يُصِرُّ جاري العزيز على أنني بقيةُ قرنٍ كانت الديناصورات ترعى فيه مطمئنة، في حين أعدُّه أشقى من ذكرِ نحلٍ تذهب حياتُه بشهوةِ لحظة، ويرى أنّ الذوقَ في اختياراتي كافٍ لإفسادِ بهجةِ الكون، بينما ينتابني لحظةَ رؤيتِه شعورُ من وجدَ في طعامِه نصفَ حشرة، ويعجبُ كيفَ أمتهنُ الطبَّ، وألعنُ صحافةً استكتبت مثله، وأظنُّ أنّه لو تبادلنا الهدايا يومًا، لأهداني قطيعَ غنم، ولأهديتُه ذيلَ قرد، ولو قُدِّر أن يُعطى كلانا نقطةَ حبر؛ ليختصرَ الآخر فيها، لكتب (عتيق!)، ولكتبتُ (ذيل!)، ثم استزدتُ حبرًا، ثم كتبتُ (ذيل!).

لم يستوعب قابيل سرَّ قبول القربان، فقتل أخاه!

في البداية .. كنتُ أتلفت حولي حين يبدؤني بقوله "أنتم"، وعادةً ما يكون الخبر من طراز "يا أخي! أنتم متخلفون!!"، حتى صرتُ لا أنتظر تمام كلامه، فإن قال "يا أخي!" قلتُ "ولم نحن متخلفون؟!"..
في الواقع .. كانت هيئتي هي سبب تصنيفي كجزء من "أنتم"، وكانت المصادرةُ هي أساسُ تصنيفِ "أنتم" على أنهم "متخلفون"، ولا يتخللُ ذلك أيّ تفاوضٍ مشروط، ولم يسبقْه أدنى تعاملٍ حذر، وعندما واجهتُه بمقالاتِه عن ضرورةِ احتواءِ "الآخر" وفهمِه، والانفتاحِ عليه والانصهارِ معه، وعدمِ استباق الحكم عليه، وربما عدمِ الحكم عليه أصلًا، تبيّن أنني مخطئٌ حدّ الثمالة، وأنّ المقصودَ بهذا "الآخر" هو "آخر" غيري!

من الشقاءِ أن تتكلمَ عن خبثِ دوافعِ الآخرين، ولا تدركُ قبحَ الدافعِ وراءَ كلامك!

أعلمُ أن الدبلوم لم يعادلْ الدكتوراةَ بعد، وإن اشتركا في الابتداءِ بالدال، ولذلك نصحتُه ألّا يُصدِّر توقيعَه بهذا الحرف، حيث يتنافى هذا والأمانة، لكنه برّرَ ذلك بحتميةِ فصلِ الدينِ عن الدولة، وهي دعوى معقولةٌ جدًّا معقوليةَ فصلِ طاعةِ الأم عن حبّها في قلب الأبناء، أو فصل تربيةِ الابن عن اللطفِ به في قلبِ الوالد، فيرد عليّ بأنه يكفيه أن هذا قد تحققَ بالفعل، متشبهًا بمن أُفتي بعدمِ صحة الصلاةِ بغيرِ وُضوء، فعجِبَ إذ إنّه فعلَها وصحَّت معه!

لا تنفر من قطع يد السارق إلا نفوس اللصوص!

دعوتُه يومًا أن يدافعَ عن النقاب، في الركنِ الذي يدافعون فيه عن الحرية، ولكنه نصحني أن أقرأَ عنه في أخبارِ الحوادث، فما كان إلا أن رسمتُ له فكرةً هزليّة، صادر فيها رجال الأمنُ السكاكين من المنازل، لأن المجرمين قد يستعملونها في القتل، عندئذٍ أعلمني أن صفحةَ العلاقات الدولية فيها بيانُ السرّ، فذكَّرته أن الحكمَ لله كما تقرر في بابِ السياسة الشرعية، ثمّ تذكَّرت أنّ أعلى المبيعاتِ أصابَتها أخبارُ الرياضةُ والفن، فدعوتُ اللهَ أن أجدَ العزاءَ في صحفِ الأعمالِ يومَ القيامة!

لم تفهم امرأة العزيز سر عفة يوسف، فتوعَّدته بالسجن إن لم ينفذ أمرها!

له أسلوبُه الخاص، إذ يحترف توزيع "الكولا" في أقداح، ويحتسي القهوة من خلال "شاليمو"، فيلتمس لمُشكِلاتِنا الحلولَ الغربية، ويستورد لنا قضايا لا تهمنا .. هاهو يعرفُ مكمنَ الداءِ ورقمَ تليفونِ الصيدلية، فيبين أن "السينما النظيفة!" مصطلحٌ مستوردٌ "!" دخيل، ويطالب أهل "الحقل" الفني بمزيدٍ من التحرر، ويرى أن الموديل العاري حتميّ لرفعة فنّ النحت، ويضعُ يدَه على حلّ أزمةِ الجيل الصاعد، فيدعو لنشرِ الثقافةِ الجنسيةِ بين الأطفال، ويفضّل (نظام) "الفريندز" كبديلٍ عن (عادة) الزواج، وقد بُح صوتُه في المطالبة بإنشاء نقابةٍ ... للراقصات، وتلمع عينُه على كرسيّ القضاء ... لابنة الجيران!

الرجل الذي يرضى جميع المذاهب هو رجلٌ بلا مبدأ!

يرى أنّني – أو أنّنا – أحدُ الثقوبِ السوداءِ في هذا العالم، فمن قبحِ طلعتِنا شحَّت المياه، وقلَّت المحاصيل، وبشؤمِ وجودنا هبط الغناء، وتأمرك الفنّ، وصارت الرومانسية أثرًا بعد عين! ويرى أن ذلك أدنى إلى التصديق من شعره المستعار إلى صلعته، وأحسبُ – أو ونحسبُ – أنّ الطبيعةَ لو خُلّيت لتعبّر عن نفسها، لقلنا إنهم سبب ثقب الأوزون، واحتباس الحرارة، وذوبان الجليد، ومِنْ ثقلِ ظلهم رحلَ الماموث، وكثُرَت الزلازل، لكنّا قومُ عدلٍ عُدُول، نُنزِلُهم المنزلة التي يريدون، في ظلال القرود!

ربّما نظرت الذبابةُ إلى الإنسان باشمئزازٍ ونفورٍ .. لا ندري!

زرتُه يومًا، فأصبتُه في لحظةٍ روحانيةٍ صافية، وقد ترقرقت في عينيه دمعة، نجح في استخراجها على "الكلينيكس"، ولما سألتُه عمّا أثرَ فيه (هكذا!)، ألقى المجلةَ البرّاقة جانبًا، ونظر إليّ نظرةَ مُحْتضر، وذكرَ شيئًا عن راقصةٍ أخذت رشوةً لتتوب لله، وكان اعتراضُه متوجهًا إلى .. التوبة!
ثم زارني يومًا، فاستقبلته في مكتبتي حيث يقبع "بلومجارت" إلى جوار "الفتاوى"*، وعندما رأى ذلك تمتم بكلمةٍ سمعتُها، ولما سألته عن وجه التناقض لم يجبني، لكنه ذكر رأيَه في هذه "الكتب الصفراء"، فتصورتُ حاله كرجلٍ يباعد بين رجليه، ليمرر من بينهما .. شاحنة!!

تتجلى للصرصور الأسترالي حقيقتُه مجردةً، لحظةَ أن يصفعه حذاء!

بحثَ عن موقعِه من العلمِ التجريبي، فوجد نفسَه في المنتصف تمامًا، بين الفئران البيضاء وقفص القرد، فقررَ أن يكتفي بالصراخِ ناصيةَ الشارع، بجوارِ عمودِ النُّور أسفلَ مبنى الإذاعة، وقد مررتُ عليه يومًا، وألقيتُ عليه السلام، فلم يردّه زعمًا أنّه لا يقبلُ إلا أخبارَ المعامل ... رغم أنّ الحضارةَ لا تُقاس بالجول، والخطأُ والصوابُ لا يتأثران بالضغط، والشقاءُ لا يذهب بالحرارة، والكرامةُ لا تستجلبها عواملُ الحفز، والمبادئُ لا تتجزأ، والإسلامُ غيرُ قابلٍ للانصهار ... فنظر إلىّ نظرةَ أعزل أعدَّته قبيلةُ الكاريب** للشواء، وقال "يا أخي! أنتم متخلفون!".


هناك من المواقف ما لا يناسبه إلا الإهمال، ومن الأشخاص من لا يصلح لهم إلا التجاهل، ومن الأقوال ما لا يرده إلا السخرية، ومن الأفعال ما لا يواكبها إلا الإعراض!



* "بلومجارت" مرجع معروف في جراحات الكبد والبنكرياس والقنوات المرارية، و"الفتاوى" المقصودة هي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
** من أشهر الجماعات التي ينسب إليها أكل لحوم البشر.