ليس هناك دين ودولة بل دولة مسلمة

د. حمزة بن محمد السالم

لم تستقم الأمور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب فتمزقت الدولة الإسلامية في أيام ولايته - رضي الله عنه - وجرت دماء الصحابة والمسلمين أنهارا وتوالت الفتن كقطع الليل المظلم، وانتهى باستشهاده - كرم الله وجهه - عهد الخلافة الراشدة. فتنٌ عظيمة عصم الله منها سيوفنا فاتفق خيار الأمة على أن نعصم منها ألسنتنا وأن نحجر دموعنا في محاجرها، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا ولا نُسئل عما كانوا يعملون. عهد الخلافة الراشدة هو امتداد لعصر النبوة، فهو عصر تشريع لأحكام الدولة الإسلامية كما هو عصر التفسير العملي لأحكام الدين. ومحاولة فهم أسباب تمزق الأمة في أيام آخر الخلفاء الراشدين لا يُعد من الخوض في أحاديث الفتن بغير حق بل هو داخل في عموم استنباط الأصول التشريعية لنظام الدولة الإسلامية والمستمدة في غالبها من عصر الخلافة الراشدة. فكيف لم تستقم الأمور لأمير المؤمنين علي وهو من هو؟ هو علي بن أبي طالب وكفى.

جامع الأسباب الشارحة لخروج الأمور عن السيطرة في عهد الخليفة العبقري المفكر الذكي الداهية علي - كرم الله وجهه - هو أنه كان تقيا نقيا أراد أن يقود الأمة الإسلامية في عصره بأسلوب قيادة الصديق أبي بكر والفاروق عمر- المستند إلى التقوى في نفوس الناس وقرب عهدهم بالنبوة - فلم تستقم له الأمور. فقد تغيرت الأحوال على قُصر الزمان، واختلفت مفاهيم الناس الشرعية والدنيوية وولاءاتهم وورعهم بانفتاح العرب على ثقافة الفرس والروم وبتفجر كنوز الدنيا على المسلمين، فما كان صالحا في عصر الصديق وفي عصر الفاروق لم يعد صالحا في زمن علي بن أبي طالب، صهر رسول الله - عليه الصلاة والتسليم.

وفاة رسولنا - عليه السلام - كانت البداية لدولة إسلامية لا يقودها نبي ولا رجال دين، بل رجال دولة مؤمنون. لا يوجد في قاموس إدارة الدولة الإسلامية رجل دين ورجل دولة, بل هناك رجل دولة مسلم. رجل الدين مصطلح غربي أطلقه الغرب مناسبة للكهنوت المسيطر على أمور دينهم. فما يعرفه القساوسة لا يعلمه رجال الدولة، وللقساوسة قدسية خاصة من الرب ليست مكانا للتساؤل. فاستغل القياصرة والأباطرة ذلك، فاستخدموا رجال الدين عندهم في وجه شعوبهم لإشغالهم بتوافه الأمور بينما انغمسوا هم في العبث والفساد. فضيق رجال الكنيسة على أقوامهم وقيدوا تقدمهم وحجروا على عقولهم وحرياتهم، ففُصل الدين عن الدولة الغربية عبر ثورات شعبية دموية مفجعة.

فصل الدين عن الدولة يتناسب مع أوضاع الغرب وتاريخهم المأساوي الذي تحكمت فيه الكنيسة في أمور السياسة عندهم قديما, أما الدولة الإسلامية فلا يمكن فصل الدين عن الدولة فيها. فرجال الدولة هم رجال مسلمون، آراؤهم وقراراتهم وتصوراتهم نابعة من مفاهيمهم الإسلامية الراسخة في قلوبهم رسوخ الجبال. لذا يجب التفريق بين أن يحكم الدولة الإسلامية رجال الدين بالمفهوم الغربي وأن يحكم الدولة رجال الدولة المسلمون. فإيران مثال لحكم رجال الدين للدولة بالمفهوم الغربي، وكفى. وأما حكومة طالبان، فلا ينكر منصف إخلاص وصلاح واستقامة وحسن نية طالبان وصفاء عقائدهم، فلم لم ينصرهم الله وقد أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر حين مكنهم الله في الأرض؟ لِمَ لَمْ ينصرهم الله وقد تعهد جل شأنه بنصر من ينصره إن مكنه في الأرض، لا يخلف الله وعده ''وعد الله ومن أصدق من الله قيلا'' ''ومن أصدق من الله حديثا''. طالبان آمنت ببعض الكتاب وجهلت بعضه. عصر الخلافة الراشدة هو عصر تشريع لأصول سياسة الدول وليس مجرد أخذ لظاهر الفتيا. وشاهد ذلك أن ما قرره الفاروق في أيام خلافته نقضه ابن تيمية بعد خمسة قرون، لأنها لم تكن أحكاما دينية محضة بل سياسات تتناسب مع عصر الفاروق, فتقديم الفاروق مصالح الأمة على النصوص الشرعية هو أصل شرعي واسع ضيقه البعض في تخصيصه بظاهر الحالات التي واجهت الفاروق فقدم فيها مصلحة الدولة والأمة على النص. لم ينصر الله طالبان لأنها لم تع أن الحكم في الدولة الإسلامية لا يفصل الدين عن سياسة الدول. وما أرادوا تطبيقه في بلادهم من فرض نصوص الدين على سياسة الدولة دون اعتبار للأحوال المعاصرة هو في حقيقته فصل للدين عن الدولة. فما هم والله بأورع ولا أتقى ولا أفقه من الفاروق عمر. فكان مثلهم ومثل الفاروق مثل الثلاثة الذين تعاهدوا بأن يصوم أحدهم ولا يفطر وألا يتزوج الآخر النساء وأن يقوم ثالثهم الليل كله، فما هم بخير من رسول الله. فجامع رسول الله والفاروق أنهما لم يفصلا الدين عن الأمة، وجامع طالبان والثلاثة من الصحابة الذين تعاهدوا - رضي الله عنهم- هو البساطة في التفكير وفصل الدين عن الحياة.

رجال الدولة المسلمون في الدولة الإسلامية لا يخالفون أحكام الشريعة في عمومها, لكنهم لا يقودون بلادهم إلى حتفها من أجل رأي خلافي أو مدرسة فقهية ينتمون إليها، بل ولا حتى من أجل نص صريح - ليس من أصول الدين- لكنه غير صالح للتطبيق بسبب تغير الزمان وأحوال الناس والعالم من حولهم، ولهم في ذلك أسوة حسنة في الفاروق عمر أمير المؤمنين. فمن أجل الحفاظ على الجيش الإسلامي ألغى الفاروق الحكم الشرعي الثابت - بنص القرآن وبتطبيق الرسول له - بتقسيم السواد على المجاهدين فما بالنا نمتعض ببعض سياسات الدولة العسكرية التي تفرضها الأحوال المعاصرة. ومن أجل التوزيع العادل للزكاة منع الفاروق سهم المؤلفة وقد ثبت سهمهم بنص الكتاب والسنة، فما لنا نشاغب على بعض سياسات الدولة الاقتصادية المعاصرة. ومن أجل حفظ الأسرة المسلمة أوقع الفاروق الطلاق الثلاث جملة واحدة فما لنا نهاجم فرض قانون يمنع تزويج الصغيرة. وقال الله ''والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا'', لكن من أجل الرمادة أوقف الفاروق حد السرقة .. فما بالنا نتهم هيئة حقوق الإنسان عندنا؟! ومنع الفاروق متعة الحج لكيلا يُهجر البيت .. فلم ننظر بريبة إلى هيئة السياحة عندنا ونعوق جهودها؟ وفي هذا كله وغيره، فالسجال الفكري والنقاش العقلي بين مختلف الأطراف هو روح الحياة للوطن وشرط نهضته وتقدمه، وإقحام رؤية معينة للدين كطرف في السجال الفكري ليس من العدل أو الإنصاف في شيء، فالدين يعلو ولا يُعلى عليه وإدخال رؤية دينية خلافية طرفا في الطرح يقتل النقاش من أصله ويقضي على كل رأي مبدع، كان محور ذلك النقاش. فبما أن الدولة مسلمة وقادتها وشعبها مسلمون فهم لن يخرجوا عما عُلم بالدين بالضرورة، وما يحصل هو آراء فقهية مشتهرة بين الناس تُفرض على النقاش وكأنها هي الدين الذي لا خلاف فيه رغم أنها قد تكون هي الضعيفة والشاذة رغم شهرتها. وفوق هذا كله، فلولي الأمر إيقاف حكم ثابت أو العمل بعكسه - ما لم يكن من أصول الدين - إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين كما فعل الفاروق. فلن تتحقق القيادة العالمية للدولة الإسلامية - وهو مقصد من أهم المقاصد الشرعية - إلا إذا كانت قوية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا فيتحقق بعزها عز الإسلام. وتخلف الدولة في أي جانب من هذه الجوانب الثلاثة هو تخلف للدولة في جميعها.

الغلو في حب الأئمة أدى إلى التعصب للمذاهب الفقهية الأربعة قديما عند المسلمين, ما زرع ثقافة التسلط بفرض الرأي الواحد بين المجتمعات الإسلامية. ثم جاءت أحوال وظروف كان فرض الرأي الواحد فيها من باب الضرورة والمصلحة العامة. فمن ذلك، الأسباب السياسية كمقاومة الاستعمار في بلاد المسلمين. أو أسباب دينية قامت مثلا على فرض المذهب الحنفي بصرامة من أجل مقاومة المذاهب الهدامة من قديانية وبهائية وغيرها من الانتشار في بلاد المسلمين غير الناطقين بالعربية. أو أسباب اجتماعية كحالنا هنا في العقود الأولى من الدولة السعودية المعاصرة. وزالت الأسباب وحيثياتها وبقى التعصب والجمود واتهام المخالف.

وخاتمة القول فإن التحول الجذري لمنهج التفكير سنة سنها في الإسلام الفاروق عمر. فتطور منهج التفكير هو ديدن العباقرة والمفكرين. وأما التصريح به والوقوف دونه فهو صفة الصادقين المخلصين من الأمة الذين لا يخافون في الحق لومة لائم. فالفاروق - رضي الله عنه - كان شديدا في اتباع ظاهر النصوص في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي بدايات عهد الصديق. يشهد لذلك مثلا موقفه المعارض لصلح الحديبية أيام رسول الله، وكذا موقفه المعارض ضد قتال مانعي الزكاة أيام خلافة الصديق مستدلا بظاهر قوله عليه السلام ''أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله''. ثم ما لبث الفاروق بعد توليه الخلافة أن قدم مصالح الدولة على كثير من النصوص الصريحة للكتاب والسنة. فأين عمر من الخليفة عمر؟ كان عمر مستشارا من عامة المسلمين يقدم النصيحة ولا يتعداها ثم أصبح عمر رجل الدولة الأول، فإذا به ينوء بحمل المسؤولية العظمى ويتذوق - بصدق نيته وإخلاصه - مرارة طعمها ويستشعر هولها وخطورة أمرها، ففجر حمل هم المسلمين مكامن عبقرية الفاروق السياسية التي أحدثت تحولا جذريا في منهج التفكير لديه - رضي الله عنه وأرضاه - فأصبح أمير المؤمنين عمر التي لم تلد الدنيا عبقريا مثله يفري فريه. ومن أراد أن يرى مثالا معاصرا للفاروق - باعتبار الأوضاع المعاصرة وقيودها - فلينظر إلى الملك الصالح المصلح عبد الله بن عبد العزيز.

http://www.aleqt.com/2009/12/30/article_324388.html