السببية وأوهام الملحد
بسم الله الرحمن الرحيم.
يتوهم الملحد أن القول بقدم الأحداث المادية يكفيه لإنكار وجود الله، وحان الوقت ليستيقظ من أوهامه كلها لأنه ليس فقط التسلسل النهائي للأحداث يدل على وجود الله بل كذلك التسلسل اللانهائي. والدليل يبدأ بالسؤال بسيط عن سبب تأخر كل مستقبل قريب أو بعيد وسبب تقدم كل حدث أصبح في حكم الماضي. هذا السؤال لا يمكن للملحد التهرب منه أو تمييعه بحجة نسبية الأشياء.. لأن ما دام الكون يمتلك طاقة فاعلة إذاً دائما هناك أحداث مستقبلية بغض النظر عن مصير الكون. فإن كان للكون نهاية ليس بعدها أية أحداث: حينها يُطرح السؤال عن سبب تأخر تلك النهاية وتأخر نضوب الطاقة الفاعلة؟ أما إن ادعى الملحد أن الكون خالد وليس لتسلسل علله أية نهاية: إذاً دائما هناك مستقبل لم يصله الكون، وإلا لن يكون للخلود أي معنى. وفي الحالتين يقبي السؤال السابق مشروعاً: لماذا تقدم كل ماض وتأخر كل مستقبل (قريب أو بعيد)؟
ما هي العلة التامة التي أخّرت تحول شمسنا بالتحديد الى red-giant وبالتالي فنائها؟ السبب يرجع الى تأخر كل مسببات تلك المرحلة التي بدورها ترجع لتأخر علل قبلها.. وهكذا نرجع بالأسباب الى ما لانهاية دون أن نحصل على سبب واحد يمنع ذلك التأخير، لأنك مهما عدت الى الماضي السحيق فدائما هناك مساحة لإزاحة التوقيت، والنتيجة: في عالم مادي لا بداية له، لا يوجد أي مانع عقلي أو علة فيزيائية واحدة تحول دون (تقدم/تأخر) توقيت أحداث شمسنا .. لأن فنائها المُتقدم زمنيا يرجع الى نفس التسلسل الذي سيتسبب في فنائها المُتأخر! ولو تفلسف الملحد ألف سنة فلن يجد في هذا الكون المادي أي علة تامة تفرض توقيت الأحداث.
• هل هناك مانع فيزيائي؟ لا يوجد! لأن السؤال أصلاً هو عن سبب عدم (تأخر/تقدم) تسلسل العلل المادية بكل ما احتوته من قوانين وظروف فيزيائية. ولا حاجة لافتراض تغيير سلوك أو مصير أية ذرة في الكون أو أي تغيير في السنن التي تحكم حلقات ذلك التسلسل. بعبارة أخرى السؤال هو عن توقيت مرور القطار مع التسليم جدلاً بالقوانين التي تربط بين عربات ذلك القطار.
• هل هناك مانع عقلي إذاً؟ أيضاً لا يوجد! لأن التسلسل -الذي لا بداية له- ليس له قرار أو مرتكز "في نهايته" يحتم عدم تأخر أو تقدم حلقاته. ولتثبت أن الجملة المنطقية (ب) ليست نتيجة حتمية لــ(أ) يكفي أن تفترض خلاف (ب) دون أي تغيير في (أ)، فإن لم يقدك ذلك الى أي تناقض فهذا دليل على عدم حتمية النتيجة. وتطبيقا لذلك: بما أن افتراض (تأخر/أو تقدم) تسلسل عللٍ لا بداية لها هو افتراض لا يقود إلى أي تناقض.. فهذا دليل رياضي على أن توقيت أحداثٍ لا بداية لها هو توقيت غير حتمي.
• ثم ماذا؟ من عادة الملحد أن يجيب بتبلد فيقول مثلا "الواقع حدث بهذه الطريقة والسلام، فلماذا تشترط حتميته؟". والحقيقة أن في عالم جبري لا وجود للظواهر الغير حتمية. (1) لأن الجبر في الواقع الخارجي لا يتعارض مع الجبر كمنطق، (2) ولأن النتيجة في الجبر لا تحدث إلا إذا اكتملت شروطها الضرورية والكافية، (3) ومتى اكتملت تلك الشروط فلن تنفك عنها نتيجتها. وبما أنه لا يوجد سبب عقلي أو فيزيائي واحد يفرض توقيت تسلسل علل لا بداية لها. فهذا يعني أن الكون -الذي لا يخضع لإرادة حرة أزلية- يستحيل أن يظهر فيه الزمن نفسه، وذلك لاستحالة ظهور التوقيت الغير حتمي في عالم جبري.
• لكن التغييرات في الكون تحدث بالعفل رغم افتقار الكون للعلة التي تفرض توقيت أحداثه، وهذا دليل أن الإرادة الحرة هي أصل كل علة في الكون لأنه لا يوجد بعد الجبر غير الحرية. وماذا عن الصدفة كاحتمال ثالث؟ الصدفة لا معنى لها إلا إذا كان النقاش حول تعدد الاحتمالات في وقت بعينه.. أما هذا الموضوع فهو عن تعدد احتمالات التوقيت نفسه، والسبب الثاني والأهم هو أن الصدفة لا تمثل أي قوة فاعلة بل تمثل فقط احتمال يُقنن جهل الراصد، وجهل الراصد ليس له أي وزن أو تأثير في تسلسل الأحدث التي يرصدها، ولذلك فإن القوى الفاعل التي تحكم السببية في الوجود لا يمكنها أن تخرج (1) عن الإرادة التي تمثلها الحرية، (2) وعن الجبر في الواقع الخارجي الذي يمثله الجبر كمنطق. وبما أن هذا الأخير لا يمتلك العلة التامة التي تفرض توقيت حلقات تسلسلٍ لا بداية له، فلم يبقى أمام الملحد سوى الإقرار بوجود إرادة حرة هي علة بُعد الزمن نفسه.
ومن يحكم بُعدا كونيا واحداً.. يحكم بالضرورة كل النسق الكوني بكل قوانينه!
- لان من يحكم الزمن يحكم سرعات الأجسام عموماً وسرعة الضوء (c) خصوصاً..
- ويحكم كل علاقة تعتمد على (c) بما في المعادلة e=mc2 التي تربط بين المادة والطاقة!
- وما هي الطاقة من المنظور الفيزيائي؟ هي قدرة النظام على إحداث التغيير..
إذاً من يحكم الزمن.. يحكم بالضرورة كل حدث في الكون وكل علاقة بين (المادة) و(ما يطرأ عليها من تغيير)
الحديث السابق تطرق بالأساس الى توقيت "مرور القطار" وليس الى العلل التي تربط بين "عربات ذلك القطار". بعبارة أوضح الدليل السابق اعتمد فقط على عدم حتمية توقيت الأحداث دون التطرق الى عدم حتمية القوانين الفيزيائية التي تربط بين تلك الأحداث. وهناك أكثر من دليل على عدم بداهة القوانين الفيزيائية، أولها وأبسطها هو أن حركة العناصر في أي فضاء ليس أمراً بديهيا، لأنه لا يوجد قانون رياضي واحد يفرض على تلك العناصر تغيير إسقاطاتها. لا يوجد ذلك القانون ليس لأن الإنسان لم يعلمه بعد.. بل لأن افتراض أكثر من سلوك لتلك العناصر -في نفس المحيط- لن يؤدي الى أي تناقض عقلي. وتعدد الاحتمالات الممكنة عقلا هو دليل قاطع على عدم وجود قانون رياضي يفرض سلوكا دون آخر. وفي حوار من الزميل الألوهي في هذا الرابط قال الزميل: ربما في المستقبل يكتشف العلم حتمية السلوك الفيزيائي. فكان الرد: أن الاحتمالات التي تأمل أن تظهر يوما ما لن تخرج عما يلي:
- الاحتمال الأول: وجود وحدات أولية للمادة والطاقة غير قابل للتقسيم ..
- الاحتمال المتبقي: هو عدم وجود وحدات أولية لها كمّ (أكبر من الصفر) ..
وهذا يعني أن كل مادة وكل طاقة قابلة للتقسيم إلى ما لا نهاية إلى أن تصل إلى الصفر.
الزميل بعد بحث عاد ليقر أن الاحتمال الأول لا يفيد أي حتمية.. وهذه شجاعة أدبية منه يُشكر عليها. لكنه علق آماله على الاحتمال الثاني. وفي الحقيقة لم يعلق آماله إلا على ما يهدم الإلحاد أيضاً إذ يقول: ("أما لو كان الحال هو الحالة الثانية، أي أن كل طاقة قابلة للتقسيم إلى ما لانهاية -ولن تصل إلى الصفر-، يصير من المستحيل إثبات حتمية سلوك جزيء من المادة اعتماداً على سلوك الجزء الأصغر"). وفي هذا الكلام مغالطة ربما لم يقصدها الزميل.. لأن "التقسيم إلى ما لانهاية" هو فقط طريقة استدلال وتسلسل منطقي في عقولنا.. ولا يُشرط أن يحدث ذلك التسلسل اللانهائي في الواقع الخارجي حتى نقول أننا لن نصل إلى منتهاه. ويكفي أن نعلم يقينا ان أصغر وحدة (للمادة/والطاقة) إما تكون وحدة صفرية أو تكون وحدة لها كم غير قابل للتقسيم. ولا يوجد إحتمال ثالث لان من البديهيات أن الجملة ونقيضها يغطيان كل الاحتمالات. وسواء كانت المادة تمتلك أصغر وحدة أو كانت قابلة للتقسيم الى ما لا نهاية.. ففي الحالتين لا يوجد أي قانون رياضي يحتم عليها أي سلوك دون آخر، وبما أن عالم الجبر لا توجد فيه نتائج غير حتمية إذاً يستحيل أن يظهر السلوك الفيزيائي نفسه في عالم جبري غني عن إرادة حرة أزلية.
يتبع إن شاء الله...
Bookmarks