قال الله " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " الأنعام 93


قال الطبري في جامعه 11-532" يعني جل ذكره بقوله"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا"، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا "ممن افترى على الله كذبًا"، يعني: ممن اختلق على الله كذبًا، فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا، وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل."


وقال ايضا 11-535" وقال آخرون: بل القائل:"أوحي إلي ولم يوح إليه شيء"، مسيلمة الكذاب.
ذكر من قال ذلك:
13557 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ وأهمّاني، فأوحى إليّ: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة، وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له:"الأسود".
13558 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال:"أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، قال: نزلت في مسيلمة."


ثم قال ابو جعفر " وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء"، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال:"إني قد قلت مثل ما قال محمد"، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا.

وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره:"أوحى الله إلي"، وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنزيل، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون، ولنبوّته جاحدون، ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون،

فقال لهم جل ثناؤه:"ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا"، وقال:"أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول:"ما أنزل الله على بشر من شيء"، فينقض قولَه بقوله، ويكذب بالذي تحققه، وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم ."



قال أبو الفداء في تفسيره 3-301 ومابعدها " أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله؛ ولهذا قال تعالى: { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء }
قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب لعنه الله
{ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } يعني: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كما قال تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين } [الأنفال: 31]"


قال القرطبي في تفسيره 7-39 " نزلت في رحمان اليمامة والأسود العنسي وسجاح زوج مسيلمة، كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه.
قال قتادة: بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة، وقال ابن عباس.

قلت: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما
يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص.
وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ويستدلون على هذا بالخضر، وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم.
وهذا القول زندقة وكفر، يقت قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم"



وقال ابن الجوزي في زاده 2-376 " فان قيل : كيف أفرد قوله : { أو قال أُوحي إليَّ } من قوله : { ومن أظلم ممن افترى } وذاك مفترٍ أيضا؟ فعنه جوابان .

أحدهما : أن الوصفين لرجل واحد ، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته .
والثاني : أنه خص بقوله : { أو قال أُوحي إليَّ } بعد أن عم بقوله : { افترى على الله } لأنه ليس كل مفترٍ على الله يدعي أنه يوحى إليه ، ذكرهما ابن الأنباري ."


قال السعدي 264" يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، ممن كذب على الله. بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد.

ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه -مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف.

{ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ } أي: ومن أظلم ممن زعم. أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه، ويشرع من الشرائع، كما شرعه الله. ويدخل في هذا، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله
وأي: ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات، الناقص من كل وجه، مشاركةَ القوي الغني، الذي له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، في ذاته وأسمائه وصفاته؟"

وقال محمد بن عبد الوهاب في مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية 167 -172 " ومن ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار وأظلم الظالمين :
قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [ الأنعام : 93 ] . وقال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } [ الزمر : 32 ] .
وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ } [ العنكبوت : 68 ] .
وقال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 144 ] .

ومن كان كذلك كان الله يمقته ، ويبغضه ، ويعاقبه ، ولا يدوم أمره ، بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : « إن الله يُملي للظالم ، فإذا أخذه لم يُفْلِته " ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }» [ هود : 102 ]

وقال - أيضا - في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع ، تُفَيِّؤُهَا الرياح ، تقيمها تارة وتميلها أخرى ، ومَثَل المنافق كمثل شجرة الأرز ، لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة » .

فالكاذب الفاجر وإن عظمت دولته فلا بد من زوالها بالكلية ، وبقاء ذمه ولسان السوء له في العالم ، وهو يظهر سريعا ، ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي ، ومسيلمة الكذاب ، والحارث الدمشقي ، وبابك الخرمي ونحوهم .

وأما الأنبياء فإنهم يُبْتَلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء ، فإن الله تعالى يُمَكِّن للعبد إذا ابتلاه ، ويُظْهِر أمره شيئا فشيئا كالزرع ، قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } ، أي : فراخه { فَآزَرَهُ } ، أي : قَوَّاهُ { فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [ الفتح : 29 ] .
ولهذا كان أول من يتبعهم ضعفاء الناس باعتبار هذه الأمور .

وسنة الله في أنبياء الله وأوليائه الصادقين وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين مما يوجب الفرق بين النوعين ، وبين دلائل النبي الصادق ودلائل المتنبي الكذاب .
وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ثم كون العاقبة لهم في غير موضع :
كقوله تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [ الأنعام : 34 ] .
وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ }

{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 109 - 111 ]
والمقصود أن إيذاء القائمين بالحق ، والناصرين له من سَنَن أهل الجاهلية ، وكثير من أهل عصرنا على ذلك ، والله المستعان ."



قال شيخ الإسلام " فجمع في هذا بين من أضاف ما يفتريه إلى الله، وبين من يزعم أنه يوحى إليه ولا يعين من أوحاه؛ فإن الذي يدعي الوحي لا يخرج عن هذين القسمين .
ويدخل في القسم الثاني من يُرِي عينيه في المنام ما لا تريا، ومن يقول : ألقى في قلبي وألهمت ونحو ذلك، إذا كان كاذبًا .

ويدخل في القسم الأول من يقول : قال الله لي، أو أمرني الله، أو وافقني، أو قال لي ونحو ذلك، بخيالات أو إلهامات يجدها في نفسه، ولا يعلم أنها من عند الله، بل قد يعلم أنها من الشيطان، مثل مُسَيْلَمَة الكذاب ونحوه، ثم قال تعالى : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ } [ الأنعام : 93 ] ، فهذه حال من زعم أن البشر يمكنهم أن يأتوا بمثل كلام الله، أو أن هذا الكلام كلام البشر بفضيلة وقوة من صاحبه، فإذا اجتهد المرء أمكن أن يأتي بمثله . وهذا يعم من قال : إنه يمكن معارضة القرآن، كابن أبي سرح في حال ردته، وطائفة متفرقين من الناس، ويعم المتفلسفة الصابئة المنافقين والكافرين، ممن يزعم أن رسالة الأنبياء كلام فاض عليهم قد يفيض على غيرهم مثله، فيكون قد أنزل مثل ما أنزل الله في دعوى الرسل؛ لأن القائل : سأنزل مثل ما أنزل الله، قد يقوله غير معتقد أن الله أنزل شيئًا، وقد يقوله معتقدًا أن الله أنزل شيئًا ." مجموع فتاوى التفسير 22-23


وقال ايضا " فمن أصول الإسلام أن تميز ما بعث اللّه به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب . فإن اللّه ـ سبحانه ـ أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) ، وقال عبد اللّه بن مسعود ـ رضي اللّه عنه : خط لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال : ( هذا سبيل اللّه، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ، ثم قرأ قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .

وجماع ذلك بحفظ أصلين :


أحدهما : تحقيق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يخلط بما ليس منه من المنقولات الضعيفة، والتفسيرات الباطلة، بل يعطي حقه من معرفة نقله، ودلالته .
والثاني : ألا يعارض ذلك بالشبهات لا رأياً ولا رواية . قال اللّه تعالى ـ فيما يأمر به بني إسرائيل، وهو عبرة لنا : { وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 41، 42 ] ، فلا يكتم الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يلبس بغيره من الباطل، ولا يعارض بغيره .

قال اللّه تعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ } [ الأنعام : 93 ] .

وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم أعداء الرسل، فإن أحدهم إذا أتي بما يخالفه، إما أن يقول : إن اللّه أنزله على فيكون قد افتري على اللّه، أو يقول : أوحي إليه ولم يسم من أوحاه، أو يقول : أنا أنشأته، وأنا أنزل مثل ما أنزل اللّه، فإما أن يضيفه إلى اللّه أو إلى نفسه، أو لا يضيفه إلى أحد .

وهذه الأقسام الثلاثة هم من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . قال اللّه تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [ الفرقان : 30، 31 ] ، واللّه أعلم، والحمد للّه ." 3- 342-344