أفيقي
أيتها الأمة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
حينما يقدَّر لأمة أن تـَفيق من أزمنة التخدير والسبات ، فإن التاريخ ينحو في اتجاه هذه الإفاقة ، وتـَلوي حركتـُه العِنان ، ويستدير الزمان ..
وتلك من سنة الله في الأكوان والإنسان .. فإن الله مع المستيقظين ، الباحثين عن مقعد عز ، وموطيء قدم ، في دنيا اللـُّغـوب والصراع ، والتدافع من أجل تنازع البقاء , وإحداث التغيير والتجديد , وإعادة البناء ..
وإن أمتنا الحبيبة واحدة من هذه الأمم ، التي يجب أن تنهض من كبوتها وتصحو من رقدتها ، بعد هذه الغيبوبة الحضارية التي طال أمدها ومداها .. حيث سيطر أكابر المجرمين والمجانين ، على هذا الكوكب وسكانه المنكوبين ، وصارت الذئاب البشرية المسعورة ، رعاة الأمم والغنم والقيم ، وأشبعوا دنيانا هذه : فتكاً وهتكاً ، ومصادرة لكل كرامة وآدمية وحرية , وصبغوا العالم بصبغة الدم والوحشية والـجاسوسية , ودمروا القيم الإنسانية , وفرغوا الكون من محتواه الإلهي المقدس ..
ونظرة واحدة وفاحصة إلى واقع العالم ، ترد الطرف حسيراً وخاسئاً، وتـُدمي العين والقلب : أسىً وحسرة على العباد الذين صهرتهم حضارة الحديد والنار ، والنفط والفحم الحجري ، والإباحية التي زلزلت العقول والقيم ، والأخلاقيات والمجتمعات , ودنست كل مقدس وضمير حي ..
وحيثما ذهبت في عالمنا الراهن ، فإنك واجد أكبر النـِّسب والإحصائيات للجرائم والجنايات ، التي ترتج لها السموات ، وتـُزهق الأرواح بدون حساب ، وتترك كثيراً من البشر أيتاماً وثكالى ، وصرعى البغي والتآمر ، وأشلاءَ الفتن والحروب العبثية التي لا معنى لها ، وهائمين في كل أرضٍ عَراءٍ ، وتحت كل سماء ، وباقي البشر في الأرض يصفقون ويرقصون ، على أنغام الموسيقى الصاخبة ، والأغاني الساقطة ، فوق ضحايا العار ، وجثث موتى العرض والشرف والانتحار .. ( حفلات خزي وجنس ونار ) .. تـَنعي إلينا بقايا الوجدانيات , وحياة الأطهار ..
وإن أمتنا ليست في منأى ومعزل عن كل ذلك ، وآن لها أن تستبصر وتـَفيق من سكرة الشهوات والموبقات ، والعيشِ خارج نطاق المنطق والمعقول ، والمقبول من شأفة الحياة , وقيم السلوك الإنساني ..
فيأتي هذا النداء في اليوم العصيب ، يحمل من معاني التذكير والتنبيه والإيقاظ ، ما فيه الكفاية والغَناء ، لإحداث ذكرى قد تنفع المؤمنين .. عملاً بقول الله تبارك وتعالى .. ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ..
في البداية انقسام الأمة :
مما هو واضح لدى التأمل والنظر ، أن هذه الأمة منقسمة إلى جماهيرَ متوزعة الولاء والانتماء ، وبصورة تدعو إلى الحزن والـرِّثـاء ..
فهذه جماهيرُ لكرة القدم وأبطالها المشهورين ، ومعاركها وانتصاراتها الوهمية الغـُثائية .. ( غيبوبة وغثيان واستهلاك الإنسان ) ..
وهذه جماهير لأنواع آخرى من اللـُّعب والألاعيب ، التي لا حصر لها .. وجماهير للأغاني والمغنين والمغنيات ، من كل فن ولون !..
وجماهير للمذيعين والمذيعات وبرامج كل منهم ، وللقنوات الفضائية وما تبثه من مختلف العروض والمشاهد ، التي تستثير الفضول ، وتشد الناظرين ، وتستدرج اهتماماتهم دون جدوى .. بل إن الضرر متحقق على البصر والدماغ والوقت ، والذات والنفس ، والمشاعر والعواطف أيضاً ..
وجماهيرُ لمشايخ الطرق ، والوعاظ الدينيين المحترفين ، ولكتاب الروايات والمسرحيات ، ولمتابعة الأفلام والممثلين والممثلات والمسلسلات ..
هذا بالإضافة إلى جماهيرَ للأحزاب ، ولرجال السياسة والحكم ، وقادة المجتمع ، وكل ملتزمي الولاءات الخاصة ، في هذه الدنيا العريضة والمريضة ، التي تصطخب فيها الفتن والمصالح ، وتعبث الأيدي الخفية , كأنها أمواج البحر ، وأعاصير النار ، والعصى السحرية !..
وللظالمين جماهيرهم ، وللمفسدين في الأرض عشاقهم ، ولكل ناعق أبناء ومشجعون ، وفوق كل أرض هواة وغواة ومهووسون ، يُدفع بهم في كل طريق واتجاه ، ولا تكاد تجد من هو عُطـْلاً وسالماً من هذه الحبائل والمصائد ، والمطبات المُرْدية في مكان سحيق .. ومصرع حقيق ..
ولكل ساقطةٍ لاقطة ، ممن فقدوا عقولهم وتوازنهم ، وباعوا أنفسهم ووجودهم بثمن بخس ، أو بدون ذلك من الأوهام والترهات ، وتسويلات النفوس الأمارة بالسوء ، والأبالسة المارقين , والمنتجين للإثم والمبدعين..
كان المجتمع خاماتٍ من الطيبة الفطرية ، حتى تم تصنيعه على هذا النحْو والمنوال ، وقـُدمت له قناعات واهتمامات ، ونـُسجت له أساطير وخرافات وموبقات .. فتوزعت ولاءاته وانتساباته ، وصيرته مجرد تركة متروكة وجاهزة ، يتناهبها الطامعون ، ويتداولها الأذكياء والقادرون ، ومَنْ وراءهم من المخرجين والمخططين والمنظـِّرين ..
أمة الغـُثاء والغباء :
لقد تمكن أعداء الإسلام والأمة ، من دفع العرب والمسلمين في طريق الهبوط والسقوط ، وحياة الإفلاس والقنوط ، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها .. ( 1914 ـ 1918 م ) ..
ومنذ القديم تكونت أمة الغثاء ، التي كانت بلاء مقيماً على الصادقين من المؤمنين ، وباباً يعبر منه المستعمرون ، ويوقعون بنا أفدح الخطوب المروِّعة ، والمصائب المذهلة ، التي سجلها التاريخ بمداد الدم والدمع ، والـشـِّلـْو الممزَّع ، والرعب والإرهاب المقـنـَّع ..
وفي هذا العصر , تعاظمت هذه النوعية الخطرة ، وتفاقم أثرها المقـوِّض والمدمِّر على الدين والحق واليقين ، ووجود الصالحين والمخلصين ، والمجاهدين والمرابطين .. أعني أمة الغثاء هذه ..
إن المنافقين والمنافقات ، والانتهازيين والوصوليين ، وكبار المفسدين في الأرض ، والوالغين في حمأة الفجور والخمور ، هم الذين يُطلق عليهم : أمة الغثاء والغباء والعماء ، وهم الطريق الممهَّد والمعبَّد إلى حياة الذل والضَّعة والهوان والشقاء , ويا بؤسى الذين تقودهم أمة الغثاء ..
ومما يُلحق بأمة الغثاء هذه ، ما قد نشأت في هذا الوقت ، من ناشئة التبعية المذلـَّلة والذليلة ، لما يدندن به الساقطون من أعداء الله من لغات ومصطلحات ونظريات : سوقية وإباحية ومزاعم تقدمية ، وإشكاليات وهمية ، من الأدب المكشوف ، والفن الراقص ، والقلم التافه ، واللسان الهارف ، والإعلام الغير هادف ، وكل ما ليس مفهوماً من الشعر والنثر ..
وهذه هي البضاعة التي يسوَّق لها في سوق الإبداع الأدبي المجْني عليه ، والمشار بكل الأصابع إليه , وكلٌّ عاكف في بابه وأعتابه !..
ولا تسل بعد ذلك عن الذين يختانون أنفسهم ، ويخونون الله ورسوله والمؤمنين ، ويخونون أماناتهم ، حينما يتولون الكافرين ، ويتخذونهم أولياء وأصدقاء ، ويعاملون أبناء جلدتهم على أنهم أعداء وخصوم لهم ..
أمة الإجابة والإنابة :
وفي المقابل فإن هناك قلة قليلة ، ونسبة غير كبيرة ، لجمهور متميز عن تلك الأمة الغثاء ، يحاولون وسط هذا اللهيب والحميم ، أن يعيشوا لله تبارك وتعالى : مؤمنين به وواثقين ، وعابدين له ومعتزين ، ومتمسكين بالإسلام : عقيدة وشريعة ، واعتصاماً بحبله ، واهتداء بهديه ..
وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم : أمة الإجابة والإنابة ، وهم الذين تحرروا من ربقة العادات والتقاليد ، والهبَّات الانفعالية والسطحية ، وطريقة المائعين والمخادعين والمداهنين ، وواجهوا ضيم الحياة ، وضغوط الفاسدين بصبر وثبات ، ومقاومة ورفض لمقولات الخنوع والاستسلام ، ومنطق التسيب والهزل والضياع ، ولم يتبعوا أي مهرج وناعق وممثل ، وضليل وأثيم ، وبائعٍ لسانه وقلمه للشيطان الرجيم ..
وبطبيعة الحال ، فإن ما هو أكثر من مليار عربي ومسلم ، على ظهر هذا الكوكب ، ليسوا بمستوى واحد ، ولا يشكلون نسيجاً متناسباً ، وليسوا على قلب رجل منهم .. بل هم أوزاع وأهواء ، منهم الغادرون ومنهم الأوفياء ، ومساعيهم شتى ، وسعيهم مختلف ، ولكل مرجعية ومصدر .. وهذا كله واضح وضوح الشمس ، ولا يحتاج إلى ذكاء وفكر..
وحينما نمدح هذه الأمة ، ونعتز بها وبتاريخها المجيد ، فإنما نقصد إلى الغيارى والأحرار ، والمجاهدين والمناضلين ، والقائمين على العهد والذمة والدين ، منذ جيل الصحابة الكرام ، إلى التابعين لهم بإحسان ، على توالي الأجيال ، وتعاقب الأزمان والأحوال .. وفي هذا الزمن أيضاً ..
وفي كل عصر وفترة غثائيون كثيرون ، تـَهمهم أنفسهم ومصالحهم أكثر من أي شيء آخر ، ولا ينظرون إلى معاني العزة والشهامة ، والصمود من أجل الدين والوطن والكرامة ، وعندهم كل القيم برسم البيع ولا يمتون بصلة إلى المثل العربي القائل تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ) والمنـِّية ولا الدنيـِّة ، والموت بشرف ، ولا الحياة بضيم ..
وساعة في طاعة الله ، وعزة المسلم ، خير ألف مرة من ألف سنة في انهيار وتبعية ، وانعدام هوية ، وتقمص لشخصية الظالمين ، واتباع سبيل الغاوين ، وهواة الخنا والزنا ، والتلوث الفكري والنفسي ..
وقديماً قال الشاعر العربي :
من يَهـِنْ يسهُـل الهوان عليه ما لجرحٍ بميت إيلامُ
ملحمة التآمر على الإسلام :
من داخل هذه الأمة ، تدور رحى أكبر عملية تآمر مستمر على الإسلام ، بدأت بالدوران منذ مقتل عمر وعثمان ، وهذا مستفيض ومشتهر، حيث بدأت أحداث آخر الزمن ، وأمارات الساعة ، تتشكل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم ..والآن على الأبواب علامات الساعة الكبرى !..
وفي عهد التابعين ، أخذ الناس ينتظرون الدجال والمهديَّ ، فقد امتلأت الأرض ظلماً وجوراً وفتناً ، حسبما كانوا يتصورون ويصرحون ، قياساً على عهد النبي والصحابة ، وما أدركه التابعون من أخلاقهم وحياتهم وسيرتهم .. وبعد أن أنكسر باب الفتن الذي لم يغلق أبداً..
وهذا الزمن الذي نحن فيه ، هو زمن أكبر الفتن التي منها ما تكـوَّن الآن ، ومنها تراكمات ومخلفات القرون .. وثالثة الأثافي : فتنة المسيح الدجال ، مسيح اليهود والصهاينة المجرمين ، الذي ينتظرونه ليحكموا العالم ألف عام !.. وفي أمريكة أكبر تجمع للمهووسين بمسيح اليهود هذا ..
وعلى جسر من هذه الفتن ، عبرت جحافل الكفار والأشرار والمسيحانيين من وراء المحيطات ، تمعن في هذه الأمة : ما شاء لها من تدمير وتكفير ، وترسخ في صفوفها جذوع الفرقة والاختلاف والقطيعة ، وتوقد نيران الحرب الضروس ، وتزلزل الإيمان من النفوس ..
ولو اجتمع الكفرة من أقطار الأرض ، على أن تكون لهم الغلبة علينا لما أمكنهم ذلك ، حتى نكون نحن الذين نستدعيهم ونستعديهم ، ويقتل بعضنا بعضاً في سبيلهم ، ويكون بأسنا شديداً بيننا ، في مشهد خاص بنا من دون سائر أمم الأرض , فنحن غِربان الهدم , وفيروسات الوباء ..
ولكن ومهما يكن من أمر ، فلا يمكن إغفال الدور القذر ، الذي يؤديه ويقوم به أعداؤنا المتربصون ، عبر الطويل من التاريخ ، ويسعِّرون هذه الحرب المعلنة من داخلنا ، تمهيداً لاجتياحنا واقتحام حمانا ، واختراق حصوننا التي ما كان لهم أن يدخلوها ، لولا المرتدين والمخدوعين منا ، والمغـرَّر بهم من أبناء جلدتنا ، والمستدرَجين إلى أن يصنعوا المرتع الوخيم ، الذي دلف منه الكافرون ، يعيثون فساداً في أمر الدنيا والدين ..
وبذلك فلا يمكن تبرئة العناصر المنشقة ، والجماعات الضالة ، والفِرق المستعصية من هذه الأمة ، وما أكثرها ، من المسؤولية المباشرة لكل ما حصل ووقع حتى الآن ، من كوارث ونكبات ، تـَهد الجبال الراسيات ، وتزيل أمماً بأكملها من الوجود ، وتجعلها أثراً بعد عين !..
واقع الأمة في أكبر أزمة :
إننا حقاً – نحن هذه الأمة – في مشكلة عويصة جداً ، هي أننا نريد أن نحيا وننتصر بدون الله عز وجل ، في أضخم تعتيم إعلامي ورسمي ، وتهميشٍ متعـَّمد ، تتعرض له الحضرة الإلهية ، من خلال واقع متمرد ، ومُنفلت العِنان ، بعيداً بعيداً عن منهج الرسول والرحمن ..
في إحدى الإذاعات العربية ، أرادت المذيعة أن تقول : إن للقدس رباً يحميه ، بعد أن لم يعد في الأرض من يقدر على ذلك .. ولكن مَنْ تحاوره ، رفض هذا الكلام وقال : لا لا نحن موجودون ، ونسعى ونعمل ونحن خلفاء عن الله , ويجب أن تتضافر الجهود .. إلخ .. وهو مسؤول في منظمة إسلامية عالمية , استغفر الله ..( أمور يضحك السفهاء منها .. ) ..
المشكلة أن اللغط الإعلامي الرسمي للنظام العربي ، يوحي وكأن أقطاب هذا النظام ، دِعامة الأمر ورواد النصر ، ولا فعل للحضرة الإلهية في عملية إنقاذ الأمة ونصرة الحق الذي هم ضيعوه ، ويعتبرون لهجتنا بذكر الله في هذا السياق : غيبية مرفوضة ، ويحرمون علينا أن نؤاوي إلى ركن شديد .. فلعلهم هم هذا الركن الشديد , البديل عن الجبار سبحانه !..
وكأنهم لم يسمعوا بمقولة عبد المطلب : إن للبيت رباً يحميه .. وكيف كانت المفتاح للفتح ، والشرارة التي أوقدت أعظم مشعل للنصر ، وأودت بجيش عرمرم ومدجَّج ، في معركة الفيل والطير الأبابيل !..
بعد أن انسحب العرب وأهل مكة بالذات ، معترفين بعجزهم أمام الجيش الزاحف ، مع الأخذ بعين الاعتبار للظروف الموضوعية آنذاك ..
ولعل الذين يسقطون ذكر الله العظيم الفاعل والمؤثر ، في نطاق الحديث عما هو مطلوب للعلاج والتصدي ، والمواجهة الحقيقية ، والمقاومة الفعالة والمُجْدية ، لعلهم بذلك يطيلون أمد البلاء المحيط بهذه الأمـة ، وأرضها وعِـرضها ، ووجودها كلـه ، ويتيحون للأعـداء فرصة ما كانوا ليحلموا بها ، حينما يزعمون ما ليس لهم ، وليس في مقدورهم أصلاً أن يفعلوه ، وهو فوق طاقتهم وطاقة أهل الأرض أجمعين ..
ويا حسرة على أقطاب النظام العربي والإسلامي ، الذين هم أشد ضياعاً وضعفاً من شعوبهم المقهورة والسجينة ، التي يحكمونها بالحديد والنار ، وأساليب الاستعمار ، ولهم يكنزون الأسلحة والمعدات ، والأجهزة التي يعجز عنها الشيطان نفسه : الرائد والأمَّار !..
ولو كان هؤلاء قادرين وجديرين ، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه ، وهم ينظرون ويتبجحون ، ويطلقون الوعود الكاذبة جزافاً، كي يظلوا على العروش يجلسون ويسترخون , ويكتنزون الفعل المحرَّم ..
انتهت أمور السياسة والحرب ، إلى نقطة الحسم النهائي ، التي هي في صالح عدونا ، وليس في صالح ما نحن فيه ، من خيانة ومروق وتمزق ، وبيع لكل مقدس : بكرسي يهتز ، ومال حرام ، وشهوةٍ رجْس ، وانتماء وانتـساب للوكالات , والمرجعيات الكافرة والمعادية , التي لحسابها يعملون , وبأمرها يأتمرون ..
بوارق الأمل والنصر :
وعلى سبيل المثال يقول الله تبارك وتعالى : ( أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة ) .. في ذلك دليل وبرهان على أن ما أزف واقترب ، من خطر داهم وقائم ، ليس له من يكشفه ويحبطه وينهيه ، وينقذ المحاطين به ، إلا الله بذاته واقتداره ، وحوْله العظيم ، ومِنْ دونه ليس له كاشف ولا ناصر ولا صارف ، بعد أن أحاط العجز الفاضح بجموع القادرين والحاكمين .. وحملة الأوسمة والنياشين ..
أي إن الله سبحانه ، هو الذي يخلق النصر ويصنعه ، ويهيىء أسبابه الفاعلة ، وظروفه الماثلة ، ويُخرج الفرج من قلب الضيق ، والنور من جوف الظلمة ، واليسر من العسر ، وبقولة : كن .. تكون أليات العمل والسعي والمبادرة والنضال ، من خلال تراكمات الكدح الدؤوب ، وما دفعه ويدفعه المؤمنون بالله ، من أثمان باهظة التكاليف ، هي أنهار الدماء والدموع ، وطوفان الأهوال والأشلاء ، التي تعجز الملائكة والجان عن الإتيان بمثله ، أو قريبٍ منه ، مما دفعه بسخاء وسماحة نفس ، رجال ونساء وولدان ، وشجر وحجر ، صابرين محتسبين ومقبلين غير مدبرين .
وإذا كانت أمة الغثاء قاعدة وفاسقة ، فإن أمة الإجابة ليست كذلك حتماً ، وقد دفعت ثمن إنقاذ القدس ، والمسجد الأقصى المبارك ، ما لم يدفع العرب أقل من عُشره في سبيل الكعبة ، تجاه أبرهة وجيشه اللجـِب ..
وأين تضحيات العرب المشركين ، من تضحيات المؤمنات والمؤمنين الموحدين ، في هذا الوقت والحين .. فهل حقاً نـُعد مخطئين وغيبيين ، ولا يحق لنا أن نقول .. إن للقدس رباً يحميه ؟!..
إنها تضحيات غير مسبوقة في التاريخ..
بلى ثم بلى يحق لنا ذلك ، وإن الذين يتصورون أنفسهم ، بديلاً لفعل الله ووعده الحق ، في النصرة والكشف ، والدفاع والدفع ، لا يحق لهم أن يعتموا على ربهم القادر ، في الوقت الذي يطلون علينا من أبراجهم العاجية ، ومكاتبهم الفخمة ، وقصورهم العامرة ، وعيشتهم الرغيدة ، المفعمة بالجنات الوارفة ، وكل ما تشتهيه الأنفس الآثمة ، وما لا يخطر على بال إبليسَ اللعين : ترفاً وسرَفاً , وتنعماً رهيباً وعجيباً ..
مفارقات أغرب من الخيال :
لا ننكر أننا نعيش مفارقاتٍ غريبةَ الأطوار ، من نحو الفوارق والأبعاد التي تباعد بيننا وتفرق ، وتجعلنا يرتطم بعضنا في بعض ، في دوامة مدوخة ، من الحسد والحقد والضغينة ، لا يستفيد منها إلا أعداء الأمس واليوم ..( جماهير مسحوقة وعاطلة ، ومشحونة بما يحرق الأخضر واليابس ) عافانا الله .. ولكن ليس من يسأل من المسؤولين ..
وأخطر ما في الأمر ، أن قطاعات هائلة من هذه الأمة المنكوبة ، يمارسون حياتهم اليومية والمرحلية ، بعيداً جداً عن هموم الأمة ، وخَطبها المقـوِّض ، ومصابها الأليم ، وعيشها الذي كله : مآتم ومآسي وأحزان ..
خصوصاً على مستوى النـُّخَـب المثقفة والمسؤولة ، المليئين والمتخمين : زوراً وتزييفاً وتجبراً وظلماً ، وسُحتاً وغنى فاحشاً ، على حساب الفقراء والمحرومين والمظلومين ، والذين لا يجدون قوت يومهم ، ولا مَنْ ينصفهم من ظالميهم ، ويأخذ بأيديهم , ويرحمهم ويسعى لهم ..
فهؤلاء المستكبرون العائمون على الأمة ، لا علاقة لهم بما يجري إلا في حدود الخطب الحماسية ، والمؤتمرات الصحافية ، وتحليل السياسة ومجرياتها المذهلة ، بأسلوب مُسِفٍّ وسطحي وبارد ، وأجوفَ وميت لا روح فيه ، وهو في جملته مرتجل ومكرر ومجتر ، ومضحك ومبكي معاً.
وكم في الأمة من أناسِيَّ كثيرين ، لا يسألون الله فرجاً ، ولا يرتقبون نصراً ، لأنهم في الفرج وأعظم الفرص يعيشون ، وحوائجهم مقضية بالكامل ، وعل ضفاف هذا الواقع المتردي يستمرون ، فكيف يطلبون التغيير ، الذي إن حصل ذهب بهم ، وبدنياهم العريضة ، وكياناتهم الهشة.
إنني لا أثق بالمترفين المتمطين ، الذين يستمدون أسباب بقائهم على ما هم ، من دماء القتلى والشهداء ، ودموع الثكالى واليتامى والأرامل والبؤساء ، وبقايا الدمار والنار ، من أشلاء الرجال والنساء والصغار ..
كما أنني لا أعير أي اهتمام بمواعظ المترفين دينياً ، الذين يُـثـْرون من وراء ذوي الفقر والمسكنة والمنكوبين ، ويكنزون الذهب من الزكوات والهبات والنذور ، وأثمان الفتوى ، وبيع الدين بالدنيا ..
فحياة المفلسين : قومياً ووطنياً وإسلامياً ، حياة واهية وعنكبوتية ، وعبء علينا يزيدنا رهقا ، ويهبط بنا طبقاً وطبقاً , ويملأنا غيظاً وحنـَقاً ..
وهم بلاء إضافي على كل من يحترق قلبه : أسى وحسرة وقهراً وغيظاً ، على مآلات الأمة ، وقدسها الأسير والجريح ومسجدها الذبيح ..
الخطاب الرسمي البائس :
ومما يزيد الطينَ بِلـَّة وتشيب منه رؤوس الأجنة في بطون أمهاتها : الخطاب الرسمي البائس ، للنظام العربي اليائس ، الذي يمضي مكابراً ولا يلوي على شيء ، حاشداً كل ما لديه من ألسنة وأقلام وأبواق ومرتزقة ، للتبشير بمقولات مستهلـَكة ، مَفادها : أن هذا النظام ما جاد الزمان بمثله ، ولا بمثل رموزه ، وأنه كفيل وجدير بتحقيق ما عجزت عنه الأوائل ، وأنه المخلـِّص الوحيد ، والحريص على مصالح الأمة والشعب والقوم ، وأنه لا أخطاء ولا سلبيات ، ويتمتع بالقداسة وكل الإيجابيات ..
مفردات الخطاب الرسمي العربي : مميتة وقاتلة ، وسهامها موجهة إلى الصميم ، لتحطيم أي أمل ، وإطفاء أي بصيص للنور ، قد يبدو في آخر النفق ، الذي لا تبدو له آخرية أصلاً في سياق هذا الخطاب التعيس ..
إنه خطاب يحب أربابُه أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ، وأن تـُضفى عليهم ألقاب العظمة والجلال ، وأن ظلمهم عدل ، وكذبهم صدق ، وخيانتهم أمانة وتلفيقهم إبداع ، ودعواهم حقيقة ، وتخريبهم حضارة وبناء !..
( مهازلُ ما سمعنا بمثلها ولا قرأنا عنها في الأساطير ) ..
إن التحرر من نير هذا الخطاب ، وأنظمته الصادعة به ، هو جزء من تحرير الأمة حقاً ، واستعادة وعيها المفقود ، وزمنها الضائع ، واستنقاذ مقدساتها وحقوقها من براثن المحو والغزو والاغتيال ، وكونها تعيش في دوائر الوهم والإثم والظلم والمُحال ..

قانون مداولة الأيام :
وفي ذلك يقول الله سبحانه : ( وتلك الأيام نـُداولها بين الناس .. ) ..
وهذا القانون الإلهي الملزِم , غير قابل للتوقف ولا التعطيل , مهما تكن الظروف والوقائع , واتجاهُ الأحداث ..
وهذه المداولة , تكون في الحرب وفي السلم .. ففي الحرب : غلبة وهزيمة , وانتصار وانكسار , بين الفرقاء والخصوم والمتحاربين .. وفي السلم : هناك فرص تتيح إنشاء ملك , واستئناف حكم جديد , لقوم أو أمة أو حزب .. كما أن هناك مصائرَ تنجلي عن حكام يسقطون , ومسؤولين يجردون من السلطة والقدرة , وتنزع منهم أسباب السيادة والعزة ..
وإن أمتنا خضعت لهذا القانون , حسب معطيات صراع القوى , وتنازع المقدرات والقيم , وأن القوة للأقوى , والخذلان للأضعف ..
ومما لا شك فيه أن أمة الإجابة والإنابة , تـُحكم الآن من قبل أمة الغثاء والوهَن , والمسكنة السياسية المخجلة والفاضحة , حسبما هو ظاهر وواضح , ولا بد لهذا الوضع من تغيير , بحكم القانون الآنف الذكر ..
سيما وأن أمة الغثاء هذه , قد حكمت بما فيه الكفاية , ووصلت قِطاعات المسؤولين فيها , إلى طريق مسدود , وانهيار أخلاقي وقومي غير مسبوق ولا معهود .. وانسحب ذلك على أمة الإجابة والنضال ..
ويقول عليه الصلاة والسلام , عن مسلمين في أخر الزمن : ( ولكنكم غـُثاء كغثاء السيل .. ) ..
أمـا أمـة الإجـابة والـصبر والإيـمان والـصمـود , فـقـد عـلـمنا مدى ما تحملوه من أعباء الحرب والبلاء , التي يشنها الأعداء بلا رحمة وبلا إنسانية , وبلا قوانين حرب أصلاً .. بل بوحشية فوضوية عارمة !..
وإن ذئاباً ضارية في غنم شاردة , أرحمُ منهم , وأقلهم جرحاً وذبحاً , ولذلك لا يحق لكائن في العالم , أن يعترض على هذا التحول المرموق والمرتقب , بناء على ذلك القانون الإلهي العظيم ..
لأنه لم يأت من فراغ أولاً , وليس هو بالهدية المجانية , إلى قوم كـُسالى وخاملين , وإن نصر الله لا يتنزل على القوم الظالمين واللاهين ..
وما على أمة الغثاء , إلا أن تجري عليها أحكام قانون الله هذا , بعد أن أتيح لها ما أتيح , وكانت الأيام والأعوام في صالح أن تحكم وتسود , من وراء التاريخ , وعلى هامش الأقوياء النافذين في هذا الكوكب ..
الأيام : مداولة ودول وأدوار , وقد انتهى دور الغثائيين , في مسلسل الرعب والظلم والإثم , ومطاوعة العدو الكافر , وجاء دور من ليسوا هم كذلك , وبقية ٌمن المناضلين والصامدين , في سورية الشام , والمجاهد بشار المؤمن , وقدس الأقصى والمؤمنين , من أمة الإجابة لخاتم النبيين ..
حالة ليست بالخاصة :
والحقيقة : أن أمم الأرض , وليس أمة العروبة والإسلام فحسب , هي في وضع مأساوي لا تـُحسد عليه , بسبب أن عناصر السوء والإجرام وحثالات الأحزاب الخائبة , والمنظمات المشبوهة , هي التي تطغى على سكان المعمورة , من أمم وأقوام وشعوب , ويؤتى بالساقطين : أخلاقياً وقومياً , ليكونوا في مواقع النفوذ والتسلط على الرقاب , بالرعب والإرهاب .. وليبيعوا الشعوب في سوق النخاسة العالمية , وزواياها الخفية !..
وإن المؤمنين بأصالتهم وهويتهم , في هذه المسكونة المسجونة , مضطهدون ومَقـْصيـُّون , ومُحَرم عليهم أن تكون أية كلمة فاعلة لهم ..
فهذا بلاء عم البسيطة بأسرها , وأسقط كل الشعارات , وقـوَّض كل القيم , وفتح الطريق واسعاً أمام المفسدين في الأرض .. والضالعين في صناعة هذا الارتجاج والفوضى والجحيم , والعذاب الشديد والأليم ..
ولكن رب محمد بالمرصاد , ويداول الأيام بين الناس , وإن حقاً على الله عز وجهه وسلطانه , أن ينقذ عباده ويهديهم , كلما شردوا عنه , وضلوا سواء السبيل .. وأضلهم شياطين الإنس والجن ..
ويقول سبحانه : ( وأن علينا للهُدى ) .. ولله عاقبة الأمور جميعاً , وهو وليُّ ذلك والقادر عليه .. والحمد لله رب العالمين ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن