أصل المشكلة الاقتصادية بين رؤيتين:
رؤية القرآن ورؤية الإنسان
أ.د. أحمد سعد الخطيب

[يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 26وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا 28]
سورة النساء: 26-28
من هنا يكون البدء:
يريد الله ليبين لكم ما ينفعكم بعيداً عن فلسفات أُنشئت لتخدم أهلها لا لتخدمكم ولتنفع أهلها لا لتنفعكم، وقد أثبت التاريخ والواقع أن منفعتها لأقوامها لم تكن مطلقة بل كانت ناقصة؛ فكيف تنشدون أنتم فيها منهاجاً بديلاً عن منهاج ربكم؟
إن العقل المسلم أصبح أسير الواقع فلم يشأ أن يفكر لنفسه ما ينفعه ومجتمعه، مستمداً مصالحه من ثقافته وبيئته؛ ثقافة الكتاب والسنة وبيئة الإسلام والعروبة، ولم تعد الثقة متوفرة لدى العقل المسلم في إنشاء واقع يناسبه فراح يختار من المستورد ما تمده به الأيام.
ولقد أطلت الأزمة المالية العالمية برأسها، وألقت بظلالها لتؤكد فشل الرأسمالية التي راهنت عليها الليبرالية لتعيد إلى الذاكرة ما حلَّ بمنافستها وضرَّتها الاشتراكية التي عشنا منذ سنوات حفل تأبينها والنواح على قبرها.
كل هذا والعقل المسلم لا ينفك عن خياريه:
- إما رأسمالية تبلع كل شيء، وتتنازل عن كل خُلق في سبيل الاستثمار، ودفع عجلة الإنتاج، مستغلة حاجيات الناس بمعاملات ربوية؛ سواء كانت في عملية تجميع رأس المال من أصحابه عبر بنوكها، أو في عملية توزيعه على المستثمرين، وكان من آثار هذا كله تكريس البطالة، وزرع الأنانية، والإغراق في الحروب لسلب مقدرات الشعوب، ناهيكم عن الفتن والإيقاع بين الشعوب، ليعيش الرأسماليون على حساب هذا كله تحت شعار «من لم يقتله الفقر، فلتقتله الحرب، ومن لم ينشغل بالهوى، فلينشغل بالخلاف» {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}
[النساء: ٧٢].
تلك هي ملحمة الرأسمالية المتشحة بوشاح الطمع فيما ينعم الله - عز وجل - به على عباده في بقاع الأرض، والرغبة في امتلاكه بكل الوسائل زاعمة أنه حق لها وحدها.
- وإما اشتراكية تأكل حقوق الناس وتسلب مقدراتهم وتزيل كل الفوارق؛ لا للمصلحة العامة كما يعلن أتباعها ولكن ليستوي عامة المجتمع في الفقر والعوَز، ثم الحاجة إلى النخبة الاشتراكيين صنَّاع القرار ليمنّوا عليهم بما يضمن الحياة.
وإذا كانت الرأسمالية قد دأبت على قتل الفقراء لصالح الأغنياء؛ فإن الاشتراكية قد قتلت الأغنياء والفقراء معاً.
والآن يرينا الله - تعالى - بفشل الرأسمالية بعد موت الاشتراكية أنه لا يمكن لنا أن نركن إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ويمنحنا الفرصة لنعبِّر عن أنفسنا من جديد، ولنُعلن للعالم أجمع أن اقتصاد القرآن يدعم كل صاحب حق حتى يصل حقه إليه، في جوٍّ خالٍ من الحقد والكراهية، وخالٍ من الفتن والمؤامرات ومليء بالثقة في الله، وأن كل نفس لا تموت حتى تستوفي رزقها، وأن القرآن يدفع إلى الإنتاج وإعمار الأرض لا إلى تخريبها وتدميرها، وأن للفقير حقاً عند الغني يسدُّ به حاجته ولا يُفقِد الغني ثروته.
وفي هذه الدراسة إطلالة على اقتصاد القرآن الذي يطل الآن علينا بعينَيْن ثاقبتَيْن يرفل منهما حنان على أبنائه وعتاب على التغافل عنه. مع الموازنة بينه وبين الاقتصاد الوضعي المعاصر - الذي أعلن الآن فشله بأنظمته وألوانه كافة - في النظر إلى أصل المشكلة الاقتصادية التي على أساسها يكون التخطيط الاقتصادي، ومن خلالها تحدد أهدافه وغاياته.
أولاً: الموازنة من حيث المفهوم:
الاقتصاد المعاصر هو العلم الذي يحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تنشأ بين أفراد المجتمع من خلال إنتاج السلع وتوزيعها وتقديم الخدمات إشباعاً لحاجيات الإنسان، وعلى هذا يكون إشباع حاجات الإنسان هو هدف الاقتصاد بمفهومه المعاصر.
أما الاقتصاد الإسلامي فإن مفهومه يقوم على المواءمة بين دور الفرد والجماعة في استغلال الموارد الطبيعية والمحافظة على الملكية الفردية والملكية العامة في آنٍ واحد؛ ليتسنَّى تحقيق حد الكفاية لأفراد المجتمع كافة.
ومن خلال طرح مفهوم الاقتصاد في النظام الوضعي وفي النظام الإسلامي يتسنَّى لنا بالموازنة بينهما الكشف عن شرف الاقتصاد الإسلامي وسمو أهدافه؛ إذ إنه يهدف إلى توفير حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع فرداً فرداً، بخلاف الاقتصاد الوضعي الذي يهدف إلى توفير الحاجيات الإشباعية، والتي قد تصل إلى حد الإسراف والبذخ، ولكن لبعض أفراد المجتمع وليس لكلهم كما سيتضح ذلك ويتجلى أكثر فيما هو آتٍ.
ثانياً: من حيث سمات كل منهما:
من سِمَات الاقتصاد الإسلامي مقارنة بالاقتصاد الوضعي:
الاقتصاد الإسلامي
الاقتصاد الوضعي
1 - رباني المصدر وينظر إليه على أنه وسيلة لا غاية.
2 - الرقابة فيه ظاهرة وباطنة فقانون الإسلام الظاهر لا يحمي أي ظالم متجاوز لحق الله والمجتمع في المال ويبقى خوف المؤمن من الله لائماً لصاحبه إن هو فرَّط في هذا ولم ينله قانون الظاهر.
3 - الأخلاق والآداب الإسلامية تحفه بجناحيها فالمسلم مقيد بأن يكون نشاطه غير مناف لآداب الإسلام وقواعده ومن ثم حرم الاحتكار والربا وغيرهما.
1 - بشري المصدر وينظر إليه على أنه غاية تبرر له كل وسيلة.
2 - القانون فيه وضعي وهو بهذا لا يخلو من ثغرات تساعد على التهرب من عقابه.
3 - لا يوجد قيود أخلاقية ولا حرام في الاقتصاد الوضعي بل المصلحة المادية هي الأساس والنفعية هي الأصل تحت شعار «دعه يعمل دعه يسير».

ثالثاً: من حيث الوسائل:
وسائل الرأسمالية في تصوير المشكلة الاقتصادية وحلها:
ذكرنا فيما مضى أن أسَّ المشكلة الاقتصادية في النظام الاقتصادي الحديث «الرأسمالية» هو ما يعــرف عنــدهم بـ «الندرة النسيبة»، وهي نظرية تشاؤمية يعتقد من خلالها الاقتصاد الوضعي أن الموارد التي تنتجها الأرض غير كافية للسكان ولذا يعيشون في همٍّ دائم؛ كيف يتغلبون على هذه المشكلة، ولذا يكادون يجمعون على أن الحل الوحيد هو العمل على عدم الزيادة السكانية بما يبثونه في دول العالم الثالث من ضرورة تحديد النسل، وعدم دعم الفقراء بالمعونة، بل يترك الفقير ليموت بفقره أو لتنهكه الأوبئة؛ وهذا من العوامل السلبية في علاج المشكلة في نظر الرأسمالية.
وهناك عامل إيجابي – أي: يقوم على الفعل وليس على السلب - يعتمد على بث الفتن والتشجيع على الحروب، التي تأكل من الكيان البشري الكثير والكثير. ولعل هذا يوقفنا إلى حدٍّ كبير على سبب رئيس لتشجيع الدول الرأسمالية الحروب ما دامت بعيدة عنها وخاصة إذا كان طرفاها من الدول الإسلامية، أو على الأقل طرف منها من الدول الإسلامية؛ ليتم التخلص من كثير منهم بالقتل بأسلحة الدمار الشامل التي تُقذَف عن بُعْد جواً وبراً وبحراً، وهي من صنع الرأسمالية المتربحة دائماً.
واستهداف الدول الإسلامية بالذات له أسباب عديدة، من أهمها فيما يتصل بموضوعنا: أن الإسلام دعا إلى كثرة النسل وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مظهر مباهاته بأمته يوم القيامة، وتعد نظرية (مالتس) في السكان من أهم النظريات التي يعتمدها علم الاقتصاد الحديث؛ إذ يُعَدُّ (مالتــس) أهــمَّ من صاغ نظــرية النــدرة النسبيــة وركــز عليها ولذا يُـدعَى «أبا الرأسمالية»، ومضمون ما ذكره (مالتس) أن السكان يزدادون بمتواليات هندسية بينمــا الموارد تزداد بمتواليات عددية أو حسابية.
أما الاقتصاد الإسلامي فإنه لا يعتبر هذه المشكلة؛ لأن من مقتضيات الإيمان الثقة بأن الله - تعالى - قد أودع الأرض أرزاق أهلها.
رابعاً: من حيث الهدف والغاية:
النماء الاقتصادي في النظام الوضعي يعمد إلى تحقيق زيادة في الناتج القومي تحقق زيادة في متوسط دخل الفرد وذلك باستخدام الموارد الاقتصادية المتاحة واستغلالها أفضل استغلال.
وقد سبق أن ذكرنا أن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا النظام هو القضاء على ما يُعرَف بالندرة النسبية للموارد.
وهذا حَسَنٌ على المستوى النظري، أما على المستوى التطبيقي فإن الوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى تجاوزات في الوسائل المحققة لهذا الغرض وهو ما سيأتي في المواجهة بين الوسائل.
وأما النماء في الاقتصاد الإسلامي فإنه يعمد إلى استغلال الموارد التي هيَّأها الله - تعالى - للإنسان أفضل استغلال لإعمار الأرض والمحافظة على النوع البشري في إطار من أخلاق الإسلام وتحقيق مقاصده الشرعية بما يحقق الكفاية للجميع من خلال منظومة «الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات».
الموازنة والتحليل:
بالنظر إلى الاستراتيجية والخطط في كلا النظامين الإسلامي والوضعي يتبين لنا شرف الاقتصاد الإسلامي وعلوُّه على غيره، وبيان ذلك فيما يلي:
الهدف الاقتصادي في النظام الوضعي هو تحسين متوسط دخل الفرد نتيجة لزيادة معدلات الدخل القومي.
وقد يبدو المدخل مشرقاً بما يدفع إلى هذا التساؤل: وماذا في هذا الهدف؟ إنه هدف نبيل فلماذا نقف عنده؟ لكن هذا الإشراق لا يلبث أن يزول بعد أن يجنَّ عليه الليل، وذلك عندما نعلم أن الناتج القومي المقصود ينظر إلى النمو على مستوى المجتمع، لا على مستوى الأفراد، ويعالج الزيادة في الإنتاج الكلي وفي الدخل القومي، لا في إنتاج كل فرد ومقدار دخله.
وبناءً على ذلك يجري حساب معدلات النمو من خلال حساب الإنتاج الكلي الذي ينتجه المجتمع كلّه والدخل الناتج عـن هــذا الإنتــاج، وبنــاءً على حســاب الميزان التجــاري وما يحققه من عجز أو فائض في الدخل الكلي، ثم بناءً على هذه الحسابات الكلية يجري تقدير افتراضي لدخل الفرد ومقدار كفايته أو رفاهيته، وهو تقدير يبعد كثيراً عن الواقع.
ولهذا نجد المجتمعات الرأسمالية كلما ازدادت غنىً ازداد طردياً أعداد الفقراء فيها.
أما الاقتصــاد الإســلامي فــإنه لا ينظــر إلى التنميــة - رغم أهميتها - على أنها القضية الاقتصادية الأولى؛ لأن سُلَّم الأولويات في الاقتصاد الإسلامي نابع من منهج الإسلام نفسه من العناية بكل فرد في المجتمع ليتمخض عن ذلك الرعاية المجتمعية الشاملة، ومن ثم فإن المشكلة الأولى التي يسعى الاقتصاد الإسلامي إلى القضاء عليها هي الكفاية الإشباعية من الحد الضروري أولاً لدى جميع أفراد الرعية بغض النظر عن وفرة الموارد أو ندرتها.
وهذه الكفاية لا يُنظر إليها باعتبار المجموع أو باعتبار متوسط الدخل، وإنما يُنظر فيها إلى الأفراد فرداً فرداً، ويتم حلُّها عن طريق تنظيم توزيع الثروة من خلال الزكاة والنفقات والمواريث، ومن خلال رعاية الدولة للفقراء والمساكين وفي ضوء المفهوم الشامل للتكافل الاجتماعي الإسلامي.
وهذا هدف نبيل جداً يضمن حفظ النوع بجعله مسؤولية المجتمع المسلم ثقة في أن رزق الله يسع الجميع، وليس معنى ذلك أن الاقتصاد الإسلامي يحط من شأن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج، ولكنه يجعلها في المرتبة الثانية من الأهمية بعد تحقيق الكفاية والحياة الكريمة لجميع أفراد الرعية.
فالإسلام يراعي هذا التسلسل الذي ذكره الشاطبي في موافقاته: الضروريات - الحاجيات - التحسينيات.
وهو بهذا المنطلق لا يسعى إلى التغلب على المشكلة الاقتصادية الرئيسة في الاقتصاد الوضعي وهي مشكلة «الندرة النسبية» لسبب واضح وهو أن الإسلام لا يعترف أصلاً بها؛ فالقــــرآن الكـــريم يذكـــر لنا في العديد من آياته أن الله - تعالى - قد أودع هذه الأرض رزق أهلها:
ومن هذه الآيات ما يلي:
1 - قوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٩٢].
وهي آية سيقت في مقام الإنعام على بني آدم، وهي نعم كثيرة جداً تضمن لهم العيش بأمان وكفاية بل برفاهة أيضاً إن هم اجتنبوا أسباب الدمار وكرَّسوا جهدهم للإعمار والنماء. ويساعد على تلمس هذا المعنى التعبير بـ «ما» المشعرة بعموم ما في الأرض ثم تأكيده بهذه الحال «جميعاً»؛ إذ هي حال من «ما» على الأرجح بقرينة السياق؛ إذ هي في سياق تعداد النعم وهي مؤكدة لمعنى العموم المستفاد من الموصول «ما».
والآية في الوقت ذاته تؤكد على شراكة النوع البشري فيما خلق لأجله {خَلَقَ لَكُم} بلا طمع ولا جشع، بل بعدالة اجتماعية تضمن للجميع الحد الضروري، وبعدها يكون التفاوت مقبولاً بعد تجاوز الحد الضروري إذا شرفت الغايات وسلمت الوسائل.
ويؤكد المفسرون على أن المنفعة المفهومة من قوله «لكم» تشمل المنفعة الدينية والدنيوية. يقول العلامة أبو السعود في تفسيره لهذه الآية:
«أي: خلق لأجلكم جميعَ ما في الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة، وأمورِ دينكم بالاستدلال بها على شؤون الصانعِ تعالى شأنُه، والاستشهادِ بكل واحدٍ منها على ما يلائمُه من لذّات الآخرة وآلامِها، وما يعمُّ جميعَ ما في الأرض»[1].
2- قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: ٠١].
وفي هذه الآية أيضاً يتبدَّى معنى العموم للمنتفعين من نعمتَي التمكين والعيش من خلال الشمولية في قوله: {مَكَّنَّاكُمْ} وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}. والتمكين في الأرض هو القرار فيها بالسكنى والانتفاع بالنِّعم الظاهرة فيها، فيشمل نباتها وحيوانها وماءها، وفوق هذا جعلها طيِّعة مسخرة للمنعمين تجود عليهم بما في باطنها عند مباشرة أسباب حصوله.
وهذا حاصل؛ فكم استخرج الإنسان بمباشرة الأسباب ما في باطن الأرض من خيرها ومنه النفط والمعادن، وما ذلك إلا بتسخير الله - تعالى - للأرض وجعلها مذلَّلة للإنسان، قال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: ٠٢]، وقـال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: ٥١].
و «معايش» جمع معيشة، قال ابن عادل في اللباب: «المعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا، وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش»[2].
والمعنى على هذا «جعلنا» ما يكون به العيش للجميع، وهذا يشمل ما يتحصل عليه بالطريق المباشر من النِّعم الظاهرة، أو بمباشرة الأسباب من النِّعم الباطنة، أو التي تحتاج إلى حراك بشري بطريق التصنيع.
وهذه الآية كسابقتها شاهدة بأن الأرض تحوي أسباب المعيشة للجميع.
3 - قوله - تعالى -: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: ٦].
هذه الآية وحدها كافية في القطع بأن رزق الله مضمون لكل متحرك على الأرض بل في الأرض؛ فضلاً من الله - تعالى - ألزم به نفسه حتى إنه ساقه مساق الواجبات عليه مع أنه - سبحانه - لا يجب عليه شيء فقال: {عَلَى اللَّهِ}. ولتأكيد هذا المعنى قال - سبحانه -: {فِي الأَرْضِ} ليشمل هذا ما نعرفه مما يدب على الأرض وما يستقر في داخلها مما لا نعرفه ولا يعلمه إلا الله، ولذلك قال بعدها: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فهذه المعاني العظيمة التي يكتسبها المؤمن بإيمانه هي التي تساعده على تخطي عقبة الشره المادي والطمع فيما في أيدي الآخرين وتدفع به نحو مساعدتهم ليس فقط بما ألزمه به الإسلام وفرضه عليه كالزكاة، ولكن صدقات التطوع تشق طريقها في المجتمع المسلم ممثلة في المشاريع الخيرية والتبرعات العينية والأوقاف ونحــو ذلك، ولا إخال مجتمعاً آخر يُقْبِل فيه الأثرياء على الفقراء كما يوجد في مجتمع الإسلام، ولا أتصور أن كلمة «تبرُّع» تُذكر في مجتمع كما تُذكر في المجتمع المسلم.
وليس ذلك إلا لأن المسلم يثق في أن الذي رزقه هو الله، وأن رزقه هذا فيه حق لغيره ينبغي إخراجه، وأن هذه الحياة الدنيا كلها بنعيمها ما هي إلا قنطرة للآخرة.
4 - وقوله - تعالى -: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: ٩١ - ٠٢].
وهذا النص الكريم يؤكد على هذه الحقيقة الكبرى التي هي عندنا من دعائم الإيمان، وهي أن الله - عز وجل - قد كفل للجميع، أرزاقهم وأن هذه الأرض غنية بما يضمن العيش للجميع، ودلائل ذلك في الآية:
أ - قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}:
وقد اختلف في مرجع الضمير في قوله «فيها» على رأيين كل منهما يعطينا دلالة قوية على ما نحن بصدد تقريره:
فقيل: هو راجع إلى الأرض، ويرجحه دلالة السياق؛ لأن الحديث في النص الكريم هو عن الأرض وما فيها من نعم الله على العباد، ولأن النبات يكون فيها، ولأن الأرض شاملة للجبال أيضاً وما فيها.
وهو رأي وجيه مفادُه أن ما يخرج من الجبال هو خارج من الأرض، ومعلوم أن المعادن تخرج من الجبال، والنبات النافع أكثره يخرج من الأرض أي: من التربة.
وقيل: هو راجع إلى الجبال[3].
وأيّاً ما كان مرجع الضمير فهو يؤكد على الحقيقة ذاتها التي تُفنِّد كل زعم يعلن فقر الأرض.
وهو زعم يدفعه أيضاً هذا الوصف {مَّوْزُونٍ}، قال ابن جرير الطبري: أي مقدر وبحد معلوم[4]. وهو تلخيص جيد لما عليه السلف في بيان معنى اللفظ، وهو هنا ميزان الحكمة بما يضمن حاجيات من كلفوا بإعمار الكون.
ب - قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}:
وهذه الآية تقرر زيادة على ما سبق في معنى المعايش في آية الأعراف؛ أن رزق كل إنسان مناط بمن بيده الرزق ومفاتحه؛ فلا يجزعن إنسان خوفاً من أن يردَّ أحد عنه رزقاً قد قدَّره الله له.
وفي الآية ردٌّ على غرور من يعتقدون أن بيدهم مفاتيح رزق الخلق وأنهم سيمنعونهم هذا الرزق إن لم يركنوا إليهم ويمشوا في ركابهم.
وهذا المعنى مبنيٌّ على ما ورد عن السلف في تفسير قوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}، فقد ورد عنهم أن المعنيَّ بهم العبيد والإماء والدوابّ والأنعام، حيث إن كثيراً من الناس يظنون أنهم هم من يرزقون ضعفاءهم من البشر ومن الحيوان، فردَّت عليهم الآية بأن الله - تعالى - يرزق الجميع: السادة والعبيد؛ فكيف إذن يرزق غيره من لا يملك رزق نفسه؟
والموصول في جملة {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} وهو «مَن» الظاهر فيه أنه «في موضع جرٍّ عطفاً على الضمير المجرور في (لكم)، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش»[5].
والمعنى: جعلنا في الأرض معايش لكم، ولمن لستم له برازقين وهم ضعفاؤكم[6].
5 - قوله - تعالى -: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: ٩ - ٠١].
وشاهدنا هنا هو قوله - تعالى -: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} فهي قاطعة في النص على احتواء الأرض على ما يقتاته كل من عليها وما عليها.
قال ابن جرير الطبري في معناها: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم[7].
وإضافة الأقوات إلى الأرض لكونها خارجة منها، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.
وفي تفسيرها يقول الفخر الرازي: «قوله {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي: قدَّر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه - تعالى - جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى إن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول: صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحِرَف والصنائع بركة؛ لأن الله - تعالى - وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}. وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً»[8].
راصد الدراسة:
ينتهج أكثر علماء الاقتصاد الإسلامي منهجاً تلفيقياً من خلال استخدام مصطلحات الاقتصاد الوضعي في محاولة للتوفيق بينه وبين الاقتصاد الإسلامي، ولا نستطيع أن نغضَّ الطرف عن تكلُّف الكثيرين منهم في محاولة التقريب بين مفاهيم اقتصادية وافدة صيغت لمجتمعاتها غير الإسلامية وبين الاقتصاد الإسلامي المؤسس على نصوص الكتاب والسنة.
ويعمل بعض علماء الاقتصاد الإسلامي على تنقية المفاهيم الاقتصادية الوضعية من الشوائب التي تتعارض وفلسفة الإسلام الاقتصادية؛ لتتسق معها، ومع ذلك فإن هناك نوعاً من الإصرار على استخدام المصطلحات نفسها رغم أن تراثنا ولغتنا أقدر من غيرهما على تحمل المضامين الاقتصادية، حتى عندما يعمد بعضهم إلى ذكر المصطلح كما هو موجود في تراثنا مثبتاً أنه أسبق في وضعه عن المصطلح الوضعي، إلا أن هذا يبقى في الإطار النظري، فإذا نزلنا إلى الواقع وجئنا إلى المؤسسات المالية كالبنوك فوجئنا بشيوع المصطلح الوضعي بلا منازع.
وإن السبب - في رأيي - في هذا الحصار الخانق للمصطلح الوضعي وتغلبه على المصطلح الإسلامي في علم الاقتصاد؛ راجع إلى أن علم الاقتصاد الإسلامي بطريقته الحديثة يعدُّ إلى حدٍّ ما جديداً ويحتاج إلى علماء قد زاوجوا بين فقه الأصلَيْن الشريفَيْن (الكتاب والسنة) وبين الاقتصاد بوصفه علماً يعمل على الموازنة بين الإنتاج والاستهلاك ولكن في ضوء شرع الله وليس في غيره.
وتجاوباً مع هذا الخلل يجب على الجامعات الإسلامية في بلداننا العمل على سدِّ هذا الجانب بإنشاء مراكز متخصصة في الاقتصاد الإسلامي يدرس فيها الطالب خلال مرحلة جامعية فقه المال وعلم الاقتصاد على أن يدرب الطلاب على الابتكار وليس على مجرد التوفيق أو التلفيق بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي.
كما أنني أقترح أن يعمل علماء الاقتصاد والفقه الإسلامي على تنقية المعاملات الاقتصادية الإسلامية من المصطلحات الوضعية التي تسيء إليه، وذلك باستخدام بدائلها المتوفرة في الفقه الإسلامي، أو استحداث مصطلحات تتفق والرؤية الاقتصادية الإسلامية، إذا لم يكن الفقه الإسلامي قد انطوى على ما يعبِّر به عن بعض المعاملات الحادثة.


________________________________________
[1] إرشاد العقل السليم لأبي السعود: 1/100، وينظر: تفسير الفخر الرازي: 1/423.

[2] ينظر: اللباب لابن عادل: 7/276.

[3] ينظر في الكلام عن مرجع الضمير في كل من: تفسير الآلوسي: 9/469، وتفسير الفخر الرازي: 9/294.

[4] تفسير الطبري: 17/79.

[5] ينظر: البحر المحيط لأبي حيان: 7/190.

[6] ومعلوم أن البصريين يعارضون جواز عطف الظاهر على الضمير المجرور إلا بإعادة حرف الجر وهو رأي فيه تكلف؛ لأن القرآن الكريم سلك ما يخالفه، فعطف على الضمير المجرور بدون إعادة حرف الجر في قوله - سبحانه -: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ} [البقرة: ٧١٢]، وكذلك قراءة حمزة: تساءلون به والأرحام؛ بالجر، وفي الشعر العربي الكثير مما يؤيد الجواز.
وأما المعارضون فلهم في توجيه هذا الإعراب اتجاهات أخرى فقال الزجاج: «مَن» منصوب بفعل محذوف تقديره: وأعشنا من لستم أي: أمماً غيركم؛ لأنّ المعنى أعشناكم . وقيل: عطفاً على معايش أي: وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع».
[7] تفسر الطبري: 21/435.

[8] تفسير الفخر الرازي: 13/370.