النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مقالات مهمة عن تشويه تاريخ المسلمين/ للدكتور: عبد العظيم الديب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    الكويت
    المشاركات
    3,251
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي مقالات مهمة عن تشويه تاريخ المسلمين/ للدكتور: عبد العظيم الديب

    لماذا تاريخ الإسلام وحده؟

    بقلم - د.عبد العظيم الديب / 19-10-2009


    لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي درسناه مشوهاً ممزقاً، لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي صفعناه، وجلدناه، وسحلناه، لماذا تاريخ الإسلام وحده هو الذي يُعقِب نفوراً وازدراء وبغضاً في نفس دارسيه؟

    وإن كنت في شك من هذا فاختبر نفسك، واختبر من حولك، حاول أن تذكر كلمة (التاريخ الإسلامي)، وأنظر إلى ما تثيره في النفوس، وارقب ما يسميه علماء النفس (تداعي المعاني)، أية معانٍ ستتوارد على الخواطر!! وأية صور ستحضر في الأذهان!! وأية مشاعر ستتحرك في الوجدان!!

    إن أقل ما ستتحرك به النفوس هو التحفّز للنقد، والمحاسبة، والمناقشة، وإحصاء الأخطاء، وسيصل الأمر بالبعض إلى الازدراء والاحتقار، والبغض، ولقد عم ذلك وطمّ، لم يسلم منه أحد حتى علماء الأمة، ودعاة الإسلام إلا من رحم ربك وقليل ما هم.

    ذلك أنك إذا ذكرت التاريخ الإسلامي، فأسرع ما يقفز إلى الذهن:

    ما نحفظه من اتهامات لعثمان بن عفان (رضي الله عنه) بأنه كان يولي أقاربه إمارة الأقاليم، ويحكّمهم في رقاب العباد، ويطلق يدهم في مال الأمة، ولما ثار الصحابي الجليل أبو ذرّ على هذه السياسة، غضب عليه عثمان، ونفاه إلى الربذة.

    ·ثم حصار الثوار لعثمان وقتلهم له وهو يتلو في المصحف.

    ·وما صار يُضرب به المثل من نصب معاوية لقميص عثمان الملطخ بالدماء في المسجد، واحتياله بذلك حتى لا يبايع علياً رضي الله عنه، ومن أجل الملك العضوض اشعل حرباً ظالمة على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، فكانت معركة (الجمل) و(صفين).

    ·ثم مسرحية التحكيم الهزلية، وما تجلّى فيها من منتهى الغفلة والبلاهة، في مقابلة منتهى النصب والاحتيال.

    ·وقُضي الأمر بإستيلاء معاوية على الحكم، وتحويل الخلافة الراشدة إلى قيصرية هرقلية، أخذ فيها معاوية البيعة لابنه يزيد قهراً تحت تهديد السلاح.

    ·صورة يزيد بخمرياته وفسقه، ولهوه ولعبه بقروده وكلابه، وسنواته الثلاث السود التي قتل فيها الحسين، وغزا المدينة المنورة، وأباحها لجنوده، وهدم الكعبة.

    ·ثم يأتي الحجاج، وجبروته وظلمه، وقتله ابن الزبير، وضربه الكعبة بالمنجنيق.

    .ويحاول عمر بن عبد العزيز تصحيح الأوضاع، فيموت مسموماً.

    ·ثم تدور الدائرة على بني أمية وتسقط دولتهم بسبب ظلمهم وفسادهم، وعنصريتهم المتعصبة للعرب.

    ·وأما العباسيون، فأولهم الذي استفتح دولتهم أبو العباس السفاح، ومن أبرز ما نذكره عنهم ضَرْب الأئمة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وخمريات الرشيد، وسرفه، وعبثه، ونواسياته، ثم محنة الفقهاء وأهل الحديث في عصر المأمون، ثم سيطرة الفرس على الدولة ـ لأنهم هم الذين صنعوها ـ ولعبهم بالخلفاء، حتى جاء التتار، وكان ما كان، وسقطت الخلافة.

    ·ثم جاء عصر المماليك، جهلة يملكون سيفاً قوياً يستخدمونه حيناً ضد العدو دفاعاً عن الإسلام، وأحياناً ضد بعضهم البعض، ودائماً ضد الشعب.

    ·ثم جاء العثمانيون، فكان الجهل والظلام، والقضاء على الحضارة والصنائع والفنون، وإذ العنصر العربي بالعجرفة التركية التي ما برحت مضرب الأمثال.

    ·أما الأندلس، فقد غرق ملوكها في الترف، ودارت برؤوسهم الكأس والطاس، فقاتل بعضهم بعضا، بل تحالف بعضهم مع الصليبيين ضد إخوانهم، فكانت النهاية المأساوية التي انتهت بإبادة المسلمين وخروج الإسلام من الأندلس.

    هذه معالم تاريخ الإسلام التي استقرت في بؤرة شعور مثقفينا عامة، ولا أستثني منهم علماء الإسلام ودعاته (إلا النادر، والنادر لا حكم له).

    قد يقول قائل: وأين ما يتعلمه أبناؤنا عن انتصارات المسلمين وفتوحاتهم، وحضارتهم وأمجادهم؟؟

    وأقول: نعم يوجد شيء من هذا، ولكنه يعرض بصورة باهتة ممزقة، ولذلك تتوارى في حنايا الذاكرة، وتتخلى عن بؤرة الشعور، وتبقى الصورة البشعة التي عرضتها لك آنفاً هي الحاضرة في الذهن (on line) كما يقولون.

    وعندي على ذلك ألف دليل ودليل، ولا شك أنك سمعت ذلك الإعلامي الناجح وهو يقول في ثنايا حوارٍ له مع أحد ضيوفه: كل الخلفاء الراشدين قتلوا إلا واحداً، وزميله الذي لم يُطق صبراً على محاوره ـ وهو يتحدث عن عمر بن عبد العزيز وإصلاحاته ـ فيقول له في لهجة ساخرة: (ولذلك قتلوه).

    وقبل أن أترك الكلام على هذه الصورة البشعة للتاريخ الإسلامي: أؤكد أنها صورة كاذبة خاطئة، تقوم على معلومات أخطرها مكذوب لا أصل له، وباقيها بين ثلاث حالات:

    1ـ أحداث ضُخمت وبولغ فيها حتى أخذت أكثر من حجمها حتى حجبت الكثير.

    2ـ أحداث أُسيء فهمها وتفسيرها، ولو فهمت على حقيقتها ووجهها، لكانت فخراً لصانعيها.

    3ـ أحداث تدخل في إطار العجز البشري عن الكمال (كل بني آدم خطاؤون).

    ونعود للسؤال: لماذا تاريخ الإسلام وحده؟

    لقد درس أبناؤنا ومثقفونا، ودرسنا أيضاً تاريخ أمم الأرض قديمها وحديثها، فما تركت أية دراسة منها هذه الصورة، لا للفراعنة، ولا للآشوريين، ولا للبابليين، ولا للفينقيين، ولا لليونانيين، ولا الأوربيين والأمريكيين.

    أبداً لا يشعر أحد تجاه هذه العصور التاريخية، وتاريخ أهلها بما يشعر به تجاه التاريخ الإسلامي.

    فإذا ذكرنا الفراعنة تجد شعوراً بالاعتزاز، بل الفخر والمباهاة، وتقفز إلى ذهنك صورة الحضارة التي أضاءت الدنيا منذ فجر التاريخ، وبهرت العالم بما خلفته من آثار، وما أظن المشاعر نحوها تصل إلى درجة الحياد.

    فإذا ذكر تاريخ اليونان، فهنا شعور الإكبار والاحترام، وعلى الفور يقفز إلى الذهن سقراط، وأفلاطون، وارسطو، وما حولهم من هالات التمجيد والتعظيم.

    وبالمثل تاريخ الرومان، وكل أمم الأرض.

    فإذا جئنا إلى تاريخ أوروبا، بعد عصر النهضة، فسنجد الإعجاب والإكبار يصل إلى حد الانبهار والاندحار، والاستخزاء والشعور بالهوان، حتى صرنا نلهث وراءهم، ونقيس تقدمنا منهم، والمسافة التي تقطعها في محاولة اللحاق بهم.

    وإن كنت تظن بي المبالغة، فأنظر حولك، واقرأ واسمع معي الأسماء الآتية:

    صحيفة (الأهرام) وصحيفة (بابل) ووكالة الأنباء (سبأ)، ومهرجان (جرش) ومهرجان (قرطاج) ومهرجان (بعلبك) وفندق (فلادلفيا)، وشارع (رمسيس)، والحديث عن (دلمون) و...و... هذا ما يحضرني عفو الخاطر، ولو تأملت وتتبعت، لرأيت الإصرار على تجلية تاريخ هذه الجاهليات والوثنيات أمراً يُراد، حتى سمعتُ بأذني مَنْ يتحدث عن التجربة الديمقراطية في بلاده، ثم يختم كلامه:" ولمَ لا؟ ألسنا أحفاد ملكة سبأ" هكذا على ملأ من مشاهدي الفضائية الباذغة.

    سمعت آخر يقول مباهياً:" نحن أحفاد رماة الحدق". ورماة الحدق هؤلاء هم أهل النوبة الذين تصدّوا لجيش الفتح الإسلامي وحالوا بينه وبين فتح الجنوب، وسماهم المسلمون (رماة الحدق) لبراعتهم في الرمي، ودقة إصابتهم. هؤلاء يباهي مثقف مسلم معاصر بأنه من أحفادهم.

    أما صيحة (احنا الفراعنة)، فما أكثر ما تسمعها عند إصابتهم مرمى الخصم في كرة القدم.

    وانظر حولك وتأمل ستجد من هذا ضروبا وأفانين.

    فلماذا تاريخ الإسلام وحده؟




    تاريخ المسلمين .. كيف يكتبه خصومهم؟

    (1)

    بقلم - د.عبد العظيم الديب / 02-11-2009


    إن هذا التشويه لتاريخ الإسلام ليس مصادفة، ولم يقع عفواً، وإنما وراءه كيد محكم، وتدبير خبيث، وهو يأتي ضمن خطة كاملة للحرب الصليبية ضد العالم الإسلامي، ترجع هذه الخطة إلى عدة قرون، إلى القرن الثالث عشر الميلادي حينما ارتدت الجيوش الصليبية ـ بعد أكثر من قرنين من الزمان ـ مهزومة مدحورة، فقد كان من نتائج هذه الحرب الطويلة ما عبّر عنه المؤرخ (فيليب حتى) قائلاً: ومن النتائج الفرعية التي تخلّفت عن الحملات الصليبية إنشاء الإرساليات المسيحية للتبشير بين المسلمين، فقد اقتنع رجال الفكر (الصليبيون طبعاً) بفشل هذه الحرب، وإخفاق الوسائل العسكرية في معاملة المسلمين.

    وكان الكاهن القطلاني (ريمند لال)، أول أوروبي نبه وشدّد على أهمية الدراسات الشرقية كأداة فعّالة لنضالٍ سلمي، يعتمد على الإقناع بدلاً من الإكراه.

    وبتأثير (ريمند) هذا جرى الروح الصليبي في مجرى جديد، هو إقناع المسلمين بالمسيحية بدلاً من إبادتهم.

    أما الإرسالية الكرملية (نسبة إلى جبل الكرمل) التي لا تزال عاملة في سوريا، فقد أسسها أحد الصليبيين عام 1157م، ثم أنشئت اثنتان من الإرساليات الرهبانية هما (الفرنسيسكان) و(الدومينكان) وصار لكلٍّ منهما فروع مختلفة في لبنان، وكتب أسقف دومينكاني رسالة من أوفى رسائل العصور الوسطى بشئون المسلمين موصياً باستخدام المرسلين (المبشرين) بدلاً من الجنود لاستعادة الأرض المقدسة أ.هـ بنص حروفه.

    هكذا بكل وضوح تعطينا هذه الوثيقة الحقائق الآتية:

    1.اعترافهم بفشل الحروب الصليبية.

    2.أنهم تيقنوا عجزهم عن هزيمة المسلمين بالوسائل العسكرية.

    3.أنهم عدلوا إلى أسلوبٍ جديد هو المرسلين المبشرين.

    4.أن هذه المؤسسات الدينية (الأديرة، والإرساليات، وما تبعها من مدارس وكليات، لاستعادة الأرض المقدسة، أي لهزيمة المسلمين، والسيطرة على دار الإسلام.

    5.أن سيطرة خريجي هذه المؤسسات التبشيرية على منابع الثقافة والفكر في أهم العواصم العربية= كان أمراً مخططاً مدبراً، فلم يكن أمراً عفوياً أن يقبض على زمام الثقافة والفكر أمثال بشارة تقلا، وجبرائيل تقلا، وسليم تقلا، وداود بركات، وفارس نمر، وشبلي شميل، وأمين شميل، وإدجار جلاد، وأنطون الجميل، وشاهين مكاريوس، ولويس شيخو، وجورجي زيدان، وشكري زيدان، وإميل زيدان، وإميل الخوري... هؤلاء وغيرهم كثير لا يحصون عدداً، خرجوا من محاضن (ريمند لال) وتلاميذه، وانتشروا في بغداد، ودمشق، والقاهرة، وظاهَرتهم جهاتٌ كُثْر، بعضها منظور، وبعضها من وراء ستار، ويحتاج أمر هذه الظاهرة، وقياس حجم خطرها وإفسادها إلى أطروحة، بل أكثر من أطروحة، فهل نرى من ينهض إلى ذلك؟

    •ولم تكن هذه المراكز وحدها التي تحقق استراتيجية (ريموند لال)، بل كانت هذه الاستراتيجية واضحة المعالم بينة القسمات أمام كل من يعمل للمشروع الإستعماري الغربي، فها هو (نابليون) وهو أول من جازف بمحاولة الهجوم على ديار الإسلام منذ الحرب الصليبية، لم ينس أن يقدم بين يديه كتيبة من المستشرقين، ولم ينس وهو يستخدم أبشع وسائل القتل والحرق والتدمير، لم ينس أبداً الإستراتيجية الأساس، فكتب إلى نائبه (كليبر) بعد أن غادر مصر إلى فرنسا، كتب إليه يقول:" ستظهر السفن الحربية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية، أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلّس. اجتهد في جمع خمسمائة شخص، أو ستمائة شخص من المماليك، حتى إذا لاحت السفن الفرنسية، تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف، وتسفّرهم إلى فرنسا. وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك، فاستعض عنهم برهائن من الغرب ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا، يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر، يكون لنا منهم حزبٌ يُضّم إليه غيرهم." أ.هـ

    هذه الرسالة محفوظة في نصها الأصلي ضمن وثائق وزارة الحرب الفرنسية تحت رقم 4374، وهي تؤكد ما يأتي:

    1-الحرص المبكر على نشر (التقاليد الغربية، واللغة الغربية) أي الثقافة الغربية، والوعي بأن ذلك مفتاحٌ لتوجيه هؤلاء المتغربين، وأنهم سيكونون بمجرد الوقوع في براثن هذه الثقافة حزبَ فرنسا. (يكون لنا منهم حزب) (تذكّر ما نسمعه هذه الأيام في ثنايا أخبار الجزائر عن حزب فر نسا).

    2.الحرص على أن يكون هؤلاء الرّواد الأوائل من ذوي المكانة والوجاهة في المجتمع، إذ طلب نابليون أن يكونوا من أبناء الطبقة الحاكمة (المماليك ومشايخ البلدان) وذلك حتى يكونوا محل قدوة يقتفي الناس آثارهم ويقلّدونهم، ولا يقتصر الأمر على أشخاصهم.

    وهذا المعنى عبر عنه أحد دُهانهم وهو يتحدث عن مدى نجاح مشاريعهم التبشيرية الاستعمارية، فقد ذكر ـ مباهياً ـ أن مدارسهم، وبخاصة مدارس البنات تضم أبناء الطبقة العليا في المجتمع، أبناء الحكام والأثرياء، وهم الذين يُسمع لقولهم، ويطاع أمرهم، ويقتدى بهم.

    3.وهذا الذي قاله (نابليون) بإيجاز مقتضب عبّر عنه بعد أكثر من قرن ونصف الفيلسوف الفرنسي (سارتر) بوضوح وتفصيل حيث قال:" كنا نأخذ النوابغ من أبناء آسيا وإفريقية، ونأتي بهم إلى بلادنا، ونطوف بهم عواصمنا حتى يعتادوا عاداتنا، ويتثقفوا بثقافتنا، ونُلقي في أفواههم جملاً ضخمة تلتصق بأسنانهم، فلا يتكلمون إلا بها، ثم نردّهم إلى بلادهم، فيتكلمون بدلاً عنا، والأهم من ذلك أنهم يمنعون غيرهم من الكلام".

    •ورغم أن مشروع (نابليون) قد سقط بهزيمة حملته العسكرية، إلا أنه أُتيح له أن يجد من يحققه نيابة عنه، وهو (محمد علي) الذي تولى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين، ذلك أن (محمد علي) تبني المشروع الغربي بالكامل، وحقق لفرنسا كلَّ ما كانت تريده، ولا يتبادر إلى ذهن أحد أنني أتهم (محمد علي) بالعمالة أو الخيانة، فأنا لا أُحب هذه التجاوزات، ولكن الرجل وجد نفسه على مفترق طرق، وأنه لا بد من نهضة وتغيير، فكان أمامه التغيير والتجديد من الداخل، من داخل المجتمع وثقافته ومؤسساته القائمة فعلاً، وقد كانت قادرة على ذلك، وكان أمامه في نفس الوقت التغيير على الخط الغربي المستورد، يزيّنه له قناصل الدول الأوربية، فاستمعَ لوكلاء المشروع الغربي، ورفض الاستماع لعلماء الأزهر، ولقادة الفكر في الأمة، وعمل على تنحيتهم وتهميشهم، بل نفي بعضهم، وسجن بعضهم واتخذ مستشاريه ومعاونيه من الفرنسيين، ومن يدور في فلكهم، كان ذلك اجتهاداً خاطئاً منه ـ ولا أقول تآمراً أو عمالة ـ ولعله اقتدى فيه بآخرين سبقوه في العالم الإسلامي. (ولذلك حديث آخر يطول).

    أَسْلسَ (محمد علي) قياده لهؤلاء، فكان مشروعه النهوضي فرنسياً تغريبياً في لُحمته وسُداه، وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه بغير دليل، نشير إلى المظاهر الآتية التي تشهد بما نقول:

    أ ـ كان ديوان المدارس الذي أنشأه (محمد علي) سنة 1837م، وهو بمثابة إدارة للمدارس العليا والخصوصية (أي المتخصصة) كان الإشراف على هذا الديوان لمجلسٍ يتكون من:

    1-كلوت بك.

    2- كياني بك.

    3ـ أرتين بك.

    4-اسطفان بك.

    5ـ حسكلتيان.

    6-فارين بك.

    7-لامبيبر بك.

    8- هامون بك.

    9ـ دوزول بك.

    10-مصطفى مختار بك.

    11ـ رفاعة رافع.

    12ـ محمد بيومي.

    وكما ترى كلهم غربيون فرنسيون إما لحماً ودماً، وإما ثقافة وهوى، كالثلاثة الأواخر.

    ب ـ كذلك كان توجيه طلاب البعثات إلى فرنسا، حيث كان تأثير التغريب فيهم أشد، كما اعترف بذلك سارتر فيما نقلناه من كلامه آنفاً، وقد بلغ عدد هؤلاء 319 مبعوثاً كان من بينهم أربعة من بيت (محمد علي): اثنان من أبنائه، واثنان من أحفاده، أحدهما إسماعيل بن إبراهيم الذي صار حاكماً لمصر، وأعلن يومها أن مصر قطعة من أوربا (وكان من أمره ما كان).

    ج ـ كان المشرف على هذه البعثات في فرنسا (مسيو جومار) أستاذ (رفاعة الطهطاوي) وقد قال عنه (رفاعة الطهطاوي):" وشهرة (مسيو جومار) وحُسن تدبيره يُوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف، لأنه يدبِّر بقلمه ما لا يدبَّر بالسيف ألف مرة، ولا عجب فبالأقلام تساس الدول".

    فهل يا تُرى كان شيخنا رفاعة يشير إلى نشاطه الاستعماري التبشيري، أم إلى جهوده في المخابرات الفرنسية، أم إلى خطورة أثره في صياغة عقول واتجاهات وميول وعواطف طلاب البعثات؟ ما الذي كان يحركه (جومار) بقلمه؟ تأمل.

    د ـ بل نستطيع أن نقول: إن النفوذ الفرنسي في مصر بلغ درجة لم يبلغها أيام الحملة على مصر، يكفي مثالاً على ذلك أنه عند الاحتفال يوضع حجر الأساس للقناطر الخيرية سنة 1847م تصايح الفرنسيون:" نشرب نخب محمد علي ونابليون" وتعمدوا فيما ألقوه من كلمات أن يذكّروا بفضل أيادي حكومتهم البيضاء على محمد علي.

    •وكأن الفرنسيين أخُرجوا مهزومين عسكرياً، فأعادهم محمد علي مسيطرين وموجهين ثقافياً وتربوياً، بل وسياسياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    والذي يعنينا من كل ذلك، هو أثر هذه السيطرة في الثقافة والتعليم، الذي عبّرت عنه المؤرخة الإنجليزية (هيلين ريفليلين) بقولها: إن التفكيك الثقافي المترتب على سياسة محمد علي التربوية المبتورة أمرٌ يستحيل تقديره، ولكن آثاره ما زالت محسوسة في مصر حتى اليوم دون جدال. (مجلة الفكر العربي عدد 32 صـ 46).

    وفي دورة أخرى من دورات التاريخ والأحداث، انتقلت السيطرة إلى الإنجليز، ذلك أن الصراع كان دائراً لا يهدأ بين انجلترا وفرنسا على اقتسام العالم العربي والإسلامي، كان التسابق بينهما لا يهدأ، ومعلوم مشهور أن الأسطول الإنجليزي حاول أن يسبق أسطول نابليون ويحول بينه، وبين احتلال مصر، فلما سبقه نابليون، ونزل إلى مصر، ظلّ يتحين الأسطولُ الإنجليزي الفرصة حتى انقض على الأسطول الفرنسي في خليج (أبو قير) وحطمه في تلك الموقعة المشهورة. ثم لما فشلت الحملة الفرنسية العسكرية على مصر وخرجت منها سنة 1801م، جاءت انجلترا بحملتها المعروفة بحملة (فريزر) سنة 1807م، ولما كان الشعب لم يدجَّن بعد، فقد رُدّت الحملة على أعقابها، مهزومة مدحورة.

    وظلت انجلترا على حالها، لم تنم عن هدفها في احتلال مصر، فتدسّست عن طريق القروض، والرشاوي، حتى جعلت على موطئ قدم، وأخذت تعمل بدأب حتى تمكنت من تحقيق مأربها، واحتلت مصر سنة 1882م أي بعد هزيمتها بخمسة وسبعين سنة. ولما سقطت مصر، سألت انجلترا رجلها الأول عما يلزمه لإحكام السيطرة على البلاد؟ فأجاب (كرومر): إني قادم بنفسي إلى لندن لهذا الشأن، وهناك لم يطلب من قيادته لا مزيداً من السلاح، ولا مزيداً من الجنود، وإنما طلب منهم خبراء في التربية والمناهج، فزوّدوه بالخبير الخطير (مستر دنلوب) الذي ظل مسيطراً على التعليم في مصر دهراً، يصوغ مناهجه، ويحدد أهدافه، وكان هذا استمراراً أو استكمالاً للسيطرة الفرنسية، بل كان هذا أكثر جرأة، وأكثر بشاعة، حيث تُسانده سيطرة عسكرية واحتلال كامل للبلاد، ومنذ ذلك اليوم أخذ (دنلوب) يضع للأمة نظام تعليمها، الذي كان من أثره ما عبّر عنه شيخنا محمود شاكر بقوله:" تخريج أجيال متعاقبة من تلاميذ المدارس، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بهذا التحول نحو الإعجاب المزهوّ ببعض مظاهر الحياة الأوربية، ونَقْد مظاهر الحياة في بلادهم، مع الإيمان بأن ما أعجبوا به عند الغرب هو سرّ قوّتهم، وأن ما عندنا هو سرّ ضعفنا وانه يارنا، وذلك عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والفنون والآداب، ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة." أ.هـ


    وتصديقاً لهذا اقرأ معي ما قاله العالم المصري الشهير (فاروق الباز) حين قال:" خرجت من التعليم المصري وأنا أعرف كل شيء عن جبال (روكي) في أمريكا، ولم أعرف شيئاً عن مناجم (أبو طرطور) في السويس."

    ثم نعود لكلام شيخنا الشيخ محمود شاكر:" وقد تولى نظام (دنلوب) تأسيس ذلك التدمير في المدارس المصرية، مع مئاتٍ من مدارس الجاليات الأجنبية، التي يتكاثر على الأيام عدد من تضُم من أبناء المصريين وبناتهم، وقد كان ما أراد الغزاة.

    ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمراً على ما أرادوا! بل ازداد بشاعة وعمقاً في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي ـ بظهور دعوات مختلفة، كالدعوة إلى الفرعونية، والفينيقية وأشباه ذلك، في الصحافة والكتب المؤلفة، لأن تفريغ الأجيال من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطاً بالعربية والإسلام، يحتاج إلى ملء بماضٍ آخر يغطّي عليه، فجاءوا بماضٍ بائد مُعرقٍ في القِدم والغموض، ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي الذي يوشك أن يتمزق ويختنق بالتفريغ المتواصل" أ.هـ وما قاله شيخنا الشيخ محمود شاكر شهد به الخبير التربوي المعروف الأستاذ حليم فريد تادرس، حيث قال: مخطئ من ظن أن نظام تعليمنا تغيّر أو تطور منذ وضعه (دنلوب)، فكل ما يقال عن تغيير أو تطوير هو حركة في إطار مشروع (دنلوب) ونظامه (من كلمة نشرها في جريدة الأهرام).

    ومن هذا الباب أيضاً ما كان يردّده الشهيد سيد قطب كثيراً:" إن الاستعمار لا يربض على شاطئ القناة، في المعسكرات التي تضم ثمانين ألف جندي بريطاني، وإنما الاستعمار الحقيقي يربض في شارع الفلكي" يشير بذلك إلى وزارة التربية والتعليم، حيث تقع في هذا الشارع.

    وكذلك قوله في مقالٍ له في مجلة الرسالة العدد 995 بتاريخ 28 يوليو 1952م:" إنني أنظر في تاريخ الاستعمار فلا أكاد أجد له اسناداً إلا من المتعلمين.. كل الرجال الذين قدّموا للاستعمار خدماتٍ ضخمة، الذين مهدوا للاستعمار، ومكّنوا له، الذين كشفوا له عن عورات البلاد ومقاتلها، الذين تولّوا عنه تحطيم معنويات الوطن، وقواه الكامنة، الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساويء الاستعمار ومخازيه... كلّهم كانوا من المتعلمين." أ.هـ.

    ولكن الذي صور هذا التدمير أبلغ تصوير وأبشعه، هو ما قاله أحد الذين خططوا له، وتولّوا كبره، ذلك هو (اللورد كرومر)، جاء ذلك في كتابه مصر الحديثة، ونقله عنه العلّامة أبو الحسن الندوي في كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، قائلاً:" إن اللورد كرومر الذي كان أكبر رائد إلى تغريب مصر، والعالم العربي بالتتبع، قد صور بنفسه الجيل المصري الجديد الذي نشأ في أحضان التعليم الجديد، وآمن بسيادة الغرب وفضل حضارته ومبادئه تصويراً صادقاً دقيقاً، قد ينسب إلى المبالغة والقسوة والتشاؤم، إذا صدر عن قلم مفكر إسلامي، أو عالم مسلم متحفظ، ولكن صدوره عن قلم رجل كان من أكبر دعاة التغريب في الشرق، يجرده من كل مبالغة وتهويل، ويضفي عليه قيمة علمية كبيرة، ويجعله وثيقة تاريخية تستحق كل اعتبار وكل اهتمام:

    "إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع، وكانت نتيجته الطبيعية أن وجدت جماعة من أفراد هم ((مسلمون)) ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن كانوا ((غربيين)) فإنهم لا يحملون القوة المعنوية، والثقة بأنفسهم، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي، والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوة بين عالم أزهري وبين أوروبي".

    أرايت؟ هذا هو تصوير أحد دهاقين التدمير والتغريب، لآثار فعله، وثمرة جهوده وجهده، لو قال هذا ـ عن المتغربين ـ أحدُ علماء الإسلام ودعاته، لاتهم بالتطرّف، والإرهاب، والتكفير، فهل توافق على ما قاله (كرومر)؟؟

    أنا شخصياً لا أوافق!! فما رأيك؟

    ليس هذا تفسيراً تآمرياً للوقائع والأحداث، ولكنه تصويرٌ للواقع بالأدلة والبراهين، بيانٌ لحقيقة الصراع الذي لا يهدأ، ولا ينتهي، سنة الله في خلقه، سنة التدافع "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة البقرة: 251).

    أعلم أن البعض سيقول: دائماً نعلق عجزنا وقصورنا على الآخرين، حتى جهلنا بتاريخنا وفساد مناهجنا، أين نحن؟ هل نحن دائماً مفعول بنا!! هل يستحيل علينا أن نكون فاعلين؟؟

    وأقول: إننا نفسِّر ولا نبرر، التفسير هو معرفة سرّ الظاهرة، وأبعادها وحدودها، التفسير هو التشخيص، والتشخيص هو الخطوة الأولى في العلاج.

    وأما التبرير فهو التماس الأعذار لما كان، وإعفاءٌ من المسئولية، وترضية بالواقع. ونحن لا نقول بذلك أبداً، بل إننا حينما نبحث عن جذور هذه العلل، ندعو في نفس الوقت إلى الثورة عليها، والتخلص منها، والاغتسال من أوضارها، وننعى على من استكان لها، ورضي بها أو ساعد على قبولها، ففي هذا التفسير حسابٌ ومؤاخذة أيضاً.

    ثم أمتنا لم تكن أبداً مستسلمة لما يُفعل بها، فالتاريخ يؤكد أن مشروع محمد علي لقي مقاومة عنيفة، ومقابلة بمشروعٍ تجديديٍّ من داخل ثقافتنا وتراثنا، ولكن السلطان محمد علي الغاشم، نكّل بقادة الرأي والفكر، ووأد مشروعهم، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا، وظل هذا المشروع حيّا إلى يومنا هذا يحمله رجالٌ أصلاء أظهار، وليسوا بأدعياء، جيلاً بعد جيل، منذ الشيخ عمر مكرم ومن معه إلى علماء الصحوة ودعاتها، الذين حفلت المكتبة الإسلامية بأعمالهم العلمية التي تحمل لنا كل يومٍ ما يضيء جوانب المشروع الحضاري الإسلامي، ويوضع قسماته، ويبين خطورة مشاريع التغريب والتخريب التي تبنّتها دولُنا منذ قرنين من الزمان، منذ عهد محمد علي سنة 1802م، فلم نحصد منها إلا ما نعانيه الآن من انهيار واندحار.

    فنحن ـ سواد الأمة ـ لم نستسلم يوماً، ولم يكن مفعولاً بنا، وإنما المأساة في القشرة المتغربة التي مُلئت أفواهها (هناك) كما قال (سارتر) وجاءت لتنطق نيابة عنهم هنا، هؤلاء هم الذين مُكِّن لهم من قيادة الفكر، والهيمنة على مناهج التربية والتعليم، ومنابر الإعلام، ومراكز التثقيف، وكما قال (سارتر):"يمنعون غيرهم من الكلام".

    ولكن مع كل هذا ظلت أمتنا حيّة فاعلة، وأبداً لن تموت.

    ومن عجبٍ أنهم دسّوا بضعة أسطر في كتاب التاريخ تقول:" إن عصر النهضة بدأ بحملة نابليون، حيث استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون، الذي جاء إلينا بأول مطبعة عربية، وأول مرسم للخرائط، وأول معمل للكيمياء".

    ومن أجل هذه الأسطر صار الغازي المبير الذي دخل الأزهر بخيوله، الذي هدّم القاهرة، وحرّقها، الذي كتب بخط يده إلى قوّاده في الأقاليم يقول لكل منهم:" اقتل كل يوم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة، وأقطع رؤوسهم، وأرْفعها على الرماح، وطُف بها في جميع أنحاء إقليمك، ثم انصبها طوال اليوم ليتحدث بذلك الناس، إنك إن فعلت ذلك، ملأتَ القلوب بالرعب والخوف، وألزمتهم الخضوع والخنوع، إنني أفعل ذلك كل يومٍ في القاهرة، فافعل مثلي".

    هذا السفاح المبير الذي زَيفّت صورتَه أسطرُ التاريخ لنا، حتى وجدنا حملة واسعة من جماعة المثقفين (الرسميين) تدعو للاحتفال بمرور مائتي على مجيء نابليون إلى مصر.

    هل رأيت في الدنيا كلها أمة تحتفل وتبتهج بذكرى مجيء غازيها؟ ولكنها العاطفة التي تصنعها بضعة أسطر في كتاب التاريخ.


    (2)

    قدمنا قبلاً الحديث عن بعض وسائل التدمير الخبيث لثقافة أجيالِ ما سُمّي (عصر النهضة)، وكيف تمّ تفريغ هذه الأجيال من ماضيها كله، وهَتْك العلائق بينها وبين ثقافةٍ كاملةٍ متكاملة، ومن ثمّ تشكيل وجِدانها، وتنفيرها من ماضيها، وتبغيضه إليها، وأشرنا إلى ما كان من مقاومةٍ لهذا التدمير، وأن تياراً قوياً من أبناء هذه الأمة، حاول التصدّي لهذا الطوفان المهلك، ولكن السلطة كانت بالمرصاد، فساندت مشروع التغريب والتخريب، وأعانها على ذلك ما جدّ من منجزات ومخترعات العصر، بحيث باتت الدولة قادرة على أن تتحكم فيما يسمع الناس، وفيما يقرءون، وفيما يشاهدون، وكيف يسمُرون، ولا يُسمح لأحدٍ أياًّ أن يقعد مقعد التوجيه والتعليم والتثقيف، أو يمتلك أية وسيلة من وسائل التوجيه والتعليم إلا بإذنٍ من الدولة، حتى خطبة الجمعة، حتى الدرس في المسجد، كل ذلك صار بيد الدولة، ودَعْ عنك ما ظهر أخيراً من شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، فإنها ـ مع قدرتها التي لا ينكرها إلا مكابر ـ لا تُغني غناء التوجيه المباشر، واللقاء المباشر، ثم إنها مازالت محدودة الإنتشار، لا تتاح لكل الناس.

    قلتُ: مع كل ذلك هناك تيار أصيل في الأمة لم يستسلم، ولم يتخاذل.

    ولم يخضع، ومازال ينادي بأعلى صوته (الإسلام هو الحل) وهذا تيار عريض يشمل ـ بأطيافه المتعددة ـ عامة أبناء هذه الأمة.

    * * *

    ولكن هل نجا هذا التيار تماماً ؟؟

    إن مما يفزعني ـ منذ عقودٍ من الزمان ـ هذا الخلل الخطير في ثقافة هذا التيار، فهو الذي نعلّق عليه الآمال، ولكن هذا التيار لم يسلم من هذا التدمير الثقافي، وأصابه منه شرٌّ مستطير، نراه في ثقافة علمائه ودعاته، فما بالك بمن دونهم!!

    إن موقف دعاة الإسلام وعلمائه من تاريخنا الإسلامي ليس أقل سوءاً من موقف العلمانيين، بل الشيوعيين الملحدين، بل إن عاطفة هؤلاء العلماء والدعاة، قد تكون أحياناً أشد وأقسى وأعنف تجاه بعض رموز التاريخ الإسلامي ورجاله، ذلك أنهم يحسبون هذا غيرةً على الإسلام، ودفاعاً عنه تجاه هؤلاء الحكام الذين استغلوا الإسلام وعبثوا به، كما شُبّه لهم.

    وقد مضى بي الزمن وأنا أتكلم في صفوف الإسلاميين منادياً بضرورة تطهير هذه الثقافة التاريخية من الأكاذيب التي يردّدها الدعاة، ويسطّرها العلماء، وتنقيتها من المبالغات البشعة، وعلاجها من القصور والنقص، وتنقيتها من سوء التفسير، وخطأ التعليل، وقد بدأتُ ذلك منذ عقود ـ كما قلت ـ ولكني كنت أُخافت به أول الأمر بين تلاميذي وأبنائي محاذراً أن يفهموا مني صراحة أني أخالف شيوخي وأساتذتي، ثم مع تقدم السن بدأت أرفع صوتي قليلاً، وبعد أن توجّنا المشيب صرت أصدع بها بصوتٍ عالٍ، ولكن أبداً لم أجرؤ يوماً أن أواجه أحداً من الشيوخ الكبار، بما قرأته له، أو سمعته منه، ذلك أني من الجيل الذي يعرف للأستاذ حقه، وللشيخ قدره، فقد كنا في أول نشأتنا إذا لقينا الأستاذ في الطريق، إن لم نستطع أن نتركه ونسلك غيره، تركنا له (لَقَمَ) أي وسط الطريق. (أستثني من ذلك موقفين ـ سيأتي ذكرها ـ فُرض عليّ فرضاً أردّ قول شيوخي).

    والآن وقد دعا داعي الرحيل، بدأ لي أن أحصر بعض ما سجلتُه مما دفع لي من كلام العلماء والدعاة بعامة، وشيوخي وشيوخ الدعوة بخاصة، حتى إذا جُمع ذلك في صعيد واحد ظهر خطره، وبدا حجمه، فيتنبه له الغافلون، ويعرف أثره الباحثون، فَيَنْهدُون إلى ما نرجوه من تصحيح، وتقديم، أما ترك ذلك مغموراً في علم أصحابه، مبثوثاً في ثنايا صفحات كتب مطولة، فغالباً لا يتنبه له أحد، ويُترك يفعل فعله كالسم الخبيث يقتل ولا يظهر له أثر. وأحب أولاً أن أؤكد عدة معانٍ:

    1.أنني ـ حاشاي ـ لم أذكر هذا عائباً قادحاً، فهؤلاء في جملتهم علماء عظام، تعلمتْ على يديهم أجيال، وما زالت كتبهم معالم يهتدى بها، وصُوىً على الطريق، وعيونٌ ثرَّة يمتع منها الباحثون، ويتكئ عليها الدارسون.

    2.ثم إن كثيراً منهم جمع بين العلم والعمل، فجاهد في سبيل الله، وأوذي فصبر، وامتحن فصابر، ومات مجاهداً والسيف في يده، فمن يستطيع أن يقدح أو يعيب هؤلاء؟؟

    3.إنني لن أصرح باسمهم (الآن على الأقل) للاعتبارات الآتية:

    أ ـ إن بعض قراء هذه الصحف اليومية من الناشئين ربما لم يكن قد قرأ لأحد من هؤلاء شيئاً، وقد سمع به وبجهاده، فإذا قرأ له الآن بعضاً من هذه الشناعات، لن يقرأ له شيئاً بعدُ، فنكون قد ارتكبنا جُرمين:

    أحدهما أننا حُلنا بين هذا الفتى وبين كتب الشيخ وعلمه.

    وثانيهما ـ أننا نكون قد وقعنا فيما ننهي عنه من أن نعرض لشخصيةٍ ما من جانب واحد، فننقصها حقها، فما ظنك لو كان هذا الذي نعرضه ونجلّيه هو هفوة أو سقطة، لا تساوي شيئاً في جنب علم صاحبها، بل مغمورة في بحرة، كما قيل.

    ب ـ إن حُبّ هؤلاء ـ لا شك ـ قد سبق وامتلك قلوب الكثيرين ممن سيقرءون هذا الكلام، فإذا رآنا ننسب لهم شيئاً من الأخطاء أو المآخذ، فسَيَلْوي عنقه وينصرف عنك، ولن يسمع لك، هذا إذا لم تدفعه عاطفته إلى الغضب والثورة لشيخه، واتهام من يعيبه بأنه يبغي الصيت والسمعة والعياذ بالله (تذكر: حبك الشيء يُعمي ويُصمّ).

    ج ـ إننا لسنا في مقام تقويم ومحاسبة، حتى يلزم لإحقاق الحق نسبة كل زلل أو وهمٍ إلى صاحبه.

    د ـ إن كل ما يعنينا هو بيان حجم هذا الخلل والخطر، وبيان خطئه وخلله، لا يعنينا مَنْ قاله، وعمن صدر، وهذا يتيح لنا مشاعر محايدة عند المتلقي أعني القارئي، فنيسّر له أن يناقش المسألة بمنجهية علمية غير واقع تحت أي تأثير.

    هـ ـ إن هذا أقرب إلى منهج السنة النبوية الذي تعلمناه من النبي صلى الله عليه وسلم:" ما بال أقوام يقولون .... أو يفعلون ..." فالغاية تصحيح الخطأ بصرف النظر عن صاحبه.

    و ـ إن ما يقال عن (المنهج) و(التوثيق) لا يمكن أن يكون له مكان هنا إذا أحسنا قراءة البنود السابقة وتدبرناها.




    (3)


    في الكلمة السابقة بينا أن أحداً لم ينج من آثار هذا التخريب والتدمير الثقافي، ولا حتى علماء الإسلام ودُعاته، وقلنا: إننا سنجمع شيئاً مما سجلناه من واقع كتبهم، حتى يكون دليلاً على خطورة أثر هذا الذي كان، كما قلنا: إن منهجنا عدم التصريح باسم أيٍّ من هؤلاء، ووضحنا سرّ هذا المنهج، واليوم نبدأ بعرض ما يتيسر من هذه النصوص.

    أ ـ أستاذ جليل، وعالم من علماء الإسلام، شُغله العقيدة، والفلسفة والفكر، يقول في مقدمة كتابه:"... ولم يكن الإسلام ديناً مغلقاً، بل سرعان ما انفتح العالم الإسلامي لكل داخل فيه، (وسنرى بعدُ أحدَ خلفاء الأمويين ـ وفي الأمويين روحٌ جاهلية عمياء ـ يضيق صدره حين يسمع أن العدد الأكبر من المحدّثين والفقهاء والمعاصرين له هم من الموالي، أي من أصول فارسية)، وقد كانت الحرية الفكرية ميزة الحكم الإسلامي في البلاد المفتوحة، وقد دعت هذه الحرية الكثير من أبناء الأمم المغلوبة إلى عرض آرائهم ومعتقداتهم، بل إلى مناقشة المسلمين في عقائدهم...الخ" أ.هـ بنصه

    فأنظر هذه العبارة (وفي الأمويين روح جاهلية عمياء) وتأمّل، تلاحظ ما يأتي:

    1.أن العبارة جاءت بهذا الحكم القاسي القاطع بأسلوب التعميم (الأمويين) والتعميم ليس أسلوباً علمياً، كما يعرف ـ لا شك ـ أستاذ المناهج.

    2.أن الكتاب في تاريخ الفكر، وليس في التاريخ السياسي.

    3.أن العبارة عن بني أمية كلها مقحمة في السياق، ولا تُضيف معنى يختل الكلام بدونه، أو يقصر عن أداء الغرض منه، فلو حذفتَ العبارة كلها، وقلت:" لم يكن الإسلام ديناً مغلقاً، بل سرعان ما انفتح العالم الإسلامي لكل داخلٍ فيه، وقد كانت الحرية الفكرية ميزة الحكم الإسلامي....الخ".

    انظر، وتأمل الكلامَ بدون هذه العبارة المحذوفة، تجدْه ـ لا شك ـ أكثر استقامة واتساقاً، ووضوحاً.

    4.إن بناء العبارة المحذوفة بهذه الصورة من تقديم وتأخير، وألفاظ قاسية مثل: (روح جاهلية + عمياء + يضيق صدره)، كل هذا ـ كما يقرر علماء البلاغة ـ يشهد بقوة العاطفة الكامنة وراء هذه الألفاظ، فعاطفة البغض لبني أمية التي نشأ عليها العالم الجليل، هي التي جعلته يقذف بهذه (العبارة) بهذه الحدة، وبهذا العنف، من غير أن يكون لها مجال أو مناسبة.

    5.أن خطورة مثل هذه الأحكام القاسية التي تصدر على هيئة مسلّمات وبدهيات، في كتابٍ مثل هذا ـ أخطرُ من العبارات المطوّلة والكلام المفصل في شأن الدولة الأموية أو الأمويين، فحيث يكون الكلام مطوّلاً متصلاً تتاح الفرصة للنظر في الأسباب التي أدت إلى الحكم المستخلص منه، أما إلقاء هذه الأحكام القاسية هكذا على هيئة مسلّمات، فذلك أبعد أثراً، وأقرب إلى القبول والاستقرار في ذهن المتلقي، وهذا هو ما يعبر عنه علماء التربية بالخبرة المصاحبة، أو التعليم المصاحب.

    6.ومن أعجب العجب أن العبارة التي حكاها عن أحد الخلفاء الأمويين، وبنى عليها هذا الحكم البشع ليس لها سند، ولا أصل لها بهذه الصورة.

    7.ثم على فرض صحتها، فهل تُثبت أن في الأمويين (روحاً جاهلية عمياء)؟؟

    8.والذي لا ينقضي منه العجب أن الكتاب الذي يقدم له عالمنا الجليل هو عن المنهج العلمي، أو مناهج التفكير، فهل من المنهج بناء هذا الحكم على مقدماتٍ باطلة؟

    فما سرّ كل هذه الثورة؟ أو سرّ هذه البغضاء لبني أمية التي جعلته ينسى أوّليات المنهج؟ أليست سطور التاريخ وراء كل ذلك!!

    ب ـ وعالمنا الجليل هذه المرة ممن يشتغلون بالدعوة أيضاً، ويشارك في الصحف والمجلات بجهدٍ بارز في تجلية مكارم الشريعة، وتوجيه الشباب.

    ثم هو أيضاً من (المحققين) الذين يعملون بتحقيق كتب التراث، ومعنى ذلك أنه ممن يعرفون لتاريخ هذه الأمة حقه، ويرعَوْن قدره.

    نجد شيخنا هذا يحقق كتاباً تراثياً يحوي تراجم لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، من بينهم الصحابي الجليل أبو ذر، وفي الحديث عن وفاة أبي ذرّ يأتي ذكر (الرَّبذة) فيقوم المحقق الجليل بالتعريف بها في الهامش على هذا النحو: (الرّبذة) بُليدة قرب المدينة، وفيها مات أبي ذرّ، ودفن بعد أن نفي من المدينة" أ.هـ بنصه.

    لعلّك تسرع بالتساؤل: وماذا في ذلك؟ وما الذي تأخذه على هذا العالم المحقق؟

    والجواب: أن ترجمة أبي ذرّ في صلب الكتاب الذي يحققه، تؤكد أن أبا ذرّ لم يُنف، بل خرج إلى الرّبذة مختاراً، ويستدلّ مؤلف الكتاب على ذلك بدليل قاطع، بحديثٍ رواه البخاري عن أبي ذرّ ينكر فيه أن يكون عثمان قد أخرجه!!

    يقرأ المحقق ذلك، ولكنه لا يقع منه موقعاً، بل يذهل عنه كل الذهول، ويغطي على ما قرأه بعينيه مخزونُ ذاكرته، ومكنون عاطفته، فلا يرى ما قرأه بعينيه، نعم لم ير ما قرأ، وإلا فقد كان عليه أن يناقشه ويعلق عليه إذا لم يقتنع به دليلاً، أو لا يخط بيده أنه نفي إذا اقتنع بما قرأ دليلاً.

    ولكنه لما قرأ ولم ير كان ما كان، فكتب في هامش الكتاب ما يناقض ما في صُلبه.. وهل يكون ذلك إلا لأنه قرأ ولم ير!!

    وسرّ ذلك أنه نعلّم، وقرأ، وسمع مئات المرات أن عثمان نفى أبا ذرّ الصحابيّ الزاهد، والإنسان النبيل يتعاطف دائماً مع المظلوم، ويكره الظلم والظلمة، فاستقرّ في عقل الشيخ الجليل، منذ الصغر، أن أبا ذرّ مات غريباً منفياً مظلوماً، وعن هذا اشتعلت العاطفة تجاه طرفي القضية كلٌّ بما يستحق، فإذا قرأ ـ بعد أن شب على ذلك وشاب عليه ـ أن عثمان بريء، وأن أبا ذرّ لم ينف كيف يستوعب ذلك؟

    هذا ما أراه تفسيراً لذلك (إنه قرأ ولم ير)، أما أن يقول قائل: إنه لم يقرأ النص الذي يحققه، فهذا اتهام خطير لا أملك أن أوجهه إليه، بل أُجل الشيخ المحقق عنه. وأجزم أن الشيخ يقبل أن يقال فيه (قرأ ولم ير ما قرأ) أي لم يقع في إدراكه، بل أعمته عاطفته (حبك الشيء يُعمي ويُصم)، يقبل الشيخ المحقق أن يقال فيه هذا ولا شك، ولا يقبل أن يقال: إنه لم يقرأ، وزعم أنه حقق. حاشاه.



    (4)

    والحديث عن خطورة التاريخ، وأثره في انبعاث الأمم ما زال موصولاً، فنقول: إن ما عرضنا لطرفٍ منه، وأشرنا إليه من الكيد والتدبير لتشويه تاريخنا، يدخل في باب (التضليل المعلوماتي) وإذا كان التضليل المعلوماتي قد أصبح علماً له نظرياته، ومدارسه، وتطورت وسائله، وتنوعت مجالاته.

    ولا يستطيع أن ينكر ذلك عاقل، فليس معنى ذلك أن التضليل المعلوماتي لم يظهر إلا في هذا العصر، بل لقد كان موجوداً من قديم، ويمارس بطرقه ووسائله المتاحة حسب الزمان والمكان، وإن لم تكن قد صيغت نظرياته ومفاهيمه، وتحددت قواعده، وتمايزت مدارسه، شأنه في ذلك شأن جميع العلوم الإنسانية، تنشأ وتمارس، ويعيش بها الناس ما يشاء الله لهم أن يعيشوا، ثم ينشأ العلم بعدُ، كعلم الخدمة الإجتماعية مثلاً.

    وآية ذلك ـ أعني استخدام التضليل المعلوماتي قديماً ـ ما كتبه الفيلسوف الفرنسي المعاصر رجاء جارودي، قال:" في إحدى صفحات الكتاب الرائع لأناتول فرانس (فوق الحجر الأبيض) يوجّه أحدُ المؤرخين سؤالاً إلى مدام نوزبير: ما أتعس يوم في تاريخ فرنسا؟

    ولم تكن مدام نوزبير على علمٍ بهذا اليوم، وعندئذٍ قال لها المؤرخ: إنه عام 732م، إنه العام الذي جرت فيه معركة بواتيه، التي هزم فيها المسلمون، ولم يستكملوا دخلوا فرنسا، في هذا اليوم انهزمت الحضارة العربية أمام البربرية الفرنسية، ولولا هذا اليوم الأسود ما عاشت فرنسا قروناً متطاولة في ظلام العصور الوسطى حتى سطعت عليها شمس الحضارة" أ.هـ كلام أناتول فرانس في كتابه الرائع.

    ثم يكمل جارودي قائلاً: هذا النص يثير في نفسي ذكرى لذيذة، إذ كنت في تونس سنة 1945م، وأثناء محاضرة لي عن ابن خلدون ذكرت هذا النص من كتاب أناتول فرانس ـ الذي كان وقتئذٍ مقيماً عاماً في تونس ـ أي حاكماً عاماً لها، إذا بهذا الحاكم العام يأمر بطردي من تونس، بدعوى الترويج للدعاية ضد فرنسا، وكان لهذا الحدث دلالة ومغزى.

    من وجهة النظر الاستعمارية، فإن مجرد تذكير المستعمرين (بفتح الميم) بعظمة ماضيهم وثقافتهم، كان يعتبر إهانة للاستعمار، وخطراً يهدده." انتهى كلام جارودي، وهو غني عن أي تعليق.

    وفي عهد الاستعمار في إحدى دول الشمال الإفريقي كان أستاذ الفيزياء الأجنبي يدرس نظريات الضوء، ويستشهد بكلام عالم قديم مبتكر اسمه (الهازان) ويذكر تاريخ ابتكاراته ونظرياته، فسأله أحد تلاميذه: من هو (الهازان) هذا؟ فكلفه الأستاذ بالبحث عنه، ووجهه إلى بعض الكتب الأجنبية في تاريخ العلم، واستطاع الطالب النجيب أن يصل إلى حقيقة (الهازان) فإذا هو (الحسن بن الهيثم)، ولما عاد إلى أستاذه بهذه الحقيقة، لاحظ أن أستاذه الأجنبي لم يعد أبداً يذكر اسم (الهازان) وإذا اضطر إلى الحديث عن نظرياته، يشير إليها من غير أن يذكر اسم صاحبها. فكيف يذكر هؤلاء بأمجادهم؟ وكيف يضخ في عروقهم دماء الاعتزاز بإسلامهم.

    ولكي نتأكد أن هذا التضليل التاريخي أمر مقصود، اعلم أن صك الانتداب الذي كلفت به عصبة الأمم انجلترا بحكم فلسطين وإدارتها، كان صك الانتداب هذا ينص في مادته (رقم 21) على أن تضع الدولة المنتدبة، وتنفذ في السنة الأولى من هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالتنقيب عن الآثار، والعاديات يتضمن....الخ" أي أن من عمل الدولة المنتدبة بعث تاريخ ما قبل الإسلام، والاحتفاظ بآثاره، والعناية بعادياته.


    وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألفوا في خلال الحرب الكونية الأولى لجاناً في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ بلاد الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان، أما تاريخ سورية، فقد كلف الآباء اليسوعيون ثلاثة من رهبانهم سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة عصور، العصر الأرمي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر العربي.

    ومن هذا الباب أن الثري الأمريكي (روكلفر) أعلن في سنة 1926م عن تبرعه بمبلغ عشرة ملايين أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، على أن يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لإتمام هذا التبرع أن يكون المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة من ثمانية أعضاء ليس فيها من المصريين إلا اثنان فقط، وأن يستمر هذا الإشراف لمدة ثلاث وثلاثين سنة، ولما رفضت مصر شرط الإشراف هذا، قبض يده وامتنع عن التبرع.

    وفي سنة 1932م ظهر كتاب (إلى أين يتجه الإسلام؟) وهو في الواقع ليس كتاباً، بل هو تقرير شاملٌ فاحصٌ باحثٌ عن حالة العالم الإسلامي، وما يموج فيه من تيارات، اشترك في إعداد هذا التقرير مجموعة من الخبراء الأكاديميين وكبار المستشرقين، وقام بتحريره والإشراف على إعداده المستشرق الإنجليزي المشهور. هـ. ا. جب. ويصرّح جب في مقدمته بأن الاهتمام بدراسة الإسلام ناشيء عما يعرفونه من سيطرة تعاليمه على المسلمين، ثم يقول:" وهذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف يحيط بأوروبا إحاطة محكمة تعزلها عن العالم، ومن هنا وجب علينا الاهتمام بهذا العالم ودراسته على هذه الصورة".

    ثم يعود فيقول في الفصل السادس والأخير ما نصه:" وقد كان من أهم مظاهر تغريب العالم الإسلامي وفرنجته تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر، وفي إندونيسيا، وفي العراق، وفي فارس... وهذا من الممكن أن يلعب دوراً مهمّاً في تقوية الوطنية الشعوبية، وتدعيم مقوّماتها" أ.هـ. بنصه.

    وهذا كلام واضح مبين يكشف عن أن بعث تاريخ الوثنيات الجاهلية قبل الإسلام في بلاد العالم الإسلامي لم يكن عفواً، وإنما كان شيئاً يُراد، ويُثبت أن هذه الشعوبية البغيضة، والقُطرية الضيقة التي مزقت الأمة شر ممزق، كانت عملاً مقصوداً، وكيداً بليل.

    وفي مدينة (بلتيمور) بأمريكا عقد مؤتمر في سنة 1943م للمبشرين، كان من ضمن قراراته:" مضاعفة الجهود المبذولة في توجيه الدراسات للتاريخ الإسلامي، نحو إعلاء شأن ثورة الزنج والقرامطة والباطنية، وتصويرها على أنها حركات تقدّمية تمثل العدل الإجتماعي في وجه الخلافة الإسلامية الفاسدة التي يظاهرها علماء سوء فاسدون مفسدون" أ.هـ بنصه.

    أرأيت؟ ألا يشهد هذا بقيمة التاريخ، وأثره في صناعة حاضر الأمم ومستقبلها!!! وإن لم يكن هذا كله كافياً، فانظر حولك، وتأمل هذه الضجة التي تقيمها الدولة العظمى التي بلغ من قوتها أنها ترمي بجنودها، وأساطيلها، وطائراتها حيث تشاء، لا يقف في وجهها أحد، هذه الدولة بهيلها وهيلمانها تتحرك لوقف مسلسل تلفزيوني تاريخي، وتُرعد وتبرق، وتُرغي وتُزبد، من أجل وقف مسلسل (الشتات) وتخضع الدولة التي أنتجته، فلا تجرؤ على عرضه، انظر، وتأمل كيف يهزّ مسلسل تاريخي هذا العملاق الأمريكي العظيم الذي يُرهب العالم، ولكنه يرتعد من التاريخ.


    (5)


    قد ذكرنا أن تشويه التاريخ الإسلامي أدى إلى حدّ تربية عاطفة البغض والكراهية، والنفور والازدراء عند كل من درس التاريخ الإسلامي بهذه الصورة الشوهاء.

    واليوم نكشف زيف بعض هذه الافتراءات، التي أورثت دراستها عاطفة من الكراهية للأتراك، والخلافة العثمانية، حتى صار من البدهيات والمسلمات التي تبنى عليها الأحكام، وتقام عليها النظريات.

    تعصب العثمانيين وغلظتهم!


    صار ذلك أمراً مسلّماً، غير قابلٍ للنقاش، حتى إنك تجد الذين يعدّدون اسباب ضعف الدولة العثمانية وانهيارها، وتكالب الدول الأوربية عليها، تجدهم يعدّون تعصب العثمانيين وغلظتهم أهم هذه الأسباب.

    والواقع عكس ذلك تماماً، فقد كانت الدولة العثمانية أكثر تسامحاً مع المسيحيين من مذاهب المسيحيين بعضهم مع بعض، ولا أستطيع أن أثبت لك ذلك بأقوال مؤرخين من الأتراك، أو من العرب، أو من أي مسلم، ولكني أقدم لك شهادة مؤرخين وباحثين أوروبيين، هم بالطبيعة يتحاملون على الأتراك، ولكن الحقيقة بلغت من الوضوح حدّاً لم يستطع إنكاره، فها هو الباحث الأوربي الشهير (توماس أرنولد) يتحدث عما لاقاه الأرثوذكس من طائفة الكاثوليك ويوازن بين ما يلقاه المسيحيون من الأتراك، وما يلقاه المسيحيون بعضهم من بعض، فيقول:" إن المعاملة التي أظهرها الأباطرة العثمانيون للرعايا المسيحيين ـ على الأقل بعد أن عزوا بلاد اليونان بقرنين ـ لتدل على تسامح لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفاً في سائر أوربا، وإن أصحاب Calvin في المجر وترانسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد Unitarians من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنوا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي.

    وحدث أن هرب اليهود الأسبانيون المضطهدون في جموع هائلة فلم يلجئوا إلا إلى تركيا، في نهاية القرن الخامس عشر، كذلك نرى القوازق Cossaks الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء Old Believers الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية، قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية".

    ثم يشير إلى ما تتمتع به الكنائس التي تقع تحت حكم السلطان العثماني من حرية، وما تلقاه من رعاية، وما يجده بطارقها من حماية، فيضرب (مقاريوس) بطريق كنيسة أنطاكيا (وهي تحت نفوذ العثمانيين) مثلاً يحسده الآخرون على ما ينعم به، ويتمنون أن ينالوا حظه. فيقول:"وربما كان يحق لمقاريوس بَطْريق أنطاكية في القرن السابع عشر أن يهنئ نفسه حين رأى أعمال القسوة الفظيعة التي أوقعها البولنديون من الكاثوليك Catholic Poles على روسي الكنيسة الشرقية الأرثوذسكية. قال مقاريوس:" إننا جميعاً قد ذرفنا دمعاً غزيراً على آلاف الشهداء الذين قتلوا في هذه الأعوام الأربعين أو الخمسين على يد أولئك الأشقياء الزنادقة أعداء الدين وربما كان عدد القتلى سبعين ألفا أو ثمانين الفا. فيا أيها الخونة! يا مردة الرجس! يا أيتها القلوب المتحجرة! ماذا صنع الراهبات والنساء؟ وما ذنب هؤلاء الفتيات والصبية والأطفال الصغار حتى تقتلوهم؟ ولماذا أسميهم البولنديين الملعونين؟ لأنهم أظهروا أنفسهم أشد انحطاطاً وأكثر شراسة من عباد الأصنام المفسدين، وذلك بما أظهروه من قسوة في معاملة المسيحيين، وهم يظنون بذلك أنهم يمحون اسم الأرثوذكس."

    وبعد أن يلعن البولنديين الكاثوليك، كِفاء ما كان من فظائعهم، وقسوتهم، يدعو للدولة العثمانية بدوام البقاء، فيقول:" أدام الله بقاء دولة الترك خالدة إلى الابد.. فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان، سواء أكان رعاياهم مسيحيين أم ناصريين، يهوداً أو سامرة: أما هؤلاء البولنديون الملاعين فلم يقنعوا بأخذ الضرائب والعشور من إخوان المسيح، بالرغم من أنهم يقومون بخدمتهم عن طيب خاطر، بل وضعوهم تحت سلطة اليهود الظالمين أعداء المسيح الذين لم يسمحوا لهم حتى بأن يبنوا الكنائس، ولا بأن يتركوا لهم قساً يعرفون أسرار دينهم". حتى إيطاليا كان فيها قوم يتطلعون بشوق عظيم إلى الترك لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبل بالحرية والتسامح اللذين يئسوا من التمتع بهما في ظل أية حكومة مسيحية".

    وهذا كلام مُبين ناطق بسماحة الأتراك مع الأديان المخالفة، بل إن (توماس أرنولد) حكى عن شهود عيان كيف كان المسيحيون يدخلون طوعاً في الإسلام، ويتمتعون بمنزلة ومكانة ونفوذ في دولة الخلافة العثمانية.

    فهل تُرى هذا الكلام يفيد في تغيير النظرة إلى العثمانيين، أم أن (سلطان العاطفة) يحول دون الفهم وتفتح القلب والعقل؟؟

    أملي كبير في الشباب، أما شيوخنا الذين تخطوا مرحلة التكوين فهيهات هيهات، فالأستاذ الجامعي الأكاديمي الذي يتحدث عن فظاعة الأتراك، وأنهم لم يكتفوا باستعمار الدول العربية بل استعمروا أوروبا أيضاً أسوأ استعمار.

    فهل من يقول مثل هذا بقادرٍ على أن يتغير؟
    التعديل الأخير تم 04-04-2010 الساعة 01:15 PM
    {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا، فستعلمون من هو في ضلال مبين}


  2. #2

    افتراضي

    بارك الله فيك أخي على هذا النقل الطيب

    صحيح كل ما ذكرته في مقدمتك الجميلة.

    قرأت لابن تيمية مرة أن المسلمون لما فتحوا الأمصار فتحوها لرفع الظلم عن الناس.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الصور الحية للأخرة من القرآن العظيم
    بواسطة Saber Abbas في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 34
    آخر مشاركة: 02-19-2012, 09:38 PM
  2. منقول: لماذا تكثر المصطلحات الأجنبية في مقالات الباحثين المسلمين؟
    بواسطة محب أهل الحديث في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-02-2011, 04:02 PM
  3. إعلان: علوم مهمة للقائم بالانتصار للقرآن العظيم
    بواسطة أمةُ الله في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-23-2011, 02:35 PM
  4. مجموعة مقالات مهمة حول القرآن واللغة العربية
    بواسطة الفرصة الأخيرة في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-28-2005, 11:12 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء