أسس اليقين بين الفكر الديني والفلسفي
الكتاب: أسس اليقين بين الفكر الديني والفلسفي
المؤلف: الدكتور يوسف محمود محمد
الناشر: دار الحكمة - الدوحة
عرض: سامي محمد الصبي :
هل لدى المسلمين مناهج خاصة بهم اكتشفوها بأنفسهم دون أن تشوبها شائبة مقحمة عليها من الخارج؟
هل قامت على أصول وثوابت داخلية من خلال دستورها القرآني ونظامها التشريعي.. أو أنها قامت على أكتاف المتغيرات والمتداخلات الخارجية؟
وهل كان للمنطق اليوناني تأثير على مناهج المسلمين في مسألة اليقين؟ أم أنهم استقلوا وتفردوا بمنهج خاص بهم؟
يحاول كتاب «أسس اليقين بين الفكر الديني والفلسفي» أن يستجلي النظرة الإسلامية لمسألة اليقين حتى يسهل فهمها والحكم لها أو عليها.
يدرس الباب الأول المنهج القرآني والفلسفي بتوضيح معنى البرهان اليقيني في القرآن الكريم, وأن كلمة اليقين وردت في القرآن الكريم في صيغ مختلفة منها المصدر والفعل والصفة والاسم. وقد جاءت الأسماء وما شابهها مفردة حينًا ومجموعة حينًا آخر، كما جاءت مضافة أو موصوفة في سياقات أخرى. أولها علم اليقين، وهي مرتبة البرهان، وثانيها عين اليقين, وهو أن يرى المعلوم عينًا، وثالثها حق اليقين, وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحد.
ومن أهم معاني اليقين في القرآن الكريم: الموت، التوحيد، العلم والمعرفة، الثابت والثبات.. فكلمة اليقين في القرآن الكريم وردت بهذه المعاني المتعددة وبنظرة استقرائية واستنتاجية - كما يقول المؤلف - نلاحظ أنها في مجموعها الكلي وردت بمعنى المعرفة الواضحة التي لا لبس ولا غموض ولا شك فيها، ووردت كلمة اليقين في السنة النبوية كثيرًا وهي في مجموعها الكلي تعبر عن الإيمان.
والبحث في أمر اليقين من القضايا التي توحدت في المطلب لنيلها والوصول إليها, ولكن اختلفت بالباحثين السبل والوسائل, وبالتالي تعددت الآراء ووجهات النظر؛ فمنهم من رأى أن الوصول لليقين يجب أن يستخدم فيه المنهج التجريبي, وبذلك نصل إلى قوانين مجردة تدل على العلاقة بين الأشياء, وبالتالي تستخدم هذه المعرفة في الحياة العملية, ومنهم من يرى أن الساعي وراء اليقين يجب أن يستخدم المنهج الرياضي فالمعرفة الرياضية عندهم هي المنهج الأعلى لليقين.
ومن أهم التعريفات التي قيلت في معنى اليقين في معاجم اللغة: العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر وهو نقيض الشك والعلم نقيض الجهل.
وفي المعاجم الفلسفية يعني اليقين (سيكلوجيًا) طمأنينة النفس لحكم تراه حقًا لا ريب فيه ويقابل الشك. وقد يذعن المرء لما هو في الواقع خطأ.
ومنطقيًا اليقين كل معرفة لا تقبل الشك، ومنه حدسي كاليقين ببعض الأوليات, أو استدلالي غير مباشر ينتهي إليه المرء بعد البرهنة، ومنه ذاتي يسلم به المرء ولا يستطيع نقله إلى غيره، أو موضوعي يعرض نفسه على العقول كاليقين العلمي.
وبعض الموسوعات الفلسفية شرحت اليقين بشيء من التوسع والإحاطة, وذلك عندما قسمت القضايا اليقينية إلى أربعة أصنافالأوليات العقلية المحضة، المحسوسات، المجربات، القضايا التي عرفت لا بنفسها بل بواسطتها).
وهذا يوضح أن الفلاسفة عندما يتناولون اليقين فإنهم يطلقونه على أنه برهان، وهو استدلال ينتقل فيه الذهن من قضايا مسلمة إلى أخرى تنتج عنها ضرورة.... وعده المناطقة القدامى أسمى صور الاستدلال لأنه يقوم على أساس من مقدمات يقينية وينتهي تبعًا لذلك إلى نتائج يقينية.
ويتناول الكتاب الألفاظ والاصطلاحات الدالة على المعاني وكيفية تكوينها, والاصطلاحات وتحديد المفاهيم لدى الصوفية بشكل عام, ومعنى اليقين بالتحديد لدى الصوفية والمتكلمين والفقهاء، والاصطلاحات وتحديد المفاهيم لدى الفلاسفة المسلمين، منوهًا بأن أكثرهم كانت نظرتهم في التعريف والاصطلاحات نظرة أرسططاليسية، لكن أبو البركات البغدادي خرج عن تلك النظرة في كتابه: (المعتبر في الحكمة)، ويعرض المؤلف للاصطلاحات وتحديد المفاهيم لدى الفارابي وابن سينا. كما يتناول بالبحث بعض المصطلحات والتعريفات اللفظية لدى المدارس الفكرية المختلفة، ومن أهم تلك المصطلحات العلم والاستدلال والدليل.
في الفصل الثاني تناول المؤلف مفهوم البرهان اليقيني في النص القرآني والفلسفي من أجل إبراز معالم كل منهما على حدة، مع التركيز على النص القرآني وتوضيح منهجه فيما يتعلق بالعلم والمعرفة وطرق التفكير.
ويسلك المؤلف هنا مسلك التحليل والتقصي لتحليل النصين معًا من خلال منهجهما بالانطلاق من النقطة الأساسية وهي: ما المراد بالنص القرآني والنص الفلسفي؟ وهل هناك اختلاف أو اتفاق بين النصين؟ تتضح تلك الأسئلة من خلال دراسة المعرفة في أصلها وماهيتها وإمكانها وطبيعتها وحدودها، ثم البحث في اليقين الحاصل في أدلتهما. ويوضح معالم المنهجين من خلال سمات اليقين في النص القرآني والنص الفلسفي، وما هو الاختلاف والاتفاق بين النصين في مناهجهما وبراهينهما في القضايا المعرفية، وهل اليقين في النص القرآني على سمة واحدة أم على عدة سمات؟ وهل هو مرتبط في حقيقته بالأمور الحسية فقط؟ أو أنه حسي وعقلي ووجداني وحدسي؟ وهل فيه إثارة للجانب النفسي؟
كما قام المؤلف بدراسة النص الفلسفي من خلال نظرية المعرفة والبرهان القياسي المتصل بتلك النظرية، ووصل إلى أن النص في سياقه المعرفي والبرهاني نص عقلي وتجريبي حسي، وأن المذاهب الفلسفية في دراستها النظرية للمعرفة انطلقت من العقل، ووصلت إلى نتائجها بالعقل الذي هو عمل الذهن والفكر، وبهذا الانطلاق تمسكت بعض المذاهب بالعقل في محورها الكلي، وكيف أن بعض هذه المذاهب لم يحالفها اليقين في بعض أبحاثها العقلية، والبعض الآخر انطلق من العقل في بحثه المتعلق بنظرية المعرفة، ولكنه انتهى بعقله هذا إلى الأخذ بالتجربة الحسية مبطلًا قيمة العقل في أبحاثه هذه.
وبما أن اليقين في حد ذاته ما هو إلا معرفة؛ فقد بحث الكاتب في نظرية المعرفة في القرآن الكريم واستخلص الأسس التي تقوم عليها من حيث ماهيتها وأحكامها ومصادرها وطبيعتها وطرقها وقيمتها.
وفي تناول المؤلف للنص القرآني واليقين يطرح التساؤل التالي: هل اليقين القرآني شامل للأمور الغيبية والواقعية معًا؟ أم أنه خاص بمجال معين دون المجالات الأخرى؟
ويفصل المؤلف في مصادر المعرفة في القرآن الكريم، وهي: الحواس والعقل، وأن العلاقة بينهما في القرآن الكريم تقوم على أمرين:
الأول: عدم الاقتصار على أي منهما بعينه وعدم تفسير الآخر به.
والثاني: أن اتحاد العقل والحواس معًا في مجال المحسوسات فحسب، وإن كان العقل ينفرد بقوانينه في معرفة ما وراء عالم الشهادة.
أما المصدر الثالث من مصادر المعرفة في النص القرآني فهو الوحي، ويبين فيه مكانة الوحي في المعرفة، وأن الاستدلال القرآني قسمان:
القسم الأول: عن طريق الآيات، والقسم الثاني: قياس الأولى.
ويوضح المؤلف قواعد البحث اليقيني في القرآن الكريم التي توصل الإنسان إلى اليقين فيما يبحث عنه، وهذه القواعد المنهجية هي:
- إن القاعدة الأساسية للمنهج القرآني أثناء عملية التفكير هي دعوته إلى التفكير مثنى وفرادى.
- الأخذ بقاعدة منطق العقل والحث على عمل الفكر من خلال المبادئ الأولية المتصلة بالفطرة الصافية دون تحديد لمجالات عمل الفكر.
- قاعدة الاستقلال الذاتي والتجرد من المؤثرات الخارجية من تقليد واتباع الظن والهوى.
- قاعدة الانطلاق من المقدمات الأولية، فهي العملية البرهانية بأمور مؤيدة مع مراعاة العلم والبعد عن الظن والجهل.
وتناول المؤلف أنواع البراهين القرآنية ومجالاتها التي استخدمت فيها ومدى انفراد اليقين في القرآن الكريم عن البراهين الأخرى، وأن اليقين في القرآن الكريم يتوصل إليه الإنسان بالفطرة الصحيحة، وهذه الفطرة تستدل بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق، وهذه نقطة خلاف بين المنهج القرآني والمنهج الفلسفي والكلامي في إثبات البراهين.
ويعرج المؤلف على أنواع البراهين القرآنية ومجالاتها التي استخدمت فيها، موضحًا أن قيمة الدليل في القرآن الكريم كامنة في تنبيه وإيقاظ الفطرة الإنسانية، وبهذا يكون اليقين القرآني ذا شقين شق فطري بديهي وشق برهاني استدلالي، وبهذين الشقين يكون قد خرج عن الإطار الفلسفي الذي يرى أن البرهان اليقيني لابد أن ينشأ عن الدليل البرهاني المرتب ترتيبًا فلسفيًا معينًا.
ولكن من الذي يصل إلى هذين الشقين؟ وهل يمثل الدليل القرآني بالنسبة للآخذ به إقناعًا له، أم أنه مسألة اطمئنان فقط؟ وفي الوقت نفسه هل يعد الدليل القرآني بالنسبة للمنكر له حجة عليه؟ وهل المسائل البرهانية متساوية في مخاطبتها للعقول أم أنها متفاوتة لتفاوت العقول والأذهان في تصورها أو تصديقها؟ يجيب المؤلف عن هذه التساؤلات ويذكر أن البراهين في القرآن الكريم جاءت بعدة صور:
- البرهان الفطري، وهو البرهان الضروري اليقيني الذي لا يحتاج لنظر واستدلال، وإنما يتألف من مسائل يقينية على هيئة تفيد اليقين دونما حاجة إلى مقدمات وشواهد.
- البرهان الحسي، وهو ما كانت مقدماته يقينية وتتألف في الحجة القرآنية من مقدمات حسية يقينية على هيئة قضايا ومسائل متنوعة ومدعمة، بمعنى أن كل قضية مطروحة في الآيات تدعم الأخرى لأجل الوصول إلى نتيجة ضرورية يقينية.
- البرهان العقلي، وهو ما كانت مقدماته يقينية، ويتألف من مقدمات حسية على هيئة قضايا ومسائل ملموسة أو غير ملموسة ولكنها تحتاج إلى استكشاف وتدعيم بعدة شواهد، وهذه الحجة قد تصاغ بالطرق المباشرة أو غير المباشرة.
في الباب الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن البراهين اليقينية في الفكر الإسلامي، وذلك من خلال المعرفة لدى الصوفية ومدى إفادتها لليقين، ويركز على دراسة نظرية المعرفة لدى الحارث المحاسبي مع الاستشهاد بآراء المتأثرين بالاتجاه العقلي للتصوف، كذلك البراهين اليقينية لدى المحدّثين ولاسيما التواتر والمطاعن التي وجهت له، ودفاع ابن تيمية عن قضية التواتر من حيث إفادته لليقين، وذلك عندما بدأ بنقده للقضية التصديقية الأرسططاليسية من خلال فكرة البداهة والاكتساب فيها، ويبين المؤلف أن العلوم المرتبطة بالحديث النبوي إنما ترمي إلى إثبات اليقين في الحديث مثل علم الجرح والتعديل وعلم رجال الحديث، وعلم علل الحديث، وعلم غريب الحديث، وناسخ الحديث ومنسوخه، وعلم تاريخ الرواة. وتحدث المؤلف عن البراهين اليقينية لدى الأصوليين، ويقصد بها أدلة العلة التي استخدمت في مباحث القياس الأصولي ومبحث الحد والاستدلالات الأصولية، ويبين انفرادهم بأبحاثهم العقلية وموقفهم من المنطق الأرسطوطاليسي، ويبين أن القياس الأصولي مذهب منطقي متكامل ذو صيغة إسلامية حتى أواخر القرن الخامس الهجري حين دعا الإمام الغزالي إلى الأخذ بالمنطق اليوناني.
وفي الباب الأخير من الكتاب يتناول المؤلف مسألة اليقين بين الفلاسفة المسلمين والمتكلمين من خلال فصلين، الأول: يبحث في أنواع البراهين لدى فلاسفة الإسلام، ويشمل مباحث الاستدلال عند فلاسفة اليونان، التصورات والتصديقات، القضايا، الاستدلال، القياس، الاستقراء، التمثيل.
وفي نهاية هذا الفصل دراسة مقارنة لمسألة اليقين بين فلاسفة اليونان والإسلام.
والفصل الثاني يبين منهج المتكلمين في الاستدلال مع الجانب التطبيقي له، وبعد استعراض المؤلف مسألة البراهين اليقينية لدى كافة المدارس الإسلامية يثبت أن المسلمين أصحاب حضارة، وأن لهم مناهجهم ومنطلقاتهم الخاصة بهم، وفي نفس الوقت لا ينكر تأثرهم بالحضارة اليونانية وغيرها كشأن كل الحضارات في تفاعل بعضها مع بعض.
وفي خاتمة الكتاب يستنتج المؤلف الدكتور يوسف محمود محمد أن معظم البراهين والأقيسة المنطقية الإغريقية والكلامية قد تساقطت أمام العقل البديهي والنظري، وكذلك تهاوت أمام أدلة القرآن الكريم، وبالتالي فقد أوضح وأبرز البحث المنطق القرآني أو الإسلامي وأبرز معه الشخصية الإسلامية المستقلة بمنهجها الخاص بها.
Bookmarks