(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)
إن الحديث بدأ بآدم عليه السلام الذي خلق من طين، ثم تحول الحديث إلى ذريته الذين خلقوا بطريقة مختلفة تمامًا، كما قال تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، فهنا تحول من طريقة خلق إلى طريقة خلق أخرى، والنتيجة واحدة وهي خلق الإنسان!
ثم التحول من النطفة إلى العلقة، والنطفة ما هي إلا ماء مهين، والماء يمتاز بالسيولة، ولو أنك أتيت بأي سائل وألقيته على الجدار لانساب عليه وما علق بمكانه أصلًا، فأبعد ما تتوقعه أن يتحول هذا السائل إلى جسم يعلق بجدار الرحم، فهنا مقابلة بين لازم الحالة الأولى وما حدث في الحالة الثانية، في إطار عملية واحدة وهي خلق الإنسان!
ثم التحول من علقة إلى مضغة، والجنين مازال عالقًا بجدار الرحم، والتصور البشري يقتضي أن العمل على تثبيت العلقة يقتضي التصلب، ليكون التعلق أشد باشتداد المتعلِق، ولكن النص للمرة الثالثة يأخذك إلى خلاف ظنك، فيذكر صفة "المضغة" هكذا بهذا اللفظ الذي يدل على اللين، فلم يقل "قطعة لحم" أو "لحمًا" بل قال "مضغة" ليلفت النظر إلى اللين الذي يحمله معنى اللفظ، فهنا مقابلة بين مقتضى الحالة الأولى وما حدث في الحالة الثانية، وكلها في إطار عملية واحدة وهي خلق الإنسان!
ثم التحول من مضغة إلى عظام، وللمرة الرابعة تتصور تلك المضغة وما تحمله من لين، لتقابل التحول إلى عظام وما تحمله من شدة وصلابة، فهذه أوضح المقابلات، فالمضغة اللينة كانت منشأ العظام الصلبة، فهنا مقابلة بين طبيعة الحالة الأولى وطبيعة الحالة الثانية، وكلها في إطار عملية واحدة وهي خلق الإنسان!
ثم تنقلب قوة العظام ضعفًا مرة أخرى، إذ ترى أن هذه العظام الصلبة القوية في حاجة للكسوة باللحم، فبعد أن قام في نفسك قوة "العظام" بالنسبة "للمضغة"، انقلب الحال إلى حاجة "العظام" إلى كسوة من "لحم"، فهنا مقابلة بين تحولين "فخلقنا المضغة عظاما" و "فكسونا العظام لحما"، وهذا في إطار عملية واحدة وهي خلق الإنسان!
ثم بعدما يتوه عقلك في عظيم القدرة، تجد اللفتة السادسة (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ)، فهنا مقابلة بين خلق وخلق في ذات الخلق!! فبعد ما مضى من نطفة تنقلب علقة، ثم علقة تصير مضغة، ثم مضغة جعلت عظاما، ثم عظامٍ كسيت لحمًا، هذا كله شأن يتلوه شأنٌ آخر لا تقف على حد كيفيته العقول، شأن الروح وشأن الفطرة وشأن النمو وشأن الاستواء وشأن التآلف مع بني جنسه وغير ذلك مما يصير إليه الإنسان في رحلته في الحياة، كل هذا جمعه في كلمة واحدة "آخر"!! فهنا مقابلة بين خلق وخلق في عملية واحدة وهي خلق الإنسان!
فبعد هذه المقابلات العديدة بين خلق أبي البشر وخلق نسله، ثم بين لازم حالة وما يتلوها، ثم بين مقتضى حالة وما يتلوها، ثم بين طبيعة حالة وما يتلوها، ثم بين تحول وتحول يتلوه، ثم بين خلق وخلق في ذات الخلق .. لا يملك المرء أمام هذا إلا أن يقول (فتبارك الله أحسن الخالقين)!
Bookmarks