الله
في دول الحضارة القديمة
مصر
علمنا أن تعميم العقائد المشتركة كان مرتهنابقيام الدول الواسعة التي تطوي فيها عقائد القبائل والشعوب وتتجاوز أطرافها حدود الأمة الواحدة ، ونسميها في عصرنا هذا بالإمبراطوريات . والدول التي كان لها القسط الأوفي من هذه المساهمة العامة هي مصر وبابل والهند والصين واليونان ، وتضاف إليها اليابان لولا أنها في عزلتها قد أخذت أكثر مما أعطت ، وقد تخلفت من جراء هذه العزلة عن بعض الأطوار التي سبقتها اليها الأمم المتصلة بالمعاملات والمبادلات ، فتلبثت ببقايا الوثنية إلي مطلع العصر الحديث .
أما مصر فتاريخها فى أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء .. فشاعت فيها (الطواطم) فى كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد ، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوى والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هى بقايا (طوطمية) تحولت مع الزمن إلى رموز ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقبة على شكل من الأشكال .
وشاعت فيها عقيدة الأرواح ، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت ، ورمزوا للروح (كا) تارة بزهرة وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي وتارة بتمساح أو ثعبان ، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال ولكنهم لم يقوموا بتناسخ الأرواح ، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب .
أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلي آخر العصور فهي عبادة الموتي والأسلاف دون مراء . فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب . وقد بقيت آثار هذه العبادة إلي ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة ، ثم تغليبه علي عالم الخلود وموازين الجزاء .
فقصة أوزيريس هي قصة آدمية تشير إلي واقعة قديمة مما كان يحدث في الأسر المالكة في تلك العصور السحيقة ، وهي قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه (ست) عرشه فقتله . وجاءت زوجته (إيزيس) بعد ذلك بابن اسمه (حوريس) أخفته في مكان قصي حتي بلغالرشد .. فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه علي بلوخ حقه في العرش ، وعاد (ست) ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعي عليه أنه ابن (غير شرعي) من أب غير أوزيريس ، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث .
وتقول الاسطورة أن أوزيريس ولد في الوجه البحري ولكن رأسه دفن في الصعيد بقرية العرابة المدفونة . وأن (ست) حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر علي جثته أحد من المطالبين بثأره ، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتي دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذي قدح عمه في نسبه . وقد حاول أوزيريس أن يعود إلي الملك فأخفق في محاولته وقنع بالسيادة علي عالم (المغرب) حيث تغيب الشمس وتنحدر إلي عالم الأموات .
وللخصب شأن لا يستغرب في ديانة مصر القديمة . فهم يرمزون إلي الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم ، أو بامرأة تنحني علي الأإرض بذراعيها ويسندها (شو) إله الهواء بكلتا يديه ، وأقدم ما تخيلوه في أصل العالم المعمور أنه عليم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس وأنجب أربعة من الأبناء هم (شو) و(تفنوت) القائمان بالقضاء (وجب) رب الأرض (وتوت) رب السماء . ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس وإيزيس وست ونفتيس ، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء . ثم استقر الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس ، وهناك صيغة أخري من قصة الخلق فحواها أن (رع) نفسه –إله الشمس- كان ملكا علي مصر في زمن من الأزمان ، ويستدلون علي ذلك بخلاصة قصته المتداولة في الأساطير : وهي أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياه فسلط عليهم ربه النقمة (حاتحور) ثم أشفق عليهم من قسوتها فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء علي ظهرها فأقام هناك واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس .
وقد فعل غربال الزمن فعله في تصفية هذه العقائد والأرباب . فنسي أوزيريس السلف المعبود ورسخ في الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة علي المغرب أو عالم الأموات ، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها مواعدها ، وجمعت بينها كلها عبادة (أمون) ثم عبادة أتون .
وعبادة (أتون) هي أرقي ما وصل إ_ليه البشر من عبادات التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد .. فلم يكن المراد بأتون قرص الشمس ولا نورها المحبوس بالعيون ، ولكن عبادة الشمس كانت رمزا محسوسا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق في الأرض والسماء ... وإنما جاء هذا الطور بعد تمهيدات دينية وسياسية تهيأت لمصر ولم تتهيأ لغيرها من الدول الكبري في تلك الفترة .. فكانت في أقاليم القطر –قبل ظهور عبادة أتون – ثلاث عبادات (شمسية) تتنافس في المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التي تتغلب بها علي النظراء .
فكانت منف تدين لإله الشمس باسم (فاتح) .. وكانت عين شمس أو (هليوبوليس) تدين له باسم رع وأحيانا باسم (أتوم) . وكانت طيبة تدين له باسم (أمون) .
ويتبين من مراجعة الدعوات والصلوات المحفوظة أن عبادة (فتاح) كانت أقرب هذه العبادات إلي المعاني الروحية فارتفع (فتاح) من صانع حاذق بالبناء والتماثيل وسائر الصناعات إلي صانع مختص بإقامة الهيكل المقدس الذي أصبح في اعتقادهم مثالا للعالم بأرضه وسمائه ، وما هي إلا خطوة واحدة بين بناء الهيكل الذي يمثل العالم كله وبناء العالم كله من أقدم الأزمان قبل خلق الإنسان . وارتفع فتاح طبقة أخرى في مدارج القدرة والتنزه عن النظراء ، فتعالي عن الأجساد الشاخصة للحس وتمثل لعبادهروحا مسيطرة علي كل حركة وكل سكون في جميع المخلوقات . من ذات حياة وغير ذات حياة .فكان فتاح كما جاء في إحدي صلواته هو (الفؤاد واللسان للمعبودات ، ومنه يبدأ الفهم والمقال ، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح ..)
وما وجد شيء من الأشياء قط إلا بكلمة من لسانه صدرت عن خاطر في فؤاده . فكلمته هي الخلق والتكوين .
ويري المؤرخ الكبير برستيد أن عقيدة فتاح هي أساس مذهب الخلق بالكلمة Logos عند الإغريق الأقدمين . فلا حاجة بالخالق إلي أداة للخلق غير أن يشاء ويأمر فإذا بما شاء موجود كما شاء . ومن المحتمل جدا أن كهان تلك العصور تدرجوا إلي فهم قوة الكلمة الإلهية من فهمهم لقوة الكلمة علي لسان الساحر وقوة الكلمة علي لسان المبتهل بالصلاة .
ونسج كهان عين شمس علي منوال كهان منف في تنزيه رع وتجريده من ملابسات الحس والتجسيد ، ولا سيما بعد تفرغهم للعبادة الروحية وانصرافهم إليها كما تعاظم سلطان الكهان في طيبة وتفاقمت سيطرتهم علي مناصب الدولة ، وهم كهان أمون .
وقد توطدت كهانة أمون كهانة أمون في أيام المملكة الوسطي وبلغت أوجها بعد عهد تحوتمس الثالث أكبر ملوك الأسرة الثانية عشرة ، ومرشح أمون – أو كهان أمون بعبارة أخري للسيادة المطلقة علي أرجاء البلاد .
واتسعت الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث حتى تجاوزت حدودها بلاد النوبة والصومال في الجنوب ، وامتدت إلي الفرات وآسيا الصغري في الشرق والشمال ، وكان اتساع الأفق في السياسة مقترنا باتساع الأفق في تصور العالم وما ينبغي لخالقه من التعظيم والتنزيه ، فارتقي الفكر الإنساني في هذا العهد من البيئة المحلية إلي بيئة عالمية ، ثم إلي بيئة أبدية تنطوي فيها أبعاد المكان والزمان .
وطغي نفوذ الكهان الأمونيين علي كل نفوذ في البلاد من جراء هذه القربي بينهم وبين الملك العظيم . فاستأثر رئيسهم بلقب (الرئيس)في أنحاء الديار ، وضيقوا الخناق علي كهان رع وفتاح ، ولزموا حدودهم مع الملك العظيم في أثناء حياته لقوته ورهبته وعلو اسمه بالمظافر والفتوح ، وفرط ما أغدق عليهم من الهبات والحبوس والأوقاف ، ولكنهم ذهبوا في الطغيان كل مذهب علي عهد خلفائه ، فطمعوا في نفوذ الملك بعد اطمئنانهم إلي نفوذ الدين .
ومن هنا خطر للملوك خاطر الخلاص من هذا النفوذ ، فتكلم أمنحتب الثالث عن أمون في بعض أوامره وتسجيلاته آخر وهو اسم آتون .
وساعد علي هذا التبديل الطفيف أن صفات الإله في أذهان المصريين كانت أقرب إلي صفاته عند كهان منف وعين شمس ، وأن مسالك الكهان الدنيويين من شيعة أمون لم تكن وفاق الآداب والعادات التي استلزمها ارتقاء المصريين في فهم كمال الإله .
فلما تولي الملك أمنحتب الرابع –أوأخناتون كما تسمي بعد ذلك- كان التمهيد للعبادة الجديدة قد بلغ مداه ، وكان اتساع الأفق في النظر إلي الدنيا والنظر إلي صفات خالقها قد وسع له المجال للابتكار والتجديد ، وأعان عبقرية علي التدعيم علي التدعيم بعد التمهيد .
وقد حفظت لنا النقوش والتماثيل والألواح وأوراق البردي كثيرا من أخبار أخناتونوأحواله وملامحه وسيرته في مملكته وفي مملكته وفي بيته ، وتكفي لمحات عابرة إلي شكل جمجمته وتركيب بنيته وأساليب تفكيره ومناحي عباداته للعالم بأنه كان عبقريا من أولئك العباقرة الملهمين ، الذين يحدثنا النفسانيون أنهم يتلقون العبقرية علي حساب أبدانهم وهناءتهم في حياتهم في حياتهم كما نقول في تعبير هذه الأيام .
وكان الفتي أخناتون حدثا نائيا عند ولاية الملك ، معروفا بالعكوف علي التأمل والتفكير والخلوة بنفسه في صلواته ومناجاته ، وكان لطيف الحس حالم النفس منصرفا عن البأس والقوة ومتابعة الفتوح والغزوات التي توطد بها ملك آبائه وأجداده فطمع فيه كهنة آمون ، وخيل إليهم أنهم مالكون زمام الأمر كله علي يديه .
غير أن الفتي الحالم كان عبقريا يحب الابتكار والتفقه في العبادة بالعقل والبداهة المستقلة ، ولم يكن تقليديا يلقي بزمامه لمن يسيطر عليه .
وكان مع لطف حسه قوي النف صعب المراس ، فاستنكر دسائس الأمونيين وتهافتهم علي المناصب والأموال .
فقمعهم قمعا شديدا ومحا اسم آمون من كل مكان حتي هياكل أبيه واسمه الذي يبدأ باسم أمون ، وجهر بعبادة (آتون) دون سواه ، وهجر العاصمة التي ساد فيها هذا الإله إلي عاصمة أخري في أواسط الصعيد ، وهبها لربه الواحد الأحد وسماها (آخت آتون) .
وألغي جميع الأرباب وأعوانهم من الأرواح والجنة ، وأولهم الرب القديم أوزيريس ، فكان هذا سببا من أسباب غلبته يومئذ ، وأسباب التمرد عليه بعد حين .
ومن صلوات أخناتون تعرف صفات الله الذي دعا إلي عبادته دون سواه ، فإذا هي أعلي الصفات التي ارتقي إليها فخم البشر قديما في إدراك كمال الإله .
فهو الحي المبتدئ الحياة ، الملك الذي لا شريك له في الملك ، خالق الجنين وخالق النطفة التي ينمو منها الجنين ، نافث الأنفاس الحية في كل مخلوق ، بعيد بكماله قريب بآلائه ، تسبح باسمه الخلائق علي الأإرض والطير في الهواء ، وترقص الحملان من مرح في الحقول فهي فهي تصلي له وتستجيب لأمره ، ويسمع الفرخ في البيضة دعاءه فيخرج إلي نور النهار واثبا علي قدميه ، قد بسط الأرض ورفع السماء وأسبغ عليهما حلل الجمال ، وهو ملء البصر وملء الفؤاد ، وهو الوجود وواهب الوجود ، وشعوب الأرض كلها عبيده لأنه هو الذي أقام كل شعب في مواطنه ليأخذ نصيبه من خيرات الأرض ومن أيام العمر في رعاية الواحد الأحد آتون .
وقد عقد كل من هنري برستيد وارثر ويجالWeigall مقارنة بين صلوات أخناتون وأحد المزامير العبرية فاتفقت المعاني بينهما اتفاقا لا ينسب إلي توارد الخواطر والمصادفات .
ومن أمثلتها قول أخناتون : (إذا
ما هبطت في أفق المغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت .. فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها ) ..
ويقابله المزمر الرابع بعد المائة وفيه (أنك تجعل ظلمة الليل فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف ولتلتمس من الله طعامها) .
ويمضي المزمور قائلا : (.. تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض والإنسان يخرج إلي عمله وإلي شغله في المساء . ما أعظم أعمالك يارب كلها بحكمة صنعت . والأرض ملآنة من غناك ، وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف . وهنا ك دبابات بلا عدد صغار مع كبار . هناكتجري السفن ، ولو باثان (التمساح) خلقته ليلعب فيه) ..
ومثله في صلوات أخناتون : (ما أكثر خلائقك التي نجهلها أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره خلقت الأرض بمشيئتك وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار) .
(.. تسير السفن مع التيار وفي وجهه ، وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء . ويرقص السمك في النهر أمامك ، وينفز ضياؤك إلي أغوار البحار) .
(.. وتضيء فتزول الظلمة .. وقد أيقظتم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك .. ويمضي سكان العالم يعملون) .
وقد خطر لويجال –كما مقال في كتابه عن الحياة أخناتون وعصره- أن آتون وآتوم تصحيف (أدوناي) بمعني السيد أو الإله في اللغه العبرية ، وأن أخناتون ورث آراءه من أمة وهي تنتمي إلي سلالة أسيوية من شعر يقيم بين سوريا و أسيا الصغري ، حيث يعبد أدوناي أو أتون علي مختلف اللهجات .
وهذا وهم جلبه التشابه في الأسماء . لأن (آتوم) من أقدم الأرباب المصرية في معابد رع ، وقد كان رب الكون حيث لاشيء غير اللجة الطخياء المسماه في الأساطير المصرية (نون) .. وجاء في الفقرة السابعة عشرة من القسم الأول في كتاب الموتي علي لسانه : (... وأنا أقوم متفردا في نون ، وأنا رع حيث يبزغ مع الفجر ليبسط يديه علي الدنيا التي خلقها) ..
وكانوا يمثلونه علي تمثال رجل ملتح يضع علي رأسه تاجي القطرين ، أي التاج الأحمر لمصر السفلي والتاج الأبيض لمصر العليا مجتمعين ، ويجعلونه رئيس مجلس الآلهة باسم رع هيرختي أتوم Ra Herakhty-atun .
فهو رب أصيل وليس بالرب المستعار ، ولا شبه بينه وبين أدو ناي أو أدونيس –في صيغته اليونانية- لأن أدونيس رب الربيع والغرام يتخيلونه في ميسم الشباب ويزعمونه زوج فينوس أو الزهرة ، ولا شيء من هذا في خصائص آتوم الذي يبدو علي مثال الكهول ذوي اللحى ، ويتقلد مفتاح الحكم والحكمة ، ويرجع إلي مبدأ الخليقة حيث لا شيء غير الماء والظلام .
والأرباب الشمسيون أشبه بهياكل عين شمس لأنها أرباب أصيلة فيها لا تحتاج تلك الهياكل إلي استعارتها من ديانة أجنبية ولا سيما الرب الذي يحمل تاجي القطرين ويرأس المحكمة الإلهية في السماء .
وقد كانت لظهور آتون تمهيدات لأزمة لم تحدث في غير المملكة المصرية ، وهي تمهيدات الإمبراطورية ، وتمهيدات التنافس بين آمون ورع وفتاح وتمهيدات العبقرية التي تبشر بالدين الجديد .
وكانت لآتون خصائص متفردة لم يشركه فيها إله آخر من آلهة الأمم القريبة إلي مصر ، وهذا هو المهم في نشوء الديانات وليس المهم مجرد التشابه في مخارج الحروف . فليس أدونيس عند اليونان كأدوناي عند العبريين ،وليس هذا ولا ذاك كأتوم في معبد عين شمس أو غيره من المعابد المصرية ، وليس هؤلاء جميعا كالإله أتون الذي دعا إليه أخناتون . فلا وجود لآتون بهذه الخصائص لو لم تسبقه التمهيدات القديمة التي مرت بعبادة آتوم في مصر ، ومنها اتساع الدولة وإيمان المصريين بصفات رع وفتاح وآمون ، وحاجة الزمن إلي فهم جديد لصفات الكمال في الإله ، ثم عبقرية أخناتون التي تممت بابتكارها واجترائها ما بدأه التاريخ .
وقد كان عرب الجاهلية مثلا يعرفون اسم الله كما نعرفه اليوم ، ولكن الله الذي وصفوه والله الذي وصفه الإسلام لا يتشابهان بغير الحروف ، وبينهما من الفارق كما بين أبعد الأرباب .
علي أن ويجال يقابل بين معاني أخناتون ومعاني المزمور فيرجع الاستعارة بينهما ، ويعود فيرجح أن أخناتون ومعاني المزمور فيرجع الاستعارة بينهما ، ويعود فيرجح أن أخناتون كان في غني عن الاستعارة لما طبع عليه من العبقرية الدينية وما اتسم به كلامه من طابع الابتكار .
وقد تناول (فرويد) مسألة المقابلة بين عقائد أخناتون والعقائد العبرية فألف آخر كتبه في موضوع هذه المقابلة وسماه (موسي والوحدانيةMoses and monotheism) وانتهي من مقابلاته وفروضه إلي تقرير رأيه المرجح لديه : وهو أن موسي عليه السلام تربي بمصر في كنف الوحدانية ونشأ في أعقاب المعركة بين آتون وآمون ،واستعد للنبوة في هذه البيئة الموحدة فعلم بني إسرائيل كيف يوحدون الله ويعظمون صفاته وآلاءه وكان خروج بني إسرائيل فيما بين القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد ، أي في الجيل الثاني لانتشار التوحيد بالبلاد المصرية .. واسترسل فرويد في تقديراته –وهو من بني إسرائيل- حتى ظن أن موسي عليه السلام من دم مصري ، وليس من اللاويين كما جاء في العهد القديم .
ولكن المحقق أن بني إسرائيل قد أخذوا كثيرا من عقائد المصريين وشعائرهم قبل عهد أخناتون بعدة قرون ، وبعده بعدة قرون .
إلا أن الدعوة –دعوة أخناتون- كانت صحوة وجيزة تبعتها نكسة سريعة من جراء الأحداث السياسية التي أحاطت بالدولة ، ومن كيد الكهان المخلوعين في طيبة وما جاورها ، وهم كهان أمون الأقوياء الذين سلبهم أخناتون مناصبهم وحبوسهم وسيطرتهم علي العرش والمحراب . ولعلهم كانوا مخفقين في كيدهم لو اصطنع هذا المصلح الكبير شيئا من الدهاء ولم تدفعه الحماسة الروحانية وراء كل تقدير وتدبير . لأنه هجم علي الشعب في أعز العقائد عليه وهو عقيدته في أساطير عالم الأموات وشعائر الإله أوزيريس رب المغرب والخلود . فأنكر سلطان أوزيريس علي الأرواح وجرده من قدرة الحكم عليها بالعقاب أو العذاب . فلم يؤمن بجحيم أوزيريس ولا بجحيم غيره ، وبشر الناس بحياة خالدة كحياة الأطياف .. تحياها الروح بين الهدوء في ظلمة الليل واستقبال الضياء من وجه آتون .
ولهذا بقيت عبادة أوزيريس بين المصريين كما بقيت بين اليونان والرومان وانطوت أيام آتون بانطواء أيام نبي آتون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهند
ترجع الديانة الهندية القديمة إلي أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية .
ويختلف المؤرخون المختصون بالهند في العصر الذي تم فيه هذا التدوين ، فمنهم من يرده إلي ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، ومنهم من يرده إلي ستة آلاف سنة قبل الميلاد . ولكنهم لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل .
ومن المتفق عليه أن الديانة الهندية القديمة مزيج من شعائر الهنود الأصلاء وشعائر القبائل الآرية التي أغارت علي الهند قبل الميلاد بعدة قرون . وقد كانت هذه القبائل الآرية تقيم علي البقاع الوسطي بين الهند ووادي النهرين . فاتجهت طائفة منها غربا إلي أوربة ، واتجهت طائفة منها شرقا إلي الأقاليم الهندية من شمالها إلي جنوبها علي السواحل الغربية، قبل أن توغل منها إلي جميع أنحاء البلاد .
ويعتقد فريق من المؤرخين أن الديانة الهندية القديمة لا تخلو من قبس منقول إليها من البابلية والمصرية ، ويعللون ذلك بتوسط الموقع الذي قام فيه الآريون الأولون ، وأنهم لم تكن لهم في موقعهم ذاك حضارة سابقة لحضارة مصر وبابل وأشور . فلا خلاف في أن تاريخ الأسرة مصرية أسبق من تاريخ الكتب الفيدية وأسبق من كل حضارة عرفها التاريخ للآريين، حيثما أقاموا من البقاع الآسيوية أو الأوربية .
وقد اشتملت الديانة الهندية القديمة علي أنواع شتي من الآلهة التي تقدمت الإشارة إليها .. ففيها آلهة تمثل قوي الطبيعة وتنسب إليها . فيذكرون المطر ويشتقون منه اسم (الممطر) فهو الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث . ومن هنا اسم (أندر) إله السحاب المشتق من كلمة (أندر) بمعني المطر أو بمعني السحاب .
وكذلك يذكرون إله النار وإله النور وإله الريح وإله البحار ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتي من الديانات .. وأقدم معاني الألم عندهم معني (المعطي) أو ديفا Deva بلغتهم التي بقيت آثار منها في اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة . فكلمة (ديو) الفرنسيةDieu وكلمة ديتيDeity الإنجليزية وكلنة زيوس اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم . ويرجحون أن جوبيتر عند اللاتين –وهو(المشتري) في اصطلاح علم الهيئة- هو مزيج من كلمة المعطي وكلمة الأب ، بمعني أبي العطاء أو الأب المعطي للجميع ، كلمة الأب في أكثر اللغات الأوربية متفرعة من هذا الجذر الأصيل وهما في الهندية القديمة ديوس بيتار Dyaus-petar إذ لا تزال علي تعدد اللهجات ومخارج الحروف .
واشتملت البرهمية القديمة علي عبادة الأسلاف كما اشتملت علي عبادة المظاهر الطبيعية ، فتقديس الملك عندهم إنما هو تقليد موروث من تقديس جد القبيلة ، تحول إلي تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلي الأمة ويحسب العلامة اليوت سميث –كما قال في كتابه (المبادئ) The Beginning أن مواسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون .. فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس علي العرش أو من البناء بالملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية ، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة ،وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته علي الخلق ومنح الحياة ، وهي قدرة لا غني عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية) .
وقصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة : فالحياة خرجت من بيضة (ذهبية) كانت تطفو علي الماء في العماء ، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثي فهو الأب والأم للأحياء كما جاء عن (رع) في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند علي السواء ، وتتفق مصر وبابل والهند علي الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة .. فأمرها بأن توجد فبرزت علي الفور إلي حيز الوجود .
وتعززت في الهند عبادة (الطوطم) بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول .. فعبدوا الحيوان علي اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة .ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى منوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه ، وآمنوا بتناسخ الأرواح فجاء عندهم أن يكون الحيوان جدا قديما أو صديقا عائدا إلي الحياة في محنة التفكير والتطهير. فعاشت عندهم الطوطمية في أرقي العصور كما عاشت في عصور الهمجية ، لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم . لكنهم خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلي الإيمان بالإله الواحد ، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه . فلم يكن إيمانهم به علي الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد .
فهم قد بدأوا بإبطال جميع المظاهر فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول ، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر ، التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود .. وهنا ذهب حكماؤها إلي مذهبين غير متفقين : فبعضهم تمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد . قال ماكس موللر الثقة الحجة في اللغات الآرية : (أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثي ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية ، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلي أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخري غير أناس من فلاسفة الإسكندرية المسيحيين ، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلي مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين) .
وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذاهب الموحد المؤمن (بالذات الإلهية) من إيمانهم بالخلاص علي يد الله ، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص علي نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم . فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية ومنهم من يسميها بالسبيل القطية ، ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد به إلي رؤس الأشجار ، أو أن الله علي اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء ، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلي مكان .
فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو(ذات) علي كلتا الحالتين يتشبث بها العبد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها .
ويتسمي هذا الإله بثلاثة أسماء علي حسب فعل في الوجود . فهو برهما حين يكون الموجود الخالق ، وهو فشنو حين يكون الواقي المحافظ ، وهو سيفا حين يكون المهلك الهادم . ولا نهاية للتداخل ولا للترجيح بين هذه الأسماء والوظائف والأفعال ، علي تباين النحل والملل والأجيال .
أما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معني ليس له قوام من (الذات) الواعية ، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات ، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية ، ونعني بها الإسرائيلية والمسيحية والإسلام .
إلا أنه قضاء يسري علي الآلهة كما يسري علي البشر ، ويتغلغل في في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات ، وحكمة الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء .
ولا نحسب أن أحدا من الأقدمين بلغ في إعظام الأكوان المادية مبلغ البراهمة ، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء . فإن أناسا من الأقدمين لم يجاوزوا بعمر الأكوان المادية بضعة آلاف سنة . وأناسا منهم جعلوا لها خلقا واحدا وفناء واحدا خلال أجل مقدور من القرون . ولكن البراهمة جعلوا له أربعة أعمار تساوي اثنتي عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألف سنة شمسية ، وبعض المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون جميعا أنها دورة واحدة من دورات الوجود ، وأن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع ، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في الابتداء .
والقانون الأبدي karma يقلب الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها ثم يختم هذا النهار بليل من الليالي الهجوع ، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخري أخري دواليك إلي غير انتهاء ، لأنه لا انتهاء للزمان .
ويتضائل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء ، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية . لأنه (رقم) ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء .
وعلي هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوال خمسة قرون .. فقيل (جوتاما) بمئات السنين كان نساك الهند يتغنون بمضامين النشيد المرهوب الذي ترجمه ماكس موللر إلي الإنجليزية وجاء فيه عما كان قبل أن كان أو يكون :
(حينذاك لم يكن ما وجد أو ما لم يوجد ، ولم يكن ما تثبته وما لا تنفيه .
(لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء) .
(وماذا عساها تنطوي عليه ؟ أين كانت وأين قرارها ؟ أهي هاوية الماء التي ليس لها من قرار ؟) .
(لم يكن موت : فلم يكن خلود) .
(لم يكن ما يموت فلم يكن ما ليس يموت) .
(ولم يكن ثمة نهار ولا ليل . ولم يكن إلا (الأحد) يتنفس حيث لا أنفاس . ولا شيء سواه) .
(وكان البدء في ظلام : عليكم بلا ضياء) .
(ومن البذرة في تلك القشرة (الأحد) بحرار الحياة) .
(وانتصر الحب حين نبتت البذرة من لباب العقل السرمدي ، وناجي الشعراء قلوبهم فتبينوا بالحكمة ما هو مما ليس هو . فقد نفذ شعاع القلب خلال ما هنالك ، فماذا نظروا فوق الأحد وماذا نظروا دونه ؟ كل ما هنالك حمله لبذور . قوي : قوة من أدني ومشيئة من أعلي . ولا أحد يدري . ولا من يعلم من أين جاء ما جاء . فإنما جاءت الأرباب بعد ذلك . فمن إذن يعلم ما جري ؟ أهو الذي حدثت منه الخليقة ؟ لعل الذي يعرفه (أحد) واحد في أعلي عليين .ولعله لا يدري كذلك ..
وقبل (جوتاما) آمن البراهميون بالدورة في وجود الكون والدورة في وجود الإنسان . فالكون يتجدد حلقة بعد حلقة ، والإنسان يتنقل في جسد بعد جسد ، وسلسلة الأكوان ليس لها انتهاء ، وسلسلة الحياة الإنسانية قد تنتهي إلي السكينة أو الفناء .
فالبوذية إنما قامت علي أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول . وإنما تميزت البوذية بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان ، فأخرجتها من حجابها المكنون في الحاريب إلي المدرسة والبيت وصفوة المريدين ، ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية بل إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة ، وإضافة في عرض الآراء علي غير المستأثرين بها قديما من سدنه الهيكل والمحراب .
وخلاصة الفلسفة التي أتي بها البوذا جوتاما هي تقريره هذه المبادئ الأربعة وهي :
(أولا) أن هناك عذابا وشقاء ، و(ثانيا) أن هناك سببا للعذاب والشقاء ، و(ثالثا) أن هذا السبب قابل للزوال ، و(رابعا) أن وسيلة الانتهاء إلي هذه الغاية موجودة لمن يختار.
أما سبب الشقاء فهو الجهل الذي جعلنا نتعلق بالأوهام وننسي لباب الأمور ، أو نتعلق بالعرض ونعرض عن الجوهر الأصيل .
والعرض هو كل ما يزول ويتغير ، وهو من شرد وفساد . وكل ما نحسة هو عرض تشمله لعنة الزوال . فما من شيء ثم (يكون) بل كل شيء يصير ولا يكف عن التغير . أو كما قال : (إن الناس يؤمنون بالثنائية ، فيؤمنون بأن الشيء إما كائن وإما غير كائن . ولكن الناظر إلي الأمور بعين الصدق يعلم أن الرأيين طرفان متطرفان ، وأن الحقيقة وسط بين الطرفين) .
وعلي هذا النحو ينكر البوذا وحدة (الشخصية الإنسانية) لأنها لا تتجاوز أن تكون تلاحقا مستمرا للأحاسيس يبدو لنا كأنه حزمه مضمونة في كيان واحد . ومفسروه في العصر الحديث يمثلون لذلك بشروط الصور المتحركة الذي يلوح لنا شيئا واحدا وهو خطفة بعد خطفة من الألوان والظلال .
وإذا كان الشقاء في التطرف بالحس إلي النقيضين ، فالخلاص من الشقاء لا يتأتي بغير الاعتدال بين كل طرفين ، وبهذا نميط عنا غشاوة الخداع الذي يتراءي علي ظاهر الأشياء للنفاذ إلي ما وراءها من سر الوجود .
فلا استغراق في إرضاء الحس ولا استغراق في قمعه وتجريده ، بل توسط بين الغايتين في أمور الحياة الثمانية ، وهي الفهم والعزم والكلام والسلوك والمعيشة والعمل والتأمل والفرح .
فالفهم طرفاه التصديق بكل ما يقال وإنكار كل ما يقال . والوسط بينهما التمييز بين الباقي والزائل والظاهر والباطن والثابت والذي ليس له ثبوت .
والعزم طرفاه التهافت والإهمال . والوسط بينهما إرادة الحكمة متي تبين السبيل إليها بالفهم الصحيح .
والكلام منه المهجور ومنه المطروق . والوسط بينهما قول الصدق وصون اللسان عن العيب والنميمة والمحال .
والسلوك طرفاه المحاباة مع الغرض والإجحاف مع الغرض والوسط قوام بين الغرضين لا ينقاد لهذا ولا لذاك .
والمعيشة الصالحة قوامها أن يتخير الإنسان رزقا حلالا يتورع فيه عن التكسب بما يضر الآخرين .
والعمل الصالح أن يعرف ما يبتغيه ويقيس طاقته علي مراده ويلتزم في كل ما يريد جادة الرشد والحكمة والإنصاف والتأمل الصالح سلام العقل وصفاء البصيرة ونبذ الوهم والعكوف علي الحق البريء من النزعات .
والفرح الصادق هو فرح الرضوان الذي يتاح للإنسانفي هذه الحياة فيبلغ به ملكوت (النرفانا) الأرضية في انتظار النرفانا الصمدية ، وهي السكينة أو الفناء ، وبينها وبين العدم فرق كبير . لأنها وهي وجود يفني في وجود ، ويفسرها بعض العصريين من أذكياء البوذيين بفناء ألان الطيف في البياض الناصع الذي ليس له لون ، وهو ملتقي جميع الألوان .
وبهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان راء جثمان ، فيدخل في (النرفانا) ولا يولد بعد ذلك ولا يموت .
وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين . فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود ، وكلها عرضة للتفكير والتطهير والتحول والتغيير ، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.
وموضع التناقض في هذه الفلسفة أنها تنكر (الشخصية الإنسانية) ولا تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقي علي التنقل بين الأجساد والدورات .
وأنها تؤمن بالكل أو (المطلق) الصمدي الوجود ، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان . مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعني من معاني الكلمة ولكنه شتات من أجزاء متفرقات .
وعلينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية . لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلي الآرية علي اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين .
فقد رفعوها فوق قدرها بلا مرااء ، وزعمواأنها جرأة العقل الكبري) في مواجهة المشكلة الكونية ، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام .
لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف ، فما هي إلا جرأة حسية في أقصي ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين ، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد ، ولا سعادتها القسوي إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلي الفناء أو (اللاوعي) علي أحسن تقدير .
والمحسوس عندها شامل للمعقول ، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات .
والآلهة عندما تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان وما ارتفعت الأكوان عندها إلي هذة المرتبة إلا بأنها هي المحسوس ، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد .
_______________________________________________
الصين
أما الصين فإنها –كالمنتظر من أمة في ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها- قد اختبرت جميع أنواع العبادات من أدناها إلي أرقاها .
ولكنها –علي كثرة العبادات التي دانت بها – لا تحسب من أمم الرسالات الدينية كمصر وبابل والهند وفارس وبلاد العرب وفلسطين . لأنها لم تخرج للعالم قيما دينية تلقاها منها ، وهي باصطلاح التجارة تحسب من الأمم المستنفذة في مسائل الديانات . لأنها أخذت من الخارج قديما وحديثا عقائد البوذية والمجوسية والإسلام والمسيحية ولم تعط أمة عقيدتها ، مع استثناء اليابان التي أخذت عنها نحلة كنفشيوس .
وأهل الصين لا يخوضون كثيرا في مباحث ما وراء الطبيعة ، ويوشك أن يكون التدين بينهم ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة .
فأشيع العبادات بينهم عبادة الأسلاف والأبطال ، وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية علي جملة الأرواح التي يعبدونها ويمثلون بها عنصر الطبيعة أو مطالب المعيشة ، ولا يقدر الصيني قرباناهو أغلي قيمة وأحب إلي نفسه من قربانه إلي روح سلفه المعبود ، وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب ، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلي كل شيء كانت تحتاج إليه وهي في عالم الأجساد .
والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم . فما أرضي السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر . وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد .
وتتمشي عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلي جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال . فالسماء والشمس والقمر والكواكب آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي) ويليه إله الشمس فبقيه الأجرام السماوية فالعناصر الأرضية .
وهم يتقربون إلي (شانج تي) بالذبائح ويبلغون صلواتهم بإشعال النار علي قمم الجبال ، فيعلم الإله –مما أودعه الكاهن دواخينها- فحوي الرسالة التي يرفعها إليه عباده ، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان .
وإله السماء هو (الإله) الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجري حياته الذي لا محيد عنه . وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة. وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب . فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية .
وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمي عاهل الصين باسم (ابن السماء) . ويقال أنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده . فنقلها العاهل إلي بلاد الصين .
وأراد الفيلسوف (شوهستي) في القرن الثاني عشر أن ينشيئ بوذية صينية توفق مذهب بذا في أمور وتخالفه في أمور ، فدعا إلي دين لا إله فيه ولا خلود للروح ، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر . وسمي دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات ، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهرة وخافية . فالمادة تحد من القانون ، خالد لا وعيله ولا يسمع ولا يجيب ، وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد ، فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت . وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متي (نضجت) كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم. وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح ، كأنها الثرة في حالة العفن والإهمال .
وليس لأهل الصين رسل وأنبياء بل لهم معلمون ومربون . كنفشيوس أشهر هؤلاء المعلمين (كنج فو) وأضيفت إليه تسي أي المعلم . وكذلك (لاو) الذي ولد قبله ولم يشتهر في خارج الصينمثل اشتهاره يعرف بلاوتسي أي المعلم لاو . وكلاهما يبشر بالحلم والصبر والبر بالوالدين والعطف علي الأقربين والغرباء . والفرق بينهما هو فرق في الخلق والمزاج وليس بفرق في العقيدة والإيمان . فلاو يقول : (من كان طيبا معي فأنا طيب معه، ومن أساء إلي فأنا طيب معه كذلك . فلنجز السيئة بالحسنة ولنعمل الطيب علي كلحال) أماكنفشيوس فهو يوصي بأن نقابل السيئة بالعدل وأن نقابل الإحسان بالإحسان .
ولما مات كنفشيوس (478 ق . م) أقاموا له الهياكل وعبدوه علي سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين ، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة (رسمية) أي حكومية علي عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد ، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم ، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة . ولم تزل عبادته قائمة إللي العصور المتأخرة بل إلي القرن العشرين . فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه ، وقد جعلوا يوم ميلاده –وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس- عيدا قوميا يحجون فيه إلي مسقط رأسه ، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه .
وشعائر الدين بين أهل الصين هي شعائر الطريق أو شعائر (السلوك) وفرائض التهذيب والتثقيف ، ومحورها الحلم والسلم والتحذير من العنف والغضب والإفراط والإسراف . وليس في تدين الصين مغالاه ولا حماسة ولا سورة من سورات الغيرة القوية والتعصب العنيف ، بل ليس شيء من ذلك في معرض من معارض الروح القومي التي تعبر عنها الثقافة أو الفن أو الحكمة أو قواعد الأخلاق . لأن الدعة سمة عامة لمزاج القوم أو (روح الأمة) . وهم متفائلون قلما يحنقون علي الحياة ولا علي الأحياء ، وغالب الرأي بين حكمائهم أن الإنسان طيب بالفطرة وأن الحياة ترضي من لا يسرف في تقاضيها ويلحف في الطلب عليها . ولا تأتي الحماسة الدينية إلا حين يمتحن الإنسان بالشدة البالغة والحيرة الثائرة فيندفع إلي غاية الإصرار ، وينقلب من ضميره إلي أعمق الأغوار . ولا شك أن شعور النفس (بالقدرة الإلهية) يتوقف علي هذه الحالات التي تتناهي إليها قدرة الإنسان . فلا جرم (يتوسط) أهل الصين في عقائدهم فيخلو إيمانهم بالإله من ذلك العمق الذي يغوص إليه الإنسان كلما جاشت نفسه بقوة الشعور .
ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية ولكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر علي نصيب الإيمان بالدين ، وذاع عن أهل الصين –من ثم- أنهم أقدر أمة علي تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد .
وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين علي الإجمال . فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية ، واستعاروا البوذية والإسلام والمسيحية علي تفاوت في عدد الأتباع من كل دين ، ومزجوا ديانة الشمس بديانة الأسلاف . فلا مخافة بينهم في هذا بإفراط أهل اليابان في تأليه صاحب العرش واعتدال أهل الصين في تقديسه كاعتدالهم في جميع الشئون .
وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثي لعبادة السلف الأعلي حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها . وتلك الربة هي (اميتراسوا-أموكامي)التي لا تزال معبودة إلي اليوم .
ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ علي جزيرة كيوشو وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلي الجبال وكأن أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر (سوسا-نو-وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلي المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية . ثم انعقدت الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والممغزوة ، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبري الأخوين .
ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان ،لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب ، وهذه أرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية . ويسمون الواحد منها (كامي) .. وهي كلمة تطلق علي كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال . ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلي الربة الكبري برضوان من خالق السماوات والأرضين .
أما الخلق فهو منسوب عندهم إلي إله السماء (أزاناجي-نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي-نوميكوتو) . فولدا جزر اليابان وألقحاها ببذور الآلهة وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة الآلهة .. فكلهم في النسب الأعلي –وليس الميكاد وحده- إلهيون .
وفي إحدي الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار ، فانبعثت من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والرعود . ولم ترجع الأرض إلي خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة .
وينسبون الخلق في رواية أخري إلي (أزاناجي) وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه .. فمن عينه اليسري خلقت الشمس ومن عينه اليمني خلق القمر ، ومن عطسته خلق (سوسا-نو-وو) رب الرياح والأمطار . ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء .
فالديانة اليابانية الأصلية شمسية سلفية جمعت معني التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوره أبا للخليقة بمفرده أو مشاركة زوجه ، ثم جمعتها في الربة الواحدة علي اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.
__________________________________________________ ___
فارس
لعل تاريخ الديانة الفارسية القديمة أهم التواريخ الدينية بين الأمم الأسيوية ، لتوشنج القرابة بينه وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية ، وارتباطه بالتواريخ السابقة له واللاحقة به واقتباس الديانة الفارسية من غيرها واقتباس غيرها منها ، وتقدم الفكرة الإلهية علي يد زرادشت صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنا بين دعاة المجوسية من أقدم عصورها إلي أحدثها .
فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية ، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل ، قريب من أقاليم الطورانيين ، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب ، وقد تلقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة ، وانقضي زمن طويل علي الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو اللم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية . وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة ةالدولة البابلية تارة أخري . فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين .
فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة (مترا) إله النور وتسمية الإله بالـ(أسورا) أو الـ(أهورا) وإن اختلفوا في إطلاقه علي عناصر الخير والشر .. فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح وجعله الهند من أرباب الشر والفساد .
والبابليون عرفوا عبادة (مترا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورفعوا إلي المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوي الظلام .
واستعار الفرس من البابلين كما أعاروهم ، فأخذوا منهم سنة التسبيعفي عدد الآلهة ، وجعلوا أورمزد علي رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوي الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات .
ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين ،لأن (زرادشت) عاش بينهم زمنا وبشرهم بدينه فاضطر إلي مجاراتهم في عبادتهم ليجاروه في عبادته ، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين .
ويعتقد المجوس في بعض أساطيرهم أن (زروان) أبو الإلهين إله النور والظلام . ولعل (زروان) هذا صنو لإله البابليين (نون) أو القدر الذي يتسلط علي الآلهة كما يتسلط علي المخلوقات .
وقد آمن المجوس بالعالم الآخر كما آمن به المصريون ، وآمنوا كذلك بالثواب والعقاب في الدار الآخرة ، ولكنهم قالوا بقيامة الموتي ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب في يوم القيامة .. ولعلهم جمعوا بذلك بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة المصريين في محاسبة الروح ووزن أعمالها في موقف الجزاء .
ولم يكن اليهود يتكلمون عن (الشياطين) قبل السبي أو قبل الإقامة فيما بين النهرين فتكلموا عن الشياطين بعد أن شبهوه (بأهرمان) الذي يمثل الشر والفساد عند المجوس .
وفي الكتي المسيحية أن حكماء المجوس شهدوا مولد السيد المسيح وعلموا بنبئه فاهتدوا إليه بنجم في السماء .
وذكر أفلاطون زرادشت في كتاب (السيبادس)فسماه زرادشت بن أورمزد ، وقال بليني في تاريخه الطبيعي أنه المولود الذي ضحك يوم ولادته ، وقال ديوكريسستوم dio chrysostom أنه لا الشاعر هوميروس ولا الشاعر هزيود بلغا مبلغ زرادشت في الإشادةبمجد (زيوس) رب الأرباب في علياء مجده .
فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة علي ارتباط وثيق بتواريخ العقائد الأسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان .
ولكن (زرادشت) لا يعرف له تاريخ مفصل علي التحقيق ، فالمراجع اليونانية ترده إلي القرن الستين قبل الميلاد ، والمراجع العربية ترده إلي ما قبل الإسكندر بنحو مئتين وسبعين سنة . فهو علي هذا قد ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد وه أصح التقديرات ، وقد اعتمده الثقات الباحثون في تاريخه فرجحوا ، كما رجح كاسارتللي وجاكسون أنه ولد سنة 660 ومات سنة 583 قبل الميلاد .
ويقول الشهرستاني أن أباه من أذربيجان وأمه من الري ، ويكاد يتفق المؤرخون علي أنه قد ولد في الناحية الغربية الشمالية من البلاد الفارسية علي شاطئ نهر يسمونه في الكتب المجوسية داريزا ويعرف أخيرا باسم أراس .ويزعم بعض مؤرخيه أن اسمه من كلمتين في اللغة القديمة معناها معاكس الجمل ، لأنه كان في صباه يعبث بالجمال ، ويجعلون لهذه التسمية شأنا في وصاياه العديدة بالإشفاق علي الحيوان ، كأنه يكفر بذلك عن قسوته عليه في صباه .
وخلاصة ما جاء به (زرادشت) من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله ونزل بإله الشر إلي ما دون منزلة المساواه بينه وبين الإله الأعلي ، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب ، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد ، وحاول جهده أن يقصر الربانية علي إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه .
وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية . فقد سبقه الفرس إلي عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام ، ولكنه تولي هذه العقائد بالتطهير وحملها علي محمل جديد من التفسير والتعبير .
فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمي زروان ويكني به عن الزمان . وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة علي الأرض والسماء لأسبقهما إلي الظهور ، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتي شق له مخرجا إلي الوجود قبل (هرمز) الطيب الكريم ، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء ، وعز علي أبيها أن ينقض نذره ، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة . ويعود الحكم بعده لإله الخير خلدا بغير انتهاء ، ويؤذن له يومئذ في القضاء علي إله الشر وتبديد غياهب الظلام .
وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين ، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة واهرمان غافل عنه في قراره السحيق ، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخية فأشفق علي نفسه من العاقبة وعلن أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء . فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد ، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء .. وران هذا البلاء علي الكون حتي كانت معركة (زرادشت) فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان ، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلي صف ، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور ، وسيدوم هذا الصراع أثني عشر ألف سنة ، ينجم علي رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن ، وتنقضي المدة فينكص أهرمز علي عقبيه مخلدا في أسفل سافلين لا فكاك له أبد الأبيد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان .
وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة علي انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلي صورة التنزيه . فإن هرمز مأخوذ من (أهورا) بمعني السيد ، و(مازداو) بمعني الحكيم ، وأهرمن مأخوذة من (انجرو) بمعني السيئ وما ينوش بمعني الفكر والروح ، والمعنيان عا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد . ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذي والفساد ، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت علي بال زروان فكان منها إله الظلام .
ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس إلي مقام أعلي من ذلك المقام في التنزيه ، وأن يسقط بأهرمن من منزاة الند إلي منزلة المارد المطرود ، لولا أن وجود (أهرمن) كان لازما لبقاء الكهانة الفارسية في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار . فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز أنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم ، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن ويجعلون انتصاره عقوبة للناس علي تركهم للخيرات وحبهم للشرور ، ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة ، فتهدأ وساوسهم إلي حين .
علي أن (زرادشت) قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطا بين العقيدة الوثنية الأولي والعقيدة الإلهية الحديثة ، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب .
فالله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقي إليها عقل بشري يدين علي حساب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود . فالخير عند زرادشت غالب دائم ، والشر مغلوب منظور إلي أجمل مسمي ، وما زال (أهرمن) يهبط في مراتب القدرة والكفاية علي هذا المذهب حتي عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه ، ولا محيض له في النهاية من الخذلان .
وفي (الزندفستا) يقول زرادشت أنه سأل هرمز : (يا هرمز الرحيم ! صانع العالم المشهود . يا أيها القدس الأقدس : أي شيء هو أقوي القوي جميعا في الملوك والملكوت) .
فقال هرمز : (أنه هو اسمي الذي يتجلي في أرواح عليين . فهو أقوي في عالم الملكوت) .
فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له أنه (هو السر المسئول) وأما الأسماء الأخري فالاسم الأول هو (واهب الأنعام) والاسم الثاني هو المكين ، والاسم الثالث هو الكامل ، والاسم الرابع هو القدس ، والاسم الخامس هو الشريف ، والاسم السادس هو الحكمة ، والاسم السابع هو الحكيم ، والاسم الثامن هو الخبرة ، والاسم التاسع هو الخبير ، والاسم العاشر هو الغني ، والاسم الحادي عشر هو المغني ، والاسم الثاني عشر هو السيد ، والاسم الثالث عشر هو المنعم ، والاسم الرابع عشر هو الطيب ، والاسم الخامس عشر هو القهار ، والاسم السادس عشر هو محق الحق ، والاسم السابع عشر هو البصر ، والاسم الثامن عشر هو الشافي ، والاسم التاسع عشر هو الخلاق ، والاسم العشرون هو (مزدا) أو العليم بكل شيء .
وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس الناس علي أنها هي أصفي وأطهر العناصر المخلوقة ، لا علي أنها هي الخلاق المعبود . وقال أن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد ، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال (هرمن) أو يلبسها الجسد لتقدر علي حربه والصمود في ميدانه ، لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد . فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه ، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع .
ويتخيل زرادشت (هرمز) أو أورمزد أو (أهورا مازدا) أويزدان –علي اختلاف اللهجات في نقطة- مستويا علي عرش النور محفوفا بستة من الملائكة الأبرار ، وتدل أسماؤهم علي أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة ، ثم استعيرت لها سمات (الذوات) بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله .
وتفيض أقوال (زرادشت) كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء علي عبادة الأوثان . ومن أمثلة هذا اليقين قوله : (أنا وحدي صفيك الأمين ، وكل من عداي فهو عدو لي مبين) . وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا ، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله علي الناس . وأن زرادشت هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلي حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتسنصلح من فية بقية للصلاح ، وكلما انقضي ألف عام برز إلي حيز الوجود خليفة له من سلالته ، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلي رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود .
ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه . فيناديه : رب ! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق .. ويسأله رب ! ألا تنبني عن جزاء الأخيار ؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد ؟ أو يسأله : من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط ؟ ومن خلق الماء والزرع ؟ زمن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء ؟ .
ولا يبعد أنه كان من أصحاب الطبائع التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها أصواتا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب ، كما روي عن سقرات وأمثاله من الموهوبين والملهمين .
ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار . فبدأ بخلق السماء ، ثم خلق الماء ، ثم خلق الأرض ، ثم خلق النبات ، ثم خلق الحيوان ، ثم خلق الإنسان .
وأصل الإنسان رجل يسمي (كيومرت) قتل في فتنة الخير والشر فنبت من دمه ذكر يسمي ميشة وأنثي تسمي ميشانة ، فتزوجا وتناسلا وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين .
ويفرق المجوس بين الخلائق جريا علي مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث ، أو بين إله النور وإله الظلام . فالأحياء النافعة من خلق أهرمن كالثور والكلب والطير البريء ، والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام .
والناس محاسبون علي ما يعملون . فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ . وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلي السماء ومن رجعت عنده أعمال الشر هبط إلي الهاوية ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلي مكان لا عذاب فيه ولا نعيم ، إلي أن تقوم القيامة ويتطهر العالم كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلي حضرة هرمز في نعيم مقيم .
وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمي قنطرة (شنفاد) تتوافي إليها أرواح الأبرار والأشرار علي السواء بعد خروجها من أجسادها . فيلقاها هناك (رشنوه ملك العدل وميترا رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات) ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم .
ونعيم المجوس من جنس الحسنات التي تجزي بذلك النعيم . لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة ولا يصدفون عن المتاع المباح . فمن عاش في الدنيا عيشة راضية وكسب رزقه بالعمل الصالح وأنشأ أبناءه نشأة حسنة فجزاؤه في النعيم رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء ، ويسقي من لبن بقرة مقدسة درها غذاء الخلود ومن كسب رزقه من السحت والحرام فجزاؤه في الجحيم عيشة ضنك وألم كألم الجوع والعري والذل والاغتراب عن الأحباب .
وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب (زرادشت) ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضع ويفترق عنها في مواضع أخري . وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه الملل والنحل ، وهو أيسر المراجع في هذا الموضوع .
ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة . بل بقيت هذه المذاهب تتجدد إلي ما بعد شيوع المسيحية بعد قرون : وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان ، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية .
انتشر مذهب (مترا) في العالم الغربي بعد حملات (بومبي) الآسيوية وتدفق الآسيويين من جنوده إلي حواضر سوريا وآسيا الصغري . وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلي عرش السماء ، ويقول أن الشمس تشع عليهم قبسا من نورها وهالة من بركتها فيرمزون بعروشهم علي الأرض إلي عرش الله في عليين .
وشاع هذا المذهب بعض الشيوع في القرن الثاني قبل الميلاد ، وقصر أتباعه علي الذكور دون الإناث وجعل لهم درجات سبعا يرتقونها إلي مقام العارفين الواصلين رمزا إلي الدرجات التي تصعد عليها الروح بعد المت من سماء إلي سماء ، حتي تستقر في نهاية المرتقي عند حظيرة الأبرار .
ويحتفل بالمزيد كلما انتقل من درجة إلي درجة في وليمة يتناول فيها الخبز المقدس ويمسح بالماء الطهور ، ولا يطلع بتلك الأسرار علي التقليد ، ثم يترقي في معرفة السر الأعظم إلي أن يعرف كلمة الله الخالقة في مقام العارفين الواصلين .
وأصل (مترا) قديم في الديانة الآرية ، يدين به الهنود كما يدين به الفارسيون ، وقد هبط في الديانة الزردشتية إلي مرتبة الملك الموكل بهداية الصالحين . ولكنهم جعلوه في الديانة المقربة إله الشمس ورب الكون وخالق الإنسان وقاهر أهرمن بعد جلاد طويل . ولا يسبقه في الوجود شيء غير (الأبد) أو (الزمان) أبي الأرباب عندهم وأبي كل موجود . ويمثلون مترا حين تجسد علي الأرض مولودا من صخرة نائية في مكان منفرد لم يعد بمولده أحد غير طائفة من الرعاة ألهموا معرفته فتقدموا إليه بالهدايا والقرابين ، ومضي بعد ةمولده فستر عريه بورق من شجرة التين ، وتغذي بثمرها حتي جاوز سن الرضاع . وكان أهرمن يحاربه ويتعقبه بالكيد ويحبط كل عمل له من أعمال الخير والفلاح فأرسل مترا علي الأرض طوفانا أغرقها ، ولم ينج معه إلا رجل واحد حمل آله وأنعامه في زورق صغير وجدد علي الأرض بعد ذلك حياة الإنسان والحيوان ، ثم طهر الأرض بالنار وتناول مع ملائكة الخير طعام الوداع وصعد إلي السماء ، حيث هو مقيم يتولي الأبرار بالهداية ويعينهم علي النجاة من حبائل الشيطان .
وكان أتباعه يفردون لعبادته يو الشمس أو يوم الأحد ، ويحتفلون بمولده في الخامس والعشرين من ديسمبر لأنه موعد انتقال الشمس وتطاول ساعات النهار ، ويقيمون له عيدا سنويا في اليوم السادس عشر من الشهر السابع في تقويم الفرس القديم .. وقد كان المسيحيون الأولون يقابلون ذلك –بعد ظهور المسيحية وانتشارها- بتمجيد السيد المسيح في الأيام التي كان عباد مترا ينصرفون فيها إلي تمجيد هذا الإله الشمسي القديم .أما المانوية فهي مذهب ماني بن فاتك الذي يرجح أنه ولد في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد ، ومذهبه يخالف مذاهب المجوس الأقدمين في زعمه أن آدم من خلق الشيطان لا من خلق الله .. وأن الشيطان أودعه كل ما استطاع أن يختلسه من نور السماء ليكفل له البقاء ، فلما بصر به الملائكة ولمحوا فيه قبس النور ذهبوا يستخلصونه من قبضة الشيطان ليرتفعوا به إلي العالم الذي هم فيه . ولا يزالون يعملون في استخلاصه حتي يرجع إلي السماء آخر قبس من الضياء المسروق ..فيتجلي الله في سمائه ومن حوله تلك الأرواح النورانية ، ويتخلي الملائكة الذين يحملون الدنيا عن حملهم فتتساقط كسفا تلتهمها النيران تطهيرا لها من بقايا الرجس والمكيدة ، ويتم الانفصال يومئذ بين عالم النور وعالم الظلام .
قال الشهرستاني عن صاحب هذا المذهب (أنه أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسي عليه السلام . حكي محمد ابن هارون المعروف بأبي عيسي الوراق وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم : إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، وأنهما لا يزالا قويين حسساسين سميعين بصيرين وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان ، وفي الخير متحاذيان ، تحاذي الشخص والظل ..) .
ثم ذكر أمثلة من الاختلاف بين جوهر النور وجوهر الظلمة فقال أن جوهر النور حسن فاضل كريم صاف نقي الريح حسن المنظر ، وإن جوهر الظلمة قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر ، وأن أجناس النور خمسة أربعة منها أبدان والخامس روحها . فالأبدان هي النار والنور والريح والماء ، وروحها النسيم وأن أجناس الظلمة أربعة منها أبدان والخامس روحها والأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان) .
وقد أصاب الشهرستاني حين قال أن هذه الثنوية هي ألزم سمات المذاهب المجوسية لأنها تتراءي في كل مذهب منها بلا استثناء وهي كذلك أبقي ما بقي منها في مجال التفكير ومجال الاعتقاد علي السواء . لأننا نري منهاملامح واضحة في مباحث التفرقة بين العل والمادة ، ولا سيما مباحث حكماء اليونان .
_______________________________________________
بابل
والحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ .
ويزعم المتشيعون للحضارة الشمرية التي ازدهرت في أرض بابل قبل انتقال الساميين إليها أنها أقدم الحضارات البشرية علي الإطلاق ، ولكنها علي الأرجح نزعة من نزعات العنصرية التي تجعل بعض الكتاب الأوربيين يتجاوزون كل حضارة سامية إلي حضارة سابقة لها منسوبة إلي عنصر آخر من العناصر البشرية .. ولهذا يبالغون في قدم الحضارة الشمرية وتقدير زمانها السابق لجميع الحضارات .
إلا أن الحضارة البابلية قديمة لا شك في عراقتها علي تباين الروايات .
وهي علي قدمها لم يكتب لها أن تؤدي رسالة ممتازة في تاريخ الوحدانية ، فكل ما أضافته إلي هذا التاريخ يمكن أن يستغني عنه ولا تنقص منه بعد ذلك فكرة جوهرية من أفكار التوحيد والتقديس لأن الوحدانية تحتاج إلي (تركيز وتوحيد) لا يستتبان طويلا في أحوال كأحوال الدولة البابلية .إذ كانت لها كهانات متعددة علي حسب الحواضر والأسر المتابعة . وكانت الحواضر بمعزل عن البادية التي تترامي حولها وتنفرد بعقائدها وأساطيرها .. أما الأسر المالكة فقد كانت شمرية ثم أصبحت سامية تنتمي إلي أرومات شتي في الجزيرة العربية من الجنوب إلي الشمال .. وكانت أرض بابل في وسط العمران الأسيوي مفتحة الأبواب علي الدوام لما تقتبسه من عقائد الفرس والهنود والمصريين والعبريين ، وغير هؤلاء من أصحاب الديانات المجهولين في التاريخ .
فلم تتوحد فيها العقيدة حول مركز دائم مطرد الاتساع والامتداد بعيد من طوارئ التغيير والتعديل . وكانت من ثم ذات نصيب في الشريعة وقوانين الاجتماع أوفي من نصيبها في تطور العقيدة الوحدانيةعلي التخصيص .
ويستطاع الجزم بأن الرسالة البابلية في الدين لم تتجاوز رسالة الديانة الشمسية السلفية .. فالغزوات التي تروي علي الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت من الأزهان ملامحهم الإنسانية ، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك ، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلي اليوم .
فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ ، وقد تغلب علي تيمات ربه الأغوار المظلمة فأخذ زوجها وخلفائها الأحد عشر وسلسلهم أساري في مملكته السماوية . فهم المنازل الاثني عشر التي بقيت في علم الفلك إلي اليوم .
وقد اتفق الساميون والشمريون علي الأرباب الكبري كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون (آنو) أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة .. ولكن الأرباب البابلية أوفر عددا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين ، لأنهم ارتفعوا بعددها إلي أربعة آلاف وقرنوا بها أنداد لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد .
ولم ينقض علي هذه الأرباب وقت كاف لإدماج صغارها في كبارها ثم فنائها جميعا في أكبر الأرباب المشرفة علي الكون ، أو في رب واحد ينفرد بهذا الإشراف .. كأن الطواطم التي عبدتها القبائل والأسر لم يطل بها عهد التطور حتي يفعل بها فعله من التصفية والاستخلاص وإدماج والتوحيد . فجاءت الأرباب التالية ولا تزال الأرباب السابقة لها علي عهدها من النفوذ والاستقرار .
ولهذا كانت سياسة الكون كما تخيلوها في الأدوار الأولي أشبه بالجمهورية بل بالمشيخة القبلية . فكانوا يتخيلون أن الأرباب تجتمع كل سنة في يوم الاعتدال الخريفي لتنظر في السماء مقادير السنة كلها وتكتبها في لوح محفوظ لا يمحي قبل نهاية العام . وكان الملك نفسه يتلقي سلطانه علي الأرض عاما بعد عام في مثل ذلك الموعد .. فيمثل الكهنة رواية الخلق ويشهدها الملك فردا من الأفراد .. ويتعمدون في بعض مواقف التمثيل أن يهينوه ويستخفوا به ليقروا بذلك أنه فقد كل سلطان كان له علي رعاياه فلا يعود إليه السلطان إلا بإذن جديد من (مردوخ) يتلقاه قبل ختام الرواية من يد حبر الأحبار .
ولم يؤثر في عهد الشمريين إيمان بعالم آخر أو بيوم للحساب والجزاء . فمن اجترأ علي فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين فالآلهة تجزيه علي ذنبه بمرض يصيبه لا يشفيه منه غير كاهن المعبد بعد التوبة والتكفير ، وإن لم يكن جزاؤه مرضا فهو خسارة في المال أو البنين أو ذوي القربي والأعزاء ، وكل مصيبة من هذه المصائب تنبيه إلي ذنب مقترف أوفريضة منسية ، وحث علي التذكر وطلب الغفران .
وقد تعم الذنوب فيعم العقاب . وترسل الآلهة علي الأرض طوفان أو وباء يأخذ البريء بذنب المسيئين ، ولكنها تنذر الناس قبل حلول العقاب وتلهم الكهان وحدهم تفسير ذلك النذير .
وهم يذكرون لتلك الأربابعزوات وأخبار قبل خلق هذه الدنيا كأنهم كائنات لا تحتاج إلي خالق ، ولكنهم يذكرون أخبار قبل تلك الأخبار يروونها عن (تيمات) ربة الغمر أو ربة الأغوار والظلمات ولا يفهم من أخبارهم هذه أن تيمات أنشأت الأرباب بقدرة الخلق ،لأنها عندهم ربة الفوضي والعلماء . ولكنهم يحسبون أن الأرباب كانت تحوم في أغوارها كما تحوم الأشباح في الظلام ، ويصورونها في إحدي أساطيرهم كما يصورون البشر الأولين –فنصفها سمك ونصفها إنسان .
أما قصص الخلق عنهم فهي مناسبة لموقع البلاد البابلية واشتغال أهلها القديم برصد الكواكب ومراقبة الأنواء ، وتدل القصة من أجل هذا علي أنها من مأثورات قوم عريقين في سكني تلك البلاد ولم ينقلوها إليهم من بلاد أجنبية عنها ، ويرجع ذلك علي التخصيص ذكر الطوفان المفصل في بعض القصص البابلية ، لأن الباحثين في الآثار يعتبرون أن الطوفان قد غمر ما بين النهرين إلي الشمال ، وأن الجبل الذي استقرت عليه سفينة نوح هو الجبل المعروف اليوم بجبل أرارات ، ولم تشتمل قصص الطوفان في البلاد الأخري علي تفصيل كهذا التفصيل .
وفحوي قصة الخلق بعد استخلاصها من الأوشاب الكثيرة أن الدنيا كانت قسمة بين تيمات ربة الأغمار أو ربة الماء الأجاج وبين (أيا) إله الماء العذب وعنصر الخير في الوجود .. وموقع الأرض البابلية يجعلها في قبضة هذين الربين ويوحي إلي أهلها الإيمان بما عندها من المخوف والخيرات .
وقد انهزم (أنو) إله السماء أمام جحافل تيمات فلم ينتصر إلا بعد أن برز من الماء بطل وليد : هو مردوخ رب الجنود وسيد الحروب .
ثم عمد مردوخ إلي تيمات فشقها نصفين : صنع الأرض من أحدهما وصنع قبة الفضاء من النصف الآخر ، ثم قيد أسراه في هذه القبة فهم لا يبرحونها إلا بإذنه ، ورفع إلي السماء ما شاء من الأرباب .
وقد كشفت الألواح التي تضمنت شروح هذه القصة بالخط المسماري في أواخر القرن التاسع عشر ، ونقلت إلي المتحف البريطاني بلندن حيث تحفظ الآن .
ويتمم البابليون قصة خلق الإنسان بقصة أخري عن طموحه إلي الخلود واجتهاده في اختلاس سره من الآلهة . فيعاقب علي ذلك بالموت ، وتأبي الآلهة أن يشاركها أحد من الخلق في نعمة الحياة الباقية .
وتعتبر قصة الخلق البابلية أهم نصيب ساهمت به المأثورات البابلية في علم المقابلة بين تواريخ الأديان .
__________________________________________________
اليونان
أما تاريخ العقيدة في بلاد اليونان فقد حفل بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيود .
فعبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة واستمدوا من جزيرة (كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بيت أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية ، فرمزوا بها إلي أرباب البراكين والعوالم السلفية ، واتخذها بعضهم (طوطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلي الآباء .
ولما شاعت بين الإغريق عبادة (أرباب الأوليمب) كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلي الحضارة وتنظيم العبادات .
فالإله (زيوس) أكبر أرباب الأوليمب هو الإله (ديوس) المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة ، واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات ، ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعصرين .
والربة أرتيميس –ومثلها الربة أفروديت أو فينوس- هي الربة عشتار اليمانية البابلية .. ومنها كلمة (ستار) التي تدل علي النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة .
والربة (ديمتر) هي أزيس المصرية كما قال هيرودوت ، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين .
وأضيف إلي هذه الأرباب (أدونيس) عن (أدوناي) العبرية بمعني السيد أو الإله ، وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهواسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين ، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد اسم أبيس بعد موتها وذهابها إلي مغرب أوزيريس .
كما أضيفت إليها عبادة (ديونسيس) في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة (مترا) في الديانة الأورفية السرية .
وقد ترقي اليونان في تصور صفات الأرباب خلال العصور التاريخية ، فعبدوا قبل المسيح ببضع مئات من السنين وهي علي أسوأ مثال من العيوب الإنسانية ، وعبدوها بعد ذلك وهي تترقي إلي الكمال وتقترب إلي فكرة (التنزيه) التي سبقهم إليها المصريون والهنود والفرس والعبرانيون .
فكان أرباب الأوليمب في مبدأ أمر هام يقترفون أقبح الآثام ويستلمون لأغلظ الشهوات ، وقد قتل زيوس أباه (كرونوس) وضاجع بنته وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار ويغازل بنات الرعاة في الخلوات ، وغار من ذرية الإنسان فأضمر له الشر والهلاك ، وضن عليه بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء .
ولم يتصوروه خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب . فه علي الأكثر والدا لبعضها ومنافس لأنداده منها ، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد .
ولم يزل (زيوس)إلي عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره ، عاجزا عن الفكاك من قضائه .
ثم صوره لنا الشاعر المتدين علي مثال أقرب إلي خلائق الرحمة والإنصاف ، ومثال الكمال ، ولكنه نسب الخلق إلي أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية .. وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء و(أيروس) رب التناسل والمحبة الزوجية ، وجعل أيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات الساموية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب . وعلي رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب .
وكان (أكسينوفون) المولود بآسيا الصغري قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إليالإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الاشتباه ، فكان ينعي علي قومه أنهم يعبدون أربابا علي مثال أبناء الفناء ، ويقول أن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان ، وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال أنه أسود الإهاب ، وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات ، ولا يكون علي شيء من هذه الصفات البشرية ... بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال ، وأنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء .
وكان أثر الديانات الأسيوية والمصرية أظهر من كل ما تقدم في الديانة الأورفية السرية . لأنها كانت ملتقي عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة .
فعرفوا الروح وعرفوا تناسخ الأرواح ، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير ، ومزجوا بها عبادة (ديونيس) الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف .. فجعلوا خمره رمزا إلي النشوة الإلهية : نشة الحياة والشباب الخالد المتجدد علي مدي الأيام .
وكانت محاريبه الكبري بآسيا الصغري . ولكنهم كانوا يحتفلون في أثينا بعيد يسمونه الانثستريا Anthesteria يوافق شهر فبراير ، وتقوم شعائره علي مزيج من عبادة الحياة وعبادة الأسلاف والموتي ، فيشربون الخمر في جرار الجنائز والقرابين ، ويعتقدون أن هذه الخمر تسري إلي الأجساد البالية فتنفث فيها الحياة وتصلحها للبعث من جديد في أجسام الأجنة المطهرة من أدران حياتها الماضية .
ونحن لا نعني هنا بالفلسفة اليونانية . بل نقصر القول في هذا الفصل علي العقيدة اليونانية التي تطورت عندهم تطور الأديان لا تطور الأفكار والمباحث العلمية أو الفلسفية .
ففي هذا المجال –مجال العقيدة – يمكن أن يقال أن اليونان أخذوا فيها كل شيء ولم يعطوا شيئا يضيف إلي تراث البشر في مسائل الإيمان ، وإنهم حين بدأوا عصر الفلسفة كان أساسها الأول ممهدا لهم في العقائد التي أخذوها عن الديانات الآسيوية والمصرية وأنهم ظلوا بعد الفلسفة يدينون بالوثنية التي كان يدينون بها قبل الميلاد بعدة قرون .
Bookmarks