أستاذنا الفاضل الحبيب.. د./ إبراهيم عوض ... حفظه الله..
لن أمِل من الإعتذار عن تقصيري في حقكم.. و لكن محبة الوالد (رحمه الله) لكم تمدني بالشجاعة للكتابة إليكم على الرغم من تقصيري المخجل.. فأنا دائماً ألوذ بمحبتكم للوالد لأنها كعقدة الحبل التي لا تنحل أبداً. و أرجو أن يكون لي من هذه العقدة الحلوة جانب.. لعل عذري أن الدهر مازال يَجِدُّ في قسوته علينا و نكاد لا نفيق من لهيب متطلبات الحياة.. لذاً أرجوكم أن تغفروا لي تقصيري في عدم السؤال.. و ليرسخ في يقينكم أن محبتي و إعزازي و تقديري لكم كمحبتي لوالدي رحمه الله..
أهنئكم بحلول الشهر الفضيل و أدعو الله أن يعيد أمثال أمثاله عليكم و على الأسرة و أنتم في أتم صحة و أسعد بال..
الحقيقة، ما جعلني أكتب لكم الآن هو موضوع "المسجد الأقصى" و الاحتفالات السطحية بالقدس عاصمة للثقافة العربية هذا العام. و المقالات التي تهاجم اليهود و الهيكل "المزعوم" (حسبما جاء في مقالات بعض الكتاب في بعض الصحف) و الكتابات المخجلة التي تدافع عن الأقصى الشريف دفاعاً تافهاً لا معنى له و مجملها أن الأقصى مِلك للمسلمين و حقهم فيه تاريخي و له قداسة في نفوس المسلمين.. و.. و .. إلخ.
طبعاً هذا الكلام كله لن يلتفت إليه العالم و لا اليهود بالطبع... لأن هيكل سليمان عليه السلام كان له وجود في الحقيقة و على مدى التاريخ تم هدمه و إعادة بنائه عدة مرات و لا يصح أن نقول الهيكل "المزعوم".. لأن هذا اللفظ يُغلق -من البداية- مسامع أي إنسان عقلاني "غير مسلم" و لن يلتفت "العالم" في دفاعنا عن المسجد الأقصى الشريف طالما استمر عزفنا على وتر "الهيكل المزعزم" و الحق "التاريخي"... إلخ.
لقد قمت بدراسة منذ سنتين تقريباً عن المسجد الأقصى لأنني كنت على يقين "داخلي" أن مقدرات الله جل و علا لا يمكن أن ينجم عنها أن يُقام المسجد الأقصى على أطلال هيكل سليمان.. كما أنني لا أستطيع أن أتجاهل أن الهيكل كان موجوداً لأن هذا ثابت من الناحية التاريخية.. على الرغم من أنه لم يتم العثور على بقاياه... و اليهود يعلمون يقيناً أن ما يطلقون عليه "حائط المبكى" (أطال الله بكاءهم لا بقاءهم) مشكوك في صحة انتسابه لهيكل سليمان.. و قد فكرت في حل هذه المشكلة.. و أثناء جمعي للمعلومات و المصادر، فوجئت بموقع على الإنترنت (صاحبه عالم آثار و تاريخ يهودي إسمه ناتان و الموقع هو:
( http://www.jerusale m-4thtemple. org/) يُذكر فيه أن موقع هيكل سليمان الحقيقي لا يمكن "و يستحيل علمياً" أن يكون هو نفسه موقع المسجد الأقصى... فتعجبت لذلك، و وجدت أن "ناتان" قد كتب في هذا الموضوع كتاباً بالفرنسية من خمسة أجزاء (يقع في قرابة 2500 صفحة و به العديد من الخرائط الأثرية القيمة) و له ملخص بالإنجليزية يقع في حوالي 300 صفحة.
بعد إطلاعي على هذه الأجزاء و الملخص قمت بكتابة بحث في حدود 60 صفحة هو ملخص مفيد لكتاب "ناتان".
خلاصة ما قام به ناتان أنه:
" قام بحصر نتائج و دراسات أعمال الحفر و الإستكشاف و التنقيب التي قام بها مشاهير علماء آثار القرن التاسع عشر!! (أمثال "تشارلز ويلسون" Charles Wilson و "تشارلز وارين" Charles Warren، و "كلود رينييه كوندر" Claude Reignier Conder و "كونراد تشيك" (Conrad Schick. هؤلاء العلماء قاموا بحفائر و دراسات فريدة (لأنه لم يتح لمخلوق بعد ذلك أن يقوم بشيئ مماثل لها!!) و بدقة فائقة لأسفل القاعدة الصخرية التي أقيم عليها الحرم الأقصى الشريف. و قد اكتشف هؤلاء العلماء و أزاحوا بتنقيبهم تحت مسطح الحرم الأقصى الستار عن وجود شبكة هيدروليكية (مائية) فائقة الدقة و التعقيد تتكون من أحواض عديدة (حجم بعضها 40 متراً طولاً في 30 متراً عرضاً بإرتفاع 12 متراً) و كذلك العديد من القنوات التي تصل فيما بين هذه الأحواض. فإندفع هؤلاء العلماء في التسرع باستنتاج أن هذه الأحواض و هذه الشبكة المعقدة من القنوات هي التي كانت تمد الهيكل بالماء اللازم. و لم يقدموا أي إجابة عن "كيفية وصول الماء أصلاً إلى الهيكل؟". ويقول هؤلاء العلماء (استناداً إلى نتائج تلك التنقيبات) أن تلك الشبكة قد حُفرت في عهد سليمان عند بناء المعبد.
لأنه معلوم عند اليهود طبقاً لما هو مذكور في التوراة (التي بين أيديهم)، أن هيكل سليمان كان يتم إمداده بكميات ضخمة من المياه في ساحته خلال إحتفالاتهم بأعيادهم الكبرى (وقت سيدنا سليمان) لتنظيف آلاف الذبائح و التخلص من الدماء الناتجة عن عملية الذبح التي كانت تتم في ساحة هيكلهم. كما أن التطهر عند اليهود خلال احتفالاتهم لابد أن يكون بماء "جارٍ" و ليس بمجرد ماء نظيف تم تخزينه.. إذ لابد أن يكون الماء "جارياً". و على ذلك فإن هذه المياه لا يمكن أن تأتي إلى المعبد إلا من مكان في مستوى أعلى من مستوى المعبد، فالماء لا يندفع و لا يسري إلا من المكان المرتفع إلى المكان الأقل إرتفاعاً بفعل الجاذبية الأرضية (و هي القوة الوحيدة الطبيعية المتوفرة وقت سيدنا سليمان عندما بنى الهيكل). إذ لا يُعقل رفع الماء بكميات ضخمة من أعماق بعيدة تحت سطح الحرم باستخدام الحبل و الدلو؛ تلك الوسيلة البدائية الوحيدة التي كانت متاحة وقت سيدنا سليمان.
و لما تبين لبعض هؤلاء العلماء إستحالة وصول الماء لساحة الهيكل (إذا فرض بأنه كان يشغل مكان الحرم الأقصى) أعلنوا أن تلك الشبكة هي مجرد شبكة " لتصريف " الماء المحمل بالنفايات الناتجة عن عملية ذبح الذبائح التي تتم في المعبد خلال الإحتفالات. و قد فند ناتان هذا التفسير باستفاضة بالغة في كتابه، و خلص إلى أن ذلك التفسير هو محاولة ساذجة للتخلص من الإجابة عن السؤال الجوهري و الأساسي في تلك القضية و هو: " كيف يمكن إيصال الماء أصلاً إلى الهيكل ؟
و هل يمكن إقامة الهيكل " فوق " الخزان الذي يمده بالماء ؟
هذا السؤال طرحه ناتان في كتابه و أجاب عنه بأسانيد من الديانة و التراث اليهودي و كذلك بأسانيد تعود إلى نتائج الدراسات المستفيضة و الحفريات التي قام بها علماء آثار القرن التاسع عشر. و بناءاً على الأدلة الجيولوجية و الطوبوغرافية المستمدة من نتائج حفريات هؤلاء العلماء، توصل ناتان إلى أنه يستحيل أن يكون مكان هيكل سليمان هو نفس مكان الأقصى الشريف.
و قد تقدم ناتان لمؤسسة اليونسكو بطلب لدعم مشروعه الذي يطالب به و هو إقامة "الهيكل الرابع" (لأن هيكل سليمان قد تم هدمه ثلاث مرات على مر العصور)، كما تقدم ناتان بطلب إلى إسرائيل للقيام بالتنقيب عن المكان الحقيقي للهيكل (خارج أسفل الجدار الجنوبي للحرم الأفصى) و لكنها لم تلتفت إليه حتى الآن.
المؤسف حقاً هو أن العرب (و العالم كله) لم يلتفتوا لإستخلاص أي نتائج من هذه الدراسات الأثرية و الهندسية القيمة و الخطيرة و التي كانت من الممكن أن تنهي الصراع الدائر على الأقصى في وقت كانت زمام الأمور في أيديهم. و للأسف الشديد ما زلنا ندافع أمام "العالم الخارجي" عن الحرم الأقصى، بنفس المنطق السقيم الغبي (كأننا نخاطب أنفسنا!!)، ذلك المنطق الذي لا يخرج عن قدسية الأقصى للمسلمين و أحقيتهم التاريخية .. إلخ.
في هذه الأثناء تركنا الفرصة لليهود بإدعائهم الباطل بأن المسجد الأقصى قد أُقيمَ على أطلال هيكل سيدنا سليمان عليه السلام ! لدرجة أن تلك الأكذوبة، كما يقول ناتان نفسه باتت بالنسبة "للعالم الخرجي" من البديهيات التي مصداقيتها غير قابلة للنقاش!!
و من ثم، لا غرابة في أن يستمر الخلاف بين المسلمين و اليهود إلى يوم القيامة لو ظل كل فريق متمسك برأيه.. لأن كلاً من الفريقين له وجهة نظر و حجة قوية لا تقبل المناقشة: "مسجدنا الأقصى مقدس عندنا" و "هيكل سليمان مقدس عندهم"!!
و المؤلم حقاً أن تلك الدراسات الجيولجية و الأثرية وقعت في القرن التاسع عشر، و بتمويل من "صندوق استكشاف فلسطين" (Palestine Exploration Fund) تحت رعاية الملكة فيكتوريا، لإستكشاف فلسطين بما فيها القدس، في وقت كانت فيه فلسطين خاضعة لسلطة العرب تماماً. و قد قام هذا الصندوق، على مدار أربعين سنة بتلك الحفريات تحت سمع و بصر العرب المسلمين في فلسطين و القدس! فأين كان العرب وقتها؟ و أين هم بعدها؟ بل أين هم الآن؟
أستاذي الحبيب الفاضل:
هل يمكن نشر هذا الكلام على موقعكم، العامر بكتاباتكم و المترع بقرائكم، لعل الله أن يقيض له من يساند هذه الصرخة فتكون السبيل العقلاني العلمي الصحيح لتحرير الأقصى الحبيب و فضح أباطيل اليهود فضحاً علمياً و فضحاً دينياً (مستمداً من توراتهم!!)
محبكم: د. محمد لطفي رابح
Bookmarks