قال الله " إن في ذلك لأية لمن خاف عذاب الأخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففى الجنة خلدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " 104-108


ذكر اختلاف العلماء في ذلك

قال القرطبي
" (فمنهم شقى وسعيد) أي من الأنفس، أو من الناس، وقد ذكرهم قوله: " يوم مجموع له الناس ".
والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة.

والسعيد الذي كتبت عليه السعادة، قال لبيد: فمنهم سعيد آخذ بنصيبه * ومنهم شقي بالمعيشة قانع

وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية " فمنهم شقي وسعيد " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل ؟ على شئ قد فرغ منه، أو على شئ لم يفرغ منه ؟ فقال: " بل على شئ قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ".

قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر، وقد تقدم في " الأعراف ".

قوله تعالى: (فأما الذين شقوا) ابتداء.

(ففى النار) في موضع الخبر، وكذا (لهم فيها زفير وشهيق) قال أبو العالية: الزفير من الصدر.
والشهيق من الحلق، وعنه أيضا ضد ذلك.

وقال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا، قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في النهيق.

وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه، قال: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف.

وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته، قال الشاعر :
حشرج في الجوف سحيلا أو شهق * حتى يقال ناهق وما نهق

وقيل: الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل: الزفير ترديد النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته والشهيق النفس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق، أي طويل .

والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.

قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) " مادامت " في موضع نصب على الظرف، أي دوام السموات والأرض، والتقدير: وقت ذلك.

واختلف في تأويل هذا، فقالت.

طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، وفي التنزيل: " وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " الزمر 74 .

وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار.
عن دوام الشئ وتأبيده، كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السموات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به طولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك.
وإن كان قد أخبر بزوال السموات والأرض.

وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السموات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان أبدا في نور العرش.( روي من حديث انس ايضا وهو ضعيف جداً)

قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك) في موضع نصب، لأنه استثناء ليس من الأول، وقد اختلف فيه على أقوال عشرة:

الأولى - أنه استثناء من قوله: " ففي النار " كأنه

قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما.
وإنما لم يقل من شاء، لأن المراد العدد لا الأشخاص، كقوله: " ما طاب لكم " النساء 3.

وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ".

الثاني - أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله: " فأما الذين شقوا " عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من " خالدين "، قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم.
وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميونن " وقد تقدم هذا المعنى في " النساء " وغيرها.

الثالث - أن الاستثناء من الزفير والشهيق، أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر حكاه ابن الأنباري.

الرابع - قال ابن مسعود: " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض " لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها " إلا ما شاء ربك " وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.(لا يثبت و الاقوال الى عمر وابن مسعود وغيرهم فيها ضعف وانقطاع )

قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق.

الخامس - أن " إلا " بمعنى " سوى " كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك .

قيل: فالمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود.


السادس - أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها.
كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: " خالدين فيها

ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب.

والقول الآخر - وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: " خالدين فيها ما دامت السموات ولأرض إلا ما شاء ربك " من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.

قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: " يوم تبدل الأرض غير الأرض " إبراهيم 48

فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم الجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفى بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السموات والأرض، فإنما دامتا للمعاملة، وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك، فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله، قال الله تعالى: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " الدخان 39

فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة، ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية، فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داره أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا، فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: " إلا ما شاء ربك " من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها، فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا.

- الثامن وقد قيل: إن " إلا " بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السموات والأرض في الدنيا.

وقد قيل في قوله تعالى: " إلا الذين ظلموا " البقرة 150 أي ولا الذين ظلموا.

وقال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان أي والفرقدان.

وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون " إلا " بمعنى الواو، وقد مضى في " البقرة " بيانه


- التاسع، العاشر وقيل: معناه كما شاء ربك، كقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " النساء 22 أي كما قد سلف، وهو أن قوله تعالى: " إلا ما شاء ربك " إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على حد قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " الفتح 27

فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك، كأنه قال: إن شاء ربك، فليس يوصف بمتصل ولا منقطع، ويؤيده ويقويه قوله تعالى: " عطاء غير مجذوذ " ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود

الفريقين في الدارين، فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " الفتح 27 وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا، إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام، ونحوه عن الفراء.

-الحادي عشر وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم، وبيانه أن " ما " بمعنى " من " استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة.

وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني، كأنه قال تعالى: " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخولهم الجنة يسمون السعداء، كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.

وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي " وأما الذين سعدوا " بضم السين.


وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا.

قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي " سعدوا " مع علمه بالعربية ! إذ كان هذا لحنا لا يجوز، لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض، وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه، لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به.

قال المهدوي: ومن ضم السين من " سعدوا " فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل، لأنه لا يقال: سعده الله، إنما يقال: أسعده الله.

وقال الثعلبي: " سعدوا " بضم السين أي رزقوا السعادة، يقال: سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون " سعدوا " بفتح
السين قياسا على " شقوا " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.

وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشقاوة، تقول: منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، ولا يقال فيه: مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود.

وقال القشيري أبو نصر عبد الرحيم: وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد، فهذا يقوي قول الكوفيين

وقال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان، لأنه مما لا يتعدى.

(عطاء غير مجذوذ)

أي غير مقطوع، من جذه يجذه أي قطعه، قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه * وتوقد بالصفاح نار الحباحب (قوله تعالى: (فلاتك) جزم بالنهي، وحذفت النون لكثرة الاستعمال.
(في مرية) أي في شك.

(مما يعبد هؤلاء) من الآلهة أنها باطل.
وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك " لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء " أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.

(وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) فيه ثلاثة أقوال: أحدها - نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية.

الثاني - نصيبهم من العذاب، قال ابن زيد.

الثالث - ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما."


كتلخيـص وترجيـح لمـا سبـق

قال ابن ابي العز في شرحه على الطحاوية
" قال تعالى : { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } أي غير مقطوع ولا ينافي ذلك قوله : { إلا ما شاء ربك } واختلف السلف في هذا الإستثناء فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها لا لكلهم وقيل : إلا مده مقامهم في الموقف وقيل إلا مدة مقامهم في القبور والموقف وقيل هو استثناء الرب ولا يفعله كما تقول والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه وقيل : إلا بمعنى الواو وهذا على قول بعض النحاة وهو ضعيف وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن فيكون الاستثناء منقطعا ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله : { عطاء غير مجذوذ } قالوا ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت ولكن ما شئت من الزيادة عليه

وقيل : الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله لأنهم يخرجون عن مشيئته ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود كما في قوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } وقوله تعالى : { فإن يشإ الله يختم على قلبك } وقوله : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } ونظائره كثيرة يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن

وقيل : إن ما بمعنى من أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء وقيل غير ذلك وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه وقوله : { عطاء غير مجذوذ } محكم وكذلك قوله تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } وقوله : { أكلها دائم وظلها } وقوله : { وما هم منها بمخرجين } وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الإستثناء في قوله تعالى : { إلا ما شاء ربك }

- تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها "


أبديــة الجنــة..

وقال ايضا " والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيره : كقوله صلى الله عليه و سلم " من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت " وقوله " ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا " وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ويقال " يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت "


أبديــة النــار ..

قال ابن ابي العز
" وأما أبدية النار ودوامها فللناس في ذلك ثمانية أقوال : أحدها : أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد وهذا قول الخوارج والمعتزلة

والثاني : أن أهلها يعذبون فيها ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم ! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي ! !

الثالث : أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه و سلم وأكذبهم فيه وقد أكذبهم الله تعالى فقال عز من قائل : { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

الرابع : يخرجون منها وتبقى على حالها ليس فيها أحد

الخامس : أنها تفنى بنفسها لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه ! ! وهذا قول الجهم وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم

السادس : تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا لا يحسون بألم وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم

السابع : أن الله يخرج منها من يشاء كما ورد في الحديث ثم يبقيها شيئا ثم يفنيها فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه

الثامن : أن الله تعالى يخرج منها من شاء كما ورد في السنة ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء له كما قال الشيخ رحمه الله وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان

وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما
فمن أدلة القول الأول منهما : قوله تعالى : { قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } وقوله تعالى { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة وهو قوله : { عطاء غير مجذوذ } وقوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } وهذا القول أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر و ابن مسعود و أبي هريرة و أبي سعيد وغيرهم وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه ( لا يثبت كما سيأتي) ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } قالوا : والنار موجب غضبه والجنة موجب رحمته وقد قال صلى الله عليه و سلم :" لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " وفي رواية : " تغلب غضبي " رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه : { عذاب يوم عظيم } و { أليم } و { عقيم } ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم وقد قال تعالى : { عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } وقال تعالى حكاية عن الملائكة : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما }

فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم وليس في حكمة أحكم الحاكيمن ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له وأما أنه يخلق خلقا ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيما سرمدا فمن مقتضى الحكمة والإحسان مراد لذاته والانتقام مراد بالعرض قالوا : وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج وأن عذابها مقيم وأنه غرام - : كله حق مسلم لا نزاع فيه وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه


ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : { ولهم عذاب مقيم } { لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون } { فلن نزيدكم إلا عذابا } { خالدين فيها أبدا } { وما هم منها بمخرجين } { وما هم بخارجين من النار } { لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } { إن عذابها كان غراما } أي مقيما لازما وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما بل بإبقاء الله لهما "

قوله تعالى { أولئك يئسوا من رحمتي } . العنكبوت 23
وقوله { ولا ينالهم الله برحمته } . الأعراف 49
وقوله { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون } الزخرف 77
وقوله { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } إبراهيم 21
وقوله { خالدين فيها أولئك هم شر البرية } البينة 6
قوله { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } النساء 56
وقوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } السجدة 30
وقوله { إنها عليهم مؤصدة } الهمزة 8


الاثار التي استدلـوا بهـا فـي فنـاء النـار لا تثبــت

استدلوا بما رواه ابن عدي عن انس مرفوعا " ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها وما فيها من أمة محمد احد"
قال الالباني في تخريج احاديث رفع الاستار لابطال ادلة القائلين بفناء النار للامير الصنعاني " هذا حديث موضوع فيه العلاء بن زيدل كان يضع الحديث وهو مخرج في الضعيفة 606 ...

وعن ابي امامة رفعه " يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد تخفق فيه أبوابها "
قال الالباني في المصدر السابق " هذا حديث موضوع أيضاً فيه الجعفر بن الزبير وهو وضاع أيضاً

وروى عبد بن حميد - وهو من أجل علماء الحديث - في تفسيره المشهور قال : أخبرنا سليمان بن حرب أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ( هو رمل كثير جدا مسيرة أربع ليال بين فيد والقريات) لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه )

ضعفه الالباني

وقال سليمان العلوان " هذا الأثر رجاله كلهم ثقات ولكنه منقطع فقولنا رجاله ثقات توفرت ثلاثة شروط من خمسة. وسبب انقطاع هذا الأثر هو أن الحسن لم يسمع من عمر عند أكثر أهل العلم وفيه خلاف معروف عند أهل الحديث والمنقطع عند أهل الحديث من قبل الضعيف. والضعيف لا يحتج به في هذه المسائل. بل ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به ولا في فضائل الأعمال فكيف بمسألة هي أكبر من الدنيا وما فيها كما قاله ابن القيم رحمه الله قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ج 11 ص 422 ( هو منقطع) ثم قال ( ولو ثبت حمل على الموحدين أ هـ قلت وظاهر هذا الأثر ليس فيه دلالة على أنهم الكفار فيجب حمله على الموحدين هذا لو ثبت وإلا فهو ضعيف لا يحتج به ونحن في غنية بالأحاديث الموضوعة والآثار الواهية. ومما يضاف إلى ذلك ما قاله الحافظ الذهبي رحمه الله: ( كان الحسن كثير التدليس) أ هـ . ومعلوم أن المدلس لا يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع"


ولم يثبت ذلك لا عن ابي هريرة ولا ابن مسعود ولا عمر ولا ابي سعيد الخدري رضي الله عن الجميع

ونقل الامير الصنعاني في رفع الاستار عن ابن القيم " من الستة الأدلة للقائلين بعدم الفناء أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة ...

والدليل السادس للقائلين بعدم فناء النار أن العقل يقضى بخلود الكفار ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع قال كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه عبثا وانهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى لا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن ذلك يقدح في حكمته وكماله وأنه ينسبه إلى ما لا يليق ثم قرره تقريرا آخر وأجاب عنه بقوله واما حكم العقل بتخليد اهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ثم إن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيلا فلا يعلم إلا بالسمع وقد دل السمع على دوام ثواب المطيعين واما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهو من معترك النزال فمن كان السمع في جانبه فهو أعلم بالصواب "


شبهـة وجوابهـا ..

ممن قال بفناء النار تمسك بأمور لا تسلم منها ما قاله شيخ الاسلام" فإذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن سدا وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب "

قال الامير الصنعاني " واقول لم يقم شيخ الإسلام دليلا على أن الحكمة المطلوبة لله في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار وإنما قال ذلك تظننا منه وتحسبا الرحمن تفرع عن اعتقاده فناء النار وقد أورد على نفسه سؤالا فقال إن قيل سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضا كمعاصي وكان الموحدين أما ما كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد اشار الله تعالى إلى ذلك فقال "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" الأنعام 28 إخبارا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا قال تعالى" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" الإسراء 72

فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل وقال "لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" الأنفال 23 فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثر وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضا