النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم ..

  1. #1

    افتراضي الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم ..

    الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم
    أ. د. محمد أحمد محمود

    الحمدُ لله العزيز الوهَّاب، والصَّلاة والسَّلام على من مُعجزته الكتاب، وعلى من آزره والتف حوله من الآل والأصحاب، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الجزاء والحساب.

    أمَّا بعد:

    فإنَّ القرآن الكريم هو الكتاب الخالد، والمُعجزة التي تَمتاز على سائر المُعجزات بأَبَديَّتها على مرِّ العُصُور، وتتابُع الأجيال.

    وإنَّ جوانبَ الإعجاز في القُرآن المَجيد لتجلُّ عن الحصر، ولسوف يظلُّ يقذف في وُجُوه المُعاندين بهذا التَّحدي المُعجز: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[1]؛ فإعجازُه في أساليبه وتراكيبه، ومَعانيه وتصويره، وحُججه وبَراهينه، وأخباره وأحكامه وتشريعاته، وهدايته وإرشاده.

    ثُمَّ إنَّ وجوه الإعجاز في هذا الذِّكْر الحكيم لا تُحَدُّ ولا تنفد عَبْر الزمان، بل إنَّها تتَّسع باتِّساع العُلُوم والمعارف: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ}[2].

    وسوف أتَنَاولُ في هذا البحث جانبًا واحدًا من جوانب إعجازه؛ فقد كلَّفتْني اللجنة العلمية الدائمة، لقسم التفسير وعُلُوم القُرآن، "جامعة الأزهر"، بكتابة البحْثِ المرجعي في: "الإعجاز التشريعي في القرآن".

    وإنِّي لأتوجَّه إلى الله - عزَّ وجل - راجيًا منه العون والتَّوفيق لما فيه خدمة كتابه العزيز؛ إنَّه نعم المولى، ونعم النَّصير.


    الإعجاز التشريعي في القرآن


    معنى الإعجاز في اللغة:

    العَجُز - بضَمِّ الجيم -: مُؤخر الشَّيء، وجَمعُه: أعجاز، والعجز الضَّعف، وأعجزه الشيء: فاته، وعَجَّزته تعجيزًا: ثبَّطته، ونسبته إلى العجز[3].

    والعجز: أصلُه التَّأخُّر عن الشيء، وحُصُوله عند عَجُز الأمر، أيْ: مُؤخره، وسار في التعارف اسمًا للقُصُور عن فعل الشَّيء، وهو ضد القدرة[4].

    أعجزتُه وعاجزتُه، جعلته عاجزًا، وقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}[5]؛ وقرئ (مُعَجِّزِين)[6]، فمعاجزين - قيل معناه -: ظالمين ومُقدرين أنَّهم يُعاجزوننا؛ لأنَّهم حسبوا أن لا بَعْثَ، ولا نشور، فيكون ثوابٌ وعقابٌ؛ وهذا في المعنى كقوله - تعالى -: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[7].

    ومعجزين: ينسبون من تَبِعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - إلى العَجْز نحو جهلته وفسقته، وقيل معناه: مُثبطين، أيْ: مُقنطين النَّاس من النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - كقوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[8]اهـ[9].

    معنى التشريع في اللغة:

    الشَّرع في اللغة: مصدر شَرَعَ بالتخفيف، والتَّشريع مصدر شرَّع بالتشديد، والشَّريعة في أصْل الاستعمال اللُّغوي: مَورد الماء الذي يقصد للشُّرب، ثُم استعملها العربُ في الطريقة المستقيمة، وذلك من حيثُ إنَّ الماء سبيلُ الحياة والسلامة، ومثل ذلك أيضًا الطريقة المستقيمة، التي تهدي النُّفوس فتحييها.

    قال الراغب: "الشَّرع: نَهجُ الطَّريق الواضح، يُقال: شرعت له طريقًا، والشَّرعُ مصدر، ثُم جُعِل اسمًا للطَّريقِ النَّهْجِ، فقيل له: شَرَعَ، وشَرْع وشَرِيعة، واستعير ذلك للطَّريقة الإلهيَّة"[10].

    معنى الإعجاز التشريعي في القرآن:

    هو إثباتُ عَجْز البشر جميعًا عن الإتيان بِمثل ما جاء به القُرآن من تشريعاتٍ وأحكام، تَتَعلَّق بالفرد والأُسْرة والمجتمع في كافَّة المجالات.

    المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي في القرآن:

    وليس المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي هو مُجرد إثبات الإعجاز، وإنَّما المُراد منه لازمه، وهو إثْبات صِدْق النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - وبيان كون القُرآن من عند الله - عَزَّ وجل -: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[11].


    الشمول


    إنَّه من الأدلَّة الدَّامغة، والبراهين القاطعة على الإعجاز التَّشريعي في القرآن - اشتمالُ القُرآن المجيد نفسه على المَقاصد الأساسيَّة، والقواعد الكُلِّية للشريعة الإلهيَّة، التي تُنظِّم كلَّ شؤون الحياة، وفي الوقت نفسه تُحقِّقُ العَدْل التَّام بين الجميع، بقطع النظر عن الانتماءات الدينية أو العرقية أو غيرها، وهذا بالقطع لا يدخلُ تَحت استطاعة أحد من البشر كائنًا من كان.

    ومِمَّا يدُلُّ دلالة دامغة أيضًا على الإعجاز التشريعي في القرآن: أنَّ العرب كانوا أمَّة أمِّية لم تكن لهم ثقافة، ولم يكونوا يعرفون إلاَّ التَّحاكم إلى العِرْق القبليِّ وقتَ نُزُول القرآن المجيد على النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - فهذا ولا رَيب هو الإعجاز ذاته.

    ذلك أنَّه من الأُمُور البدهيَّة عند عُلماء القانون والاجتماع، أنَّ آخر ما يُتوَّج به تقدُّم أي أمة من الأمم هو تكامُل البيئة القانونيَّة والتشريعيَّة في حياتها.

    إذًا فظُهُور قانون مُتكامل في أمَّة من الأمم، هو الذِّروةُ العُليا لتقدمها الحضاري، وليس العكس؛ إذ إنَّ الأمَّة التي لم تتقدم حضاريًّا، أو التي ما تزال تعيش في طَوْر البداوة، ليس في حياتها من التعقيد الاجتماعي ما يُشعر بالحاجة إلى وَضْع قانون عام، ولكنَّها تشعرُ بذلك كلَّما تقدمت حضاريًّا، وازداد تركيبُها الاجتماعي تعقيدًا.

    إلاَّ أن الذي ظهر في الجزيرة العربيَّة قبل أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، كان عكس هذا القانون البَدَهي تمامًا، فقد ظهر فجأة بين تلك الجماعات البدائيَّة قانون متكامل، يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية، ويرسم صُورة للعلاقات الدَّوليَّة، ويضع نظامَ الحرب والسلم، ويضع نظامًا للعلاقات الماليَّة والسياسيَّة وهكذا، تشريعٌ مُتكامل لا يَترك من أُمُور الحياة صغيرة ولا كبيرة إلاَّ عالَجها وقنَّن لها، هذا في الوقت الذي كان فيه عَرَب الجزيرة لا يعرفون شيئًا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، فلم يأْخُذُوا بنصيبٍ وافر من العلم أو الحضارة، مِمَّا يعد خُطُوات أساسية لا بُدَّ من اجتيازها قَبْل وضع القانون العام[12]؛ فهذا التشريع الذي اشتمل عليه القرآن المَجيد وَجْه من وُجُوه إعجازه التي لا تُحدُّ، وهو الذي جعل من المسلمين الأوائل أُمَّة لا نظيرَ لها في التاريخ، فقام المجتمع المِثالي، وأقيمت المدينة الفاضلة التي طالما خامَرَت عُقُول كثير من المُفكِّرين والمُصلحين على مَدَى تاريخ البشريَّة الطويل.

    إنَّ القُرآن الكريم يبدأ بتربية الفرد؛ لأنَّه لَبِنة المجتمع، ويقيمُ تربِيته على تَحرير وُجدانه، وتحمله للتبعة؛ يُحرِّر القُرآن الكريم وُجدانَ المسلم، بعقيدة التَّوحيد الذي يُخلصه من سُلطان الخرافة والوهم، ويفكُّ أسْرَه من عُبُودية الأهواء والشَّهوات، حتى يكون عبدًا خالصًا لله.

    وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ شرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مَفروضة يُرادُ بها صلاحُ الفرد، ولكنَّها مع ذلك ذات عَلاقة بصلاح الجماعة[13]، ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأُسْرة؛ لأنَّها نواة المجتمع، فشَرَع القُرآن الزَّواج؛ استجابة للغريزة الفطريَّة، وإبقاءً على النَّوع الإنساني في تناسُل نظيف.

    ويقوم رباط الأسرة في الزَّواج على المودَّة والرحمة؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[14]؛ قال ابن كثير: {مَوَدَّةً} وهي المحبة، {وَرَحْمَةً} وهي الرَّأفة، فإنَّ الرَّجُل يُمسك المرأة، إمَّا لمحبة لها، أو لرحمة بها، بأنْ يكون لها منه ولد، أو لحاجة إليه في الإنفاق، أو للأُلْفة بينهما، وغير ذلك[15].اهـ.

    وأوجب أنْ تكونَ عِشرة الرجال لهن بالمعروف؛ فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[16]، وهو النصفة في المبيت، والنَّفقة، والإجمال في القول[17].

    وللرِّجال حُقُوق، وللنِّساء حقوق قرَّرها القرآن المجيد؛ فقال سُبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[18].

    وعن قضيَّة تعدُّد الزوجات، التي يُحاول أن يستغلَّها بعض المُشككين والمغرضين، فإنَّ الإسلام لم يُنشئ قضية التَّعَدد، التي كانت معروفة وسائدة في المجتمعات السابقة قبل نُزُول القرآن، الذي رخَّص فيه وقيَّده بشرط العدل، وحذَّر أشد التحذير من الظُّلم أو الجور، بل أَمَرَ بالاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل؛ ويدُلُّ على ذلك ما رُوي من أنَّ غيلان بن سَلَمة الثَّقفي[19] - رضي الله عنه - أسلم وله عَشْر نسوة في الجاهلية، فأسْلَمْن معه، فأمره النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ[20]، علمًا بأن المجتمعات غير المسلمة المباح فيها هو التعدد المُحرَّم؛ فالتعدُّد في المجتمعات الإسلاميَّة تعدد مُقيَّد بشروط، وهو في إطار سياج من الخُلُق والفضيلة، والتعدد في المجتمعات غير المسلمة تعدد غير مقيد بقيود، بل هو بعيد عن الأخلاق والفضيلة، وبعيد عن إطار الحياة الزَّوجيَّة.

    وفي القرآن الكريم يقومُ الحكم على أُسُس العدل التام، والمساواة، والشورى، وكلِّ ما من شأنه أن يحفظَ سلامة المجتمع، ويُحافظ على أمنه واستقراره؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[21]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[22]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[23]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى}[24]، {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[25].

    ومن أجل صيانة المُجتمع وسلامته، يُقرِّر التشريع القرآني الحفاظَ على الكليَّات الخمس وهي:
    1- النفس.
    2- العقل.
    3- العرض.
    4- الملكية.
    5- النظام العام.

    ومن أجل الحفاظ على هذه الكلِّيَّات الخمس، التي تتَّفق كلُّ المجتمعات على صيانتها والحفاظ عليها، حذَّر القرآن الكريم من الاعتداء عليها، وَوَضَع ما يُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات أو الحدود.

    الحفاظ على النفس:

    لقد كرَّم القرآن الإنسان، وبيَّن أنه خليفة الله في الأرض، وحرَّم قتل الإنسان لنفسه؛ لأنَّها ليست ملكًا له، إنَّما هي ملك لله وحدَه؛ فقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[26].

    كما شَرع القِصاص وجعله ظرفًا للحياة في قوله - تعالى -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[27]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطًَا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[28].

    فالتَّعدي على النَّفس الإنسانيَّة في التشريع الإسلامي من أخطر الجرائم؛ لأنَّ الإسلام أعلى من شأن الإنسان؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[29]، ومن ثَمَّ فقد شدد في العُقُوبة على من يعتدي على حياة غيره بغير حق.

    ولا شَكَّ أنَّ رحمة الله عظيمة بفرضه القِصاص؛ لأنَّ من يهمُّ بقتل غيره وهو يعلم أنَّ في ذلك هلاكَه سوف يتردَّد، أو لا يُقْدم على هذه الجريمة الشنعاء؛ خوفًا على حياته.

    وكذلك من يريد الاعتداء على الآخرين أو النَّيْل منهم، حينما يعلم عُقُوبة القصاص، فلا شك أنه سوف يُفكر قبل اقتراف الجريمة؛ لأنَّ القصاص عقاب رادع، وقد بيَّن القرآن الكريم أن القصاص أيضًا مما شرعه الله - سبحانه وتعالى - وأنزله في التَّوراة؛ فقال الله - سبحانه -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[30].

    الحفاظ على العقل:

    ومن أجل الحفاظ على العقل الذي هو مَناطُ التَّكليف في الإسلام، وأكبر نعمة أنْعَمَ الله بها على الإنسان - حرَّم القرآن الكريم شُرْب الخمر؛ لقوله - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[31].

    وقد كان تحريمُ الخمر بتدرج ونوازل كثيرة؛ فإنَّهم كانوا مُولعين بشُربها، وأول ما نزل في شأنها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[32]، أيْ: في تجارتهم؛ فلمَّا نزلت هذه الآية تَركها بعضُ النَّاس، وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثْمها، فنَزَلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}[33]، فتركها بعضُ الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشَربَها بعضُ الناس في غير أوقات الصلاة حتَّى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ}؛ فصارت حرامًا عليهم حتَّى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشدَّ من الخمر.

    وقال أبو ميسرة: "نزلت بسبب عُمر بن الخطاب؛ فإنَّه ذكر للنَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - عُيُوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها، وقال: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا؛ فنَزَلت هذه الآيات؛ فقال عمر: انتهينا انتهينا". اهـ[34].


    الحفاظ على العرض:

    ومن أجل الحفاظ على العرض، شَرَع القرآن الكريم حدَّ الزِّنا في قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}[35]، هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين، أن يجلد كلٌّ منهما مائة جلدة بخلاف الزَّاني المحصن، أو الزَّانية المُحصنة، فقد دلَّت السُّنة الصحيحة على أنَّ الحدَّ لكل منهما هو الرجم[36].

    ومن أجل الحفاظ على العرض أيضًا شرع القرآن الكريم حدَّ القذف في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[37]، وفي الوقت نفسه أمر القرآن الكريم بغَضِّ البصر، ونَهى عن إبداء ما لا يجوز إبداؤه من الزينة في قوله – سبحانه -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[38].

    الحفاظ على الملكية:

    ومن أجل الحفاظ على الملكية شَرَع القرآن الكريم حدَّ السرقة في قوله - سبحانه -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[39]؛ ذلك أنَّ السَّرقة نزعة شريرة ربَّما تحمل صاحبها، أو تَجرُّه إلى ارتكاب جرائم شنعاء في سبيل الاستيلاء على مال الغير، بدافع من خبث الطبع، أو فساد المنشأ، وسوء التَّربية.

    وقد تؤدي هذه النَّزعة الشِّريرة عند بعض المُجرمين إلى تكوين عصابات من الأشرار، تعبثُ بالأمن في كثير من الدُّول، وقد تسطو على أموال البُنوك وخزائن الحُكومات، وتُخرِّب وتدمر ما شاء لها التَّدمير والتخريب.

    من أجل هذا كانت هذه العُقُوبة الرَّادعة لكلِّ من تُسول له نَفسُه العدوان على مال الغير، وقد رأينا كيف أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزوميَّة؛ فعَنْ عَائشَةَ - رضي اللَّهُ عنها - أَنَّ قُرَيْشًا أهمَّتهُم المرْأَةُ المخْزُومِيَّةُ التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلاَّ أسامة بنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلم - فقَال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قبلكم؛ أنَّهم كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تركوه، وإذا سرق الضَّعِيفُ فِيهِم أقامُوا عليْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله، لو أَنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمدٌ يَدَهَا))[40].

    الحفاظ على النظام العام:

    ومن أجل الحفاظ على النِّظام العام، وضَمَان أمْن المُجتمع واستقراره، شَرَعَ القرآن الكريم حدَّ الحرابة في قوله - سبحانه -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[41]؛ والمُحاربُون لله ورسولِه، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض بالكُفر والقتل، وأخْذِ الأموال، وإخافة السبيل.

    والمشْهُور أنَّ هذه الآية الكريمة في أحكام قُطَّاع الطَّريق، الذين يعرضون للنَّاس في القرى والبَوَادي، فيغصبونهم أموالهم، ويقتلونهم، ويُخيفونَهم، فيمتنع النَّاس من سُلُوك الطَّريق التي هم بها، فتنقطع بذلك؛ فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم - عند إقامة الحدِّ عليهم - أنْ يُفعلَ بِهم واحدٌ من هذه الأمور.

    واختلفَ المُفسِّرون: هل ذلك على التَّخيِير، وأنَّ كلَّ قاطع طريق يَفعلُ به الإمامُ أو نائبُه ما رآه المصلحة من هذه الأُمُور المذكورة؟ وهذا ظاهرُ اللفظ، أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم، فكلُّ جريمة لها قسط يُقابلُها؛ كما تدل عليه الآية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله – تعالى - وأنَّهم إن قَتَلوا وأَخَذوا مالاً تَحتَّم قتلهم وصلبهم، حتَّى يشتهروا ويختزوا ويرتدع غيرهم.

    وإن قتلوا ولم يأخذوا مالاً تَحتَّم قتلُهم فقط، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا تَحتَّم أن تقطع أيديهم وأرجلُهم من خلاف: اليد اليمنى، والرجل اليسرى.

    وإن أخافوا النَّاس ولم يَقتلوا ولا أخذوا المال، نُفُوا من الأرض، فلا يُترَكُون يأوُون في بلد حتَّى تظهر توبَتُهم؛ وهذا قولُ ابن عباس - رضي الله عنه - وكثيرٌ من الأئمة، على اختلافٍ في بعض التفاصيل.

    {ذَلِكَ}: النَّكال، {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}؛ أيْ: فضيحة وعار، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ فدلَّ هذا على أنَّ قطع الطَّريق من أعظم الذُّنوب، موجبٌ لفضيحة الدُّنيا وعذاب الآخرة، وأنَّ فاعله مُحارِب لله ولرسوله.

    وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة، عُلم أنَّ تطهيرَ الأرض من المُفسدين، وتأمين السُّبل والطُّرق عن القَتل، وأخذ الأموال، وإخافة النَّاس - مِنْ أعظم الحسنات وأجَلِّ الطاعات، وأنه إصلاحٌ في الأرض، كما أنَّ ضده إفسادٌ في الأرض[42].

    السعة والمرونة


    إذا كان التَّشريعُ القُرآني يَمتازُ بالشُّمول، وأعني به الشُّمول الزَّماني، والشمول المكاني، والشمول الموضوعي، أيْ: إنَّه يشمل مَجالات الحياة كافَّة على اختلافها وتنوُّعها؛ فإنه - أيضًا - يَمتازُ بخاصية أخرى، هي السعة والمرونة التي تسع الجميع من الفُقهاء والمُجتهدين.

    هذه السعة التي تتيح الاختلاف المشروع بين الفُقُهاء، وهو اختلافُ تنوع، لا اختلاف تضاد، واختلاف في الفُرُوع، لا في الأصول، والقرآن المجيد في كل هذا لا يتبدَّل، ولا يتناقض؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[43]؛ فأدلة الأحكام في القرآن مُترددة بين القطع أو الظن[44]، بخلاف أدلَّة العقيدة، فهي يقينيَّة قطعيَّة لا مَجال فيها للظَّن، وهي كما ذكر الإمام الشَّاطبي في "المُوافقات": على طريقة البُرهان العقلي، ويُستدلُّ بها على المخالفين"[45].

    أمَّا أدلة الأحكام من حيثُ الدلالة - أي: دلالة اللفظ على معناه - فهي مُتردِّدة بين القطع والظن، والقرينة هي التي تُعيِّن المعنى المراد؛ قال الإمام فخر الدين الرَّازي في تفسيره: "المسألة الخمسون: دلالة الألفاظ على معانيها ظَنِّيَّة؛ لأنَّها موقوفة على نقل اللُّغات، ونقل الإعراب، والتَّصاريف، مع أنَّ أحوال النَّاقلين أنَّهم كانوا آحادًا، ورواية الآحاد لا تفيد إلاَّ الظَّن، وأيضًا فتلك الدَّلائل موقوفة على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإجمال، وعدم التخصيص، وعدم المعارض العقلي، فإنَّه بتقدير حُصُوله، يَجبُ صرف اللَّفظ إلى المجاز". اهـ[46].

    ومثالُ ذلك: اللَّفظ المُشترك[47]، في قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[48]؛ ذلك أنَّ لفظَ القُرْء من الألفاظ المُشتركة؛ لأنَّه يدلُّ بالتَّساوي على مَعنيين اثنين، هما الحيض والطُّهر، وهُنا يأتي دورُ الفقيه أو المُجتهد في تَعيين المَعنى المُراد، والقَرينة هي التي تُحدد ذلك، ومثال ذلك أيضًا: قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}[49]؛ حيثُ اختلف في المُراد بقوله – سبحانه -: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}.

    فأخذ الإمام مالك بالاحتياط، وأوْجَب الاستيعابَ؛ أي: استيعاب كُل الرَّأس بالمسح، وأمَّا الشافعي، فقد أَوْجَب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ الأحناف ببيان الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلم - حيثُ ورد أنه قد مسح على ناصيته، وقدروها بربع الرأس[50].

    موافقة الفطرة

    يُخاطب القُرآن الكريم الإنسان بجانبيه: جانب الرُّوح، وجانب المادة، ويُعطي لكلِّ جانب منهما ما يُناسبُه ويُرضيه، والتشريع القرآني يُوافقُ الفِطرة الإنسانيَّة التي فطر الله النَّاس عليها؛ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[51]، وقوله - تعالى -: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[52].

    فلا يُكلِّف التشريع القرآني الإنسانَ ما هو فوق طاقته، ولا يُحمِّله ما لا يتحمله، ومن هنا جاء قوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[53]، وقوله – سبحانه -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[54].

    وفي التَّشريع القُرآني الرُّخص التي رخَّص فيها الشَّارع لرفع الحرج أو عند الاضطرار، فعَلَى سبيل المثال لا الحصر، فرض الله الصيام، ورخص في الفطر للمريض والمسافر؛ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[55]، ومن ذلك أيضًا أنه - سبحانه وتعالى - ذَكَر المحرمات من الميتة والدَّم ولحم الخنزير وغير ذلك، ثم بيَّن سبحانه أنه لا إثم على المضطر؛ فقال – تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[56].

    وهكذا فالتشريع القرآني مُوافق للفطرة التي فَطَر الله الناسَ عليها مما يجعلُهم مُنقادين إليه، طائعين غير مَجبورين عن قناعة وثقة؛ يقول الأستاذ مالك بن نبي: "وفي ضوء القُرآن يبدو الدِّين ظاهرة كونيَّة تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيَّة المادة وتتحكَّم في تطوُّرها". اهـ[57].

    إعجاز الإيجاز في آيات الأحكام


    وقد جاءت آياتُ الأحكام غاية في الإيجاز البليغ، مع شُمُولها كلَّ جوانب الأحكام التي تتناولها؛ فهي مُوجزة وشاملة، والجمعُ بين الشُّمول والإيجاز لون من الإعجاز.

    وسأشير هنا إلى آيتين مُتتاليتين في سورة النِّساء، وآية ثالثة، في آخر السُّورة نفسها، هذه الآيات الثَّلاث جَمَعَت قواعدَ علم الميراث، الذي شرحه الفُقهاء في صَفَحات وصفحات:

    1- الآيتان المتتاليتان هما قوله – تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}[58].

    2- أما الآية الثالثة، فهي الآية الأخيرة من سورة النساء، وهي قوله – تعالى -: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[59].

    التشريع القرآني والتشريع الوضعي في الميزان


    ليس من شكٍّ في أنَّه لا تصلح المُقارنة أو المُوازنة، بين التَّشريع القُرآني وبين القَوانين الوضعية؛ لأنَّ الذي يُوازن بينهما كأنَّما يُوازن بين الخالق والمخلوق، لكنَّنا نأخذ مثالاً واحدًا على الأَثَر العملي في الواقع للتَّشريع القُرآني في مُشكلةٍ لا تزال المجتمعات غيرُ المسلمة تُعاني منها إلى اليوم، هي مُشكلة الخمر.

    فقد عالج التَّشريع القرآني هذه المُشكلة على مراحل ثلاث، بطريقة حَسَمَتْها في النِّهاية:
    1- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[60].
    2- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[61].
    3- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[62].

    هذا هو التَّحريم القاطع، الذي حَسَمَ المشكلة، وفي المُقابل - كما يذكر الأستاذ/ مالك بن نبي في كتاب "الظَّاهرة القرآنية" - أثارت المُشكلة بعد ذلك بثلاثةَ عَشَرَ قرنًا من الزَّمان، أثارت اهتمامَ المُشرعين في أمَّة لعلَّها أرقى الأمم حضارةً، وهي الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، في عام 1919م، ثارت المُشكلة في الرَّأي العام الأمريكي، وفي العام نفسه أُدخل في الدستور الأمريكي تعديلٌ تحت عُنوان "التعديل الثَّامنَ عَشَرَ"، ويتضمن هذا التعديل أمرًا بحظر الخمر، أطلِق عليه وقتها قانون "فولستد" (ACTE Velstead).

    وقد أُعِدت لتنفيذ هذا التَّحريم داخل الأراضي الأمريكيَّة وسائلُ هي:
    1- الأسطول البحري لمراقبة الشواطئ.
    2- الطيران لمراقبة الجو.
    3- المراقبة العلميَّة.

    وفي النهاية، كانت النَّتيجة هي الفشل الذَّريع، وسُقُوط قرَّرَه التعديل الحادي والعشرون، الذي صدَّق عليه الكونجرس في عام 1933م. اهـ، بتصرف[63].

    وفي الختام:


    هذا هو الفَرقُ بين التَّشريع القُرآني، وبين القانون الوضعي، في أمَّة من أرقى الأمم في عالمنا المعاصر، ولسوف يظلُّ الإعجازُ التَّشريعي في القُرآن أحد وجوه الإعجاز فيه إلى جانب الإعجاز البياني، والإعجاز العلمي، والإعجاز بالأخبار الماضية والمستقبلة.

    والله أسألُ أن يتقبل عملي، وأن يهديني سواء السبيل.

    أهم المراجع:

    - القرآن الكريم.
    - "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، لأبي السُّعود، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده.
    - "الإتقان في علوم القرآن"، للسيوطي، دار الفكر، بيروت.
    - "البرهان في علوم القرآن"، للزركشي، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
    - "الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي، دار الكتاب العربي للطباعة.
    - "الظاهرة القرآنية"، مالك بن نبي، ترجمة د/ عبد الصَّبور شاهين، دار الفكر طرابلس، لبنان.
    - "المعجزة والإعجاز في القرآن"، د/ سعد الدين صالح، دار المعارف.
    - "المفردات في غريب القرآن"، للراغب الأصفهاني، مطبعة مصطفى الحلبي.
    - "الموافقات"، للشاطبي، مطبعة المدني بالقاهرة.
    - "الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع"، عبد الفتاح القاضي، مكتبة الدار، المدينة المنورة.
    - "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، للبيضاوي، دار الجبل.
    - "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، للفيروز آبادي، مطبعة نهضة مصر.
    - "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير، مكتبة التراث الإسلامي.
    - "تفسير مفاتح الغيب"، الرَّازي، دار إحياء التراث العربي.
    - "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، للسعدي، دار المثنى، جدَّة.
    - "جامع البيان في تفسير القرآن"، للطبري، دار الريان للتراث.
    - "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، للألوسي، دار الفكر، بيروت.
    - "سنن الترمذي"، دار الفكر، بيروت.
    - "صحيح البخاري"، فتح الباري، المكتبة السلفية.
    - "صحيح مسلم بشرح النووي"، مطبعة المكتب الثَّقافي، دار الفتح الإسلامي بالإسكندرية.
    - "مباحث في علوم القرآن"، د/ مناع القطان، مطبعة مؤسسة الرسالة.
    - "مُختار الصحاح"، محمد بن أبي بكر الرازي، الطبعة الأميرية بالقاهرة.


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1] الإسراء: 88.
    [2] فصلت: 53 - 54.
    [3] مختار الصحاح (ع . ج . ز)، (ص:413).
    [4] المفردات، للراغب، كتاب العين، (ص:322).
    [5] الحج: 5.
    [6] هذه قراءة ابن كثير وأبو عمرو.
    [7] العنكبوت: 4.
    [8] الأعراف: 45، وورد في مواضع أخر.
    [9] بصائر ذوي التمييز، الفيروز آبادي (4/22).
    [10] كتاب الشين، للراغب، (ص: 258).
    [11] فصلت: 42.
    [12] المعجزة والإعجاز في القرآن، د/سعد الدين صالح، (ص: 219 – 220).
    [13] مباحث في علوم القرآن، د/ مناع القطان، (ص: 278).
    [14] الروم: 21.
    [15] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/429).
    [16] النساء: 79.
    [17] تفسير مفاتح الغيب، الرازي، (9/12).
    [18] البقرة: 228.
    [19] صحابي أسلم بعد فتح مكة، أحد وجوه ثقيف، كان شاعرًا محسنًا، توفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، انظر: أسد الغابة، (43/44).
    [20] أخرجه الترمذي في سننه في كتاب النِّكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة، (4/92).
    [21] النساء: 135.
    [22] الحجرات: 13.
    [23] آل عمران: 159.
    [24] الشورى: 38.
    [25] النساء: 58.
    [26] النساء: 29.
    [27] البقرة: 179.
    [28] النساء: 92.
    [29] الإسراء: 70.
    [30] المائدة: 45.
    [31] النساء: 90.
    [32] البقرة: 219.
    [33] النساء: 43.
    [34] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (4/2283).
    [35] النور: 2.
    [36] صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الحدود، باب حد الزِّنا، (5/267).
    [37] النور: 4.
    [38] النور: 31.
    [39] المائدة: 38.
    [40] أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السُّلطان، (12/87 - رقم الحديث: 6788)، فتح الباري.
    [41] المائدة: 33.
    [42] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، (29/230).
    [43] النساء: 82.
    [44] القطعي: هو الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، والظني: هو الذي يحتمل أكثر من معنى، هذا من حيث الدلالة، أي: دلالة اللفظ على معناه، أمَّا من حيث الثبوت، فالقرآن كلُّه قطعي الثبوت بالنسبة إلى الله تعالى.
    [45] الموافقات، للشاطبي، (3/32).
    [46] تفسير مفاتح الغيب، للرازي، (1/28).
    [47] اللفظ المشترك: هو الذي يدل على أكثر من معنى بالتساوي.
    [48] البقرة: 228.
    [49] المائدة: 6.
    [50] عَنِ ابنِ المغيرَة عَن أبيه - رضي الله عنه -: أَنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ، ومُقَدَّم رأسه، وعلى عِمامتِه"؛ صحيح مسلم شرح النووي، كتاب الطهارة، باب جواز المسح على الخفين، (2/69).
    [51] الروم: 30.
    [52] القصص: 77.
    [53] البقرة: 286.
    [54] الحج: 78.
    [55] البقرة: 185.
    [56] المائدة: 3.
    [57] الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، (ص: 284)، ترجمة: د/ عبد الصبور شاهين.
    [58] النساء: 11، 12.
    [59] النساء: 176.
    [60] البقرة: 219.
    [61] النساء: 43.
    [62] المائدة: 90.
    [63] الظاهرة القرآنية مالك بن نبي، ترجمة الدكتور/ عبد الصبور شاهين، ص284.
    ----------------------------------
    إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَليَّ فَلا أُبَالي ..

    اللهمّ إنّي أسْألُكَ أنْ أكُونَ مِنْ أذلِّ عِبَادِكَ إلَيْك ..
    ----------------------------------

    أما لنا –في أيام الفتن هذه- في سلفنا الصالح أسوة ؟!
    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=29139

  2. #2

    افتراضي

    الإعجاز التشريعي في أطول آية من القرآن
    عبد الدائم كحيل



    يتميز كتاب الله عز وجل بأنه كتاب صالح لكل زمان ومكان، ولذلك فهو شامل لكل العلوم التي يحتاجها الإنسان في حياته، ومنها علم القانون والقضاء، وربما نعجب إذا علمنا أن معظم القوانين الوضعية التي يفتخر رجال القانون باكتشافها ووضعها، معظمها موجود في كتاب الله تعالى، ومن هذه القوانين ما ينظم شؤون الدين والعقود والبيع والشراء، أو ما يسمى بنظام الكاتب بالعدل.

    وإذا ما تأملنا اليوم هذا النظام نرى بأنه يتضمن العديد من القوانين وجميعها موجود في القرآن ولكن بصورة أكثر بلاغة ووضوحاً. وسوف نعدد بعضاً من الأنظمة التي وضعها رجال القانون في فرنسا منذ أكثر من قرنين، وأخذتها معظم الدول العربية فيما بعد على أنها نتاج الحضارة الغربية "المتقدمة" ثم تبيّن بعد ذلك أن هذه القوانين هي ذاتها في كتاب الله تبارك وتعالى!

    والذي يثير العجب أن الله تعالى جمع كل هذه المعاملات في آية واحدة من القرآن وهي آية الدَّين وهي أطول آية في كتاب الله تبارك وتعالى، لنتأمل هذه المعجزات التشريعية الرائعة.

    1- نظام التوثيق:

    في القرن السابع الميلادي لم يكن مألوفاً لدى العرب أو لدى الأمم من حولهم عملية توثيق البيع والشراء. فقد كانت العمليات التجارية تتم عشوائياً من دون أي تنظيم، إلا في حدود ضيقة جداً. وبقي الوضع على ما هو عليه حتى جاء الإسلام عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوثيق العمليات التجارية بين الناس.

    وبالطبع لم يأت النبي بهذا النظام من تلقاء نفسه، بل بأمر إلهي في قوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282]، ولذلك يمكن القول بأن أول تنظيم للعمليات التجارية تم في العهد الإسلامي. وفي العصر الحديث جاءت الثورة الفرنسية، وبدأت بعدها صياغة مجموعة من القوانين التي تنظم العمليات التجارية، والعجيب أن هذه القوانين ذاتها موجودة في القرآن العظيم!

    2- نظام الكاتب بالعدل:

    هذا النظام لم يكن معروفاً في الدول المتقدمة إلا حديثاً، ثم أخذته الدول العربية منها، ونسينا بأن هذا النظام موجود في القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً في قوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)، ولذلك يجب القول بأن نظام الكاتب بالعدل والذي يهدف لتوثيق عمليات البيع والشراء بين الناس، هو نظام قرآني وليس نظاماً غربياً!

    ثم إن القرآن أمر بكتابة كافة التفاصيل في العَقد، وكتابة العقود فنّ قائم بذاته، لأن كلمة واحدة قد تغير مضمون العقد بشكل كامل، ولذلك فإن القوانين الحديثة تقول بأنه ينبغي كتابة كل التفاصيل صغيرة أو كبيرة، وهذا ما أشار إليه القرآن بقول تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ)، انظروا معي كيف تحدد هذه الآية الأجل أو المدة في العقد، ويقول خبراء القانون، إن أهم ركن من أركان العقد هو الأجل أو مدة العقد أو زمن تسديد الدين!

    القوانين الحديثة تقول بأنه ينبغي على الكاتب بالعدل أن يكتب الحقيقة كاملة ولا يتواطأ مع أحد الفريقين على حساب الآخر، وهذا ما أكده القرآن ولم يغفل عنه بقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ).

    كذلك تقول القوانين الحديثة إنه يجب الإقرار من قبل كلا الطرفين وبخاصة الطرف الدائن أو البائع أو صاحب السلعة، وأن يكون الإقرار واضحاً لا لبس فيه، والعجيب أن القرآن ذكر هذا الأمر أيضاً، يقول تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) "يملل" أي يردد العبارات التي تفيد بأنه موافق على عملية الدين أو البيع.

    3- نظام الوليّ والوكالة:

    هناك أشخاص ليس لديهم القدرة على البيع والشراء وليسوا مؤهلين قانونياً لمثل هذه العمليات، ومنهم الأطفال والمصابين بأمراض عقلية وهؤلاء أجاز لهم القانون اتخاذ ولي أو وكيل لهم ينوب عنهم في العقد. والقرآن أيضاً لم ينسَ ذلك وقد ذكر هذا الأمر بقوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل)، وتأملوا معي التأكيد القرآني على العدل دائماً (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل) لأن العدل أساس النظام القضائي الناجح.

    بالنسبة لقوانين الوكالات في البلاد العربية فإن هذا النظام مأخوذ بالكامل من القوانين الفرنسية والغربية، حيث أن الناس اليوم ليس لديهم خبرة في أمور القانون فيلجأون إلى محامٍ ينوب عنهم في متابعة القضية التجارية أو غيرها، مع العلم أن القرآن قد طرح هذا التشريع قبل 1400 سنة، وذلك من خلال قوله تعالى: (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)، فالولي أو الوكيل هو الشخص الذي ينوب عن صاحب العلاقة الأصلي، وهو ما نسميه بالوكالة.

    4- نظام الشهود:

    نظام الشهادة مهم جداً لحل أي نزاع قانوني ينشأ بين المتخاصمين، وقد تم تطوير هذا النظام عبر السنين حيث تم وضع ضوابط تنظم عمل الشهود والعجيب أن القرآن طرح هذا التشريع بل وأمر به وهو أن يكون هناك شهود على أي عملية تجارية، ونظام الشهود معروف في القوانين الغربية، ويعتبرونه من إنجازاتهم، مع العلم أن القرآن قد سبقهم إلى هذا الأمر قبل ذلك بزمن طويل. يقول تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، ثم يقول بعد ذلك محدداً عدد الشهود اللازم، ولضمان عدم كذب الشاهد: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ).

    وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرآن ميز بين الرجل والمرأة، فالشهادة عملية دقيقة وحساسة ويتوقف عليها مصالح الناس، وبالتالي فإن شهادة المرأة الواحدة لا تكفي لا بد من امرأتين، (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) لماذا؟ ببساطة دماغ المرأة أصغر من دماغ الرجل بنسبة 10 % على الأقل، وكفاءة دماغ المرأة في عمليات التذكر واستحضار المعلومات وسرعة معالجتها أقل من الرجل، وهذه حقيقة علمية سبق القرآن إليها! ولذلك قال تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).

    كذلك فإن القوانين الحديثة تؤكد على ضرورة امتثال الشاهد للشهادة أمام القاضي، ولا يجوز له أن يتخلف عنها، ويؤكدون أن ذلك ضروري من أجل نجاح القضاء وتحقيق العدالة. العجيب يا أحبتي أن القرآن لم يغفل ذلك!! يقول تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا).

    كذلك حدد القرآن نوعية الشهود وأن يكونوا صادقين: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)، وهذا ما تقول به القوانين الحديثة، حيث يطلب القاضي أن يكون الشاهد عدلاً صادقاً، ولا تُقبل شهادة الكاذب أو الذي اشتهر بالكذب.

    5- نظام التجارة الحاضرة:

    يقول خبراء القانون: ليس ضرورياً كتابة كل شيء في العمليات التجارية الجارية، حيث يتعذر على التاجر أن يكتب العمليات التي تتم بالبيع نقداً دون أجل، وبالتالي فإن ذلك يسهل الكثير من العمليات التجارية الجارية، والعجيب أن القرآن قد أشار إلى ذلك ولم يغفل عنه، يقول تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)، فمثل هذا النوع من أنواع البيع والشراء ليس ضرورياً أن يكتب أو يوثق، قال تعالى بعد ذلك: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا)، ولذلك فإن القرآن وضع أساساً للعمليات التجارية.

    والقرآن يؤكد دائماً على نقطة لا نجدها في القوانين الوضعية، وهي أن الله تعالى يعلم كل شيء، ويعلم ما في النفوس، ولذلك قال: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهذا أسلوب نفسي رائع لضمان تطبيق هذه القوانين وعدم التلاعب فيها، أو التحايل على القانون كما نراه اليوم. فعندما تدرك أيها البائع أو أيها المشتري أن الله يعلم ما تفكر به، ويعلم نيَّتك وسوف يحاسبك عليها، والعقوبة ستكون نار جهنم، عندها لابد أن تنضبط وتطبق ما أمرك الله تعالى به، وهنا تتجلى روعة هذه القوانين الإلهية.

    6- نظام الرهن:

    هناك نظام مهم في العمليات التجارية هو الرهن، وربما نتذكر الأزمة المالية العالمية وأحد أسبابها إساءة هذا النظام، وعقد صفقات وهمية مع البنوك، مما أدى إلى انهيار النظام المالي العالمي. هذا الرهن تحدث عنه القرآن ونظّمه بقول تعالى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، ولذلك فإن القرآن سبق القانونيين في الغرب إلى مثل هذا النظام، ولم يكتف بذلك (كما تفعل البنوك اليوم) بل أمر بأداء الأمانة بقوله تعالى: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)، وسبحان الله! لو تأملنا معظم الدعاوى والشكاوى في المحاكم وجدناها تحت بند "إساءة الأمانة"، ولو أن الناس طبقوا هذه الآية لزالت كل المشاكل والقضايا التي تساهم في دمار الاقتصاد العالمي.

    7- نظام حماية الشهود وعقوبة الشهادة الكاذبة:

    يؤكد المشرعون حديثاً على ضرورة الاهتمام بموضوع حماية الشهود، وهذا الموضوع أخذ مساحة كبيرة من المؤتمرات والمناقشات بهدف تحسين حماية الشهود، حتى إن بعض القانونيين يعتبرون أن النظام القضائي لن يكون ناجحاً من دون تأمين الحماية الكافية للشهود، وعدم خوفهم من بطش أحد الفريقين المتخاصمين.

    ربما نعجب أن هذه الآية العظيمة لم تغفل هذا الجانب المهم، بل أضافت له جانباً مهماً وهو حماية الكاتب بالعدل أيضاً، ولذلك قال تعالى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)، وحذر من خطورة الإضرار بالشهود أو بالكاتب، فقال: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ). ومثل هذه التعاليم تجد صدى كبيراً في النفس البشرية. ولكن الشاهد أحياناً لا يقول الحقيقة كاملة، وهذا يحدث كثيراً في المحاكم، فهل نسي القرآن هذا الأمر المهم؟

    بالطبع الله لا ينسى أي شيء، كيف ينسى وهو خالق كل شيء عز وجل، ولذلك قال: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ)، فهذا أمر صريح بضرورة قول الحقيقة كاملة، وانظروا كيف أن الله تعالى أمر باتخاذ الشهود، ونظم عملهم وأمر بحمايتهم وأمرهم بقول الحقيقة، وهذا ما نجده في القوانين الحديثة.

    أطول آية في القرآن:

    والآن نأتي إلى النص الكريم الذي ينظم هذه العلاقات ويعطي كل ذي حق حقه، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة: 282-283].

    هناك شيء ملفت للانتباه في هذه الآية العظيمة، وهي موضوع التقوى الذي تكرر ثلاث مرات: في قوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا): أمر إلهي بالتقوى وأن الله يراك ويرقبك، ولذلك إياك أيها المشتري أن تأخذ ما ليس لك، أو تنقص من قيمة البضاعة بل أعط صاحبها حقه كاملاً. وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ): وهنا أمر إليه بالتقوى للجميع (الكاتب والشهود والبائع والمشتري). وقوله (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ): أمر بالتقوى وعدم كتمان الشهادة. ولكن ماذا يعني ذلك؟

    إن مشكلة القوانين الوضعية أنه عند غياب الرقيب، فلا توجد وسيلة فعالة تمنع الإنسان من الخطأ أو الغش أو إساءة الأمانة، ولكن القرآن جعلك تشعر بمراقبة الله لك في كل لحظة، وهنا ضمن التطبيق العملي للقوانين حتى أثناء غياب الرقابة عليه، وهذه هي عظمة التشريعات الإلهية.

    كذلك يؤكد خبراء القانون أن وضع القانون لا يكفي إنما ينبغي وضع الآلية التي تضمن تطبيق القوانين، مثل دراسة جدوى هذه القوانين وفائدتها وانعكاساتها على المجتمع، والعجيب أن القرآن لم يغفل هذه الناحية الهامة، ولم يضع القوانين من دون هدف وحكمة وتوجيه، بل وضع التوجيهات اللازمة والتي تضمن تطبيق هذه القوانين، ولذلك فقد وضع لنا الله ثلاثة أهداف من هذه القوانين وهي في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا):

    1- ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: انظروا معي كيف يضع القرآن دائماً وفي مقدمة الأهداف، التوجه إلى الله تعالى، فقبل كل شيء، يجب أن تشعر بمراقبة الله لك، وعندما تحقق ذلك فإنه يستحيل أن تخون الأمانة أو تغش أو تبخس الآخرين حقوقهم، وهذا ما لم تحققه القوانين الوضعية التي "تهمل" وجود خالق عظيم يتصرف بهذا الكون، ولذلك نرى بأن تطبيق القوانين الوضعية يكون ضعيفاً، وغالباً ما تخضع لتعديلات وإضافات مستمرة، على عكس القوانين الإلهية الثابتة.

    2- وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ: هذا الهدف يحدد الطريقة المثالية للتعامل من خلال توضيح الشهادة، حيث أن معظم النزاعات التجارية التي نراها اليوم، تحدث نتيجة غموض العقد والتباس ذلك على الشهود، ولكن القرآن كان حريصاً على التدقيق على هذه النقطة، أي ضرورة إحكام الشهادة ووضوحها وتوثيقها، وضمان عدم الالتباس والابتعاد عن الأخطاء.

    3- وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا: هذا الهدف مهم جداً لدفع أية شبهة أو خطأ أو ارتياب. ويقول القانونيون والمشرعون، من الضروري جداً أن تتم كتابة العقد بوضوح كامل مراعية كل التفاصيل، وأن يتم دفع أي ارتياب يمكن أن يحدث. ونقول أليس هذا ما أمر به القرآن؟

    النظام القرآني للعمليات التجارية يتميز بأنه صادر من الله تعالى، ولذلك فإنه يمثل أمراً إلهياً من تركه فقد أثم، ومن فعله أخذ الأجر والثواب، وهذا لا نجده في القوانين الوضعية التي جاءت فقط لحماية الحقوق.

    قد يقول قائل كيف يمكن بكلمات قليلة أن نختصر كتب القانون التي تملأ المكتبات والجامعات؟ ونقول إن المسلمين بفضل هذه التعليمات القليلة بكلماتها ولكنها عظيمة بأثرها، استطاعوا أن يفتحوا العالم وأن يحقوا العدل بشكل لم يحققه أحد على مر العصور!! وهذا يدل على أثر تعاليم القرآن على الناس، ولكننا عندما ابتعدنا عن هذا الكتاب وعن تعاليم الخالق عز وجل، ركبتنا الهموم وأصبحنا أكثر الأمم تخلفاً: غثاء كغثاء السيل!!

    وقد يقول آخر: هناك العديد من القوانين في شريعة حمورابي والقوانين الرومانية والقوانين التي كانت سائدة في حضارة الصين والهند وغيرها قبل الإسلام، ونقول: إن هذه القوانين كانت مزيجاً من الصواب والخطأ، بل هذه القوانين كانت تعطي الحصانة المطلقة للملك أو الإمبراطور، والذي فعله الإسلام أنه صحح القوانين الخاطئة، وأبقى على القوانين الصحيحة، وهذا لم يكن باستطاعة بشر يعيش في ذلك الزمن، ولذلك فإن هذه الآية من آيات الإعجاز التشريعي والتي تشهد على صدق القرآن وأنه كتاب صالح لكل زمان ومكان.

    ونقول بالله عليكم: هل يمكن لإنسان يتهمونه بالتخلف والإرهاب، أن يأتي بمثل هذه التشريعات التي تعمل بها اليوم كبرى الدول في العالم؟ إنه دليل صادق على أنه رسول من عند الله عز وجل، وأنه كما وصفه ربه بقوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188]. ولابد من السؤال: من أين جاء هذا النبي بتشريعات دقيقة كهذه، واختصرها في آية واحدة، لو لم يكن رسولاً من عند الله؟!
    ----------------------------------
    إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَليَّ فَلا أُبَالي ..

    اللهمّ إنّي أسْألُكَ أنْ أكُونَ مِنْ أذلِّ عِبَادِكَ إلَيْك ..
    ----------------------------------

    أما لنا –في أيام الفتن هذه- في سلفنا الصالح أسوة ؟!
    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=29139

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رؤية حول مفهوم التدرج التشريعي في القرآن الكريم
    بواسطة الخطيب في المنتدى د. أحمد سعد الخطيب
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-30-2010, 06:51 PM
  2. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-22-2009, 01:08 AM
  3. من الإعجاز التشريعي في السنة النبوية
    بواسطة مسدد في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-20-2007, 05:56 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء