إعداد: عاطف التاجوري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فأقواله وأفعاله وتقريراته هي مرجع المسلمين إلى قيام الساعة، فكان العلماء على مر القرون يستنبطون من الكلام القليل والفعل اليسير لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفوائد الجليلة والعظيمة، ومن أمثلة ذلك هذا الحديث الذي نتناوله في هذه المقالة وهو حديث مروي في العديد من كتب السنة، فقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ والدارمي في سننه وابن حبان في صحيحه ورواه أيضًا غيرهم في كتب السنة الأخرى.
وسنذكر أهم طرق الحديث ثم نتبع ذلك بالفوائد الفقهية التي استنبطها العلماء من الحديث.
ففي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل ورهنه درعًا من حديد.
وروى البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه أنه مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعًا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرًا لأهله، ولقد سمعته يقول: "ما أمسى عند آل محمد صلى الله عليه وسلم صاع بر ولا صاع حب وإن عنده لتسع نسوة".
أما الفوائد المستنبطة من الحديث فهي ما يلي:
1- جواز الرهن في الحضر: فقد قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه جواز الرهن في الحضر وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا مجاهدًا وداود فقالا لا يجوز إلا في السفر تعلقًا بقوله تعالى: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، واحتج الجمهور بهذا الحديث وهو مقدم على دليل خطاب الآية.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وقوله- أي البخاري في الترجمة- وذلك في كتاب الرهن- الرهن في الحضر إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر وهو قول الجمهور وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد دعاه اليهودي لذلك فأجاب دعوته فقد قال ابن حجر في شرحه للحديث في كتاب البيوع باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة: وقوله: "ولقد سمعته يقول" هو كلام أنس والضمير في سمعته للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي قال ذلك لما رهن الدرع عند اليهودي مظهرًا للسبب في شرائه إلى أجل.
وقال في كتاب الرهن باب في الرهن في الحضر وقول الله عز وجل: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة {البقرة: 283}، قوله: "ولقد رهن درعه" هو معطوف على شيء محذوف، بينه أحمد من طريق أبان العطار عن أنس رضي الله عنه: "أن يهوديّا دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأجابه".
3- أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "ما أصبح لآل محمد" أو "ما أمسي في آل محمد" لم يفعل ذلك متضجرًا ولا شاكيًا- معاذ الله من ذلك- وإنما قاله معتذرًا عن إجابته دعوة اليهودي ولرهنه عنده درعه.
وفي شرحه لهذا الحديث في كتاب الهبة من صحيح البخاري استنبط ابن حجر الأحكام الفقهية الآتية:
(1) جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين التعامل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، وهذا يعني أن التعامل مع الكفار من غير المسلمين جائز بشرط أن يكون المتعَامَل فيه ليس محرمًا، ولا يؤثر فساد معتقدهم، حيث إنهم على الكفر ولا فساد معاملاتهم فيما بينهم حيث إنهم لا يراعون فيها الحلال والحرام، لا يؤثر ذلك في هذا التعامل.
(2) جواز معاملة من أكثر ماله حرام. وهذا يعني أنه سواءً كان المتعامل معه مسلمًا أم كافرًا فالتعامل معه جائز ما دامت المعاملة نفسها شرعية والمتعامل فيه غير محرم، وسواءً كانت هذه المعاملة تجارة بالبيع والشراء، أو إجارة بأن يعمل عنده مقابل أجر ويتقاضى هذا الأجر مقابل عمل غير محرم، أو غير ذلك من أنواع المعاملات الشرعية، أي أن المال الذي يكون حرامًا بالنسبة لشخص ما قد يصل إلى شخص آخر عن طريق معاملة شرعية من شراء أو إجارة أو هبة أو غير ذلك فيكون حلالاً في حق الشخص الآخر.
(3) جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا. لأن الكافر الحربي يمكن أن يستعمل هذا السلاح في حرب المسلمين ولكن الكافر غير الحربي أي الذي لا يحارب المسلمين لن يستعمل هذا السلاح في حربهم.
(4) ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم. فلا يعتدى عليها ولا تؤخذ من أيديهم إلا بأنواع المعاملات الشرعية التي يبيحها الإسلام، فقد بقيت هذه الدرع عند اليهودي ولم يفكَّ رهنها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم افتكها أبو بكر رضي الله عنه بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم على قول أو علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول آخر.
(5) جواز الشراء بالثمن المؤجل، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشترى الطعام من اليهودي إلى أجل ورهنه درعه، فالدرع لم تكن ثمنًا وإنما رهن فقط، ولقد ترجم البخاري لحديث عائشة وحديث أنس في كتاب البيوع باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، وقال ابن حجر: النسيئة بكسر المهملة والمد أي بالأجل، قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائر بالإجماع.
(6) جواز اتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل.
بل ذلك واجب لقول الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم {الأنفال:60}.
(7) أن أكثر قوت ذلك العصر الشعير قاله الداودي.
(8) وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها.
(9) وفيه ما يدل على كرم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه.
(10) وفيه الصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير.
(11) وفضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك. قلت: فلتقتدِ بهن زوجات المسلمين ولا تتضجر إحداهن بمجرد مرور زوجها بضائقة مالية أو ببعض الابتلاءات.
(12) قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود إما لبيان الجواز أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه.
(13) وقال ابن حجر في الحديث التالي لهذا الحديث في كتاب الرهن: وقع في أواخر المغازي من طريق الثوري عن الأعمش بلفظ: "توفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة"، وفي حديث أنس عند أحمد: "فما وجد ما يفتكها به"، وفيه دليل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه". قيل: هذا محله في غير نفوس الأنبياء فإنها لا تكون معلقة بدين فهي خصوصية.
(14) وفي كتاب المغازي في شرح نفس الحديث قال ابن حجر: فوجه إيراده هنا الإشارة إلى أن ذلك من آخر أحواله وهو يناسب حديث عمرو بن الحارث في الباب الأول أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك دينارًا ولا درهمًا.
(15) وفي باب شراء الإمام الحوائج بنفسه من كتاب البيوع أورد البخاري نفس الحديث أي حديث عائشة رضي الله عنها، وقال ابن حجر: وفائدة الترجمة رفع توهم من يتوهم أن تعاطي ذلك يقدح في المروءة.
هذه بعض الفوائد المستنبطة من هذا الحديث ومن يبحث فيه يجد المزيد، هذا والله أعلم، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

منقول