النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: سؤال و جواب عن الإلحاد، مع الداعية التركي: فتح الله كولن.

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    الكويت
    المشاركات
    3,251
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي سؤال و جواب عن الإلحاد، مع الداعية التركي: فتح الله كولن.


    السؤال: ما الذي يجب ذكره أولاً للمُنكِر والمُلحِد؟

    الجواب: قبل الإجابة على السؤال أرى من المفيد أولاً إيضاح بعض الأمور:

    أولاً هناك أنواع من الإنكار ومن المنكرين، فالقناعات الشخصية الخاصة والسلوك تجاه الإيمان، ومدى الإيمان -أو عدم الإيمان- بمسائل الإيمان كلها... الخ يعرض مراتب ودرجات مختلفة من الإيمان أو عدم الإيمان. فكما يختلف الشخص اللامبالي بأسس الإيمان عن الشخص الذي ينكر هذه الأسس كذلك يختلف هؤلاء عن الشخص الذي يرد كل هذه الأركان والأسس ولا يقبلها وينكرها تماماً. وبعبارة أكثر وضوحاً نستطيع أن نضع الترتيب الآتي:

    1# هناك إنكار ناشئ عن لامبالاة الشخص تجاه ما يجب الإيمان به، وهذا الإنكار ليس ناشئاً عن تفكير وعن تعمد، بل عن قلة الاهتمام أو عدمه. ومعظم هذا الإنكار نراه عند من لم يتعود على التفكير المنطقي، وعند الذين استعبدتهم الأهواء والشهوات، وعند الحمقى والبلهاء. من الصعب أن تعلم هؤلاء وتفهمهم شيئاً عن الإيمان، بل يستحيل هذا أحياناً. فسلوك هؤلاء يتصف بالانسياقية والاستمرارية، يتحركون بشكل مواز لحركة الجماهير وحسب الضغط الاجتماعي الموجود حولهم.. يقومون مع الجماهير، ويقعدون مع الجماهير.

    2# الصنف الثاني هم الذين لا يقبلون أسس الإيمان. وهؤلاء يعدون ملحدين ومنكرين مهما اختلفت السبل التي ساقتهم لهذا الإنكار. وهؤلاء يشكلون القسم الأعظم من المنكرين في المجتمع.

    3# الصنف الثالث هم الذين لا يتقبلون ما يستدعي الإيمان قبوله. وقد ازدادت نسبة هؤلاء حالياً عن نسبتهم الموجودة في سابق العصور.

    كما نستطيع تقسيم الصنفين الأخيرين إلى:

    آ- من يُرجع كل شيء إلى المادة ولا يؤمن بأي حدث غيبي.

    ب- من يؤمن ببعض الظواهر الميتافيزيقية والروحية (باراسيكولوجي).

    يعد الإنكار من أبرز صفات بني الإنسان المتجبر والباغي، وأحد أسباب الأزمة التي يعيشها شباب هذا العصر. الإنكار هو النبع والمصدر الأساس للهلاك والمصائب والفوضوية حتى أننا نستطيع القول أن البشرية عاشت أحلك ظروفها وأتعسها في أدوار الإنكار والبعد عن الإيمان.

    وكان سادة عصر النهضة ودهماء الثورة الفرنسية أوّل من مثلوا هذا الإنكار ونشروه. ثم جاء فيما بعد من اتخذ هذا الإنكار ديناً وانتشر هذا الاتجاه حتى استولى على أرجاء العالم الحالي.[1]

    لقد وضح تماماً في عصرنا الحالي أن الإلحاد ليس إلا فلسفة بهيمية وجنونية. وهو موضوع يجب أن يهتم به علْم النفس أكثر من اهتمام علم الاجتماع أو علم الاقتصاد به. ذلك لأننا عندما نقوم بمقارنة نماذج الجنون وأنواع المجانين مع نماذج ملحدي هذا العصر لا نملك إلا تصديق وتأييد هذا الأمر، أي كون الإلحاد مرضاً نفسياً يجب أن يهتم به علم النفس.

    ومع أن هذا الموضوع ليس من اختصاصي ولا علاقة مباشرة له مع السؤال، إلا أننا عندما قمنا بتصنيف بسيط للإلحاد كنا نريد أن نقول بأنه كما للإيمان درجات ومراتب، كذلك للإلحاد درجات ومراتب. لكي نعرف بأن كل ما يقال للمنكر قد لا يكون علاجاً وشفاء لذا يجب تناول الأنواع المختلفة للإنكار تناولاً مختلفاً، وأن يتم إرشاد كل نوع من الإنكار بشكل مختلف وحسب وضعه ونوعه. لذا فبقدر الاختلاف الموجود في الإنكار يجب أن يكون هناك أصول مختلفة في الإرشاد والتنبيه والإصلاح. ولكي يعطي الإرشاد والتنبيه ثمرته يجب أولاً معرفة إلى أي صنف من الأصناف المذكورة سابقاً ينتسب إليه المنكر. فإذا تم تناول هذا الموضوع بحذاقة طبيب يتوضح نوعا ما ما يجب قوله للمنكر وكيفية إرشاده. ومع ذلك نود أن نذكر ما نراه ضرورياً هنا وكما يأتي:

    1- معرفة نوع إنكار المخاطب وعما إذا كان إنكاراً كلياً أم إنكاراً لبعض الأركان لكي يتم التركيز اللازم حولها وإعطاء الأهمية لها، ولكي لا نصرف وقتنا وجهدنا هباء إن كان هذا المخاطب يتسم بسمة اللامبالاة أو بالتعصب الأعمى.

    2- من المهم معرفة المستوى الثقافي والاجتماعي لمن تخاطبه لكي تستطيع التحدث معه بالمستوى الذي يستطيع فهمه. فالشخص الواصل إلى مستوى ثقافي معين لا يستسيغ سماع شيء من شخص أقل ثقافة منه، بل يبدي رد فعل سلبي تجاهه. ويصعب في أيامنا الحالية التي نما فيها العجب بالنفس والأنانية ولاسيما عند من قرأ وملك بعض المعلومات أن تقنعه أو تفهمه شيئا ما. ولكي يتم الوصول إلى نتيجة مرضية مع أمثال هؤلاء يجب أن يقوم بمخاطبته من هو في مستواه وأن لا يكون الكلام معه مباشراً ولا يعطي انطباعاً أنه هو المقصود بهذا الكلام.

    من المهم أيضا استعمال لغة يفهمها المخاطب عندنا، فالتشوهات التي أصابت الفكر عندنا وانعكاساتها على لغتنا أدت إلى تخريب هذه اللغة حتى أننا لا نستطيع اليوم القول إننا نستعمل اللغة نفسها في وطننا.[2] والحقيقة أن محطات الراديو والتلفزيون وكذلك الصحف تستطيع تقديم خدمات إيجابية في توحيد هذه اللغة. ولكن الجماعات المختلفة التي انساقت وراء أيدولوجيات مختلفة تستعمل أساليب مختلفة أو أشكالا مختلفة من اللغة في مجلاتها وكتبها وصحفها.[3] والجيل الناشئ المسكين في حيرة من أمره. فالمصطلحات المختلفة والطرق المختلفة المستعملة في اللغة حفرت وديانا عميقة بين الأجيال.

    لذا يجب معرفة الأسلوب المناسب واللغة المناسبة التي يجب مخاطبة هؤلاء، وإلاّ كان الحوار مع هؤلاء شبيها بحوار الطرشان، أي يجب الاهتمام باستعمال الكلمات والمصطلحات التي توضح الغاية والفكر أفضل إيضاح.

    3- علينا أن نحيط علماً بشكل جيد بما نريد تبليغه وإفهامه، وأن نحضر أجوبة مقنعة للأسئلة المتوقعة، وإلاّ فإن خطأ صغيراً أو هفوة صغيرة ستقلب كل شيء رأساً على عقب. إن كنا جاهلين ولا نملك بصيرة فإن هذا سينعكس على الحقائق السامية التي نريد الدفاع عنها ويهون شأنها لدى مخاطبنا وتفقد قيمتها ويؤدي إلى انطباع سلبي ويجعل هؤلاء ينأون بأنفسهم عن الدخول معنا في أي حوار جادّ.

    والشخص الذي يكون سبباً في مثل هذا الوضع يرتكب خطأ فاحشاً مهما كان حسن نيته. فكم من شاب انغمر في وهدة الإلحاد نتيجة جهل المرشدين ونقص معلوماتهم. وقديماً قيل في المثل الشعبي "الإمام الجاهل يذهب بالدين والطبيب الجاهل يذهب بالروح". والحقيقة أن ضرر المرشد الجاهل أكثر من ضرر الطبيب الجاهل، لأن جهل الطبيب وضرره محصور بالحياة القصيرة الأمد في الدنيا، بينما يقوم المرشد الجاهل بتخريب الحياة الأبدية الخالدة.

    4- يجب الابتعاد عن سلوك الجدل ومحاولة الإفحام والإلزام. فهذا الأسلوب إضافة إلى أنه يثير مشاعر الأنانية لدى الفرد فإنه لا يؤدي إلى أي نتيجة. فإثارة نور الإيمان في القلب متعلق بدرجة ارتباط هذا المرشد بالله تعالى الذي هو صاحب الإرادة في مثل هذه الهداية. فبدون أخذ رضا الله في الحسبان وفي النية فإن المناقشات الحامية والمناظرات التي تتم حسب أسلوب أهل الغفلة -وإن أدت إلى التفوق في الإفحام والإلزام- فلا يكون لها أي تأثير، ولاسيما إن كان معروفاً مسبقاً حدوث مثل هذا النقاش والجدال وتم التهيؤ له بأعصاب متوترة ومنفعلة. فأمثال هؤلاء لا يحضرون كمناظرين، بل كخصوم ويجلسون كحاقدين ويتركون النقاش والغضب يملأ قلوبهم، وقد وطنوا أنفسهم على البحث عن أجوبة حول المسائل التي قدمت إليهم. ومعلوم ما يحدث بعد هذا... سيقوم بمراجعة أصدقائه وبتقليب الكتب وطرْق كل باب وكل سبيل لتهيئة الأجوبة للمسائل والأمور التي حاولت أن تفهمها له. وهكذا يكون قد خطا خطوة أخرى تزيد من إنكاره، أي أن المرشد في هذه الحالة يحصل على نتيجة معاكسة تماماً لما أراده.

    5- يجب مخاطبة قلب المخاطب عند التحدث إليه. كل جملة يجب أن تبدأ وتنتهي بالصدق وبالحب وصادرة عن القلب، وألاّ تحتوي على أي تعريض بشخصية المخاطب أو أفكاره أو أي خشونة، وإلاّ فقد حديثنا معه تأثيره، بل ربما جعله خصماً لنا. يجب أن يتصرف المرشد كطبيب رؤوف ومشفق على مريضه يحاول جهده شفاءه وينحني عليه، وينصت إليه ويحس بآلآمه المعنوية في قلبه كحواري صادق وكرجل باحث عن الحق والحقيقة. فإنْ تناغم الصوت والحديث في مثل هذا الجوّ يجعل الحديث ينساب إلى قلب المخاطب كماء زمزم ليفتحه ويطهره. وهنا نستطيع التأكد بأننا وصلنا إلى قلبه. علينا أن ننتبه إلى تعابير وجه من نخاطبه ونحاول إرشاده، فنجعل من أنفسنا وكلامنا صورة محبّبة له فلا نكرر شيئاً آلمه أو أقلقه أو أزعجه.

    هنا يجب ألا تغيب عن بالنا نقطة مهمة هي أنه عندما يفارقنا مخاطبنا هذا، عليه أن يفارقنا وهو محمل بانطباعات جيدة عنا... عن صدق حديثنا، عن الإخلاص الذي عبر عنه كل عضو من أعضائنا، عن وجهنا المشرق، وعن ابتسامتنا وعن نظراتنا المعبرة عن الحب والمودة. فإن أبدى رغبته في اللقاء بنا مرة ثانية تأكدنا أننا نجحنا في إيصال معظم ما أردنا إيصاله إليه.

    6- يجب ألا ننتقد الأفكار الخاطئة لمخاطبنا أو تعابيره غير الصائبة بشكل يجرح غروره، وألا نهون من شأنه أمام الآخرين أبداً. فإن كان هدفنا الوصول إلى قلبه، وإهداء شيء إلى هذا القلب علينا أن نتقبل بكل رحابة صدر التضحية بغرور أنفسنا، بل حتى بما يجرح كرامة هذه النفس. هذا علماً بأننا لا نستطيع جعله يتقبل أي شيء منا إن جرحنا كرامته أو آذينا إحساسه، فكل تصرف من هذا القبيل يبعده عنا أكثر فأكثر.

    7- أحياناً يكون تعريف مثل هذا المنكر بأصدقاء من ذوي العقائد الصحيحة والنفوس المضيئة أفضل من ألف نصيحة وأكثر تأثيراً. ولكن مثل هذا السبيل قد لا يصلح لكل منكر. لذا يجب على المرشد أن يعرف نفسية تلميذه ويتصرف على ضوء هذه المعرفة.

    8- وعلى عكس ما جاء آنفاً يجب الحيلولة دون تعرّفه إلى أشخاص غير جدّيين في سلوكهم وغير صائبين في أفكارهم. أما من يدّعي التدين ولكنه محروم من عشق العبادة، ومن كانت أفكاره ومشاعره عكرة وغير صافية فيجب الحذر تماماً من تعريفه بأمثال هؤلاء.

    9- علينا أن ندعه يتكلم من حين لآخر ويعبر عن نفسه وعن مشاعره، فهو إنسان يجب إبداء الاحترام له وإعطاءه فرصة التعبير عن أفكاره. إن قطعية العقيدة لدى الفرد وقوتها وحدتها إن كانت متوجهة نحو داخل نفس الفرد كانت عامل نضج وفضيلة، وإن كانت متوجهة نحو الخارج، وخاصة نحو من لا يعرف شيئاً كانت عامل تنفير وإضاعة فرصة التفاهم معه.

    صحيح أن الاستماع للأفكار الباطلة يجرح الروح ويعكر صفو الفكر، ولكن علينا إبداء الصبر في هذا الخصوص وتجرع هذا الألم في سبيل اكتساب قلب جديد؛ وإلاّ فإننا إن لم نعط له حق وفرصة إبداء الرأي والفكر، وقمنا باحتكار الكلام، وملأنا المجلس بكلامنا فقط... فقد لا يدخل من هذا الكلام إلى عقله شيء. فكم من مرشد اشتهر بهذا الأمر وأصبح مكروها بسببه. ومثل هؤلاء يشبه من يحاول نقل الماء بقربة مثقوبة أو بغربال؛ فهو على رغم بذله لجهود جبارة لا يستطيع الوصول إلى نتيجة إيجابية. لذا فويل للذين لا يبدون ظرفاً في السلوك وأدباً في الاستماع إلى الآخرين.

    10- من المفيد أن يذكر المرشد في أثناء كلامه أن الأفكار التي يقدمها ليست خاصة به وأن كثيراً من المفكرين العظماء السابقين والحاليين يشاركونه فيها، وأن كثيراً من المفكرين الموجودين حالياً باستثناء فئة قليلة جدّاً هم من أصحاب العقائد ومن المؤمنين، ويذكر أسماءهم ويضرب بهم المثل لكي لا يبقى كلامه كلاماً مجرداً.

    11- لا شك أن أوّل ما يجب علينا تبليغه وإفهامه وشرحه هو شرح ركني كلمة الشهادة. فإن ظهر أنها من معتقداته وأنها بعض موروثاته السابقة، أو أنه اعتقدها وآمن بها بعد حديثنا معه، عند ذلك يمكن الانتقال إلى مواضيع أخرى. ويجب الحذر هنا والابتعاد عن إثارة المسائل التي يتجرأ المنكر على نقدها، وذلك قبل التأكد والاطمئنان إلى استقرار الإيمان في قلبه.

    نستطيع أن نلخص الموضوع ونقول إنه بعد تعيين وضع المنكر فإنّ أسُس الإيمان هي أوّل ما يجب ذكرها وطرحها له، وذلك ضمن الإطار الذي تم ذكره، وبعد الاطمئنان إلى استقرار الإيمان في قلبه، عند ذلك يمكن التطرق إلى مواضيع ومسائل أخرى. وإلاّ فإن تقديم المسائل بترتيب خاطئ يشبه تقديم الحلوى أولاً في الوليمة، أو يشبه تقديم اللحم إلى الحصان والعشب إلى الكلب، ومثل هذا الترتيب الخاطئ في التقديم وإن أعجبنا لا يأتي بأي نتيجة بل يعطى انطباعاً سلبياً للمخاطب.

    ونحن نقدم هذه المقالة إلى جنود المعرفة الذين يحملون حالياً أعباء القيام بوظيفة ومهمة إنقاذ هذا الجيل المسكين الظامئ إلى العقيدة المضطرب في تيار الإلحاد والإنكار.

    الهوامش

    [1] يشير المؤلف هنا إلى الشيوعية. وذلك قبل انهيار النظم الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وفي شرقي أوروبا. (المترجم)

    [2] قامت الفئات التي تدعي التقدمية في تركيا -بعد إنشاء الجمهورية التركية- بحركة واسعة لحذف الكلمات العربية والفارسية من اللغة التركية ووضعوا مكانها إما كلمات تركية أهمل استعمالها، أو اشتقوا هذه الكلمات أو اخترعوا كلمات جديدة، أو وضعوا بدلاً منها كلمات فرنسية أو إنكليزية ولم يدعوا اللغة في سيرتها التطورية الطبيعية. وأدى هذا إلى ظهور صعوبة في التفاهم بين الأجيال، فالأب يجد صعوبة في فهم كلام ابنه، والشباب لا يستطيعون فهم الأدب التركي السابق ولا يستطيعون قراءته بعد أن تم تغيير الحروف الكتابية السابقة -وهي الحروف العربية- بالحروف اللاتينية وحذف استعمال العديد من الكلمات التركية القديمة. (المترجم)

    [3] تقوم المجلات والكتب والصحف اليسارية وكذلك أنصار الغرب باستعمال لغة تكثر فيها الكلمات التركية المخترعة والموضوعة حديثا وكذلك الكلمات الأجنبية. بينما تكثر الصحف والكتب الإسلامية استعمال الكلمات العثمانية. (المترجم)




    السؤال: ما السبب في انتشار الإلحاد كل هذا الانتشار؟

    الجواب: لكون الإلحاد يعني الإنكار، فإن انتشاره متعلق بانهدام الحياة القلبية وسقوطها. طبعاً يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى كذلك. الإلحاد من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها. انتشر الإلحاد فكرياً نتيجة إهمال الأجيال الشابة ونتيجة سوء التطبيق في دور العلم ومعاهده، إضافة إلى اكتسابه السرعة والقوة بتلقيه المساعدات من جهات كثيرة.

    إن أوّل بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل ويغيب عنها القلب. فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية وقلبية ستقع إن عاجلاً أم آجلاً في براثن الإلحاد. وإذا لم تتدخل العناية الإلهية فإنها لن تستطيع إنقاذ نفسها. إذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعليم أفرادها ضرورات الإيمان ولم تظهر الحساسية اللازمة في هذا الأمر وتركت أفرادها في ظلام الجهل، فإن هؤلاء الأفراد يكونون قد دفعوا لتقبل كل إيحاء معروض عليهم.

    يتجلى الإلحاد في بادئ الأمر باللاَّمُبالاة تجاه أُسس الإيمان وعدم الاهتمام بها. ومثل هذا السلوك الذي يتسم بحرية التفكير ما أن يجد أي أمارة صغيرة تعين على الإنكار وعلى الإلحاد حتى ينمو هذا الإلحاد ويزداد، مع أن الإلحاد لا يستند إلى أي سبب علمي. ولكن إهمال معين أو غفلة معينة أو تقييم خاطئ قد يولد الإلحاد.

    في أيامنا الحالية هناك الكثير ممن هلك تحت ضغط هذه الأسباب، غير أننا سنقف هنا فقط على أهم هذه الأسباب وأكثرها تخريباً وتدميراً. ودَعني أقُلْ من البداية بأننا لسنا في مجال التعرض هنا إلى الأدلة التي تهدم الإلحاد وتزيله. ومن الطبيعي أن القارئ لا يتوقع منا هنا في هذا الحيز القليل التعرض إلى موضوع يحتاج إلى مجلدات، فزاوية الأسئلة والأجوبة في الكتب أو الصحف لا تستطيع استيعاب هذا ولا أن توفيه حقه. فمن الطبيعي أن مواضيع معقدة وعميقة بهذا المستوى لا يمكن تناولها وإيضاحها حق الإيضاح في مثل هذه الزوايا، ثم إن هناك كتبا ثمينة جداً وممتازة جداً في هذا الموضوع، ولن يكون كلامنا إلاّ تكرار ما ورد فيها.

    لنرجع إلى الصدد. إن الحوادث التي انبثقت كل منها من يد القدرة الإلهية والتي كل منها رسالة إلهية.. هذه الحوادث أو بتعبير آخر قوانين الطبيعة هذه أصبحت في يد الإلحاد وسيلة لاستغفال الأجيال وساحة لبذر بذور الإلحاد. مع أنه سبق وأن كتب آلاف المرات في الشرق والغرب وذكر أن قوانين الطبيعة هذه ليست إلاّ آلية تعمل بدقة واتساق واطراد ومعملا ذا إنتاج وفير. ولكن من أين أتت هذه القدرة على الإنتاج ومن أين أتى هذا النظام؟ أيمكن أن تكون هذه الطبيعة الجميلة التي تسحر النفوس والأرواح مثل شعر منظم ونغم موسيقى نتيجة مصادفات عمياء؟

    إن كانت الطبيعة تملك -كما يُتوهم- قوة قادرة على الإنشاء والخلق، فهل نستطيع إيضاح كيف استطاعت الطبيعة الحصول على مثل هذه القدرة؟ أنستطيع أن نقول إنها خلقت نفسها بنفسها؟ أيمكن تصديق مثل هذه المغالطة المرعبة؟ الوجه الحقيقي لخلاف الحقيقة هذه هو "الشجرة خلقت الشجرة، والجبل خلق الجبل، والسماء خلقت السماء..." لا أعتقد أن هناك شخصاً واحداً يستطيع أن يؤيد مثل هذه المغالطة والبعد عن المنطق.

    أما إن كان القصد من ذكر "الطبيعة" هو الإشارة إلى القوانين الفطرية، فهذا أيضاً خداع آخر. ذلك لأن القانون -بتعبير القدماء- عرض من الأعراض. والعرض لا يقوم إلا بوجود الجوهر، أي أنه إن لم يتم تصور جميع الأعضاء والقطع التي تكوّن شيئاً مركباً أو جهازاً حيوياً ما، فلا يمكن تصور مفهوم القانون المتعلق بهذا الجهاز. وبتعبير آخر فإن القوانين قائمة بالموجودات. فقانون النمو يظهر في البذرة، وقانون الجاذبية يظهر في الكتل وفي الحيز (المكان)... الخ، إذ يمكن زيادة هذه الأمثلة. إذن فإن التفكير في القوانين قبل التفكير في الموجودات والزعم بأن هذه القوانين هي منشأ الوجود ليس إلا خداعا وبهْلَوانية.

    وليس النظر إلى الأسباب واعتبارها أساساً وقاعدة للوجود أقل خداعاً وتضليلاً. والحقيقة أن محاولة القيام بتفسير وإيضاح هذا العالم المملوء بآلاف الحكم والنظم الدقيقة بالأسباب أو بالصدف محاولة خالية من أي قيمة علمية، بل هي محاولة مضحكة بل هي هذيان وتناقض، لأنه إعلان عن بطلان العلم.

    وبينما أعلنت تجارب "ميللر" (Müller) قصور الأسباب والصدف وعجزها، تكلمت العلوم وأعطت أحكامها. فقد أعلن مثلاً معهد الكيمياء في الاتحاد السوفيتي تحت رئاسة "اوبرين" (Oparin) بعد بحث دام 22 سنة أن قوانين الكيمياء والتفاعلات الكيمياوية بعيدة عن تسليط الضوء على الوجود. هذا ما يقوله العلم وما يقوله العلماء.

    ونظرية "التطور والتكامل" التي درست في مدارسنا سنوات عديدة وكأنها حقيقة علمية ثابتة.. هذه النظرية أصبحت مجرد خيال علمي وقصة من قصص التاريخ بعد الإكتشافات العلمية الحديثة وتطور علم الجينات ولم يعد لها أي قيمة علمية. ولكن كم يؤلمنا أن مثل هذه المسائل الواهية لا تزال من أسباب الإلحاد لأجيالنا الشابة التي لا تزال معلقة في الفراغ لا تملك مع الأسف حتى الآن قاعدة ثقافية متينة.

    ولكن من جانب آخر توجد هناك لحسن الحظ بعض الكتب التي ظهرت إلى الأسواق والتي تزيل مثل هذه الاستفهامات التي تجرح مشاعرنا وأفكارنا، وتعالج أمراضنا الروحية. فمن الممكن الآن الحصول على مئات من الكتب التي كتبت في الشرق وفي الغرب بمختلف اللغات والتي أوضحت الوجه الحقيقي للطبيعة وللأسباب.

    ومع أننا نستغرب الكتب المنحرفة التي كتبها بعض "المستغربين" عندنا، إلاّ أن كتباً عديدة كتبت في الغرب أمثال "لماذا نؤمن بالله" الذي اشترك في كتابته العديد من علماء الغرب تشكل جواباً لأمثال هؤلاء المستغربين.

    وبعد كل هذا الوضوح الموجود في الوسط العلمي حول هذا الموضوع، فإن الإلحاد لا يعد الآن إلا انحرافاً نفسياً وعناداً وفكراً جاهزاً من غير تفكير ومزاجاً طفولياً. ولكن لا يزال بعض شبابنا رغم كل هذا غير متخلصين تماماً من تأثير هذه الأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب، إذ يتوهمون أنها تحمل حقائق علمية، لأنهم لم يتلقوا التربية العلمية والروحية الكافية.

    لذا كانت التعبئة العلمية والتربوية لنشر المعارف الصحيحة ضرورة فوق كل الضرورات الأخرى. أما عدم إيفاء مثل هذه الوظيفة المقدسة حقها من الاهتمام فسيؤدي إلى جروح غائرة لا يمكن اندمالها في المجتمع. ولعل هذا هو أساس كثير من الآلام التي عانى منها المجتمع مدة سنوات طويلة، لأننا كنا محرومين من المرشدين الممتلئين بعشق التعليم الذين جمعوا بين العلم والروح وبين العقل والقلب وبرزوا وتعمقوا فيهما. لذا نأمل من هؤلاء المرشدين الحقيقيين التصدي لحمل هذه المهمة البشرية الأساسية وأن ينقذونا من هذه الآلام التي قاسينا منها طوال عصر. عند ذاك ستصل الأجيال في أفكارها ومشاعرها وخيالها إلى الاستقرار، وتتخلص من الانجراف في تيار الأفكار الخاطئة، ومن التذبذب -كرقاص الساعة- ذات اليمين وذات الشمال، وتكون لها مناعة معينة ضد الإلحاد.

    ونستطيع أن نقول كخلاصة إن الإلحاد الفكري هو نتيجة للجهل وعدم امتلاك قابلية التحليل والتركيب وعن فقر الغذاء الروحي والقلبي، لأن الإنسان يحب ما يعرف وهو عدو لما يجهل.

    والآن لنلق نظرة على الكتب الموجودة في الرفوف وواجهات المكتبات، ونتفحص الأفكار التي تروج لها هذه الكتب والشخصيات التي تقدمها لنا؛ عند ذلك ندرك لماذا يحاول الصبيان في الأزقة التشبه في ملابسهم بـ"الهنود الحمر" (Apachi) أو بـ"زورو" (Zoor) أو الشباب بـ"دون جوان" (Don Juan). ما ذكرته ليس إلاّ مثالا أو مثالين على الحقيقة التي نحاول إيضاحها. وعندما تقومون بإضافة عناصر التخريب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى فليس في وسعنا إلاّ أن نرتجف حتى النخاع من المنظر المتشكل أمامنا.

    لقد سار مواطننا من قبل وما يزال خلف من أحبه وقُدّم له على أنه شخص جيد، وأصبح عدواً أو غريباً عمن لم يعرفه. ووظيفتنا الآن هي القيام بالتفكير بالشيء الذي يجب علينا تقديمه له من الآن فصاعداً وإرشاده إلى طريق النور وعدم تركه في حالة تسيب وفراغ.

    العامل الثاني في انجراف الجيل[1] إلى الإلحاد وفي انتشار الإنكار هو طبيعة الشباب. فرغبات الشباب التي لا تعرف الشبع، ورغباتهم في حرية مطلقة لا قيد عليها.. هذه الميول غير المتوازنة تكون قريبة من الإلحاد. فمثل هذه النفوس تقول "من أجل درهم من اللذة العاجلة "فإني أتقبل أطناناً من الألم في المستقبل". وهكذا يهيئون عاقبتهم الأليمة، وينخدعون باللذة الموهومة التي يقدمها لهم الشيطان ويقعون في شرك الإلحاد مثلما تقع الفراشات التي تحوم حول النار في النار.

    وكلما زاد الجهل وزاد فقر الروح والقلب تيسرت غلبة الشهوات الجسدية على المشاعر العلوية. وكما سلم فاوست (Faust)[2] روحه للشيطان، فالشباب يسلمون قلوبهم للشيطان. أجل! عندما تكون الأرواح ميتة والقلوب فقيرة والعقول في هذيان، فهناك طريق واحد وهو طريق الإلحاد. بينما تشكل العقيدة والشعور بالمسؤولية والقلب والروح الغنيان بالتربية والتهذيب أكبر ضمان ليقظة الشباب؛ وإلاّ فإن مجتمعاً تسلط فيه الشيطان على النفوس يتقلب من هذيان إلى آخر ويغير على الدوام محرابه وقبلته، ويسير خلف كل فلسفة جديدة ويعدها منقذة له ويرمي نفسه في أحضانها ليشرب من لبنها.

    عندما يستيقظ صباحاً يصفق للفوضوية، وفي الظهر يقف احتراماً للنظام الماركسي/اللينيني، وفي العصر يحيي "الوجودية"، وفي العشاء قد ينشد نشيداً هتلرياً (Hitler)، ولكنه لن يلتفت أبداً إلى جذور روحه ولا إلى شجرة أمته ولا إلى ثمار هذه الشجرة وثقافة أمته وروحها ومدنيتها.

    يصعب على هذا الجيل الذي تشوهت نظرته كل هذا التشوه، التخلص من الأهواء والرغبات، ويصعب -وربما يستحيل- إعطاء وجهة صحيحة لذهنه وتفكيره. لذا كان من الضروري تقديم مصطلحات الأفكار التي كانت أساس وجودنا وكياننا حتى الآن، وإيصالها -بأسلوب منظم ومدروس- إلى جيلنا ليصل إلى مستوى القدرة على التفكير السليم والصائب، لأننا مع هذه الشهوات الفردية نكون كما قال الشاعر محمد عاكف:[3]

    لا تُصدِّق! إن قالوا لك إن المجتمع،
    يمكن أن يعيش... بمشاعر ميتة...
    أرني مجتمعاً.. استطاع العيش بمعنويات ميتة!

    هناك عامل وسبب آخر للإلحاد، وهو اعتبار كل شيء مباحاً، أي النظرة الإباحية التي ترى الاستفادة من كل شيء موجود مهما كان ذلك الشيء، أي النظرة التي تستند إلى الفائدة والتلذذ من جميع النعم. وتبذل المحاولات اليوم لصب هذه النظرة في قالب فلسفي وفكري منهجي. وعندما أقبل هذا الفكر إلينا جاءنا أوّل مرة في شكل فلسفة فرويدية (Freud) تحت مصطلح "اللبيدو" (Libido) الذي جرح مفهوم الحياء لدينا، ثم طغت عندنا الفلسفة الوجودية لـ"جان بول سارتر" (Jan Poul Sartre) و"كامو" (Albert Camus) فهدمت حصون الحياء عندنا وجعلتها أثراً بعد عين.

    هذه الفلسفة التي تجعل الإنسان يشمئز من إنسانيته، والتي ترمي هذه الإنسانية إلى برميل القاذورات والزبالة قُدمت للأجيال على أنها الفلسفة التي توضح الوجه الحقيقي للإنسان. وقد هرع شباب أوروبا في أوّل الأمر ثم شباب البلدان المقلدة للغرب نحو هذا التيار الفلسفي وكأنهم نوموا تنويماً مغناطيسياً. وقد تصورت الإنسانية أن هذه الفلسفة الوجودية سوف تُرجع قيمة الفرد وأهميته، هذه القيمة الفردية التي تضاءلت نتيجة للفلسفة الشيوعية، وأن رجوع القيمة إلى الفرد ستؤدي إلى نمو شجرة الإنسانية وارتفاعها من جديد. ولكن هيهات! فالإنسانية لم تنتبه إلى أنها خُدعت مرة أخرى.

    وهكذا فلأن الإيمان بالله والارتباط بمفاهيم الحلال والحرام لا يتماشى مع فلسفة التهام اللذات لهذا الجيل الذي تشوه بهذه الدرجة، نرى هذا الجيل يرمي بنفسه إلى أحضان الإلحاد، لأنه يريد أن يعيش في الجنة المزيفة لـ"حسَن الصبّاح" زعيم الحشاشين.

    لقد عرضنا بعض الملاحظات التي تهم من يملك البصيرة من الإداريين والمرشدين والمعلمين في المستقبل لكي يستطيعوا إيقاف تيار الإلحاد. ولكننا لا نعتقد بأن التسيب والهذيان الفكري محصوران داخل هذه الأسباب، كما أن التدابير التي يجب اتخاذها غير محصورة أيضاً فيما تم ذكره. أتمنى أن تستفيق أمتنا في هذا العهد الجديد وتثوب إلى رشدها وترجع إلى نفسها.

    الهوامش

    [1] هذا يصح بالنسبة إلى تركيا قبل ثلاثين أو أربعين سنة حيث نشأت أجيال محرومة من التعليم الديني. (المترجم)

    [2] فاوست بطل مسرحية مشهورة للشاعر الألماني الكبير "جوته" (المترجم).

    [3] محمد عاكف: من أكبر الشعراء الأدب التركي المعاصر، ومنشد النشيد الوطي. (المترجم).
    التعديل الأخير تم 03-24-2010 الساعة 02:07 PM
    {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا، فستعلمون من هو في ضلال مبين}


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. جواب سؤال حول منزلة معاوية رضي الله عنه .
    بواسطة ابن عبد البر الصغير في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 06-23-2014, 04:51 AM
  2. جواب سؤال حول منزلة معاوية رضي الله عنه
    بواسطة ابن عبد البر الصغير في المنتدى ابن عبد البر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-14-2013, 09:46 PM
  3. تعليقات: جواب سؤال لـ (أبوحب الله)
    بواسطة أميمة في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-05-2012, 01:02 AM
  4. جواب سؤال :أين الله عن كل هذا الظلم
    بواسطة فلق الصبح في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 07-10-2012, 01:46 PM
  5. الإلحاد موقف نفسي أكثر من كونه موقفا عقليا
    بواسطة ياسين اليحياوي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 05-10-2008, 07:39 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء