النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: إني أرى الإلحاد عاريًا. (4)

  1. افتراضي إني أرى الإلحاد عاريًا. (4)

    الرداء الرابع: الإلحاد والعلم!
    قال تعالى: (أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً).


    إنّ الكلمةَ الصادقةَ تأخذُ من نفسِ صاحبِها قبسًا، فتجعله نورًا في قلبِ متلقيها، ولقد قام هذا المقالُ عندي كالبرهان المستقلِّ على هذه الحقيقة، فإني أصدقكم القولَ أنّي بذلتُ وُسعي أن أستودعَ هذا المقال صيحةَ النذير، فغلبتني عليه شفقةُ الناصح، واجتهدتُ أن أبثَّه نبرةَ الساخر من عبثية الإلحاد، فَسَرَت فيه روحُ الحريص على دعوةِ الملحدين، ولم تُغْنِ كلماتٌ حاولتُ وضعَها هنا أو هناك شيئًا، وكيف تغني والرُّزءُ في هؤلاء شديد، عقلاء اختلت المعاييرُ عندهم، فتاهت في الواضحاتِ عقولُهم، يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا، ولا يُفيقون حتى يَروا العذابَ الأليم؟!

    حاورتُ يومًا أحد المدافعين عن نظرية التطور، ولما وقفتُ على عدمِ فهمِه طبيعةَ الأدلة وقواعدَ الترجيح، أردتُ أن أبيّنَ له هذا الخلل، فكان من حوارنا الآتي:

    - ما الدليل على أنك ابن أبيك الذي نُسبتَ إليه؟!
    - هذا يأتي باختبار الحامض النووي والتشابه بيني وبين والدي!
    - هل كل من تشابه مع والدك في الملامح يكون أخًا لك وابنًا لأبيك؟!
    - لا!
    - فهل قمتَ باختبار الحامض النووي؟ هل قام به والداك بعد ولادتك وأطلعوك على نتيجته؟!
    - لا!
    - إذن ما هو الدليل الذي تتصرف من خلاله وتعلن أنك ابن أبيك الذي نُسبت إليه؟!
    - .........................

    ليس هذا هو الوحيدُ الذي تصدَّرَ لنشرِ نظريةِ التطور، زاعمًا أنه يملكُ الأدلة العديدةَ على نسبةِ الإنسان الأول للقرود، بينما هو لا يعرف السبيلَ في إثبات نسب نفسه، ويعجز عن ذكر دليلٍ واحدٍ يعتمد عليه في نسبِه لأبيه!

    وقد طالبتُ أحدَهم بتعريف البديهة، فذكرَ أنها "مسلمةٌ غير مبرهَنةٍ يُعتمد عليها في الاستنتاجات"، ولما ناقشتُه في هذا التعريف قليلًا، كيف نسلّم بشيءٍ لم تتم برهنتُه؟ وكيف نعتمد على مسلمةٍ غيرِ مبرهنة؟ وما الفرقُ بين البديهة والفرض في هذا التعريف؟ بل ما الفرق بينها وبين الخرافة، فالخرافة مسلمةٌ لا دليل عليها يعتمد عليها المخرِّفون في استنتاجاتهم، فأي فرقٍ عندك؟ حينئذٍ ساد صمتُه أرجاء المكان!

    وهذا حدثتُه عن الإيمان، فأخذَ يبينُ لي أن هناك فرقًا بين الرأي والحقيقة المطلقة، وبالاسترسال معه ظهرَ أن الشيءَ الوحيد الذي يراه حقيقةً، هو أنّ الواحدَ والواحدَ يساويان اثنين، وذاك يخبرني أن الفيلم – وذكر فيلمًا أمريكيًّا نسيتُ اسمه – أثبتَ بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا الوجود خالٍ عن أية حقيقة مادية! وأعجب شيءٍ في هذا كلِّه أنه قد دار بيني وبين ملحدةٍ حوارٌ في منتدى التوحيد، عجزت فيه عن إثباتِ وجودِ نفسها من خلال مصادر العلم التي ارتضتها لنفسها ولغيرها، عجزت وانسحبت من الحوار!

    قد يرى القارئ أنه يحسن بي أن أربطَ هؤلاء بالسفسطة، أو أنقلَ بعض أقوال الشكَّاكين عبر القرون، لأردَّ الإلحاد إلى أصله، وأَصِلَ أذيال الإلحاد برؤوس السفسطة، لكنّي أعتذر للقارئ عن فعل ذلك، فإنّ الإلحادَ لا أصلَ له ولو كان من سفسطة، بل هو كبقعةِ زيتٍ على سطح البحر المحيط، والملحد كذبابةٍ وقعت في هذا البقعة، وظلت كذلك عُمُرَها، حتى هلكت وهي تحسب المحيطَ كلَّه بهذا السواد، فإن لم يكنْ كذلك فإنّه ينبغي له ذلك، على الأقل إرضاءً لغرور الذبابة!

    إنّ الإلحادَ كمذهبٍ لا تصحُ نسبتُه للسفسطة، فالسفسطةُ على الأقل تلتمسُ تبريرًا لموقفها، وتحاول أن تسير على نهجٍ واحدٍ ولو نظريًّا، وهاهو بروتاغوراس أشهر المسفسطة القدامى، يقول (أما بالنسبة للآلهة فلا أستطيعُ أن أعلمَ ما إذا كانت موجودةً أم لا!)، فهل الإلحاد يعترف أنه مجردُ جاهلٍ لا يدري، عاجزٍ لا يستطيع أن يعلم؟!

    وإن كنتُ أنفي أُبُوّة السفسطة للإلحاد، فإني لا أراه بحالٍ ربيبَ المنهج التجريبي، إذ الإلحادُ لم يقُم على ملاحظةٍ أثبتت عدمَ وجودِ إله، واللادينية لم تقُل بإلهٍ لم يرسلْ رسلًا بناءً على تجربةٍ سابقة، فالمنهج التجريبي يعجز عن تناول هذه القضايا، فهي لا تقع في مجالِ رؤيتِه المباشرة، ومن اعتمد عليه في ذلك، فهو كمن يريدُ أن يرى بأذنِه، أو أن يمشيَ على عينيه، ولذلك فالمنهج التجريبي يقف هنا ليقول "لا أستطيع أن أعلم!"، فهل الإلحادُ يعترف أنه مجردُ جاهلٍ لا يدري، عاجزٍ لا يستطيع أن يعلم؟!

    وإن انتقلنا من الإلحاد إلى تناول معتنقيه، فسنجد من شأنهم عجبًا، فالملحد يأخذ بمصادرَ للعلم دون شعور، في حين لا يدري كنهَ تلك التي يعتمد عليها المسلم، أما المصادر التي يعلنُ هو أنه يركنُ إليها، فعند التمحيصِ يظهر أنه لا يعرفُ عن حقيقتها شيئًا، وأنه مشدوهٌ أمامَ الأضواءِ البراقة، مثل فراشةٍ تجذبها شعاليل النيران، وأنه مغيبٌ عن وعيِه مأخوذٌ بالمظهر، كطاغيةٍ يوصي أن تصحبه الحاشية إلى قبره، وإنّ جميعَ القرائن والشواهد قائمةٌ على أنّ الملحدَ لا يتصورُ طبيعة العلم التجريبي، فظنّ فيه ظنًّا عريضًا، وبنى عليه يقينًا لا يفهم أساسه ومبناه!

    الملحدُ – مثلًا - يعتمدُ خبرَ الآحادِ الصادقَ الذي تحفه القرائن، ويبني عليه يقينًا يكاد يفتك بمن يخالفُه فيه، فهو يجزمُ يقينًا أنّه ابن أبيه الذي نُسِب إليه، بناءً على خبرٍ صادقٍ من أمه، حفَّته قرائنُ كعفةِ الأم والشبهِ بالوالد وغير ذلك، وهو كذلك يكتسب ظنّا غالبًا من خبرِ مَنْ لم تتوفر لديه الدواعي للكذب، كمثل حاله حين يسألُ أحدَ المارة عن الطريق الذي لا يعرفه، وتراه يعتمد مبدأَ السببيةِ دون تردد، حين يكتشف أن نقودَه قد اختفت، فيجزم بأنها قد سُرقت وإن لم يعرف السارق!

    والواقع أنّ تتبعَ مصادرِ العلم التي يأخذُ بها الملحدُ وهو لا يشعر، أمرٌ يطولُ جدًّا لكنّه – وهذا عُذرِي - يتضح بأدنى تأمل، سواءً لملحدٍ يسعى صادقًا لمعرفةِ الحقيقة، أو لمسلمٍ يسعى لإقامة الحجة عليه، فكم مرةٍ ستجد الملحد يعتمد الأخبار أدلةً، سواءً المتواترُ منها والآحاد، وستراه يتبع الفطرة مرارًا، فيمدح الأمانة وإن كان فيها الفقر، ويرى في الصدقِ فضيلةً وإن كانت عاقبتُه الأذى العاجل، وستجده يعتمد على البديهيات دون تردد، ولا يناقش فيها إلا حين يتطرق الأمرُ للتوحيد، وغير ذلك من أمورٍ يسهُل الوقوفُ عليها بأدنى تأملٍ كما سبق القول!

    أما المفارقةُ في موقف الملحد، وتجاهله ما يكتنف العلوم التي يرضاها من ثغراتٍ عديدة، هي أضعافُ ما يتوهمه في علوم المسلمين، لجهلٍ بحقيقة هذه وتلك العلوم جميعًا، هذه المفارقةُ هي التي تستدعي الوقوف عندها، والإطالة في الإشارة لأنواعها، ليتبين لهؤلاء أين هَوَت بهم ظنونُهم، وفي أيةِ هاويةٍ حطَّتهم الأهواءُ الفاسدة!

    عن جهلٍ بمعنى التواتر، ودوره في إفادة العلم الضروري، تجدهم يرفضون إيمانَ المسلمِ بقطعيةِ ثبوتِ القرآن؛ بينما يسلّم أحدهم أذنَه طواعيةً لخبرٍ قرأه في مجلةٍ، تنقلُ عن دارسين للأحياءِ يحكُون عن اكتشافِهم حفرية، هذه الحفريةُ قد تساهم في دعم نظريةِ التطور، رغم أنه لم يرَ الحفرية بعينه، فهو يصدّق نقلَ المجلة ويرى أنه لا يتطرقُ إليها جرح، ويعتمد خبرَ الدارسين ويرى أن صدقهم فوق مستوى الشبهات، لكنّه لا يقبل التواتر!

    يُنغِض الملحد إليكَ رأسَه استهزاءً، إن سمعكَ تقرأ السُّنةَ بالإسناد، فهو لا يعرفُ أهميةَ الإسناد ولا معنى "العنعنة"، ويرى ذلك أخذًا للمعرفةِ من أفواهِ الرجال، ثمّ تراه يفخرُ بما أحرزَه في علومٍ، توافد عليها الرجال تأسيسًا وتنظيرًا ونقلًا، يقول د.جلال أمين وهو متبحرٌ في علم الاقتصاد، يقول (أعتقدُ أنّ علمَ الاقتصاد منذ نشأتِه وحتّى الآن، تأثرت الفروضُ التي يتخذها كمسلمات، ومن ثمّ النتائجُ التي يستخلصُها من هذه المسلمات، بنظرةٍ معينةٍ للحياة، ورؤيةٍ خاصةٍ أو متحيزةٍ للأمور!)، وانظر تفصيل ذلك في كتابه "فلسفة علم الاقتصاد .. بحثٌ في تحيزات الاقتصاديين، وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد"!

    وفي الوقت الذي ينسى فيه علومَ الجرحِ والتَّعديل، واهتمامَ المسلمين بتوثيقِ الرواية وتأصيلِ الدراية، يكشفُ الملحدُ جهلَه بكتب التاريخ الإسلامي، فيدّعي أن "التاريخ يكتبه المنتصر"، ناسيًا – في الوقتِ نفسِه - أن تاريخ "العلم الحديث" قد يبرُق فيه الزيف، ويلمع فيه نجمُ الكاذبين، وربما استأثر المغرضون بكتابته، فهاهي حفريةُ إنسان بلتداون Piltdown man ، تظلّ حوالي أربعين سنةً معتمدةً، على أنّها الدليلُ الأقوى على تطور الإنسان، والحلقةُ المفقودةُ بين الإنسانِ والقرد، إذ الجمجمة لإنسانٍ والفكّ لقرد، حتّى تبين أن الأمر ما هو إلا خدعة، وأن الجمجمة لإنسانٍ دُفن منذ عدةِ سنين، والفكّ لقردٍٍ هلك منذ آلاف السنين، وما كانا ليلتقيان إلا بفعل "عالِمٍ" تطوُّريّ مُزيِّف، هذا مثالٌ وغيره كثير!

    وتجد الملحدَ يقفزُ على المقدمات، ليعترضَ على النتائج، متناسيًا عصمةَ الأنبياء، وعصمةَ مجموعِ الأمة من الاجتماع على ضلالة، ذلك من فضل الله وبقدرته، فيعترض على اعتمادِ المسلمِ على الرصيدِ العلميِّ المتراكمِ عبرَ قرونِ الإسلام، وذلك لاحتماليةِ تدخلِ الأهواءِ والميول، مكتفيًا بالاحتمال دون أن يُثبتَ حقيقةَ الوقوع، متجاهلًا بديهة العقول أنه ليس كلُّ ما جوّزَ العقلُ وقوعه كان واقعًا، بل يتجاهل أنّ العلمَ التجريبيَّ لا يخلو من هذه الاحتمالية، مع فارقِ ثبوتِ وقوعِها مرارًا وتكرارًا، فهاهو الأمريكي روبرت جالُّو يريد أن يحوز السبق في عزل فيروس الإيدز، فيعتمد على سلالات أتته من معهد منافسه الفرنسي لوك مونتانييه، ويظل السبق في عزل الفيروس قسمةً بينهما، حتى ذكرت إحدى زميلات جالُّو الحقيقة، وحُوّل جالُّو للتحقيق، وانتهى التحقيق ببراءته من تهمة السرقة! هذا مثالٌ وغيره كثير!

    يأخذ الملحدُ على المسلم تقديمَه ما ثبتَ عنده باليقين، من خبرِ ربّ العالمين عن خلقِ الإنسان، يأخذ عليه تقديمَه ذلك على نظريةِ التطور، وهو إذ يفعل ذلك فهو – بيقينٍ – لا يعلم معنى كلمة "نظرية"، ولا يفهم وزنها بين الحقائق، ومن باب أولى فلا يعرف شيئًا عن أصول الترجيح!

    وترى أحدَهم ينبذُ الأديان والمذاهب على سواء، احتجاجًا بأن بينها من الاختلاف ما بلغ التناقض! ولا يفكر يومًا في نبذ الطّب، لما فيه من اختلافٍ بلغ التناقض، خذ مثلًا كتاب Controversies in laparoscopic surgery، أي "مواضع الجدل في جراحة المناظير"، فهو كتابٌ يعرضُ مؤلفوه اختلافاتِ الجرّاحين في الإجراءات الجراحية أثناء جراحات المناظير، من أبسط الأمور وحتى أعقدها، ويبين حجة كل رأيٍ وأحيانًا يرجح ما يراه صوابًا، وحين تقرؤه تظنّ أنهم استقَوا الفكرةَ من كتبِ المقارنة بين الأديانِ والمذاهب!

    وفي حين يرمي أشقاهم المسلمَ بأنّ سبب إسلامه هو تأثرُه بالبيئةِ التي وُلد فيها فحسب، تراه يحتجُّ في اقتناعه بأمرٍ ما، بأنّ هذا الأمر مقبولٌ جدّا بين علماء الغرب، ومتداولٌ في جامعاتِ أمريكا وأوربا، وهذا لا يدل – فحسب – على شعورٍ متأصلٍ بالدونية، بل يدل – كذلك - على فصامٍ غريبٍ في مداركِ الوعي، إذ يستأنس بالتوجه الجمعي مرةً، ويطعن فيه مرةً أخرى بحسب الهوى!

    ويعيب الملحد على المسلم استهلاك نفسه في قضايا غيبية، مع وضوح أنّ هذه القضايا تحمل أسئلةً كبرى، تتردد في نفس كلّ طفلٍ وشيخٍ ورجل، تتعلق بالمبدأ والمصير ويتعلق بها المصير، بينما يتمسّحُ الملحدُ في الفلسفة، ويبذل مهجةَ نفسِه بغية أن يوصف بالفيلسوف، والفلسفة أغرقت في السفاسف، وشككت في البدهيات، واختلف أهلُها فلم يجتمعوا على شيء، وأمامنا سقراط "أعظم الفلاسفة شهرةً"، يقول (لا أعرفُ سوى شيءٍ واحد، وهو أنني لا أعرف شيئًا)!

    ثم تراه يشكك في استدلالِ الموحد بالسببية كدليلٍ على وجودِ الخالق، بحجةِ أنّ السببية مبنيةٌ على الاستقراء، وهذا الاستقراء قد يثبت في يومٍ ما أنه ناقص، رغم أنّ السببية بديهة أوليّة، ليست مبنية على الاستقراء كما زعم، بل يكفي في الجزم بها تصورُ طرفيها، ورغم أنّ الملحد نفسه يدعي الثقة العمياء بالمعامل، ولا يقبل إلا بنتائج التجارب، والتجارب أساسًا مبنية على الاستقراءِ الناقص أو الأغلبي وليس الكامل!

    هل يعرف الملحد مثلًا أنه في العلاج التجريبي empirical therapy ، يتم وصف الدواء للمريض، دون أن يكون هناك معرفة بكيفية وأثر الدواء في علاج المرض تحديدًا، وإنما يوصف لغلبة الظن أن هذا الدواء سينفع بناءً على تجربته قبل ذلك؟! هل يعلم الإجراءات المتبعة ليتم اعتماد المادة الكيميائية لتستعمل كدواء؟! وهل يعلم متى وكيف خضع دواءٌ بشهرة "الأسبرين" لهذه الإجراءات؟!!

    هل يدركُ الملحدُ احتمالَ الخطأِ في التجربة، سواءً في مرحلةِ الملاحظة، وما تتطلبه من سلامةِ الآلة، ودقةِ النقل، والتحلي بالموضوعية، أو في مرحلةِ إنشاء الفرضية، وما تتطلبه من توافقٍ مع باقي المعلومات، وحسنِ الصياغة ووضوحِها، واتساقِ المنطق، والتأسيسِ على ملاحظةٍ تناسبها، أو في مرحلة التجربة، وما تتطلبه من ثبات المقدمات، وإدراك الظروفِ المحيطة والعوامل المؤثرة، والتأكد من استيعاب جميع المخرجات، أو مرحلة صياغة القانون العلمي، وما يتطلبه من دقةِ لفظ، ووضوحِ معنى، وصلةٍ واضحةٍ بالتجربة السابقة؟!

    وبعدُ .. فإني لا أسعى مما سبق إلى الطعن في العلم التجريبي، فنحن – المسلمين – نعرف طبيعته، ونقدر دوره، ونفهم حدوده ومداه، ونأخذ منه ما فيه النفع، دون غلو فيه، ولا نرفعه فوق حقيقته وغايته، ولا نُعجزه بتكليفه ما لا دخل له فيه، وإنما أسعى إلى بيان أنّ المخالفين للإسلام، والمتصدرين للطعن فيه، والمتمسحين "بالعلم الحديث!"، لا يعرفون شيئًا عن علوم المسلمين، ولا يعرفون حقيقة العلوم التي يُظهرون الاقتناع بها، وبيان أن الإلحاد بأنواعه والملحدين بفئاتهم، لا ينتمون إلى منهجٍ علميّ شامل، ولا طريقةٍ فكريةٍ ثابتة، ولو كانت طريقة السفسطة!

    مردود هذا الموضوع عند الحوار، قد يتنوع أثره باختلاف غرض المحاور المسلم وفطنته، فعندما يخوض الملحد في الطعن في أدلة المسلم، يستطيع المحاور المسلم أن يُلزم الملحد بأنه يعتمد على هذه الأدلة ومثلها – بل وما هو دونها - في أشياء أخرى يجزم بها، أو أن يطالبَه بذكر مصادر العلم عنده، وعندها سيقع الملحد في حيص بيص، فذكرُ مصادر العلم يعني التزامَه بكلّ ما ينبني عليها، والشكَّ في كلّ ما خرجَ عن مدلولها، وهو لا يريد إلا أن يتخذ موقعَ المشاغبِ الذي يطعن في عقائد الآخرين، ولكنه سيضطر لذكر مصادر العلم لأنه لا يوجد إنسانٌ بغير مصادر للعلم سيما وهو يدعي انتسابه للعلم!

    الآفة التي تنتج من الارتكاز على نقطةِ مصادر العلم في الحوار، أنّ الحوار قد يأخذ القالبَ الجامدَ واللهجةَ الندّية، وهي وإن كانت كفيلةً بدفع ضررِ الملحد وإلجامه تمامًا، إلا أنها قد تلغي حوارَ القلوب ومخاطبةَ الوجدان، والتي هي عنصرٌ رئيسٌ في الدعوة للحق، على أن اللجوء لنقطةِ مصادر العلم قد يكون ضروريًّا عند إثارة الملحد لقضايا تتعلق بها، كما أن هذه الآفة التي نخشى حدوثها يمكن تلافيها بذكاء المحاور المسلم، وعلى أيةِ حالٍ فإنّ الإحاطة بمصادر العلم وأنواعه، والشبهات التي تتوجه إليها، وكيفية الرد علي مثيريها، والسبيل في إلزامهم بها، هي من الأصول التي ينبغي أن يحوزها من يتصدر لدعوة الملحدين بأنواعهم إلى الإسلام!

    وعند التأمل فإنّ المرء يرى أن تعليمَ إنسانٍ مصادر العلم، يقوم بمثابةِ تعليمه كيفية استعمال عقلِه، أو كيف يكون إنسانًا على الحقيقة، ومن جرّب ذلك عرف، ومن عرفَ وعى قوله تعالى (أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً)، وأدركَ أنّه على الحقيقةِ لا المجاز، وعلى التقريرِ لا التشبيه، وإنْ كان الخزيُ الشديدُ يتحقق بمجردِ عقدِ المقارنة بينهم وبين الأنعام، فإن الخزي لا يبلغ منتهى حين تفضُلُهم الأنعام حقيقةً!

    قال السعدي رحمه الله: (ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ، بأن سلبهم العقول والأسماع، وشبههم في ضلالِهم بالأنعامِ السائمة، التي لا تسمعُ إلا دعاءً ونداء، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، بل هم أضلُّ من الأنعام، لأنّ الأنعام يهديها راعيها فتهتدي، وتعرف طريقَ هلاكِها فتجتنبه، وهي أيضًا أسلم عاقبةً من هؤلاء).

    فهل يفيق هؤلاء قبل صليِّهم النار، يتضاغون فيها، وتلعنُ كل أمةٍ أختها، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)؟!
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    3

    افتراضي

    حق لهذه "الرائعة" أن تكون من "معلّقات" هذا القسم....فهل من مشرف حبيب يتكرّم بتثبيت هذا الموضوع؟؟؟
    لا يحزنك تهافت الجماهير على الباطل كتهافت الفراش على النار ، فالطبيب الحق هو الذي يؤدي واجبه مهما كثر المرضى ، ولو هديت واحداً فحسب فقد أنقصت عدد الهالكين


    العجب منّا معاشر البشر.نفقد حكمته سبحانه فيما ساءنا وضرنا، وقد آمنا بحكمته فيما نفعنا وسرّنا، أفلا قسنا ما غاب عنا على ما حضر؟ وما جهلنا على ما علمنا؟ أم أن الإنسان كان ظلوماً جهولاً؟!


    جولة سياحية في جزيرة اللادينيين!!


    الرواية الرائعة التي ظلّت مفقودة زمنا طويلا : ((جبل التوبة))

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    المشاركات
    1,919
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    كم تشُدُّني مواضيعك يا حسام الدين حامد
    بارك الله لك وفيك وفي علمك وزادك الله من فضله ونَفَّعك بعلمك ونَفَعَ بك

    طالب الحق يكفيه دليل وصاحب الهوى لا يكفيه الف دليل الجاهل يتعلّم وصاحب الهوى ليس لدينا عليه سبيل
    نور القلوب وطِب القلوب مُحَمَّد
    ( اللهم متعنا بحبك ومتعنا بذكرك ومتعنا بعبادتك ومتعنا بطاعتك ومتعنا بالتذلل لك )
    معضلة داروين (لغز الأحافير الكامبرية) نظرية داروين بين العلم والخيال :
    https://www.youtube.com/watch?v=bD8rNGvxS-Q

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    324
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    كلما قرأت لك موضوعا انوي ان اعلق ثم لا أجد شيئا اقوله لأنك قلت كل شيء !!
    جزاك الله خيرا أخي و أرجو ألا تغيب عن المنتدى ثانية فقد أصبحت انتظر مواضيعك بشغف .

  5. #5

    افتراضي

    جزاك الله خير اخي فعلا رائعة من الروائع

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    egypt
    المشاركات
    2,149
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاك الله خيرًا أخى الحبيب حسام.
    موضوع رائع كالعادة.

    من الأمور المضحكة أن الملاحدة يشاركون بكل قوة فى المواضيع التى تصفهم وصفًا دقيقًا , بل ويؤكدون كلام صاحب الموضوع .فالإنسان - الطبيعى - يعرف أنه من الذكاء أن تحاول الإبتعاد عن ما يشوه صورتك , ولكن الملاحدة يؤكدون صورتهم المشوهة دائمًا , وهذا أمر غريب يحتاج لدراسة :d

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2005
    المشاركات
    982
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    تم نقل المشاركة الخارجة عن الموضوع وما تبعها من ردود إلى موضوع مستقل.

    نقاش حول حدوث العالم وأشياء أخرى!

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. إني أرى الإلحاد عاريًا . (2-3)
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 04-07-2018, 03:52 PM
  2. إني أرى الإلحاد عاريًا. (4)
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى حسام الدين حامد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-25-2010, 06:52 AM
  3. إني أري الإلحاد عاريًا (2-1)
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 02-05-2010, 02:25 PM
  4. إني أرى الإلحاد عاريًا . (2-3)
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى حسام الدين حامد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-02-2007, 08:19 PM
  5. إني أرى الإلحاد عاريًا . (2-2)
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى حسام الدين حامد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-06-2007, 12:58 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء