القبلة، واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان أدعى لتفهم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. قوله: "واستقبل ابن عمر وأنس الإمام" أما ابن عمر فرواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم قال: ذكرت لليث بن سعد فأخبرني عن ابن عجلان أنه أخبره عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله. وأما أنس فرويناه في نسخة نعيم صلى الله عليه وسلم ابن حماد بإسناد صحيح عنه أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يوم الجمعة يستقبله بوجهه حتى يفرغ من الخطبة، ورواه ابن المنذر من وجه آخر " عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام " قال ابن المنذر: لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء. وحكى غيره عن سعيد بن المسيب والحسن شيئا محتملا. وقال الترمذي: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، يعني صريحا. وقد استنبط المصنف من حديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله " مقصود الترجمة، وهو طرف من حديث طويل سيأتي بهذا الإسناد في كتاب الزكاة في باب الصدقة على اليتامى، ويأتي الكلام عليه في الرقاق إن شاء الله تعالى. ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبا، ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، إذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها، والله أعلم.
    (2/402)

    29 - باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ
    رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
    922- وَقَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ
    ـــــــ
    (1) في طبعة بولاق : في نسخة أخرى " من نسخة شيخة نعيم"
    (2/402)

    30 - باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    928- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا
    قوله: "باب القعدة بين الخطبتين" قال الزين بن المنير: لم يصرح بحكم الترجمة لأن مستند ذلك الفعل ولا عموم له ا هـ. ولا اختصاص بذلك لهذه الترجمة فإنه لم يصرح بحكم غيرها من أحكام الجمعة، وظاهر صنيعه أنه يقول بوجوبها كما يقول به في أصل الخطبة. قوله: "يخطب خطبتين يقعد بينهما" مقتضاه أنه كان يخطبهما قائما، وصرح به في رواية خالد بن الحارث المتقدمة قبل ببابين ولفظه: "كان يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم " وللنسائي والدار قطني من هذا الوجه " كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس " وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصحيحين، ورواه أبو داود بلفظ: "كان يخطب خطبتين: كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب " واستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا. واستدل به الشافعي في إيجاب الجلوس بين الخطبتين لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . قال ابن دقيق العيد: يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل. وزعم الطحاوي أن الشافعي تفرد بذلك، وتعقب بأنه محكي عن مالك أيضا في رواية، وهو المشهور عن أحمد نقله شيخنا في شرح الترمذي، وحكى ابن المنذر أن بعض العلماء عارض الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلا على شرطية الجلسة الوسطى فلتكن دليلا على شرطية الجلسة الأولى، وهذا متعقب بأن جل الروايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى وهي من رواية عبد الله العمري المضعف فلم تثبت المواظبة عليها، بخلاف التي بين الخطبتين. وقال صاحب " المغني ": لم يوجبها أكثر أهل العلم لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تجب، وقدرها من قال بوجوبها بقدر جلسة الاستراحة وبقدر ما يقرأ سورة الإخلاص. واختلف في حكمتها فقيل: للفصل بين الخطبتين، وقيل للراحة وعلى الأول - وهو الأظهر - يكفي السكوت بقدرها، ويظهر أثر الخلاف أيضا فيمن خطب قاعدا لعجزه عن القيام. وقد ألزم الطحاوي من قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين أن يوجب القيام في الخطبتين، لأن كلا منهما اقتصر على فعل شيء واحد. وتعقبه الزين بن المنير. وبالله التوفيق.
    ـــــــ
    (1) يشير الشارح بهذا إلى قوله تعالى في سورة ص {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ومقصوة أن قوله تعالى {هذا وإن } بمنزلة " أما بعد " والله أعلم
    (2/406)

    31 - باب الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
    930- حدثنا آدم قال حدثنا بن أبي ذئب عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة ليث يهدي بقرة كبشا دجاجة بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر "
    [الحديث929- طرفه في : 3211]
    قوله: "باب الاستماع" أي الإصغاء للسماع، فكل مستمع سامع من غير عكس، وأورد المصنف فيه حديث كتابة الملائكة من يبكر يوم الجمعة، وفيه: "فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر " وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في " باب فضل الجمعة " وفيه إشارة إلى أن من الكلام من ابتداء الإمام في الخطبة لأن الاستماع لا يتجه إلا إذا تكلم. وقالت الحنفية: يحرم الكلام من ابتداء خروج الإمام، وورد فيه حديث ضعيف سنذكره في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.
    (2/407)

    3 - باب إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
    930- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَارْكَعْ"
    [الحديث930-طرفاه في:1166.931]
    قوله: "باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين" أي إذا كان لم يصلهما قبل أن يراه.
    قوله: "عن جابر بن عبد الله" صرح في الباب الذي يليه بسماع عمرو له من جابر. قوله: "جاء رجل" هو سليك بمهملة مصغرا ابن هدية وقيل ابن عمرو الغطفاني بفتح المعجمة ثم المهملة بعدها فاء من غطفان بن سعد بن قيس عيلان، ووقع مسمى في هذه القصة عند مسلم من رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له: أصليت ركعتين؟ فقال: لا. فقال: قم فاركعهما " ومن طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نحوه وفيه: "فقال له: يا سليك، قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما " هكذا رواه حفاظ أصحاب الأعمش عنه، ووافقه الوليد أبو بشر عن أبي سفيان عند أبي داود والدار قطني، وشذ منصور أبي الأسود عن الأعمش بهذا الإسناد فقال: "جاء النعمان بن نوفل " فذكر الحديث أخرجه الطبراني، قال أبو حاتم الرازي: وهم فيه منصور يعني في تسمية الآتي، وقد رواه الطحاوي من طريق حفص بن غياث عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدث بحديث سليك الغطفاني، ثم سمعت أبا سفيان يحدث به عن جابر، فتحرر أن هذه القصة لسليك. وروى الطبراني أيضا من طريق أبي صالح عن أبي ذر " أنه أتى النبي
    (2/407)

    صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال لأبي ذر: صليت ركعتين؟ قال: لا " الحديث، وفي إسناده ابن لهيعة، وشذ بقوله: "وهو يخطب " فإن الحديث مشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، أخرجه ابن حبان وغيره. وأما ما رواه الدار قطني من حديث أنس قال: "دخل رجل من قيس المسجد " فذكر نحو قصة سليك، فلا يخالف كونه سليكا فإن غطفان من قيس كما تقدم، وإن كان بعض شيوخنا غاير بينهما وجوز أن تكون الواقعة تعددت فإنه لم يتبين لي ذلك. واختلف فيه على الأعمش اختلافا آخر رواه. الثوري عنه عن أبي سفيان عن جابر عن سليك فجعل الحديث من مسند سليك، قال ابن عدي: لا أعلم أحدا قاله عن الثوري هكذا غير الفريابي وإبراهيم بن خالد ا هـ. وقد قاله عنه أيضا عبد الرزاق، أخرجه هكذا في مصنفه وأحمد عنه وأبو عوانة والدار قطني من طريقه، ونقل ابن هدي عن النسائي أنه قال: هذا خطأ ا هـ. والذي يظهر لي أنه ما عني أن جابرا حمل القصة عن سليك، وإنما معناه أن جابرا حدثهم عن قصة سليك، ولهذا نظير سأذكره في حديث أبي مسعود في قصة أبي شعيب اللحام في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى. ومن المستغربات ما حكاه ابن بشكوال في المبهمات أن الداخل المذكور يقال له أبو هدية، فإن كان محفوظا فلعلها كنية سليك صادفت اسم أبيه. قوله: "فقال صليت؟" كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام وثبت في رواية الأصيلي. قوله: "قم فاركع" زاد المستملي والأصيلي: "ركعتين " وكذا في رواية سفيان في الباب الذي بعده " فصل ركعتين"، واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد، وتعقب بأنها واقعة عين لا عموم لها فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم " جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل في هيئة بذة، فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة " الحديث فأمره أن يصلي ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئه بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " وعرف بهذه الرواية الرد على من طعن في هذا التأويل فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه، أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم فليركع حتى يتصدق الناس عليه. والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة، ومما يضعف الاستدلال به أيضا على جواز التحية في تلك الحال أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس، وورد أيضا ما يؤكد الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثل هذا " أخرجه ابن حبان، انتهى ما اعتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية. والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق، قال ابن المنير في الحاشية: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به، ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته صلى الله عليه وسلم بأمره بالصلاة أيضا في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا، ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء عله لا علة كاملة. وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم، أما الجاهل أو الناسي فلا، وحال هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما وفي المرتين
    (2/408)

    الأخريين على النسيان، والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة، قال ابن العربي: عارض قصة سليك ما هو أقوى منها كقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت " متفق عليه، قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى. وعارضوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الذي دخل يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبد الله بن بشر، قالوا: فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تئول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا، وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث وهو تخصيص عمومه بالداخل، وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، فقد تقدم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ " فأطلق على القول: سرا السكوت، وأما حديث ابن بشر فهو أيضا واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصة سليك بمثل ذلك، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله له " اجلس " أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل " فلا تجلس حتى تصلي ركعتين " فمعنى قوله اجلس أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن الحديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم الأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله. وأما قصة سليك فقد ذكر الترمذي أنها أصح شيء روى في هذا الباب وأقوى، وأجاب المانعون أيضا بأجوبة غير ما تقدم، اجتمع لنا منها زيادة على عشرة أوردتها ملخصة مع الجواب عنها لتستفاد: "الأول" قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم لما خاطب سليكا سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سليك بين سماع الخطبة وصلاة التحية، فليس فيه حجة لمن أجاز التحية والخطيب يخطب، والجواب أن الدار قطني الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعفه وقال: إن الصواب أنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا، وقد تعقبه ابن المنير في الحاشية بأنه لو ثبت لم يسغ على قاعدتهم، لأنه يستلزم جواز قطع الخطبة لأجل الداخل، والعمل عندهم لا يجوز قطعه بعد الشروع فيه لا سيما إذا كان واجبا. "الثاني" قيل: لما تشاغل النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه، إذ لم يكن منه حينئذ خطبة لأجل تلك المخاطبة، قاله ابن العربي وادعى أنه أقوى الأجوبة. وتعقب بأنه من أضعفها لأن المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطبته، وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة، فصح أنه صلى في حال الخطبة. "الثالث": قيل كانت هذه القصة قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويدل عليه قوله في رواية الليث عند مسلم: "والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر " وأجيب بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضا، فيكون كلمه بذلك وهو قاعد، فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم لخطبة لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضا أن يكون الراوي تجوز في قوله: "قاعد "
    (2/409)

    لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. "الرابع" قيل: كانت هذه القصة قبل تحريم الكلام في الصلاة، وتعقب بأن سليكا متأخر الإسلام جدا وتحريم الكلام متقدم جدا كما سيأتي في موضعه في أواخر الصلاة، فكيف يدعي نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: كانت قبل الأمر بالإنصات، وقد تقدم الجواب عنه، وعورض هذا الاحتمال بمثله في الحديث الذي استدلوا به وهو ما أخرجه الطبراني عن ابن عمر " إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام " لاحتمال أن يكون ذلك قبل الأمر بصلاة التحية، والأولى في هذا أن يقال على تقدير تسليم ثبوت رفعه: يخص عمومه بحديث الأمر بالتحية خاصة كما تقدم. "الخامس" قيل: اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه، وقد اتفقوا على أن من كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة فليكن الآتي كذلك قاله الطحاوي، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، وما نقله من الاتفاق وافقه عليه الماوردي وغير، وقد شذ بعض الشافعية فقال: ينبني على وجوب الإنصات، فإن قلنا به امتنع التنفل وإلا فلا. "السادس" قيل: اتفقوا على أن الداخل والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية، ولا شك أن الخطبة صلاة فتسقط عنه فيها أيضا، وتعقب بأن الخطبة ليست صلاة من كل وجه والفرق بينهما ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل جلوسه، بخلاف الداخل في حال الصلاة فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود، هذا مع تفريق الشارع بينهما فقال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وقد وقع في بعض طرقه: "فلا صلاة إلا التي أقيمت " ولم يقل ذلك في حال الخطبة بل أمرهم فيها بالصلاة. "السابع" قيل: اتفقوا على سقوط التحية عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، وتعقب بأنه أيضا قياس في مقابلة النص فهو فاسد، ولأن الأمر وقع مقيدا بحال الخطبة فلم يتناول الخطيب. وقال الزين بن المنير: منع الكلام إنما هو لمن شهد الخطبة لا لمن خطب، فكذلك الأمر بالإنصات واستماع الخطبة. "الثامن" قيل: لا نسلم أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائته كالصبح مثلا قاله بعض الحنفية وقواه ابن المنير في الحاشية وقال: لعله صلى الله عليه وسلم كان كشف له عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له في الخطاب، قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه لأنه قد رآه لما دخل. وقد تولى رده ابن حبان في صحيحه فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى. ومن هذه المادة قولهم: إنما أمره بسنة الجمعة التي قبلها، ومستندهم قوله في قصة سليك عند ابن ماجه: "أصليت قبل أن تجيء " لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد. وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء أي إلى الموضع الذي أنت به الآن وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى، ويؤكده أن في رواية لمسلم: "أصليت الركعتين " بالألف واللام وهو للعهد ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد. وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء كما سيأتي في بابه. "التاسع" قيل: لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدل عل أنها كانت لغيرها قوله للداخل " أصليت " لأن وقت الصلاة لم يكن دخل اهـ. وهذا ينبني على أن الاستفهام وقع عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب وفي الذي بعده أن ذلك
    (2/410)

    كان يوم الجمعة فهو ظاهر في أن الخطبة كانت لصلاة الجمعة. "العاشر" قال جماعة منهم القرطبي: أقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا، وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضا، فروى الترمذي وابن خزيمة وصححاه عن عياض بن أبي سرح " أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما " انتهى. ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال، كقول ثعلبة بن أبي مالك " أدركت عمر وعثمان - وكان الإمام - إذا خرج تركنا الصلاة " ووجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: كل من نقل عنه - يعني من الصحابة - منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال، انتهى. ولم أقف على ذلك صريحا عن أحد من الصحابة. وأما ما رواه الطحاوي " عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس ولم يركع " وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران فقد استدل به الطحاوي فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دل على صحة ما قلناه، وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها بل يدل على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم. وسيأتي في أواخر الكلام على هذا الحديث البحث في أن صلاة التحية هل تعم كل مسجد، أو يستثنى المسجد الحرام لأن تحيته الطواف؟ فلعل ابن صفوان كان يرى أن تحيته استلام الركن فقط. وهذه الأجوبة التي قد قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " متفق عليه، وقد تقدم الكلام عليه. وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: "سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب - أو قد خرج - فليصل ركعتين " متفق عليه أيضا، ولمسلم من طريق أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما " ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " قال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. وحكى ابن دقيق العيد أن بعضهم تأول هذا العموم بتأويل مستكره، وكأنه يشير إلى بعض ما تقدم من ادعاء النسخ أو التخصيص. وقد عارض بعض الحنفية الشافعية بأنهم لا حجة لهم في قصة سليك، لأن التحية عندهم تسقط بالجلوس، وقد تقدم جوابه. وعارض بعضهم بحديث أبي سعيد رفعه: "لا تصلوا والإمام يخطب " وتعقب بأنه لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته فيخص عمومه بالأمر بصلاة التحية. وبعضهم بأن عمر لم يأمر عثمان بصلاة التحية مع أنه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء، وأجيب باحتمال أن يكون صلاهما. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، لأنها إذا لم تسقط
    (2/411)

    في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. وفيه أن التحية لا تفوت بالقعود، لكن قيده بعضهم بالجاهل أو الناسي كما تقدم، وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهي ويبين الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها، بل لقائل أن يقول كل ذلك بعد من الخطبة. واستدل به على أن المسجد شرط للجمعة للاتفاق على أنه لا تشرع التحية لغير المسجد وفيه نطر. واستدل به على جواز رد السلام وتشميت العاطس في حال الخطبة لأن أمرهما أخف وزمنهما أقصر ولا سيما رد السلام فإنه واجب، وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب. "فائدة": قيل يخص عموم حديث الباب بالداخل في آخر الخطبة كما تقدم، قال الشافعي: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة، فإن لم يفعل كرهت ذلك. وحكى النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحيه أو متنفلا حال إقامة الصلاة. واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف، وفيه نظر لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين. والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف، والله أعلم.
    (2/412)

    33 - باب مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
    931- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"
    قوله: "باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين" قال الإسماعيلي: لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين. قلت: هو كما قال، إلا أن المصنف جرى على عادته في الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث وهو كذلك، وقد أخرجه أبو قرة في السنن عن الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: "قم فاركع ركعتين خفيفتين " وقد تقدم أنه عند مسلم بلفظ: "وتجوز فيهما". وقال الزين بن المنير ما ملخصه: في الترجمة الأولى أن الأمر بالركعتين يتقيد برؤية الإمام الداخل في حال الخطبة بعد أن يستفسره هل صلي أم لا؟ وذلك كله خاص بالخطيب، وأما حكم الداخل فلا يتقيد بشيء من ذلك، بل يستحب له أن يصلي تحية المسجد، فأشار المصنف إلى ذلك كله بالترجمة الثانية بعد الأولى، مع أن الحديث فيهما واحد. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، ووقع التصريح بسماع سفيان منه في هذا الحديث في مسند الحميدي، وهو عند أبي نعيم في المستخرج. قوله: "صليت" كذا للأكثر أيضا بحذف الهمزة، وثبتت لكريمة وللمستملي. قوله: "قال فصل" زاد في رواية أبي ذر " قال قم فصل".
    (2/412)

    34 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ
    932- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ " بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ
    (2/412)

    35 - باب الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
    933- حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك الماء وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود
    قوله: "باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة" أورد فيه الحديث المذكور مطولا من وجه آخر عن أنس، وهو مطابق للترجمة أيضا وفيه الاكتفاء في الاستسقاء بخطبة الجمعة وصلاتها، ويأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الاستسقاء إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز الكلام في الخطبة كما سيأتي في الباب الذي بعده.
    (2/413)

    36 - باب الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ
    وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ
    (2/413)

    37 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
    935-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا
    [الحديث 935 – طرفاه في:6400.5294]
    (2/415)

    قوله: "باب الساعة التي في يوم الجمعة" أي التي يجاب فيها الدعاء. قوله: "عن أبي الزناد" كذا رواه أصحاب مالك في الموطأ، وثم فيه إسناد آخر إلى أبي هريرة وفيه قصة له مع عبد الله بن سلام. قوله: "فيه ساعة" كذا فيه مبهمة، وعينت في أحاديث أخر كما سيأتي. قوله: "لا يوافقها" أي يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. قوله: "وهو قائم يصلي يسأل الله" هي صفات لمسلم أعربت حالا، ويحتمل أن يكون يصلي حالا منه لاتصافه بقائم، ويسأل حال مترادفة أو متداخلة، وأفاد ابن عبد البر أن قوله: "وهو قائم " سقط من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة وأثبتها الباقون، قال: وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه، وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها من الحديث، وكان السبب في ذلك أنه يشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه الساعة، وهما حديثان أحدهما أنها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة، والثاني أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس. وقد احتج أبو هريرة على عبد الله بن سلام لما ذكر له القول الثاني بأنها ليست ساعة صلاة وقد ورد النص بالصلاة فأجابه بالنص الآخر أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، فلو كان قوله: "وهو قائم " عند أبي هريرة ثابتا لاحتج عليه بها لكنه سلم له الجواب وارتضاه وأفتى به بعده. وأما إشكاله على الحديث الأول فمن جهة أنه يتناول حال الخطبة كله وليست صلاة على الحقيقة، وقد أجيب عن هذا الإشكال بحمل الصلاة على الدعاء أو الانتظار، ويحمل القيام على الملازمة والمواظبة، ويؤيد ذلك أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد مع أن السجود مظنة إجابة الدعاء، فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه، فدل على أن المراد مجاز القيام وهو المواظبة ونحوها ومنه قوله تعالى: { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً } فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي بالقائم من باب التعبير عن الكل بالجزء، والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة. قوله: "شيئا" أي مما يليق أن يدعو به المسلم ويسأل ربه تعالى. وفي رواية سلمة بن علقمة عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة عند المصنف في الطلاق " يسال الله خبرا " ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة مثله، وفي حديث أبى لبابة عند ابن ماجه: "ما لم يسأل حراما " وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد " ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم " وهو نحو الأول، وقطيعة الرحم من جملة الإثم فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. قوله: "وأشار بيده" كذا هنا بإبهام الفاعل. وفي رواية أبي مصعب عن مالك " وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية سلمة بن علقمة التي أشرت إليها " ووضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر قلنا يزهدها " وبين أبو مسلم الكجي أن الذي وضع هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسر الإشارة بذلك، وأنها ساعة لطيفة تتنقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله: "يزهدها " أى يقللها، ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة " وهي ساعة خفيفة " وللطبراني في الأوسط في حديث أنس " وهي قدر هذا، يعني قبضة " قال الزين بن المنير: الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها. وقد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إلى من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى الجمع بينها والترجيح. فالأول: أنها رفعت، حكاه ابن عبد البر عن قوم وزيفه. وقال عياض: رده السلف
    (2/416)

    على قائله. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن عبس مولى معاوية قال: "قلت لأبي هريرة: إنهم زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء رفعت، فقال: كذب من قال ذلك. قلت: فهي في كل جمعة؟ قال نعم " إسناده قوي. وقال صاحب الهدى: إن أراد قائله أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فصارت مبهمة احتمل، وإن أراد حقيقتها فهو مردود على قائله، القول الثاني: أنها موجودة لكن في جمعة واحدة من كل سنة، قاله كعب الأحبار لأبي هريرة، فرد عليه فرجع إليه، رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن. الثالث: أنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليله القدر في العشر. روى ابن خزيمة والحاكم من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة " سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: قد أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري فقال: لم أسمع فيها بشيء، إلا أن كعبا كان يقول لو أن إنسانا قسم جمعة في جمع لأتى على تلك الساعة، قال ابن المنذر: معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلى وقت معلوم، ثم في جمعة أخرى يبتدئ من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى بأتي على آخر النهار. قالة: وكعب هذا هو كعب الأحبار، قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: إن طلب حاجة في يوم ليسير، قال: معناه أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي يستجاب فيه الدعاء انتهى. والذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى على ذلك، وإلا فالذي قاله كعب سهل على كل أحد، وقضية ذلك أنهما كانا يريان أنها غير معينة، وهو قضية كلام جمع من العلماء كالرافعي وصاحب المغني وغيرهما حيث قالوا: يستحب أن يكثر من الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، ومن حجة هذا القول تشبيهها بليلة القدر والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والحكمة في ذلك حث العباد على الاجتهاد في الطلب واستيعاب الوقت بالعبادة، بخلاف ما لو تحقق الأمر في شيء من ذلك لكان مقتضيا للاقتصار عليه وإهمال ما عداه. الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينه لا ظاهرة ولا مخفية، قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال، وذكره الأثرم احتمالا، وجزم به ابن عساكر وغيره. وقال المحب الطبري إنه الأظهر، وعلى هذا لا يتأتى ما قاله كعب في الجزم بتحصيلها. الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره شيخنا الحافظ أبو الفضل في " شرح الترمذي " وشيخنا سراج الدين بن الملقن في " شرحه على البخاري " ونسباه لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة، وقد رواه الروياني في مسنده عنها فأطلق الصلاة ولم يقيدها. رواه ابن المنذر فقيدها بصلاة الجمعة، والله أعلم. السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، رواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وحكاه القاضي أبو الطيب الطبري وأبو نصر بن الصباغ وعياض والقرطبي وغيرهم وعبارة بعضهم: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. السابع مثله وزاد: ومن العصر إلى الغروب. رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وتابعه فضيل بن عياض عن ليث عند ابن المنذر، وليث ضعيف وقد اختلف عليه فيه كما ترى. الثامن مثله وزاد: وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه في الترغيب له من طريق عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: "التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة " فذكرها. التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس حكاه الجبلي في " شرح التنبيه " وتبعه المحب الطبري في شرحه. العاشر: عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في الإحياء وعبر عنه الزين بن المنير في شرحه بقوله: هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع، وعزاه لأبي ذر.

    يتبع
    أعظَم مَن عُرِف عنه إنكار الصانع هو " فِرعون " ، ومع ذلك فإن ذلك الإنكار ليس حقيقيا ، فإن الله عزّ وَجَلّ قال عن آل فرعون :(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)
    وبُرهان ذلك أن فِرعون لَمّا أحسّ بالغَرَق أظْهَر مكنون نفسه ومخبوء فؤاده على لسانه ، فقال الله عزّ وَجَلّ عن فرعون : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

  3. #63

    افتراضي

    الحادي عشر: أنها في آخر الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب " المغني " وهو في مسند الإمام أحمد من طريق على بن أبي طلحة عن أبي هريرة مرفوعا: "يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم، وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله فيها استجيب له " وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قال المحب الطبري: قوله: "في آخر ثلاث ساعات " يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاث الأول، ثانيهما أن يكون المراد أن في آخر كل ساعة من الثلاث ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعض الساعة. الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه المحب الطبري في الأحكام وقبله الزكي المنذري. الثالث عشر: مثله لكن قال أن يصير الظل ذراعا حكاه عياض والقرطبي والنووي. الرابع عشر: بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي إلى الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عنها فقال ذلك، ولعله مأخذ القولين اللذين قبله. الخامس عشر: إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وورد نحوه في أثناء حديث عن علي، وروى عبد الرزاق من طريق الحسن أنه كان يتحراها عند زوال الشمس بسبب قصة وقعت لبعض أصحابه في ذلك، وروى ابن سعد في الطبقات عن عبيد الله بن نوفل نحو القصة، وروى ابن عساكر من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس، وكأن مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع الملائكة وابتداء دخول وقت الجمعة وابتداء الأذان ونحو ذلك. السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة رواه ابن المنذر عن عائشة قالت: "يوم الجمعة مثل يوم عرفة تفتح فيه أبواب السماء، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه. قيل: أية ساعة؟ قالت: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة " وهذا يغاير الذي قبله من حيث أن الأذان قد يتأخر عن الزوال، قال الزين بن المنير: ويتعين حمله على الأذان الذي بين يدي الخطيب. السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن الصباغ بلفظ: إلى أن يدخل الإمام الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام حكاه القاضي أبو الطيب الطبري. التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس حكاه أبو العباس أحمد بن علي بن كشاسب الدزماري وهو بزاي ساكنة وقبل ياء النسب راء مهملة في نكته على التنبيه عن الحسن ونقله عنه شيخنا سراج الدين ابن الملقن في شرح البخاري، وكان الدزماري المذكور في عصر ابن الصلاح. العشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة رواه ابن المنذر عن الحسن. وروى أبو بكر المروزي في " كتاب الجمعة " بإسناد صحيح إلى الشعبي عن عوف بن حصيرة رجل من أهل الشام مثله. الحادي والعشرون: عند خروج الإمام رواه حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب " عن الحسن أن رجلا مرت به وهو ينعس في ذلك الوقت. الثاني والعشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله. ومن طريق معاوية بن قرة عن أبي بردة عن أبى موسى قوله، وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك. الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قوله أيضا، قال الزين بن المنير: ووجهه أنه أخص أحكام الجمعة لأن العقد باطل عند الأكثر فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة بحيث ضاق الوقت فتشاغل اثنان بعقد البيع فخرج وفاتت تلك الصلاة لأثما ولم يبطل البيع. الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس وحكاه البغوي في شرح السنة عنه. الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الإمام
    (2/418)

    على المنبر إلى أن تقضي الصلاة رواه مسلم وأبو داود من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى أن ابن عمر سأله عما سمع من أبيه في ساعة الجمعة فقال: سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا القول يمكن أن يتخذ من اللذين قبله. السادس والعشرون: عند التأذين وعند تذكير الإمام وعند الإقامة رواه حميد بن زنجويه من طريق سليم بن عامر عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي. السابع والعشرون: مثله لكن قال: إذا أذن وإذا رقي المنبر إذا أقيمت الصلاة رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي قوله، قال الزين بن المنير: ما ورد عند الأذان من إجابة الدعاء فيتأكد يوم الجمعة وكذلك الإقامة، وأما زمان جلوس الإمام على المنبر فلأنه وقت استماع الذكر، والابتداء في المقصود من الجمعة. الثامن والعشرون: من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغ رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا وإسناده ضعيف. التاسع والعشرون. إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة حكاه الغزالي في الإحياء. الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح. الحادي والثلاثون: أنها عند نزول الإمام من المنبر رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق عن أبي بردة قوله، وحكاه الغزالي قولا بلفظ: إذا قام الناس إلى الصلاة. الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن أيضا، وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعا بإسناد ضعيف، الثالث والثلاثون: من إقامة الصف إلى تمام الصلاة رواه الترمذي وابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا وفيه: قالوا أية ساعة يا رسول الله؟ قال: حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، وقد ضعف كثير رواية كثير، ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة ورواه ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله، وإسناده قوى إليه، وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه وبرك عليه ومسح على رأسه، وروى ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين نحوه. الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها الجمعة رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين، وهذا يغاير الذي قبله من جهة إطلاق ذاك وتقييد هذا، وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعه أفضل صلوات ذلك اليوم، وأن الوقت الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأوقات، وأن جميع ما تقدم من الأذان والخطبة وغيرهما وسائل وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات، ويؤيده ورود الأمر في القرآن بتكثير الذكر حال الصلاة كما ورد الأمر بتكثير الذكر حال القتال وذلك في قوله تعالى: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وفي قوله: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } - إلى أن ختم الآية بقوله – {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وليس المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار وإن عطف عليه، وإنما المراد تكثير المشار إليه أول الآية صلى الله عليه وسلم والله أعلم. الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "فالتمسوها بعد العصر " وذكر ابن عبد البر أن قوله: "فالتمسوها الخ " مدرج في الخبر من قول أبي سلمة، ورواه ابن منده من هذا الوجه وزاد: "أغفل ما يكون الناس " ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبد الله بن عتبة عن أخيه عبيد الله
    ـــــــ
    (1)هذا فيه نظر , وسياق الآية مخالفة. والله أعلم
    (2/419)

    كقول ابن عباس، ورواه الترمذي من طريق موسى بن وردان عن أنس مرفوعا بلفظ: "بعد العصر إلى غيبوبة الشمس " وإسناده ضعيف. السادس والثلاثون: في صلاة العصر رواه عبد الرزاق عن عمر بن ذر عن يحي بن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفيه قصة. السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار حكاه الغزالي في الإحياء. الثامن والثلاثون: بعد العصر كما تقدم عن أبي سعيد مطلقا، ورواه ابن عساكر من طريق محمد بن سلمة الأنصاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا بلفظ: "وهي بعد العصر " ورواه ابن المنذر عن مجاهد مثله، ورواه ابن جريج صلى الله عليه وسلم من طريق إبراهيم بن ميسرة عن رجل أرسله عمرو بن أويس إلى أبي هريرة فذكر مثله قال: وسمعته عن الحكم عن ابن عباس مثله، ورواه أبو بكر المروذي من طريق الثوري وشعبة جميعا عن يونس بن خباب قال الثوري: عن عطاء. وقال شعبة: عن أبيه عن أبي هريرة. مثله " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يتحراها بعد العصر، وعن ابن جريج عن بعض أهل العلم قال: لا أعلمه إلا من ابن عباس مثله، فقيل له: لا صلاة بعد العصر، فقال: بلى، لكن من كان في مصلاه لم يقم منه فهو في صلاة". التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار كما تقدم أول الباب عن سلمة بن علقمة. الأربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن كيسان عن طاوس قوله، وهو قريب من الذي بعده. الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر رواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي سلمة عن جابر مرفوعا وفي أوله " أن النهار اثنتا عشرة ساعة " ورواه مالك وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله ابن سلام قوله، وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك واحتجاج عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة، وروى ابن جرير صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا مثله ولم يذكر عبد الله ابن سلام قوله ولا القصة، ومن طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قوله. وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة أنه سمع أبا سلمة يقول: حدثنا عبد الله بن عامر فذكر مثله، وروى البزار وابن جرير من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام مثله، وروى ابن أبي خيثمة من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد فذكر الحديث وفيه: قال أبو سلمة فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ذلك فلم يعرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: النهار اثنتا عشرة ساعة، وإنها لفي آخر ساعة من النهار. ولابن خزيمة من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قلت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس - إنا لنجد في كتاب الله أن في الجمعة ساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو بعض ساعة، قلت: نعم أو بعض ساعة الحديث، وفيه: قلت أي ساعة؟ فذكره. وهذا يحتمل أن يكون القائل " قلت " عبد الله بن سلام فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة فيكون موقوفا وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير بأن عبد الله بن سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو من حين تدلي الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها رواه الطبراني في الأوسط والدار قطني في العلل والبيهقي في الشعب وفضائل الأوقات من طريق زيد بن علي
    ـــــــ
    (1)في مخطوطة الرياض"ابن جرير"
    (2) في مخطوطة الرياض " ابن حزم"
    (2/420)

    ابن الحسين بن علي حدثتني مرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: حدثتني فاطمة عليها السلام عن أبيها فذكر الحديث، وفيه: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب. فكانت فاطمة إذا كان يوم الجمعة أرسلت غلاما لها يقال له زيد ينظر لها الشمس فإذا أخبرها أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب، في إسناده اختلاف على زيد بن علي، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق سعيد بن راشد عن زيد بن على عن فاطمة لم يذكر مرجانة وقال فيه: إذا تدلت الشمس للغروب وقال فيه: تقول لغلام يقال له أربد: اصعد على الظراب، فإذا تدلت الشمس للغروب فأخبرني، والباقي نحوه، وفي آخره: ثم تصلي يعني المغرب. فهذا جميع ما اتصل إلى من الأقوال في ساعة الجمعة مع ذكر أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره. ثم طفرت بعد كتابة هذا بقول زائد على ما تقدم وهو غير منقول، استنبطه صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين الجزري وأذن لي في روايته عنه في كتابه المسمى " الحصن الحصين " في الأدعية لما ذكر الاختلاف في ساعة الجمعه واقتصر على ثمانية أقوال مما تقدم ثم قال ما نصه: والذي أعتقده أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول آمين، جمعا بين الأحاديث التي صحت. كذا قال، ويخدش فيه أنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام، فليتأمل. قال الزين بن المنير: يحسن جمع الأقوال، وكان قد ذكر مما تقدم عشرة أقوال تبعا لابن بطال. قال: فتكون ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها والله المستعان. وليس المراد من أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى " يقللها " وقوله: "وهي ساعة خفيفة". وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا وانتهاؤه انتهاء الصلاة. وكأن كثيرا من القائلين عين ما اتفق له وقوعها فيه من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة، فبهذا التقرير يقل الانتشار جدا. ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام كما تقدم. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام ا هـ. وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسى، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره. وقد اختلف السلف في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمه النيسابوري أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، بذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب. وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا وفي أحد الصحيحين، وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي. وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين
    (2/421)

    بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب: أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي، ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا، لأنا نقول: وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد. وأيضا فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدار قطني بأن الموقوف هو الصواب، وسلك صاحب الهدي مسلكا آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين. وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع. وقال ابن المنير في الحاشية: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وفي مسلم أنه خير يوم طلعت عليه الشمس. وفيه فضل الدعاء واستحباب الإكثار منه، واستدل به على بقاء الإجمال بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن لا خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية كوقت الساعة، فهذا الاختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر - وهو تحصيل الأفضلية - يمكن الوصول إليه والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم أو الليلة، فلم يبق في الحكم الشرعي إجمال والله أعلم. فإن قيل: ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم، مع أن الزمان يختلف باختلاف البلاد والمصلي فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، والله أعلم.
    (2/422)

    38 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْ الإِمَامِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَصَلاَةُ الإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
    936- حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }
    [الحديث936-أطرافه في:4899.2064.2058]
    قوله: "باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة الخ" ظاهر الترجمة أن استمرار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة إلى تمامها ليس بشرط في صحتها، بل الشرط أن تبقى منهم بقية ما. ولم يتعرض البخاري لعدد من تقوم بهم
    (2/422)

    الجمعة لأنه لم يثبت منه شيء على شرطه، وجملة ما للعلماء فيه خمسة عشر قولا: أحدها تصح من الواحد، نقله ابن حزم. الثاني اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن حي. الثالث اثنان مع الإمام، عند أبي يوسف ومحمد. الرابع ثلاثة معه، عند أبي حنيفة. الخامس سبعة، عند عكرمة. السادس تسعة، عند ربيعة. السابع اثنا عشر عنه في رواية. الثامن مثله غير الإمام عند إسحاق. التاسع عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر ثلاثون كذلك. الحادي عشر أربعون بالإمام عند الشافعي. الثاني عشر غير الإمام عنه وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر خمسون عن أحمد في رواية وحكى عن عمر بن عبد العزيز. الرابع عشر ثمانون حكاه المازري. الخامس عشر جمع كثير بغير قيد. ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل، ويمكن أن يزداد العدد باعتبار زيادة شرط كالذكورة والحرية والبلوغ والإقامة والاستيطان فيكمل بذلك عشرون قولا. قوله: "جائزة" في رواية الأصيلي: "تامة". قوله: "عن حصين" هو ابن عبد الرحمن الواسطي ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه، وقد رواه تارة عن سالم بن أبي الجعد وحده كما هنا وهي رواية أكثر أصحابه، وتارة عن أبي سفيان طلحة بن نافع وحده وهي رواية قيس بن الربيع وإسرائيل عند ابن مردويه، وتارة جمع بينهما عن جابر وهي رواية خالد بن عبد الله عند المصنف في التفسير وعند مسلم، وكذا رواية هشيم عنده أيضا. قوله: "بينما نحن نصلي" في رواية خالد المذكورة عند أبي نعيم في المستخرج " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة " وهذا ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، لكن وقع عند مسلم من رواية عبد الله بن إدريس عن حصين " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب " وله في رواية هشيم " بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم - زاد أبو عوانة في صحيحه والترمذي والدار قطني من طريقه - يخطب " ومثله لأبي عوانة من طريق عباد بن العوام، ولعبد بن حميد من طريق سليمان بن كثير كلاهما عن حصين، وكذا وقع في رواية قيس بن الربيع وإسرائيل، ومثله في حديث ابن عباس عند البزار. وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط وفي مرسل قتادة عند الطبراني وغيره. فعلى هذا فقوله: "نصلي " أي ننتظر الصلاة. وقوله: "في الصلاة " أي في الخطبة مثلا وهو من تسمية الشيء بما قاربه، فبهذا يجمع بين الروايتين، ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وكذا استدل به كعب بن عجرة في صحيح مسلم، وحمل ابن الجوزي قوله: "يخطب قائما " على أنه خبر آخر غير خبر كونهم كانوا معه في الصلاة فقال: التقدير صلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخطب قائما الحديث، ولا يخفى تكلفه. قوله: "إذ أقبلت عير" بكسر المهملة هي الإبل التي تحمل التجارة طعاما كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. ونقل ابن عبد الحق في جمعه أن البخاري لم يخرج قوله إذ أقبلت عير تحمل طعاما وهو ذهول منه، نعم سقط ذلك في التفسير وثبت هنا وفي أوائل البيوع وزاد فيه أنها أقبلت من الشام، ومثله لمسلم من طريق جرير عن حصين، ووقع عند الطبري من طريق السدي عن أبي مالك ومرة فرقهما أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي، ونحوه في حديث ابن عباس عند البزار، ولابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس " جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف " وجمع بين هاتين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن بن عوف وكان دحية السفير فيها أو كان مقارضا. ووقع في رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي، ويجمع بأنه كان رفيق دحية. قوله: "فالتفتوا إليها" في رواية ابن فضيل في البيوع "
    ـــــــ
    (1)في المخطوطة" الطبري
    (2/423)

    "فانفض الناس " وهو موافق للفظ القرآن ودال على أن المراد بالالتفات الانصراف، وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره فقال: لا يفهم من هذا الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم، وأما هيئة الصلاة المجزئة فباقية. ثم هو مبني على أن الانفضاض وقع في الصلاة، وقد ترجح فيما مضى أنه إنما كان في الخطبة، فلو كان كما قيل لما وقع هذا الإنكار الشديد، فإن الالتفات فيها لا ينافي الاستماع، وقد غفل قائله عن بقية ألفاظ الخبر. وفي قوله: "فالتفتوا " الحديث التفات، لأن السياق يقتضى أن يقول فالتفتنا، وكأن الحكمة في عدول جابر عن ذلك أنه هو لم يكن ممن التفت كما سيأتي. قوله: "إلا اثني عشر" قال الكرماني ليس هذا الاستثناء مفرغا فيجب رفعه، بل هو من ضمير بقى الذي يعود إلى المصلى فيجوز فيه الرفع والنصب، قال: وقد ثبت الرفع في بعض الروايات ا ه. ووقع في تفسير الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى أبي قتادة قال: "قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنتم؟ فعدوا أنفسهم، فإذا هم اثنا عشر رجلا وامرأة " وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي " وامرأتان " ولابن مردويه من حديث ابن عباس " وسبع نسوة " لكن إسناده ضعيف. واتفقت هذه الروايات كلها على اثني عشر رجلا إلا ما رواه علي بن عاصم عن حصين بالإسناد المذكور فقال: "إلا أربعين رجلا " أخرجه الدار قطني وقال: تفرد به على بن عاصم وهو ضعيف الحفظ، وخالفه أصحاب حصين كلهم. وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال: "أنا فيهم"، وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر"، وفي الترمذي أن هذه الزيادة في رواية حصين عن أبي سفيان دون سالم، وله شاهد عند عبد بن حميد عن الحسن مرسلا ورجال إسناده ثقات، وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي " أن سالما مولى أبي حذيفة منهم " وروى العقيلي عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " وحكى السهيلي أن أسد بن عمرو روى بسند منقطع " أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة وبلال وابن مسعود " قال وفي رواية: "عمار " بدل ابن مسعود ا هـ. ورواية العقيلي أقوى وأشبه بالصواب، ثم وجدت رواية أسد بن عمرو عند العقيلي بسند متصل لا كما قال السهيلي أنه منقطع أخرجه من رواية أسد عن حصين عن سالم. قوله: "فنزلت هذه الآية" ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة، والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم. ووقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكانت لهم سوق كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل السمن، فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه، وكان لهم لهو يضربونه فنزلت: " ووصله أبو عوانة في صحيحه والطبري بذكر جابر فيه: "أنهم كانوا إذا نكحوا تضرب الجواري بالمزامير فيشتد الناس إليهم ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فنزلت هذه الآية " وفي مرسل مجاهد عن عبد بن حميد " كان رجال يقومون إلى نواضحهم، وإلى السفر يقدمون يبتغون التجارة واللهو، فنزلت: " ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معا وأكثر، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي مع تفسير الآية المذكورة في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. والنكتة في قوله: "انفضوا إليها" دون قوله إليهما أو إليه أن اللهو لم يكن مقصودا لذاته وإنما كان تبعا للتجارة، أو حذف لدلالة أحدهما على الآخر. وقال الزجاج: أعيد الضمير إلى المعنى، أي انفضوا إلى الرؤية أي ليروا ما سمعوه. "فائدة": ذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " قال: وهذا لم أجده في الكتابين ولا في مستخرجي الإسماعيلي والبرقاني، قال: وهي فائدة من أبي مسعود،
    (2/424)

    ولعلنا نجدها بالإسناد فيما بعد انتهى. ولم أر هذه الزيادة في الأطراف لأبي مسعود ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة، وإنما وقعت في مرسلي الحسن وقتادة المتقدم ذكرهما، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن مردويه وفي حديث أنس عند إسماعيل بن أبي زياد وسنده ساقط. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن الخطبة تكون عن قيام كما تقدم، وأنها مشترطة في الجمعة حكاه القرطبي واستبعده، وأن البيع وقت الجمعة ينعقد ترجم عليه سعيد بن منصور، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بفسخ ما تبايعوا فيه من العير المذكورة ولا يخفى ما فيه. وفيه كراهية ترك سماع الخطبة بعد الشروع فيها، واستدل به على جواز انعقاد الجمعة باثني عشر نفسا وهو قول ربيعة، ويجئ أيضا على قول مالك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كاف. وتعقب بأنه يحتمل أنه تمادى حتى عادوا أو عاد من تجزئ بهم، إذ لم يرد في الخبر أنه أتم الصلاة. ويحتمل أيضا أن يكون أتمها ظهرا. وأيضا فقد فرق كثير من العلماء بين الابتداء والدوام في هذا فقيل: إذا انعقدت لم يضر ما طرأ بعد ذلك ولو بقي الإمام وحده. وقيل: يشترط بقاء واحد معه، وقيل اثنين، وقيل يفرق بين ما إذا انفضوا بعد تمام الركعة الأولى فلا يضر بخلاف ما قبل ذلك، وإلى ظاهر هذا الحديث صار إسحاق بن راهويه فقال: إذا تفرقوا بعد الانعقاد فيشترط بقاء اثني عشر رجلا. وتعقب بأنها واقعة عين لا عموم فيها، وقد تقدم أن ظاهر ترجمة البخاري تقتضي أن لا يتقيد الجمع الذي يبقى مع الإمام بعدد معين، وتقدم ترجيح كون الانفضاض وقع في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية "لا تبطلوا أعمالكم"، وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة. وقول المصنف في الترجمة " فصلاة الإمام ومن بقي جائزة " يؤخذ منه أنه يرى أن الجميع لو انفضوا في الركعة الأولى ولم يبق إلا الإمام وحده أنه لا تصح له الجمعة، وهو كذلك عند الجمهور كما تقدم قريبا. وقيل تصح إن بقي واحد، وقيل إن بقي اثنان، وقيل ثلاثة، وقيل إن كان صلى بهم الركعة الأولى صحت لمن بقي، وقيل يتمها ظهرا مطلقا. وهذا الخلاف كله أقوال مخرجة في مذهب الشافعي إلا الأخير فهو قوله في الجديد، وإن ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في المراسيل أن الصلاة كانت حينئذ قبل الخطبة زال الإشكال، لكنه مع شذوذه معضل. وقد استشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية. انتهى. وهذا الذي يتعين المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة. وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور. والله أعلم.
    (2/425)

    39- باب الصَّلاَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
    حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين "
    [الحديث937- أطرافه في 1180.1172.1165]
    (2/425)

    قوله: "باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها" أورد فيه حديث ابن عمر في التطوع بالرواتب وفيه: "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين " ولم يذكر شيئا في الصلاة قبلها. قال ابن المنير في الحاشية: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر. قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد انتهى. ووجه العناية المذكورة ورود الخبر في البعد صريحا دون القبل. وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد الظهر من أجل. أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت. انتهى. وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. وقال ابن التين: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسا على الظهر. انتهى. وقواه الزين بن المنير بأنه قصد التسوية بين الجمعة والظهر في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء. انتهى. والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب، وهو ما رواه أبو داود وان حبان من طريق أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك " احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: "وكان يفعل ذلك " عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته " ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع لك " أخرجه مسلم. وأما قوله: "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة " فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق، وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره حيث قال فيه: "ثم صلى ما كتب له". وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة منها عن أبي هريرة رواه البزار بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعا " وفي إسناده ضعف، وعن علي مثله رواه الأثرم والطبراني في الأوسط بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا " وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي وهو ضعيف عند البخاري وغيره. وقال الأثرم إنه حديث واه. ومنها عن ابن عباس مثله وزاد: "لا يفصل في شيء منهن " أخرجه ابن ماجه بسند واه، قال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل. وعن ابن مسعود عند الطبراني أيضا مثله وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفا وهو الصواب. وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم موقوفا نحو حديث أبي هريرة، وقد تقدم في أثناء الكلام على حديث جابر في قصة سليك قبل سبعة أبواب قول من قال: إن المراد بالركعتين اللتين أمره بهما النبي صلى الله عليه وسلم سنة الجمعة، والجواب عنه، وقد تقدم نقل المذاهب في كراهة التطوع نصف النهار ومن استثنى يوم الجمعة دون بقية الأيام في " باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر " في أواخر المواقيت. وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان " ومثله حديث عبد الله بن مغفل الماضي في وقت المغرب بين كل أذانين صلاة، وسيأتي الكلام على بقية حديث ابن عمر في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى
    (2/426)

    باب قول الله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ... الآية)
    ...
    40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى "فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ"
    938- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ "
    [الحديث938- أطرافه في :6279.6248.5403.2349.941.939]
    939- حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بهذا وقال ثم "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة "
    قوله: "باب قول الله عز وجل: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } الآية". أورد فيه حديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي كانت تطعمهم بعد الجمعة، فقيل أراد بذلك بيان أن الأمر في قوله: "فانتشروا - وابتغوا" للإباحة لا للوجوب لأن انصرافهم إنما كان للغداء ثم للقائلة عوضا مما فاتهم من ذلك في وقته المعتاد لاشتغالهم بالتأهب للجمعة ثم بحضورها ووهم من زعم أن الصارف للأمر عن الوجوب هنا كونه ورد بعد الحظر لأن ذلك لا يستلزم عدم الوجوب، بل الإجماع هو الدال على أن الأمر المذكور للإباحة، وقد جنح الداودي إلى أنه على الوجوب في حق من يقدر على الكسب، وهو قول شاذ نقل عن بعض الظاهرية. وقيل هو في حق من لا شيء عنده ذلك اليوم فأمر بالطلب بأي صورة اتفقت ليفرح عياله ذلك اليوم لأنه يوم عيد، والذي يترجح أن في قوله: "انتشروا - وابتغوا" إشارة إلى استدراك ما فاتكم من الذي انفضضتم إليه فتنحل إلى أنها قضية شرطية، أي من وقع له في حال خطبة الجمعة وصلاتها زمان يحصل فيه ما يحتاج إليه من أمر دنياه ومعاشه فلا يقطع العبادة لأجله بل يفرغ منها ويذهب حينئذ لتحصيل حاجته، وبالله التوفيق. قوله: "حدثنا أبو غسان" هو محمد بن مطرف المدني، وأبو حازم هو سلمة بن دينار، ووهم من زعم أنه سلمان مولى عزة صاحب أبي هريرة. قوله: "كانت فينا امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "تجعل" في رواية الكشميهني تحقل بمهملة بعدها قاف أي تزرع، والأربعاء جمع ربيع كأنصباء ونصيب، والربيع الجدول وقيل الصغير وقيل الساقية الصغيرة وقيل حافات الأحواض، والمزرعة بفتح الراء وحكى ابن مالك جواز تثليثها، والسلق بكسر المهملة معروف وحكم الكرماني أنه وقع هنا سلق بالرفع وتكلف في توجيهه. قوله: "تطحنها" في رواية المستملي: "تطبخها " بتقديم الموحدة بعدها معجمة وكلاهما صحيح. قوله: "فتكون أصول السلق عرقه" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها قاف ثم هاء ضمير أي عرق الطعام، والعرق اللحم الذي على العظم، والمراد أن السلق يقوم مقامه عندهم. وسيأتي في الأطعمة من وجه آخر في آخر الحديث: "والله ما فيه شحم ولا ودك " وفي رواية الكشميهني: "غرقة " بفتح المعجمة وكسر الراء وبعد القاف هاء التأنيث، والمراد أن السلق يغرق في المرقة لشدة نضجه، وفي هذا الحديث جواز السلام على النسوة الأجانب، واستحباب التقرب بالخير ولو بالشيء الحقير، وبيان ما كان الصحابة عليه من القناعة وشدة العيش والمبادرة إلى الطاعة رضي الله عنهم. قوله: "بهذا" أي بالحديث الذي
    (2/427)

    قبله، وظاهره أن أبا غسان وعبد العزيز بن أبي حازم اشتركا في رواية هذا الحديث عن أبي حازم، وزاد عبد العزيز الزيادة المذكورة وهي قوله: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة " وقد رواها أبو غسان مفردة كما في الباب الذي بعده، لكن ليس فيه ذكر الغداء، وبين رواية أبي غسان وعبد العزيز تفاوت يأتي بيانه في " باب تسليم الرجال على النساء " من كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. واستدل بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال وترجم عليه ابن أبي شيبة: "باب من كان يقول الجمعة أول النهار " وأورد فيه حديث سهل هذا وحديث أنس الذي بعده وعن ابن عمر مثله وعن عمر وعثمان وسعد وابن مسعود مثله من قولهم، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقاثلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيتداركون ذلك. بل ادعى الزين بن المنير أنه يؤخذ منه أن الجمعة تكون بعد الزوال لأن العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عن القائلة ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة.
    (2/428)

    باب القئلة بعد الجمعة
    ...
    41 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
    940- حدثنا محمد بن عقبة الشيباني قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن حميد قال سمعت أنسا يقول "كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل "
    941- حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم تكون القائلة "
    قوله: "باب القائلة بعد الجمعة" أورد فيه حديث أنس، وقد تقدم في " باب وقت الجمعة " وحديث سهل وقد تقدم في الباب الذي قبله والله الموفق. "خاتمة": اشتمل كتاب الجمعة من الأحاديث المرفوعة على تسعة وسبعين حديثا الموصول منها أربعه وستون حديثا، والمعلق والمتابعة خمسة عشر حديثا، المكرر منها فيها وفيما مضى ستة وثلاثون حديثا، والخالص ثلاثة وأربعون حديثا كلها موصولة، وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث سليمان في الاغتسال والدهن والطيب، وحديث عمر وامرأة عمر في النهي عن منع النساء المساجد، وحديث أنس في صلاة الجمعة حين تميل الشمس، وحديثه في القائلة بعدها وحديثه " كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة " وحديث أبي عبس " من اغبرت قدماه " وحديث السائب بن يزيد في النداء يوم الجمعة، وحديث أنس في الجذع، وحديث عمرو بن تغلب " إني أكل أقواما " وحديث ابن عباس في الوصية بالإنصات، وحديث سهل بن سعد الأخير في قصة المرأة والقائلة بعد الجمعة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين أربعة عشر أثرا.
    (2/428)

    كتاب الخوف
    باب صلاة الخوف
    ...
    12- كتاب الخوف
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    1- باب صَلاَةِ الْخَوْفِ
    وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً } { َإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً } [النساء101-102]
    942- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي صَلاَةَ الْخَوْفِ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لَنَا فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ "
    [الحديث 942-أطرافه في: 4535.4133.4132.943]
    قوله: "وقول الله عز وجل" {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى قوله: "مهينا" في رواية كريمة، واقتصر في رواية الأصيلي على ما هنا وقال: إلى قوله: "عذابا مهينا". وأما أبو ذر فساق الأولى بتمامها ومن الثانية إلى قوله: "معك" ثم قال إلى قوله: "عذابا مهينا". قال الزين بن المنير: ذكر صلاة الخوف أثر صلاة الجمعة لأنهما من جملة الخمس، لكن خرج كل منهما عن قياس حكم باقي الصلوات، ولما كان خروج الجمعة أخف قدمه تلو الصلوات الخمس، وعقبه بصلاة الخوف لكثرة المخالفة ولا سيما عند شدة الخوف، وساق الآيتين في هذه الترجمة مشيرا إلى أن خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات ثبت بالكتاب قولا وبالسنة فعلا. انتهى ملخصا. ولما كانت الآيتان قد اشتملتا على مشروعية القصر في صلاة الخوف وعلى كيفيتها ساقهما معا وآثر تخريج حديث ابن عمر لقوة شبه الكيفية التي ذكرها فيه بالآية. ومعنى قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } أي سافرتم، ومفهومه أن القصر مختص بالسفر وهو كذلك. وأما
    (2/429)

    قوله: "إن خفتم" فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضا، وقد سأل يعلى بن أمية الصحابي عمر بن الخطاب عن ذلك فذكر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنة، واختلف في صلاة الخوف في الحضر فمنعه ابن الماجشون أخذا بالمفهوم أيضا وأجازه الباقون. وأما قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية، وحكى عن المزني صاحب الشافعي، واحتج عليهم بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " فعموم منطوقه مقدم على ذلك المفهوم. وقال ابن العربي وغيره: شرط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول. ثم إن الأصل أن كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدو، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم. وقال الزين المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وقال الطحاوي: كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تصلي صلاة الخوف بعد رسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن الناس إنما صلوها معه لفضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شجاع يعيبه ويقول: إن الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعا إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره انتهى. وسيأتي سبب النزول وبيان أول صلاة صليت في الخوف في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "عن الزهري سألته" القائل هو شعيب والمسئول هو الزهري وهو القائل " أخبرني سالم " أي ابن عبد الله بن عمر، ووقع بخط بعض من نسخ الحديث عن الزهري قال سألته فأثبت قال ظنا أنها حذفت خطأ على العادة، وهو محتمل، ويكون حذف فاعل قال، لا أن الزهري هو الذي قال: والمتجه حذفها وتكون الجملة حالية أي أخبرني الزهري حال سؤالي إياه. وقد رواه النسائي من طريق بقية عن شعيب حدثني الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وأخرجه السراج عن محمد بن يحيى عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فزاد فيه ولفظه: "سألته هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف أم لا؟ وكيف صلاها إن كان صلاها؟ وفي أي مغازيه كان ذلك؟ " فأفاد بيان المسئول عنه وهو صلاة الخوف. قوله: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة نجد، ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب، وسيأتي بيان هذه الغزوة في الكلام على غزوة ذات الرقاع من المغازي. قوله: "فوازينا" بالزاي أي قابلنا، قال صاحب الصحاح: يقال آزيت، يعني بهمزة ممدودة لا بالواو. والذي يظهر أن أصله الهمزة فقلبت واوا. قوله: "فصاففناهم" في رواية المستملي والسرخسي " فصاففنا لهم " وقوله: "فصلي لنا " أي لأجلنا أو بنا. قوله: "ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل" أي فقاموا في مكانهم، وصرح به في رواية بقية المذكورة، ولمالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر " ثم استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون " وسيأتي عند المصنف في التفسير. قوله: "ركعة وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري " مثل نصف صلاة الصبح " وفي قوله مثل نصف صلاة الصبح إشارة إلى أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح، فعلى هذا فهي رباعية، وسيأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت العصر، وفيه دليل على أن الركعة المقضية لا بد فيها من القراءة لكل من الطائفتين خلافا لمن أجاز للثانية ترك القراءة. قوله: "فقام كل واحد منهم فركع لنفسه" لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم
    (2/430)

    أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده. ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: "ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا " ا هـ. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي تبعا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة، ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود أشهب والأوزاعي، وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد، واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد. ويحرس واحد ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقا، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون كل طائفة أقل من ثلاثة لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: "أسلحتهم" ذكره النووي في شرح مسلم وغيره، واستدل به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، وقد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد لموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه، وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل ابن أبي حثمة الآتي في المغازي، وكذا رجحه الشافعي، ولم يختر إسحاق شيئا على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه، وكذا ابن حبان في صحيحه وزاد تاسعا. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجها، وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي في " القبس ": جاء فيها روايات كثيرة أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها أيضا، وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجها آخر فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل. قال صاحب الهدى: أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة ا هـ. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا بقوله: يمكن تداخلها. وحكى ابن القصار المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات. وقال ابن العربي: صلاها أربعا وعشرين مرة. وقال الخطابي: صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى ا هـ. وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة وفروع لا يتحمل هذا الشرح بسطها والله المستعان.
    (2/431)

    2 - باب صَلاَةِ الْخَوْفِ رِجَالًا وَرُكْبَانًا رَاجِلٌ قَائِمٌ
    943- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا"
    (2/431)

    قوله: "باب صلاة الخوف رجالا وركبانا" قيل: مقصوده أن الصلاة لا تسقط عند العجز عن النزول عن الدابة ولا تؤخر عن وقتها، بل تصلي على أي وجه حصلت القدرة عليه بدليل الآية. قوله: "راجل: قائم" يريد أن قوله: "رجالا " جمع راجل والمراد به هنا القائم، ويطلق على الماشي أيضا وهو المراد في سورة الحج بقوله تعالى: {يأتوك رجالا} أي مشاة، وفي تفسير الطبري بسند صحيح عن مجاهد {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} إذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا. قوله: "عن نافع عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد إذا اختلطوا قياما، وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا "" هكذا أورده البخاري مختصرا وأحال على قول مجاهد، ولم يذكره هنا ولا في موضع آخر من كتابه، فأشكل الأمر فيه فقال الكرماني: معناه أن نافعا روى عن ابن عمر نحوا مما روى مجاهد عن ابن عمر، المروي المشترك بينهما هو ما إذا اختلطوا قياما، وزيادة نافع على مجاهد قوله: "وإن كانوا أكثر من ذلك الخ " قال: ومفهوم كلام ابن بطال أن ابن عمر قال مثل قول مجاهد، وأن قولهما مثلا في الصورتين، أي في الاختلاط وفي الأكثرية، وأن الذي زاد هو ابن عمر لا نافع ا هـ. وما نسبه لابن بطال بين في كلامه إلا المثلية في الأكثرية فهي مختصة بابن عمر وكلام ابن بطال هو الصواب وإن كان لم يذكر دليله. والحاصل أنهما حديثان: مرفوع وموقوف، فالمرفوع من رواية ابن عمر وقد يروى كله أو بعضه موقوفا عليه أيضا، والموقوف من قول مجاهد لم يروه عن ابن عمر ولا غيره، ولم أعرف من أين وقع للكرماني أن مجاهدا روى هذا الحديث عن ابن عمر فإنه لا وجود لذلك في شيء من الطرق، وقد رواه الطبري عن سعيد بن يحيى شيخ البخاري فيه بإسناده المذكور عن ابن عمر قال: "إذا اختلطوا " يعني في القتال " فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن كانوا أكثر من ذلك فيصلون قياما وركبانا " هكذا اقتصر على حديث ابن عمر، وأخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن سعيد المذكور مثل ما ساقه البخاري سواء، وزاد بعد قوله: "اختلطوا: فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " ا هـ. وتبين من هذا أن قوله في البخاري " قياما " الأولى تصحيف من قوله: "فإنما " وقد ساقه الإسماعيلي من طريق أخرى بين لفظ مجاهد وبين فيها الواسطة بين ابن جريج وبينه، فأخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: "إذا اختلطوا فإنما هو الإشارة بالرأس " قال ابن جريج " حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بمثل قول مجاهد إذا اختلطوا فإنما هو الذكر وإشارة الرأس " وزاد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم " فتبين من هذا سبب التعبير بقوله: "نحو قول مجاهد " لأن بين لفظه وبين لفظ ابن عمر مغايرة، وتبين أيضا أن مجاهدا إنما قاله برأيه لا من روايته عن ابن عمر والله أعلم. وقد أخرج مسلم حديث ابن عمر من طريق سفيان الثوري عن موسى بن عقبة فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم وقال في آخره: "قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصل راكبا أو قائما يومئ إيماء " ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفا لكن قال في آخره: "وأخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فاقتضى ذلك رفعه كله. وروى مالك في الموطأ عن نافع كذلك لكن قال في آخره: "قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وزاد في آخره: "مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها". وقد أخرجه المصنف من هذا الوجه في تفسير سورة البقرة، ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا كله بغير شك أخرجه ابن ماجه ولفظه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في صلاة
    (2/432)

    الخوف: أن يكون الإمام يصلي بطائفة " فذكر نحو سياق سالم عن أبيه وقال في آخره: "فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركبانا " وإسناده جيد. والحاصل أنه اختلف في قوله: "فإن كان خوف أشد من ذلك " هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر، والراجح رفعه، والله أعلم. قوله: "وإن كانوا أكثر من ذلك" أي إن كان العدو، والمعنى أن الخوف إذا اشتد والعدو إذا كثر فخيف من الانقسام لذلك جازت الصلاة حينئذ بحسب الإمكان، وجاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان، فينتقل عن القيام إلى الركوع، وعن الركوع والسجود إلى الإيماء إلى غير ذلك، وبهذا قال الجمهور، ولكن قال المالكية: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت، وسيأتي مذهب الأوزاعي في ذلك بعد باب. "تنبيه": ابن جريج سمع الكثير من نافع، وقد أدخل في هذا الحديث بينه وبين نافع موسى بن عقبة، ففي هذا التقوية لمن قال إنه أثبت الناس في نافع، ولابن جريج فيه إسناد آخر أخرجه عبد الرزاق عنه عن الزهري عن سالم عن أبيه.
    (2/433)

    3 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ
    944-حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا "
    قوله: "باب يحرس بعضهم بعضا في الخوف" قال ابن بطال: محل هذه الصورة إذا كان العدو في جهة القبلة فلا يفترقون والحالة هذه، بخلاف الصورة الماضية في حديث ابن عمر. وقال الطحاوي: ليس هذا بخلاف القرآن لجواز أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} إذا كان العدو في غير القبلة، وذلك ببيانه صلى الله عليه وسلم. ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة، والله أعلم. قوله: "عن الزبيدي" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا الزبيدي " ولم أره من حديثه إلا من رواية محمد ابن حرب عنه، وافقه عليه النعمان بن راشد عن الزهري أخرجه البزار وقال: لا نعلم رواه عن الزهري إلا النعمان، ولا عنه إلا وهيب يعني ابن خالد ا هـ. ورواية الزبيدي ترد عليه. قوله: "وركع ناس منهم" زاد الكشميهني: "معه". قوله: "ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا معه" في رواية النسائي والإسماعيلي: "ثم قام إلى الركعة الثانية فتأخر الذين سجدوا معه". قوله: "فركعوا وسجدوا" في روايتهما أيضا: "فركعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "في صلاة" زاد الإسماعيلي: "يكبرون " ولم يقع في رواية الزهري هذه هل أكملوا الركعة الثانية أم لا، وقد رواه النسائي من طريق أبي بكر بن أبي الجهم من شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فزاد في آخره: "ولم يقضوا " وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة. وفي الباب عن حذيفة وعن زيد ابن ثابت عند أبي داود والنسائي وابن حبان، وعن جابر عند النسائي، ويشهد له ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة يقول إسحاق والثوري ومن تبعهما. وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد
    (2/433)

    من التابعين، ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف، وسيأتي عن بعضهم في شدة الخوف أسهل من ذلك. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا رواية مجاهد هذه على أن المراد به ركعة مع الإمام، وليس فيه نفي الثانية. وقالوا: يحتمل أن يكون قوله في الحديث السابق " لم يقضوا " أي لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن والله أعلم. "فائدة": لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها قصر، واختلفوا هل الأولى أن يصلي بالأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس.
    (2/434)

    4 - باب الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
    وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
    945- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قَالَ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا "
    قوله: "باب الصلاة عند مناهضة الحصون" أي عند إمكان فتحها، وغلبة الظن على القدرة على ذلك. قوله: "ولقاء العدو" وهو من عطف الأعم على الأخص، قال الزين بن المنير: كأن المصنف خص هذه الصورة لاجتماع الرجاء والخوف في تلك الحالة، فإن الخوف يقتضي مشروعية صلاة الخوف والرجاء بحصول الظفر يقتضي اغتفار التأخير لأجل استكمال مصلحة الفتح، فلهذا خالف الحكم في هذه الصورة الحكم في غيرها عند من قال به. قوله: "وقال الأوزاعي الخ" كذا ذكره الوليد بن مسلم عنه في كتاب السير. قوله: "إن كان تهيأ الفتح" أي تمكن. وفي رواية القابسي " إن كان بها الفتح " بموحدة وهاء الضمير وهو تصحيف. قوله: "فإن لم يقدروا على الإيماء" قيل: فيه إشكال لأن العجز عن الإيماء لا يتعذر مع حصول العقل، إلا أن تقع دهشة فيعزب استحضاره ذلك، وتعقب. قال ابن رشيد: من باشر الحرب واشتغال القلب والجوارح إذا اشتغلت عرف كيف يتعذر الإيماء، وأشار ابن بطال إلى أن عدم القدرة على ذلك يتصور بالعجز عن الوضوء أو التيمم للاشتغال بالقتال، ويحتمل أن الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطا في الإيماء فيتصور العجز عن الإيماء إليها حينئذ. قوله: "فلا يجزيهم التكبير" فيه إشارة إلى
    ـــــــ
    (1)هذا الجواب من الجمهور فيه نظر . والصواب قول من قال : يجوز الإقتصار على ركعة واحدة في الخوف لصحة الأحاديث بذلك . والله أعلم.
    (2/434)

    خلاف من قال يجزئ كالثوري، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا " إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فتلك صلاتهم بلا إعادة " وعن مجاهد والحكم: إذا كان عند الطراد والمسابقة يجزئ أن تكون صلاة الرجل تكبيرا، فإن لم يكن إلا تكبيرة واحدة أجزأته أين كان وجهه. وقال إسحاق بن راهويه: يجزئ عند المسابقة ركعة واحدة يومئ بها إيماء، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. قوله: "وبه قال مكحول" قال الكرماني: يحتمل أن يكون بقية من كلام الأوزاعي، ويحتمل أن يكون من تعليق البخاري. انتهى. وقد وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ: "إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض". "تنبيه": ذكر ابن رشيد أن سياق البخاري لكلام الأوزاعي مشوش، وذلك أنه جعل الإيماء مشروطا بتعذر القدرة، والتأخير مشروطا بتعذر الإيماء، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال، ثم قال: "أو يأمنوا فيصلوا ركعتين " فجعل الأمن قسيم الانكشاف يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه؟ وأجاب الكرماني عن هذا بأن الانكشاف قد يحصل ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، كما أن الأمن يحصل بزيادة القوة واتصال المدد بغير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين. وأما قوله: "فإن لم يقدروا " فمعناه على صلاة ركعتين بالفعل أو بالإيماء " فواحدة " وهذا يؤخذ من كلامه الأول قال: "فإن لم يقدروا عليها أخروا " أي حتى يحصل الأمن التام. والله أعلم. قوله: "وقال أنس" وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه، وذكره " خليفة في تاريخه " وعمر بن شبة في " أخبار البصرة " من وجهين آخرين عن قتادة، ولفظ عمر " سأل قتادة عن الصلاة إذا حضر القتال فقال: حدثني أنس بن مالك أنهم فتحوا تستر وهو يومئذ على مقدمة الناس وعبد الله بن قيس - يعني أبا موسى الأشعري - أميرهم". قوله: "تستر" بضم المثناة الفوقانية وسكون المهملة وفتح المثناة أيضا بلد معروف من بلاد الأهواز، وذكر خليفة أن فتحها كان في سنة عشرين في خلافة عمر، وسيأتي الإشارة إلى كيفيته في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: "اشتعال القتال" بالعين المهملة. قوله: "فلم يقدروا على الصلاة" يحتمل أن يكون للعجز عن النزول، ويحتمل أن يكون للعجر عن الإيماء أيضا، فيوافق ما تقدم عن الأوزاعي، وجزم الأصيلي بأن سببه أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلا من شدة القتال. قوله: "إلا بعد ارتفاع النهار" في رواية عمر بن شبة " حتى انتصف النهار". قوله: "ما يسرني بتلك الصلاة" أي بدل تلك الصلاة. وفي رواية الكشميهني: "من تلك الصلاة". قوله: "الدنيا وما فيها" في رواية خليفة: الدنيا كلها، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا أن مراده الاغتباط بما وقع، فالمراد بالصلاة على هذا هي المقضية التي وقعت، ووجه اغتباطه كونهم لم يشتغلوا عن العبادة إلا بعبادة أهم منها عندهم، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوه، وهو كقول أبي بكر الصديق " لو طلعت لم تجدنا غافلين " وقيل: مراد أنس الأسف على التفويت الذي وقع لهم، والمراد بالصلاة على هذه الفائتة ومعناه: لو كانت في
    ـــــــ
    (1) كذا في الأصول " ولعلها " المسايفة "
    (2)في المخطوطة " من طريق"
    (3) قوله " أهم منها " يعني في ذلك الوقت , لأن الفتح قد يفوت بالصلاة , والصلاة لاتفوت لإمكان قضائها بعد الفتح , وإلا فمعلوم من الأدلة الشرعية أن الشرعية أن الصلاة أهم وأعظم من الجهاد . فتنبه. والله أعلم
    (2/435)

    وقتها كانت أحب إلي فالله أعلم، وممن جزم بهذا الزين بن المنير فقال: إيثار أنس الصلاة على الدنيا وما فيها يشعر بمخالفته لأبي موسى في اجتهاده المذكور، وأن أنسا كان يرى أن يصلي للوقت وإن فات الفتح، وقوله هذا موافق لحديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " انتهى، وكأنه أراد الموافقة في اللفظ، وإلا فقصة أنس في المفروضة والحديث في النافلة، ويخدش فيما ذكره عن أنس من مخالفة اجتهاد أبي موسى أنه لو كان كذلك لصلى أنس وحده ولو بالإيماء، لكنه وافق أبا موسى ومن معه فكيف يعد مخالفا؟ والله أعلم. قوله: "حدثنا يحيى حدثنا وكيع" كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية أبي ذر في نسخة " يحيى ابن موسى " وفي أخرى " يحيى بن جعفر " وهذا المعتمد، وهي نسخة صحيحة بعلامة المستملي، وفي بعض النسخ " يحيى بن موسى بن جعفر " وهو غلط ولعله كان فيه يحيى بن موسى وفي الحاشية ابن جعفر على أنها نسخة فجمع بينهما بعض من نسخ الكتاب، واسم جد يحيى بن موسى عبد ربه بن سالم وهو الملقب خت بفتح المعجمة بعدها مثناة فوقانية ثقيلة، واسم جد يحيى بن جعفر أعين وكلاهما من شيوخ البخاري وكلاهما من أصحاب وكيع. قوله: "عن جابر" تقدم الكلام على حديثه في أواخر المواقيت، ونقل الاختلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسيانا أو عمدا، وعلى الثاني هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف؟ وإلى الأول وهو الشغل جنح البخاري في هذا الموضع ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة، ولا يرده ما تقدم من ترجيح كون آية الخوف نزلت قبل الخندق لأن وجهه أنه أقر على ذلك، وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه لأن التأخير مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقا، وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه، وإلى الثالث جنح الشافعية كما تقدم في الموضع المذكور، وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره صلى الله عليه وسلم للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: وهو قول من لا يعرف السنن، لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ الأول الآخر؟ فالله المستعان.
    (2/436)

    5 - باب صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً
    وَقَالَ الْوَلِيدُ ذَكَرْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ كَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ "
    946- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الأَحْزَابِ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "
    [الحديث946- طرفه في:4119]
    قوله: "باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء" كذا للأكثر. وفي رواية الحموي من الطريقين، إليه " وقائما " قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء، وإن كان طالبا
    (2/436)

    باب التبكير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب
    ...
    6 - باب التَّكْبِيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاَةِ عِنْدَ الإِغَارَةِ وَالْحَرْبِ
    947- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا أَمْهَرَهَا قَالَ أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا فَتَبَسَّمَ
    قوله: "باب التكبير" كذا للأكثر، وللكشميهني من الطريقين " التبكير " بتقديم الموحدة وهو أوجه. قوله: "والصلاة عند الإغارة" بكسر الهمزة بعدها معجمة، وهي متعلقة بالصلاة وبالتكبير أيضا. أورد فيه حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس ثم ركب، وقد تقدم في أوائل الصلاة في " باب ما يذكر في الفخذ " من طريق أخرى عن أنس وأوله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلى عندها صلاة الغداة " الحديث بطوله، وهو أتم سياقا مما هنا، وقوله: "ويقولون: محمد والخميس " فيه حمل لرواية عبد العزيز بن صهيب على رواية ثابت، فقد تقدم في الباب المذكور أن عبد العزيز لم يسمع من أنس قوله: "والخميس " وأنها في رواية ثابت عند مسلم. قوله: "فصارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهره أنها صارت لهما معا، وليس كذلك بل صارت لدحية أولا ثم صارت بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم إيضاحه في الباب المذكور، وسيأتي بقية الكلام عليه في المغازي وفي النكاح إن شاء الله تعالى. ووجه دخول هذه الترجمة في أبواب صلاة الخوف للإشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت كما شرطه من شرطه في صلاة شدة الخوف عند التحام المقاتلة، أشار إلى ذلك الزين بن المنير. ويحتمل أن يكون للإشارة إلى تعين المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها قبل الدخول في الحرب والاشتغال بأمر العدو. وأما التكبير فلأنه ذكر مأثور عند كل أمر مهول، وعند كل حادث سرور، شكرا لله تعالى وتبرئة له من كل ما نسب إليه أعداؤه ولا سيما اليهود قبحهم الله تعالى. "خاتمة": اشتملت أبواب صلاة الخوف على ستة أحاديث مرفوعة موصولة، تكرر منها فيما مضى حديثان والأربعة خالصة وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث ابن عباس. وفيها من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار، منها واحد موصول وهو أثر مجاهد، والله أعلم.
    (2/438)

    كتاب العيدين
    باب في العيدين والتجمل فيه
    ...
    بسم الله الرحمن الرحيم
    13- كتاب العيدين
    1 - باب فِي الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِ
    948- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ "
    قوله: "باب في العيدين والتجمل فيه" كذا في رواية أبي علي بن شبويه، ونحوه لابن عساكر، وسقطت البسملة لأبي ذر، وله في رواية المستملي: "أبواب " بدل " كتاب". واقتصر في رواية الأصيلي والباقين على قوله: "باب الخ " والضمير في " فيه: "راجع إلى جنس العيد. وفي رواية الكشميهني: "فيهما". قوله: "أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر " أخذ " بهمزة وخاء وذال معجمتين في الموضعين، وفي بعض النسخ " وجد " بواو وجيم في الأول وهو أوجه، وكذا أخرجه الإسماعيلي والطبراني في مسند الشاميين وغير واحد من طرق إلى أبي اليمان شيخ البخاري فيه.ووجه الكرماني الأول بأنه أراد ملزوم الأخذ وهو الشراء وفيه نظر لأنه لم يقع منه ذلك، فلعله أراد السوم. قوله: "ابتع هذه تجمل بها" كذا للأكثر بصيغة الأمر مجزوما وكذا جوابه. ووقع في رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي " ابتاع هذه تجمل " وضبط في نسخ معتمدة بهمزة استفهام ممدودة ومقصورة وضم لام تجمل على أن أصله تتجمل فحذفت إحدى التاءين كأن عمر استأذن أن يبتاعها ليتجمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون بعض الرواة أشبع فتحة التاء فطنت ألفا. وقال الكرماني قوله: "هذه " إشارة إلى نوع الجبة، كذا قال، والذي يظهر إشارة إلى عينها ويلتحق بها جنسها، وقد تقدم في كتاب الجمعة توجيه الترجمة وأنها مأخوذة من تقريره صلى الله عليه وسلم على أصل التجمل، وإنما زجره عن الجبة لكونها كانت حريرا. قوله: "للعيد والوفود" تقدم في كتاب الجمعة بلفظ: "للجمعة " بدل للعيد وهي رواية نافع، وهذه رواية سالم، وكلاهما صحيح. وكأن ابن عمر ذكرهما معا فاقتصر كل راو على أحدهما. قوله: "تبيعها وتصيب بها حاجتك" في رواية الكشميهني: "أو تصيب " ومعنى الأول وتصيب بثمنها، والثاني يحتمل أن " أو " بمعنى الواو فهو كالأول أو التقسيم، والمراد المقايضة أو أعم من ذلك والله أعلم. وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في كتاب اللباس، إن شاء الله تعالى. "فائدة": روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.
    (2/439)

    2 - باب الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ
    949- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا "
    [الحديث949- أطرافه في:3931.3530.2907.987.952]
    950- وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي "
    قوله: "باب الحراب والدرق يوم العيد" الحراب بكسر المهملة جمع حربة، والدرق جمع درقة وهي الترس. قال ابن بطال: حمل السلاح في العيد لا مدخل له في سنة العيد ولا في صفة الخروج إليه، ويمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم كان محاربا خائفا فرأى الاستظهار بالسلاح، لكن ليس في حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم خرج بأصحاب الحراب معه يوم العيد، ولا أمر أصحابه بالتأهب بالسلاح، يعني فلا يطابق الحديث الترجمة. وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن مراد البخاري الاستدلال على أن العيد يغتفر فيه من الانبساط ما لا يغتفر في غيره ا هـ. وليس في الترجمة أيضا تقييده بحال الخروج إلى العيد، بل الظاهر أن لعب الحبشة إنما كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من المصلى، لأنه كان يخرج أول النهار فيصلي ثم يرجع. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب. وفي رواية أبي ذر وابن عساكر: "حدثنا أحمد ابن عيسى " وبه جزم أبو نعيم في المستخرج، ووقع في رواية أبي علي بن شبويه " حدثنا أحمد بن صالح " وهو مقتضى إطلاق أبي علي بن السكن حيث قال: كل ما في البخاري " حدثنا أحمد " غير منسوب فهو ابن صالح. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث المصري، وشطر هذا الإسناد الأول مصريون والثاني مدنيون. قوله: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية الزهري عن عروة " في أيام منى " وسيأتي بعد ثلاثة وعشرين بابا. قوله: "جاريتان" زاد في الباب الذي بعده " من جواري الأنصار " وللطبراني من حديث أم سلمة أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت، وفي الأربعين للسلمي أنهما كانتا لعبد الله بن سلام، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة " وحمامة وصاحبتها تغنيان " وإسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى، لكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب وقد ذكره في كتاب النكاح، ولم يذكر حمامة الذين صنفوا في الصحابة وهي على شرطهم. قوله: "تغنيان" زاد في رواية الزهري " تدففان " بفاءين أي تضربان بالدف، ولمسلم في رواية هشام أيضا: "تغنيان بدف " وللنسائي: "بدفين " والدف بضم الدال على الأشهر وقد تفتح، ويقال له أيضا الكربال بكسر الكاف وهو
    ـــــــ
    (1)في المخطوطة "ذكرته"
    (2/440)

    الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر، وفي حديث الباب الذي بعده " بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث " أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وللمصنف في الهجرة " بما تعازفت " بمهملة وزاي وفاء من العزف وهو الصوت الذي له دوي. وفي رواية: "تقاذفت " بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي وهو من القذف وهو هجاء بعضهم لبعض، ولأحمد من رواية حماد ابن سلمة عن هشام يذكر أن يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج ا هـ. وبعاث بضم الموحدة وبعدها مهملة وآخره مثلثة قال عياض ومن تبعه: أعجمها أبو عبيدة وحده. وقال ابن الأثير في الكامل: أعجمها صاحب العين يعني الخليل وحده، وكذا حكى أبو عبيد البكري في معجم البلدان عن الخليل، وجزم أبو موسى في ذيل الغريب بأنه تصحيف وتبعه صاحب النهاية، قال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين. وقال أبو موسى وصاحب الهداية: هو اسم حصن للأوس، وفي كتاب أبي الفرج الأصفهاني في ترجمة أبي قيس بن الأسلت: هو موضع في دار بني قريظة فيه أموال لهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك. ولا منافاة بين القولين. وقال صاحب المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف. قال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره. قلت: تبعه على هذا جماعة من شراح الصحيحين، وفيه نظر لأنه يوهم أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك فسيأتي في أوائل الهجرة قول عائشة " كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله فقدم المدينة وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم " وكذا ذكره ابن إسحاق والواقدي وغيرهما من أصحاب الأخبار، وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أول من لقيه من الأنصار - وكانوا قد قدموا إلى مكة ليحالفوا قريشا - كان في جملة ما قالوه له لما دعاهم إلى الإسلام والنصر له: واعلم إنما كانت وقعة بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها فبايعوه، وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه وهم سبعون نفسا، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل التي تليها. فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، وهو أصح من قول ابن عبد البر في ترجمة زيد ابن ثابت من الاستيعاب: إنه كان يوم بعاث ابن ست سنين، وحين قدم النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن إحدى عشرة، فيكون يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة، وكان أولها فيما ذكر ابن إسحاق وهشام بن الكلبي وغيرهما أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود مستوطنين بها فحالفوهم وكانوا تحت قهرهم، ثم غلبوا على اليهود في قصة طويلة بمساعدة أبي جبلة ملك غسان، فلم يزالوا على اتفاق بينهم حتى كانت أول حرب وقعت بينهم حرب سمير - بالمهملة مصغرا - بسبب رجل يقال له كعب من بني ثعلبة نزل على مالك ابن عجلان الخزرجي فحالفه، فقتله رجل من الأوس يقال له سمير فكان ذلك سبب الحرب بين الحيين، ثم كانت بينهم وقائع من أشهرها يوم السرارة بمهملات، ويوم فارع بفاء ومهملة، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب حصين بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث وكان رئيس الأوس فيه حضير والد أسيد وكان يقال له حضير الكتائب، وجرح يومئذ ثم مات بعد مدة من جراحته، وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، وجاءه سهم في القتال فصرعه فهزموا بعد أن كانوا قد ستظهروا، ولحسان وغيره من الخزرج وكذا لقيس بن الحطيم وغيره من الأوس في ذلك أشعار كثيرة مشهورة في دواوينهم. قوله: "فاضطجع على الفراش" في رواية الزهري
    (2/441)

    المذكورة أنه " تغشى بثوبه " وفي رواية مسلم: "تسجى " أي التف بثوبه. قوله: "وجاء أبو بكر" في رواية هشام بن عروة في الباب الذي بعده " دخل على أبو بكر وكأنه جاء زائرا لها بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته". قوله: "فانتهرني" في رواية الزهري " فانتهرهما " أي الجاريتين، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها، وأما الجاريتان فلفعلهما. قوله: "مزمارة الشيطان" بكسر الميم يعني الغناء أو الدف، لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر. وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد " فقال: يا عباد الله أبمزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال القرطبي: المزمور الصوت، ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر، وضبطه عياض بضم الميم وحكى فتحها. قوله: "فأقبل عليه" في رواية الزهري " فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه " وفي رواية فليح " فكشف رأسه " وقد تقدم أنه كان ملتفا. قوله: "دعهما" زاد في رواية هشام " يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " ففيه تعليل الأمر بتركهما، وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياما عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مستندا إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحال، وعرفه الحكم مقرونا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم؟ وتكلف جوابا لا يخفى تعسفه. وفي قوله: "لكل قوم " أي من الطوائف وقوله: "عيد " أي كالنيروز والمهرجان، وفي النسائي وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما: يوم الفطر والأضحى " واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى. استنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعية قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته كما سيأتي بعد. واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها " وليستا بمغنيتين " فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة على الحداء. ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح، قال القرطبي: قولها " ليستا بمغنيتين " أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، قال: وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا - على التحقيق - من آثار الزندقة، وقول أهل المخرفة والله المستعان ا هـ. وينبغي أن يعكس مرادهم ويقرأ:
    (2/442)

    " سيء " عوض النون الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتانية ثقيلة مهموزا. وأما الآلات فسيأتي الكلام على اختلاف العلماء فيها عند الكلام على حديث المعازف في كتاب الأشربة، وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها، وحكى بعضهم عكسه، وسنذكر بيان شبهة الفريقين إن شاء الله تعالى. ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه كما سنذكر ذلك في وليمة العرس إن شاء الله تعالى. وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى. وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها، وأن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك افتئات على شيخه، بل هو أدب منه ورعاية لحرمته وإجلال لمنصبه، وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبو بكر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نام فخشي أن يستيقظ فيغضب على ابنته فبادر إلى سد هذه الذريعة. وفي قول عائشة في آخر هذا الحديث: "فلما غفل غمزتهما فخرجتا " دلالة على أنها مع ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لها في ذلك راعت خاطر أبيها وخشيت غضبه عليها فأخرجتهما، واقتناعها في ذلك بالإشارة فيما يظهر للحياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها والله أعلم. واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره، واستمرتا إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك، والله أعلم. قوله: "وكان يوم عيد" هذا حديث آخر وقد جمعهما بعض الرواة وأفردهما بعضهم، وقد تقدم هذا الحديث الثاني من وجه آخر عن الزهري عن عروة في أبواب المساجد، ووقع عند الجوزقي في حديث الباب هنا " وقالت - أي عائشة - كان يوم عيد " فتبين بهذا أنه موصول كالأول. قوله: "يلعب فيه السودان" في رواية الزهري المذكورة " والحبشة يلعبون في المسجد " وزاد في رواية معلقة ووصلها مسلم: "بحرابهم " ولمسلم من رواية هشام عن أبيه " جاء حبش يلعبون في المسجد"، قال المحب الطبري: هذا السياق يشعر بأن عادتهم ذلك في كل عيد، ووقع في رواية ابن حبان: "لما قدم وفد الحبشة قاموا يلعبون في المسجد " وهذا يشعر بأن الترخيص لهم في ذلك بحال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد وكان من عادتهم اللعب في الأعياد ففعلوا ذلك كعادتهم ثم صاروا يلعبون يوم كل عيد، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة فرحا بذلك لعبوا بحرابهم"؛ ولا شك أن يوم قدومه صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من يوم العيد، قال الزين بن المنير: سماه لعبا وإن كان أصله التدريب على الحرب وهو من الجد لما فيه من شبه اللعب، لكونه يقصد إلى الطعن ولا يفعله ويوهم بذلك قرنه ولو كان أباه أو ابنه. قوله: "فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين" هذا تردد منها فيما كان وقع له هل كان أذن لها في ذلك ابتداء منه أو عن سؤال منها، وهذا
    (2/443)

    بناء على أن سألت بسكون اللام على أنه كلامها، ويحتمل أن يكون بفتح اللام فيكون كلام الراوي فلا ينافي مع ذلك قوله: "وإما قال تشتهين تنظرين " وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك: ففي رواية النسائي من طريق يزيد بن رومان عنها " سمعت لغطا وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها فقال: يا عائشة، تعالي فانظري " ففي هذا أنه ابتدأها. وفي رواية عبيد بن عمير عنها عند مسلم أنها قالت للعابين " وددت أني أراهم " ففي هذا أنها سألت، ويجمع بينهما بأنها التمست منه ذلك فأذن لها. وفي رواية النسائي من طريق أبي سلمة عنها " دخل الحبشة يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم " إسناده صحيح ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا. وفي رواية أبي سلمة هذه من الزيادة عنها قالت: "ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا " كذا فيه بالنصب، وهو حكاية قول الحبشة، ولأحمد والسراج وابن حبان من حديث أنس " أن الحبشة كانت تزفن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلمون بكلام لهم، فقال: ما يقولون؟ قال يقولون: محمد عبد صالح". قوله: "فأقامني وراءه خدي على خده" أي متلاصقين وهي جملة حالية بدون واو كما قيل في قوله تعالى: { اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} وفي رواية هشام عن أبيه عند مسلم: "فوضعت رأسي على منكبه " وفي رواية أبي سلمة المذكورة " فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده " وفي رواية عبيد ابن عمير عنها " أنظر بين أذنيه وعاتقه " ومعانيها متقاربة، ورواية أبي سلمة أبينها. وفي رواية الزهري الآتية بعد عن عروة " فيسترني وأنا أنظر " وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ: "يسترني بردائه " ويتعقب به على الزين بن المنير في استنباطه من لفظ حديث الباب جواز اكتفاء المرأة بالتستر بالقيام خلف من تستر به من زوج أو ذي محرم إذا قام ذلك مقام الرداء، لأن القصة واحدة، وقد وقع فيها التنصيص على وجود التستر بالرداء. قوله: "وهو يقول: دونكم" بالنصب على الظرفية بمعنى الإغراء والمغري به محذوف وهو لعبهم بالحراب، وفيه إذن وتنهيض لهم وتنشيط. قوله: "يا بني أرفدة" بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء وقد تفتح، قيل هو لقب للحبشة، وقيل هو اسم جنس لهم، وقيل اسم جدهم الأكبر وقيل المعنى يا بني الإماء، زاد في رواية الزهري عن عروة " فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمنا بني أرفدة " وبين الزهري أيضا عن سعيد عن أبي هريرة وجه الزجر حيث قال: "فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر " وسيأتي في الجهاد، وزاد أبو عوانة في صحيحه " فإنهم بنو أرفدة " كأنه يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم وهو من الأمور المباحة فلا إنكار عليهم. قال المحب الطبري: فيه تنبيه على أنه يغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم، لأن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص، انتهى. وروى السراج من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة " وهذا يشعر بعدم التخصيص، وكأن عمر بنى على الأصل في تنزيه المساجد فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وجه الجواز فيما كان هذا سبيله كما سيأتي تقريره، أو لعله لم يكن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراهم. قوله: "حتى إذا مللت" بكسر اللام الأولى -. وفي رواية الزهري " حتى أكون أنا الذي أسأم " ولمسلم من طريقه " ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف " وفي رواية يزيد بن رومان عند النسائي: "أما شبعت؟ أما شبعت؟ قالت: فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده "
    ـــــــ
    (1) في مخطوطة الرياض " أذنه"
    (2/444)

    وله من رواية أبي سلمة عنها: "قلت: يا رسول الله لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل. قال: وما بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه " وزاد في النكاح في رواية الزهري " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو " وقولها " اقدروا " بضم الدال من التقدير ويجوز كسرها، وأشارت بذلك إلى أنها كانت حينئذ شابة، وقد تمسك به من ادعى نسخ هذا الحكم وأنه كان في أول الإسلام كما تقدمت حكايته في أبواب المساجد، ورد بأن قولها: "يسترني بردائه " دال على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، وكذا قولها " أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي " مشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر، أرادت الفخر عليهن، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها، وقد تقدم من رواية ابن حبان أن ذلك وقع لما قدم وفد الحبشة وكان قدومهم سنة سبع فيكون عمرها حينئذ خمس عشرة سنة، وقد تقدم في أبواب المساجد شيء نحو هذا والجواب عنه واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه، واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب، قال عياض: وفيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ بذلك، ومن تراجم البخاري عليه " باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة " وقال النووي: أما النظر بشهوة وعند خشية الفتنة فحرام اتفاقا، وأما بغير شهوة فالأصح أنه محرم. وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة، وهذا قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه، قال: أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال. انتهى. وقد تقدمت بقية فوائده في أبواب المساجد. وسيأتي بعد ستة أبواب وجه الجمع بين ترجمة البخاري هذا الباب والباب الآتي هناك حيث قال: "باب ما يكره من حمل السلاح في العيد " إن شاء الله تعالى.
    (2/445)

    3 - باب سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ
    951- حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة قال أخبرني زبيد قال سمعت الشعبي عن البراء قال ثم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا
    [الحديث951-أطرافه في:6673.5563.5560.5557.5556.5545.983.976.968.965.9 55]
    952- حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا
    قوله: "باب سنة العيد لأهل الإسلام" كذا للأكثر، وقد اقتصر عليه الإسماعيلي في المستخرج وأبو نعيم وزاد أبو ذر عن الحموي في أول الترجمة " الدعاء في العيد " قال ابن رشيد أراه تصحيفا، وكأنه كان فيه اللعب في العيد، يعني فيناسب حديث عائشة وهو الثاني من حديثي الباب، ويحتمل أن يوجه بأن الدعاء بعد صلاة العيد يؤخذ حكمه من
    (2/445)

    جواز اللعب بعدها بطريق الأولى. وقد روى ابن عدي من حديث واثلة أنه " لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقال: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم تقبل الله منا ومنك " وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي وهو ضعيف، وقد تفرد به مرفوعا، وخولف فيه، فروى البيهقي من حديث عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "ذلك فعل أهل الكتابين " وإسناده ضعيف أيضا، وكأنه أراد أنه لم يصح فيه شيء. وروينا في " المحامليات " بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك " وأما مناسبة حديث عائشة للترجمة التي اقتصر عليها الأكثر فقد قيل: إنها من قوله: "وهذا عيدنا " لإشعاره بالندب إلى ذلك، وفيه نظر لأن اللعب لا يوصف بالندبية، لكن يقربه أن المباح قد يرتفع بالنية إلى درجة ما يثاب عليه، ويحتمل أن يكون المراد أن تقديم العبادة على اللعب سنة أهل الإسلام، أو تحمل " السنة " في الترجمة على المعنى اللغوي. وأما حديث البراء فهو طرف من حديث سيأتي بتمامه بعد باب، وحجاج المذكور في الإسناد هو ابن منهال. واستشكل الزين بن المنير مناسبته للترجمة من حيث أنه قال فيها العيدين بالتثنية مع أنها لا تتعلق إلا بعيد النحر، وأجاب بأن في قوله: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي " إشعارا بأن الصلاة ذلك اليوم هي الأمر المهم، وأن ما سواها من الخطبة والنحر والذكر وغير ذلك من أعمال البر يوم النحر فبطريق التبع، وهذا القدر مشترك بين العيدين، فحسن أن لا تفرد الترجمة بعيد النحر. انتهى. وقد تقدم الكلام على حديث عائشة مستوفي في الباب الذي قبله.
    (2/446)

    4 - باب الأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ
    953- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وَقَالَ مُرَجَّأُ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا "
    قوله: "باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج" أي إلى صلاة العيد. قوله: "أخبرنا عبيد الله" هو بالتصغير، وفي نسخة الصغاني " حدثنا عبد الله بن أنس " بحذف أبي بكر، هكذا رواه سعيد بن سليمان عن هشيم، وتابعه أبو الربيع الزهراني عند الإسماعيلي، وجبارة ابن المغلس عند ابن ماجه، ورواه عن هشيم قتيبة عند الترمذي، وأحمد بن منيع عند ابن خزيمة، وأبو بكر ابن أبي شيبة عند ابن حبان والإسماعيلي، وعمرو بن عون عند الحاكم فقالوا كلهم " عن هشيم عن محمد ابن إسحاق عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس " قال الترمذي صحيح غريب، وأعله الإسماعيلي بأن هشيما مدلس، وقد اختلف عليه فيه، وابن إسحاق ليس من شرط البخاري. قلت: وهي علة غير قادحة لأن هشيما قد صرح فيه بالإخبار فأمن تدليسه، ولهذا نزل فيه البخاري درجة لأن سعيد بن سليمان من شيوخه، وقد أخرج هذا الحديث عنه بواسطة لكونه لم يسمعه منه ولم يلق من أصحاب هشيم مع كثرة من لقيه منهم من يحدث به مصرحا عنه فيه بالإخبار، وقد جزم أبو مسعود الدمشقي بأنه كان عند هشيم على الوجهين، وأن أصحاب هشيم القدماء كانوا يروونه عنه على الوجه الأول فلا تضر طريق ابن إسحاق المذكورة، قال البيهقي: ويؤكد ذلك أن سعيد بن سليمان قد رواه عن هشيم على الوجهين، ثم ساقه من رواية معاذ بن المثنى عنه عن هشيم بالإسنادين المذكورين فرجح
    (2/446)

    صنيع البخاري، ويؤيد ذلك متابعة مرجى بن رجاء لهشيم على روايته له عن عبيد الله بن أبي بكر، وقد علقها البخاري هنا، وأفادت ثلاث فوائد: الأولى هذه، والثانية تصريح عبيد الله فيه بالإخبار عن أنس، والثالثة تقييد الأكل بكونه وترا. وقد وصلها ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق أبي النضر عن مرجى بلفظ: "يخرج " بدل " يغدو " والباقي مثل لفظ هشيم وفيه الزيادة، وكذا وصله أبو ذر في زياداته في الصحيح عن أبي حامد بن نعيم عن الحسين بن محمد بن مصعب عن أبي داود السنجي عن أبي النضر، وأخرجه الإمام أحمد عن حرمي بن عمارة عن مرجى بلفظ: "ويأكلهن أفرادا " ومن هذا الوجه أخرجه البخاري في تاريخه، وله راو ثالث عن عبيد الله بن أبي بكر أخرجه الإسماعيلي أيضا وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: "ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا، وهي أصرح في المداومة على ذلك، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة. وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وأشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال بعض المالكية: لما كان المعتكف لا يتم اعتكافه حتى يغدو إلى المصلى قبل انصرافه إلى بيته خشي أن يعتمد في هذا الجزء من النهار باعتبار استصحاب الصائم ما يعتمد من استصحاب الاعتكاف، ففرق بينهما بمشروعية الأكل قبل الغدو. وقيل لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر بدارا إلى السلامة من وسوسته. وسيأتي توجيه آخر لابن المنير في الباب الذي بعده. وقال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافا. انتهى. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه، وعن النخعي أيضا مثله. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرق به القلب وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقا كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سأل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول، هذا كله في حق من يقدر على ذلك وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع أشار إليه ابن أبي جمرة. وأما جعلهن وترا فقال المهلب: فللإشارة إلى وحدانية الله تعالى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعله في جميع أموره تبركا بذلك. "تنبيه": مرجى بوزن معلى، وأبوه بلفظ رجاء ضد الخوف بصري مختلف في الاحتجاج به، وليس له في البخاري غير هذا الموضع الواحد.
    (2/447)

    5 - باب الأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ
    954- حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل عن أيوب عن محمد عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم من ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال هذا يوم يشتهي فيه اللحم وذكر من جيرانه بالحق النبي صلى الله عليه وسلم صدقه قال وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحم فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا "
    [الحديث954-أطرافه في:5561.5549.5546.984]
    955- حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال

    يتبع
    أعظَم مَن عُرِف عنه إنكار الصانع هو " فِرعون " ، ومع ذلك فإن ذلك الإنكار ليس حقيقيا ، فإن الله عزّ وَجَلّ قال عن آل فرعون :(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)
    وبُرهان ذلك أن فِرعون لَمّا أحسّ بالغَرَق أظْهَر مكنون نفسه ومخبوء فؤاده على لسانه ، فقال الله عزّ وَجَلّ عن فرعون : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 345

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري
    بواسطة aissam في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-15-2011, 03:56 PM
  2. فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب الكتروني رائع
    بواسطة Adel Mohamed في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-27-2008, 08:05 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء